لنكولن والرق
حينما بلغ لنكولن نبأ نجاح دوجلاس في حمل الكونجرس على قبول رأيه في مشكلة كنساس نبراسكا وإصدار اللائحة الشهيرة بذلك، كان في جولة من جولات عمله في المحاماة، ويشهد من صحبه يومئذ أنَّ وقْع ذلك القرار كان عظيم الألم في نفسه، لقد ظل مسهَّدًا طول ليله يتفكر في موضوع ذلك القرار ومغزاه، وفي الصباح أفضى إلى أحد زملائه بقوله: «أقول لك يا دِكي إن هذه الأمة لا يمكن أن تعيش ونصفها رقيق والنصف الآخر أحرار.»
وظل لنكولن ربيع سنة ١٨٥٤ في تجواله كما تطلب عمله حتى عاد إلى سبرنجفيلد، وكان بينه وبين دوجلاس ما كان من تحدٍّ ونزال.
بسبب مشكلة الرق خاصم أبراهام دوجلاس، وبسبب تلك المشكلة سيعود أبراهام من المحاماة إلى السياسة ليكون محامي الحرية الأكبر، وبالوقوف في وجه الرق ستسمو منزلة أبراهام في قومه ويعظم فيهم خطره ويلتمع في أفق السياسة نجمه، وبقضاء الرئيس لنكولن على الرق سيغدو بطلًا من أبطال أمريكا وعلمًا من أعلام الإنسانية.
وما كان لرجل مثل أبراهام أن ينبه في الناس شأنه إلا لصلته بقضية من قضايا الإنسانية، أما الدوافع الشخصية والأطماع الدنيا فلم تك مما يتفتح له قلب مثل قلبه، ولا مما يمتد إليه بصر كبصره.
كانت تقع عينا الصبي أبراهام لنكولن على نفر من هؤلاء السود أحيانًا وهو مع أبيه في الغابة، فتأخذه الحيرة من أمرهم والشفقة والرثاء لهم، ولَم تبين له كلمات أبيه سبب شقاء هؤلاء السود ولِم كانوا كدواب الزراعة في نظر البيض، فهل كانوا كذلك لأنهم سود فحسب؟ ومن أين جيء بهؤلاء السود؟ ولم كانوا سودًا؟ ولِم يجعلهم سوادهم أذلة؟
ولن ينسى أبراهام رحلته إلى نيو أورليانز في أول شبابه وانقباض نفسه وانكدار خاطره؛ إذ رأى جموعًا من هؤلاء السود في الأصفاد يحشرون إلى حيث يباعون كما تباع الماشية، ولن يبرح يطوف بخياله فيؤلمه مرأى تلك الجارية الحسناء، التي عرضت هناك في أحد الأسواق نصف عارية على المشترين كما تعرض الفرس الكريمة.
منذ ذلك اليوم استقر في أعماق نفسه كراهة الرق، وفي ذلك اليوم قال كلمته وهو يشير بِجُمع يده: «لئن قدر لي يومًا أن أسدد ضرباتي إلى هذا النظام فسأضرب بشدة.» وكأنما شاءت الأقدار أن تريه ما رأى عن قصد؛ ليَكره الرقَّ منذ حداثته كما يكره الأخيار المصطفون منذ نشأتهم الكفر والفسوق والعصيان.
وفي تلك الأثناء كنت تلقاء مثل جميل على ظهر القارب يصلح لأن أتأمل فيه لأرى كيف تؤثر الظروف في سعادة الإنسان؛ اشترى أحد السادة البيض اثنى عشر زنجيًّا من جهات مختلفة في كنطكي، وكان بسبيله إلى الجنوب ومعه زنوجه، وقد سلكوا كل ستة في سلسلة، وكان يدور غل صغير بمعصم اليد اليسرى لكل منهم، ويوثق بسلسلة صغيرة تنتهي إلى السلسلة الكبيرة على مسافات تدع بين الواحد ومن يليه بعض الفراغ، فكانوا أشبه حالًا بسمكات في مثل عددهم تعلق بحبل الصائد كل منها في شص، وكانوا على مثل هذه الصورة ينتزعون إلى الأبد من مجالي طفولتهم ومن أصدقائهم ومن آبائهم وأمهاتهم وإخوتهم وأخواتهم، وفيهم من انتزعوا كذلك من زوجاتهم وأولادهم، ليساقوا إلى رق أبدي، حيث لا تقل ضربات السياط من يد سيدهم فوق أجسادهم لهيبًا عنها من أي يد أخرى، وفي مثل هذا الوضع وهاتيك الظروف التي ما حسبناها بادئ الرأي إلا محزنة لنفوسهم، كانوا أكثر مَن على ظهر القارب مرحًا وأكثرهم فيما يبدو من أمرهم سعادة؛ أما أحدهم — وقد كانت جريمته، التي من أجلها بِيع، فرطَ محبته وولوعه بزوجته — فكان لا يكاد يدع المزمار من يده أو يمل ألحانه فيه، وأما الآخرون فكانوا يرقصون ويغنون ويتبادلون النكات ويلعبون ألعابًا مختلفة بالورق من يوم إلى يوم، ألا ما أصدق قول القائل «إن الله يسكن الريح من أجل الحمل المجذوذ»، وفي عبارة أخرى إنه يجعل أتعس الظروف الإنسانية محتملة، في حين أنه لا يسمح لأسعدها أن تكون أكثر من أنها محتملة.
