تحد ونزال!
كان هذا التحدي الذي أعلنه دوجلاس هو الذي نهض بأبراهام ليعود إلى السياسة ثانية بعد أن انصرف عنها سنوات، والحق أنه كان على أهبة ليحوِّل وجهه للسياسة بسبب معضلة الرق، تلك المعضلة التي باتت تحمل في تضاعيفها الخطر كل الخطر على وحدة البلاد، وإنما عجل هذا التحدي عودته أو كان السبب المباشر لتلك العودة، ومتى كان أبراهام يرهب التحدي أو ينكص على عقبيه إذا دعا داعي النزال، ولا سيما إذا كان المتحدي هو دوجلاس! وكان تحديه أبراهام على هذا النحو مثيرًا له؛ فهو يتجاهله ويترفع إذ يذكره، فلا يشير إليه إلا بقوله «مستر لنكولن أحد سكان هذه المدينة»، ولم ينس لنكولن ما كان من منافسته إياه بين يدي ماري، كأنما أولع هذا الرجل بمغالبته فلا يحب أن تفلت منه فرصة دون منازلته أو التعرض له.
وقد مضت سنوات خمس على انصراف أبراهام عن السياسة؛ فقد انصرف عنها سنة ١٨٤٩ عقب انتهاء عضويته في الكونجرس، ولم يعرف عنه اشتغال بالسياسة في تلك المدة، اللهم إلا خطابه في رثاء هنري كلِيي سنة ١٨٥٢، إذا عُدَّ ذلك اشتغالًا بالسياسة! وكانت سنة ١٨٥٢ هي السنة التي قوي فيها نفوذ دوجلاس، والتي بات فيها الحزب الديمقراطي يتحمس له ويعلق عليه آمالًا كبارًا.
ويخطو دوجلاس خطوته الشهيرة سنة ١٨٥٤، فيغدو اسمه على كل لسان في طول البلاد وعرضها؛ وهو بين مادح يغلو في مدحه، وقادح لا يتهاون في قدحه.
وإننا لنرى فيما فعل دوجلاس ليكسب عطف الجنوبيين مهارة الرمية، كما نلمح فيما قال للدفاع عن موقفه أمام الشماليين حذق السياسي وعمق فكرته وسعة حيلته، وكم في الحياة له من نظراء ممن يأخذون في سياستهم بآراء أستاذهم الأكبر مكيافلي، لا يحيدون عنها ولا يفوتهم شيء من تفاصيلها ودقائقها، كأنما عاد أستاذهم نفسه يصرفهم ويوجههم، ولقد برع دوجلاس في هذا المضمار؛ فإنه ليجعل الغاية عنده كل شيء، ولا عبرة بعد بالوسيلة، وهل كان مثله من السذاجة بحيث يتمسك بشرف الوسيلة ويرعى جانب الفضيلة، فيؤدي بذلك إلى فوات الفرصة وضياع الغاية؟
وكان لنكولن صريحًا لا يعرف المراوغة، ولا يطيق الالتواء، فهل كانت له طاقة بمناضلة ذلك القزم الماكر المخاتل؟ وأي عود عليه اليوم من طوله والمسألة مسألة مدافعة بالحجج ومقارعة، وليست مسألة مكافحة ومصارعة كما كان الحال يوم لف ذراعه الطويلة حول آرمسترنج وألقى به على الأرض؟ إن الفرق بين الرجلين هو الفرق بين الطبيعتين؛ فهذا ماكر محتال غامض كالبحر، وذلك بسيط صريح كوجه السهل.
وكان حزب الهوجز يومئذ في الشمال في أخريات خطواته إلى الفناء، بينما كان يولد حزب آخر سيأخذ عما قريب مكانه؛ هو الحزب الجمهوري، وكان لنكولن هو الرجل الذي اتجهت إليه أنظار أهل سبرنجفيلد ليكون لسانهم في الحزب الجديد. لهذا ولما اشتهر به بينهم من خلالٍ أكبروها، لم يجدوا من هو أقدر منه على مدافعة دوجلاس، وهكذا التقى الرجلان من جديد في عراك عنيف، ولم يلتقيا منذ كانا نائبين في مجلس المقاطعة.
وقف دوجلاس يخطب، وكان — وهو في صغر جرمه قزمٌ أو كالقزم — ماردًا جبارًا؛ برأسه الضخم، ولسانه الذي لا يقف، ونشاطه الذي لا يفتر، ودهائه الذي لا ينخلع عنه، ومهارته التي لا تغيب ولا تتخلف مهما تعقَّد الموقف والْتوتْ مذاهب الكلام.
ولقد كان دوجلاس في الحق من أقوى الرجال في عصره، إن لم يكن أشد منهم جميعًا قوة، وكان الحزب الديمقراطي يباهي به ويفخر، وهو يعتقد أن لم يبق بينه وبين كرسي الرياسة إلا خطوات مع أنه لم يكن قد جاوز الأربعين بعد.
أخذ يخطب ويدافع عن رأيه في حماسة وكياسة، وإنه ليشعر أنه يطلق آخر سهم في كنانته! وكان محور دفاعه أنه يعمل على توطيد سلطة الشعب، وكانت العبارات معسولة والحجج تلقي في رُوع السامعين ألَّا سبيل إلى رفضها؛ إذ لم يبد ثمة من سبيل إلى نقضها.
وجاء دور لنكولن في اليوم التالي، واحتشد الناس ليروا ما عسى أن يقوله في الرد على هذا الداهية، ووقف ابن الأحراج يقابل الدهاء بالصراحة، والمكر بالصدق، والغرض بالإخلاص، والمراوغة باليقين، والباطل بالحق، والدليل الأعرج بالمنطق الأبلج. ومن وراء هذا كله عبقرية دونها كل تأهب بل وكل كفاية، واستمع الناس إليه أربع ساعات كاملات ومنافسه يعض على ناجذه، وينقم على تلك الأقدار التي ألقت به بين براثن ابن الغابة.
بدأ خطابه بقوله إنه لا يتوخى إلا الحق ولا رائد له إلا الصدق، فإذا أحس مستر دوجلاس خطأ فيما يقول فإنه ليسرُّه أن يرده خصمه لساعته إلى الصواب. ولقد استغل دوجلاس هذا الحق وجعل يقاطعه بين حين وحين؛ ليلويه عن قصده وليلبس عليه الأمر، حتى ضاق لنكولن بتلك المقاطعة فصاح قائلًا: «أيها السادة إني لا أستطيع أن أنفق وقتي في مساجلات، وعلى ذلك فإني آخذ على نفسي المسئولية أنْ أُحقَّ الحق وحدي، فأعفي القاضي دوجلاس بذلك من ضرورة تلك التصحيحات العنيفة.»
وأخذ بعدها يتكلم والأبصار شاخصة إليه والسكون شامل على شدة ازدحام المكان، والخطيب المرتجل لا يعرف اضطرابًا ولا اعوجاجًا، يهدر كالسيل لا يصرفه عن وجهه عائق، وكأنما ينطق عن وحي؛ فما سمعه الناس من قبل يقول مثل هذا الكلام، ولا رأوه يبين كهذه الإبانة، وإنه في حركاته وإشاراته ونبرات صوته لموفق توفيقًا ما شهد الناس مثله قبل هذا.