وهو اليوم في الخامسة والأربعين من عمره لا يزال يمقت الرق من أعماق قلبه الإنساني الكبير، ولكن المسألة ليست اليوم مجرد عاطفة بل هي مسألة سياسة، وهو اليوم ينظر إليها من ناحيتيها العاطفية والسياسية جميعًا، يتألم قلبه أشد الألم كلما فكر في حال الرقيق، ولكنه حذر من الدعوة إلى التحرير لا يميل إلى أصحابها كل الميل؛ لأن سياستهم المتعجلة المتحمسة تؤدي إلى فصم عرى الاتحاد، وذلك ما يخافه أشد الخوف؛ فإن المحافظة على بناء الاتحاد لا تقل عنده أهمية عن القضاء على الرق.
إذن فليقتصر اليوم على الوقوف في وجه الداعين إلى مبدأ السماح بانتشار الرق، وهؤلاء هم الديمقراطيون، حتى تحين الفرصة التي تمكنه من العمل الحاسم ثم من الضربة القاضية.
تألم لنكولن من قرار الكونجرس في مسألة كنساس نبراسكا ألمًا شديدًا كما أسلفنا القول؛ فقد كان قبل هذا القرار — فضلًا عن كراهة الرق كرهًا شديدًا — لا يفتأ يفكر في هذه المعضلة ويديرها في رأسه، وإن كثرت في المحاماة مشاغله. تحدث عنه جون ستيوارت، فقال إنه بينما كان وأبراهام في طريقهما ذات يوم أثناء جولة من الجولات القضائية سنة ١٨٥٠؛ أي قبل قرار الكونجرس بأربعة أعوام، قال له وهو يحاوره: «لنكولن! إنا مقبلون على الوقت الذي سوف نكون فيه إما من دعاة التحرير جميعًا أو ديمقراطيين جميعًا.» وفكر أبراهام لحظة ثم قال في لهجة التأكيد: «إذا ما جاء ذلك اليوم فقد جمعت له عزمي؛ لأني أعتقد أن معضلة الرق لن ينجح فيها بعد ذلك مساعي التوفيق.»
وكان يكره لنكولن دائمًا ما يزعمه الجنوبيون من مبررات لتمسكهم بالرق، فلا يفتأ يرد على مزاعمهم بما يدحضها، وإنه لحريص على أن يلزم جانب الحق والإنصاف فيما يرد به؛ لتكون لحججه وقعها الطيب في النفوس كما هو شأنه في كل ما يقول، كما أنه حريص على الإبانة والوضوح والسهولة، تجد خير مثال لذلك في قوله: «نعلم أن أهل الجنوب يقولون إن رقيقهم أحسن حالًا من العمال المأجورين عندنا، ألا ما أقل إدراكهم ما يقولون! ليس لدينا طبقة دائمة من الأُجراء، فمنذ خمس وعشرين سنة كنت أنا نفسي أجيرًا، وإن أجير الأمس ليعمل اليوم لحسابه وسوف يأجر غيره ليعملوا له غدًا، إن الرقي والتقدم من طبيعة الجماعة المكونة من نظراء، وبما أن العمل هو العبء المشترك في هذا الجيل، فإن محاولة بعض أهله أن يلقوا بنصيبهم من هذا العبء على عواتق الآخرين لهي النكبة الخطيرة التي يقدر لها الدوام، وهي في أصلها نكبة تتنقل في الجيل كله، فإذا حصرها الرق في طائفة منه، فإنها تصبح بذلك نكبة مضاعفة يصيب الله بها عباده. إن العمل الحر يمتاز بأنه يبعث الأمل في النفوس، أما العبودية فلا أمل فيها، وإن للأمل لَقوة عجيبة في جهود الإنسان وسعادته، ويدرك هذه القوة مالك الرقيق نفسه، ومن ذلك كان نظام العمل بين الرقيق، فإن العبد الذي لا تستطيع أن تدفعه بالسوط ليقطع خمسة وسبعين رطلًا من الألياف اليوم، إذا أنت دفعته ليقطع مائة ووعدته أن تدفع له أجره على هذه الزيادة، فإنه يقطع مائة وخمسين؛ فلقد أحللت الأمل محل العصا، ولعله لم يخطر ببالك أنك بقدر ما تكسب من فائدة بهذه الطريقة قد تركت نظام الرق إلى نظام العمل الحر.»