وفرغ من خطابه وهو في قلوب قومه أرفع قدرًا مما كان، ومنافسه مبتئس زائغ البصر، موزع الفؤاد بين كلمات الاستحسان تنثر على صاحبه كما ينثر الزهر، وكلمات الاستهجان تصوب إليه كما تصوب السهام. ونظر فإذا هو بما أدلى من حجج كالعنكبوت اتخذت بيتًا، ولم يبق في قلوب الناس أثر لما ردده من عبارات معسولة تدور حول سلطة الأمة؛ إذ لم يترك له أبراهام دليلًا إلا سفَّهه، وأظهر للناس ما يقوم عليه من بُهرج وما يستتر وراءه من طلاء، وبهذه الخطبة فتح لنكولن فصلًا جديدًا في تاريخ حياته، وقطع شوطًا كبيرًا نحو الرقي عوض عليه ما فاته بسبب ما مر من الركود؛ وذلك لأن موضوع الكلام كان يتصل بأمر عظيم الخطر يشغل الرأي العام في الشمال والجنوب، ولأن منافسه كان من الذين يحسب لهم الناس ألف حساب.
ورأى أصحاب لنكولن أن يذهب أبراهام في إثر دوجلاس أينما ذهب ليرد عليه كلما خطب الناس، وذهب لنكولن إلى بيوريا بعد ذلك باثنى عشر يومًا، وقد أعد خطبة مكتوبة، وبدأ دوجلاس في بيوريا كما بدأ في سبرنجفيلد واستمر يخطب ساعات ثلاثًا، ورد لنكولن في المساء فاستغرق خطابه مثل هذا الزمن، ويشهد الذين سمعوه في المرتين أنه كان يوم ارتجل أعظم شأنًا وأعمق في نفوس سامعيه أثرًا، حقًّا لقد كانت خطبته المكتوبة أحكم بناء وأحسن نسجًا، ولكنها لم تكن أكثر من سابقتها سحرًا.
قال أبراهام يرد على دوجلاس قوله إن من الامتهان لأهل نبراسكا أن نعتبرهم غير جديرين بأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم: «إني أسلم أن المهاجر إلى كنساس ونبراسكا جدير أن يحكم نفسه، ولكني أنكر عليه الحق في أن يحكم شخصًا آخر بغير رضاء ذلك الشخص.» وكانت عبارته هذه كالرمية القاتلة، فهي تهدم ما بنى دوجلاس من أساسه، ولا تدع لذلك الذي زعمه من دفاع عن سلطة الأمة أية قيمة.
وقال أبراهام في رده على ما زعمه دوجلاس من أن الحكومة إنما أقيمت لصالح البيض لا لصالح الزنوج: «إني أوافق على ذلك من حيث ما هو واقع في ذاته، ولكني أرى في هذه الملاحظة التي ساقها القاضي دوجلاس معنى هو عندي مفتاح تلك الغلطة الكرى التي فعلها في قرار نبراسكا، إن كان ثمة من غلطة كهذه، إنها تدل على أن القاضي لا يقوم في ذهنه ما يريه أن الزنجي إنما هو إنسان، وعلى ذلك فليست تقوم في رأسه ضرورة وجود العنصر الخلْقي إذا أراد أن يشرع له.»
ومما جاء في خطابه عن قرار نبراسكا قوله: «إن هذا القرار يؤيد حياد الحكومة، ولكنه ينطوي في الواقع في جانب انتشار الرق على حماسة لا يسعني إلا أن أمقتها؛ أمقتها لما ينطوي عليه الرق في ذاته من جور قبيح، وأمقتها لأنها تسلب نظامنا الجمهوري الذي نسوقه مثالًا للعالم من أثره الحق في هذه الدنيا، وأمقتها على الأخص لأنها تدفع كثيرًا من رجالنا الأخيار إلى حرب صريحة ضد المبادئ الأساسية للحرية المدنية، فهم يوجهون انتقادهم إلى وثيقة إعلان الاستقلال، مصرِّين على اعتقادهم أنه ليس ثمة من مبدأ حقٍّ تقوم عليه أعمالنا، فما هناك إلا المصلحة الشخصية.»
وقال لنكولن في تلك الخطبة الشهيرة: «إن مبدأ حكم الشعب نفسه مبدأ صحيح، صحيح بلا أقل ريب، وسيظل إلى الأبد صحيحًا، ولكن إذا كان الزنجي إنسانًا، ألسنا بقدر ما في المبدأ من صحة، نرى أننا إذا حرمناه من أن يحكم نفسه إنما نحطم بذلك مبدأ سيادة الشعب؟ حينما يحكم الرجل الأبيض نفسه فإن ذلك في رأينا هو مبدأ سيادة الشعب، ولكنه حينما يحكم نفسه ويحكم في الوقت ذاته رجلًا آخر فإن ذلك يكون أكثر من سيادة الشعب؛ فهو الاستبداد، ليس في الناس من يتوفر لديه الخير إلى حد أن يحكم غيره دون رضاء ذلك الغير، هذا هو المبدأ الأول والمرفأ الأمين لنظامنا الجمهوري.»
واستمع إليه إذ يأسر لب السامعين بقوله: «إن رداءنا الجمهوري قد علقت به الأقذار وجر في التراب ذيله، ألا فلنعمل على تطهيره مما علق به، دعونا نرجع إلى الماضي فنغسله في روح الثورة إن لم نستطع أن نغسله في دمائها.»
ذلك منطق ابن الغابة وتلك آياته البينات، وهو الذي نشأ كما رأينا عصاميًّا لم يعلمه أحد، إنما يصدر الرجل عن طبع ويترجم عن فطرة، مَثله في ذلك كمثل غيره من أعلام البشرية وقادة القافلة في طريق الإنسانية.
وماذا عسى أن يقول دوجلاس ردًّا على هذا مهما كان ما أوتي من فصاحة وما رزق من فطنة؟ انظر إليه يمشي على استحياء، فيتقدم إلى خصمه فيسلم إليه سيفه وقد بهره الحق، قال دوجلاس وهو يومئذ من هو، يخاطب لنكولن: «إنك لتفهم مسألة منع انتشار الرق في الأراضي أكثر مما تفعل المعارضة كلها في الكونجرس، ولست أستطيع أن أظفر بشيء من مجادلتي إياك في هذا الأمر، ولقد وضعت في طريقي هنا وفي سبرنجفيلد من المتاعب ما لا يضع مثله رجال المعارضة في الكونجرس مجتمعين.»
وإنا لنستطيع أن نعود بالسبب في نجاحه في هذه الخطبة إلى صفاته الأساسية التي فطر عليها، وفي مقدمتها تبين ما يعرض له والإحاطة به جملة وتفصيلًا، ثم النفاذ إلى جوهره، والاستعانة بذلك على توضيح ما يريد أن يقول في بساطة ويسر مع توخي الصدق والأمانة، كما يفعل حين ينهض للدفاع في المحكمة، هذا إلى لقانة عجيبة يميز بها في سرعة الصواب من الخطأ والحق من الباطل، وذهن منطقي مصقول كأنه الميزان الدقيق، يرى باللمحة أن هذا الرأي عليه ضباب الشك وذاك عليه نور اليقين.
وعمل دوجلاس على الفرار من الميدان فطلب إلى لنكولن أن يقطعا حبل ذلك الجدل، وأجابه لنكولن إلى ما يريد، وهكذا انتصر ابن الأحراج وفر ابن آوى، ولكن كان ذلك إلى حين؛ فلسوف يلتقيان عما قريب في صراع يتضاءل أمامه هذا الصراع.
وانصرف دوجلاس ولكنه قبل أن ينصرف أبى إلا أن يأتي بما يدل على طبعه؛ فقد نقض العهد وألقى بعد يومين خطابًا جديدًا حاول فيه أن يدافع عن آرائه، ولم يستطع لنكولن إلا أن يظل عند كلمته، فما كان هو من ينقض عهدًا قطعه على نفسه.
ولقد كان لانتصار أبراهام على دوجلاس السياسي الملحوظ المكانةِ أثرٌ بعيد في حياته، وازدادت ثقة ابن الغابة قاطع الأخشاب في نفسه، فأخذ يشتد طموحه ويمتد بصره، واطمأن عامل البريد وفتى الحانوت بالأمس إلى مكانته في نفوس قومه اليوم.