وكان يحس أبراهام أن قضية الرق تزداد خطرًا في وضعها يومًا بعد يوم، تجد مصداق ذلك في هذه العبارة، وقد نطق بها في جماعة من خلانه سنة ١٨٥٤ قبيل منازلته دوجلاس، قال يصف الفكرتين، فكرة الرق وفكرة الحرية: «مثلهما كمثل وحشين كل منهما على مقربة من الآخر، ولكن يرتبط كل منهما في سلسلة ويحال بينه وبين الآخر، ولسوف يكسر أحد هذين العدوين اللدودين أو الآخر سلسلته يومًا ما، وعندئذ يوضع حد للمسألة.»
ولن يزال منذ قرار نبراسكا يعلن سخطه على الرق، قال ذات يوم عن امتلاك الرقيق: «إنه أكثر أنواع الملك في العالم بريقًا وفخرًا وغرورًا، فإذا تقدم شاب ليخطب فتاة فإن أول سؤال يتلى عليه كم من الرقيق يمتلك، ويسأل هو كم تمتلك فتاته، إن حب امتلاك الرقيق يبتلع كل امتلاك آخر، ألا إن الرق لظلم صارخ عظيم، وإنه لجريمة قومية فادحة.»
وأبدى لنكولن تعجبه ذات يوم قائلًا: «إن من العجب ألا ترى المحاكم سقوط حق الرجل في متاع له سرق منه، ولكنها ترى أن حقه في نفسه يسقط بمجرد أن يسترقَّ هو!»
من هذا ومن كثير مثله يتبين لنا إلى أي مدى كان لنكولن عدوًّا للرق، وإلى أي مدى كان يعده ظلمًا وإثمًا، وقد رأينا ما كان منه أثناء مجادلته دوجلاس في خطبتيه في سبرنجفيلد وبيوريا.
ولكن أبراهام على الرغم من هذا الكره يرى — كما رأى جفرسون قبل ذلك بسنوات — أن مشكلة الرق «كالذئب نمسكه من أذنيه؛ فلا نستطيع أن نظل ماسكيه، ولا نستطيع أن نطلقه ونضمن السلامة»، فإنه يخشى أن يؤدي التطرف في دعوة التحرير إلى انسحاب الجنوبيين من الاتحاد، فينهار بناء الوحدة وتكون الطامة الكبرى على البلاد، وكل همه الآن أن يظل الرق منحصرًا حيث هو، فيقوى الأمل في فنائه يومًا ما، أما أن يسمح بانتشاره في مواطن جديدة فلا أمل مع هذا في فنائه.
لذلك نراه في موقف دقيق بعد خطابه في بيوريا، فلقد أعجب به دعاة التحرير وبلغ من إعجابهم به أن دعوه ليكون قائدًا لجماعتهم، ورأى لنكولن أنه إن أجابهم إلى ذلك أغضب الذين يقصرون همهم على معارضة قرار الكونجرس؛ لأنهم يخشون من دعوة التحرير أن تفصم عرى الاتحاد، وإن رفض دعوتهم أغضبهم هم، وإنه ليشاركهم عاطفتهم وإن كان يخالفهم في سياستهم، كما أنهم خصوم لدوجلاس وإن عددهم ليزداد يومًا بعد يوم، ولم يجد أبراهام مخرجًا من هذا المأزق إلا الهرب مؤقتًا، فذهب في جولة من جولات عمله في المحاماة.
والواقع أن لنكولن المحرر الأكبر في غده يخشى أشد خشية من دعاة التحرير اليوم؛ لأنه يرى في عملهم إذ ذاك ثورة في غير أوانها، قال يرد على أحدهم: «إن المقاومة الدامية أمر يعد خطأ من أساسه وهو عمل غير دستوري بل إنه خيانة، ففي الديمقراطية التي تحكم فيها الأغلبية عن طريق الانتخاب العام وفق القانون لا يوجد مكان لتلك الثورة … فإن شئتم أن تثوروا فليكن ذلك خلال صناديق الانتخاب.»