حزب جديد
كان من نتائج قرار الكونجرس في مسألة كنساس نبراسكا مولد حزب جديد في البلاد، فقد اجتمع فريق من رجال السياسة على فكرة يمكن تلخيصها في العمل على مقاومة انتشار الرق حسب اتفاقية مسوري، وكان هؤلاء السياسيون أنماطًا من كل حزب؛ ففيهم الديمقراطيون، وفيهم الهوجز، وفيهم غير هؤلاء وهؤلاء ممن يحصرون همهم الآن في العمل على مقاومة انتشار الرق. ولقد كان أول اجتماع عام لأنصار هذا الحزب الجديد في مدينة فيلادلفيا سنة ١٨٥٦، واتخذ المجتمعون اسمًا لحزبهم فسموه الحزب الجمهوري، واختير لرياسته الكابتن فريمونت أحد أهالي كليفورنيا، وكانت شهرة عند الجمهور باكتشافه الطرق وشقه الأحراج إلى الغرب؛ فكانت تضيئ حوله هالة من البطولة، ثم أخذ أنصار الحزب بعد ذلك ينشرون الدعوة إليه في كل ولاية.
وانتشرت الدعوة إليه في إلينوى كما انتشرت في غيرها من الولايات، ودعا أنصار الحزب الجديد فيها إلى اجتماع تمهيدي يتدارسون فيه الأمر، ويحددون الغاية ويسددون إليها الوسيلة.
وانعقد هذا الاجتماع في مدينة ديكاتور وشهده لنكولن فيمن شهد من رجال السياسة المبرزين، وأدلى إليهم برأيه وإن كان لا يزال من الهوجز، وفطن المجتمعون إلى سياسته التي لن يتحول عنها، والتي تتلخص في أمرين: مقاومة انتشار الرق، والمحافظة على كيان الاتحاد.
وانضم هرندن إلى الحزب الجديد وتحمس له، ودعا أنصار الحزب إلى مؤتمر عام يعقد في مدينة بلومنجتن لاختيار ممثلي الحزب في الولاية، وكان لنكولن في جولة من الجولات القضائية، فوضع صديقه هرندن اسمه في قائمة الداعين إلى المؤتمر دون أن يرجع إليه، ثم أرسل إليه ينبئه بذلك فجاءته برقية منه قال فيها: «لا ضير. امضِ قدمًا.» وبذلك وافق أبراهام على الانضمام إلى الحزب الجديد وأصبح عضوًا من أعضائه.
واحتشد رجال هذا الحزب في بلومنجتن لينظروا في أمرهم، وأدلى أبراهام برأيه فقال لمن حوله: «دعونا نجعل حجر الزاوية في بناء حزبنا الجديد هو قرار إعلان استقلال أمريكا.» وهو يريد بإعلان الاستقلال ذلك الحادثَ التاريخي الذي ظهرت به الولايات المتحدة أمة مستقلة في هذا العالم، وكأنه يشير إلى ما يتضمن الاستقلال من معاني الوحدة والإخاء والحرية والمساواة، تلك المبادئ التي جعلها رجال الثورة شعار ثورتهم، وأصدر المؤتمرون قرارهم بعد أن اختاروا ممثلي الحزب في الولاية فقالوا: «أجمعنا أمرنا على أننا نعتقد، وفق تجارب وآراء رجال السياسة المبرزين جميعًا من كافة الأحزاب في السنوات الستين الأولى لحكومة الاتحاد، أن المؤتمر يملك في ظل الدستور السلطة التامة لمقاومة انتشار الرق في الولايات، وأنه كما يحرص على جميع الحقوق الدستورية لأهل الجنوب، يعتقد كذلك أن العدالة والإنسانية ومبادئ الحرية — كما نص عليها في إعلان استقلالنا وفي دستورنا القومي وما نتوخاه لحكومتنا من بقاء ودوام — تستدعي أن يكون تنفيذ السلطة بصورة تمنع انتشار الرق في الولايات التي تعد حرة حتى الآن.»
وإنا لنرى سياسة لنكولن واضحة تمام الوضوح في هذا القرار الذي أعلنه المؤتمرون، وفي ذلك يتضح الدليل على أنه كان غداة المؤتمر الرجل الذي ينبض بمبادئه كل قلب، ويتحرك باسمه كل لسان، ونحن إذا نظرنا إلى مبادئ الحزب الوليد في الولايات جميعًا نجدها لا تختلف كثيرًا عما جاء في قرار رجال إلينوى، وبعبارة أخرى نجدها لا تختلف كثيرًا عن مبادئ لنكولن، وفي ذلك دليل جديد على عبقرية الرجل وصدق نظرته وأصالته.
ونظر أبراهام فإذا رجال المؤتمر، على اتحادهم في الغاية، يختلفون في الوسيلة التي يصلون بها إلى غايتهم، وإذا هم باعتبار ما سلف من أمرهم فئات متباينة الآراء، وإنه ليخشى أن يؤدي الاختلاف على الوسيلة إلى ضياع الغاية، بل إلى طمس معالم الطريق وركوب الظلام، وفي ذلك سوء المنقلب، وإنه ليتحرق شوقًا أن يرى هؤلاء القوم وقد اجتمعت على الوسيلة كلمتهم كما اجتمعت على الغاية، إنهم إذن لفائزون وإن لهم لبأسًا يهون عنده كل عسير، ثم إنهم لخطب فادح لا يطيقه المتمسكون بالرق من أهل الجنوب.
وتجاوبت أرجاء المؤتمر باسم لنكولن، وراح المؤتمرون يتصايحون: «لنكولن! لنكولن! نريد أن نسمع لنكولن!» وما كان له أن يتخلف وهو الخطيب الذي تهيب به مثل هاتيك المواقف، وتواتيه عبقريته كلما أحست نفسه جلال الحادثات، وكأنما أحس لنكولن أن هذه ساعته، وأنه يوشك أن يخطو خطوة واسعة نحو غايته الكبرى؛ لذلك ما لبث أن وثب من مكانه ووقف فيهم وقفة الخطيب وهو لا يدري أول الأمر ماذا يقول، وسكتت الأصوات بعد جلبة، واستقر الرجال بعد أن كان بعضهم من فرط الحماسة والتطلع يموج في بعض.
وقف الخطيب أول الأمر صامتًا كأنما أغلقت من دونه مسالك القول، والناس ينظرون إلى قوامه السمهري وقد مال برأسه إلى الخلف وبرز بصدره إلى الأمام، والتمعت عيناه وتشكلت أساريره بما في نفسه، فبدت في مظهر يقصر عن وصفه معنى الجمال، وصفه أحد الحاضرين فقال: «كان في تلك اللحظة أَوْجَهَ من رأت عيناي أبدًا.»
وتكلم فإذا المستمعون كأنهم رجل واحد، لا اختلاف بينهم ولا جدال، وقد سرت إليهم من الخطيب موجة قوية من السحر، وسرى إليهم منه تيار شديد من الحماسة، وهو يرسل فيهم القول يجمع بين العاطفة تهز المشاعر، والحجة تبهر العقول، والأمثلة تبهج النفوس. وكانت تشتد العاطفة حينًا فتفيض عيون، ويلتمع البرهان آونة فتصفق الأكف حتى تكاد تدمى، وتنطلق بالهتاف الحناجر حتى توشك أن تبح، ويروق المثال أو تلمح النكتة بين هذا وذاك فتجلجل الأفواه بالضحكات، والخطيب يلعب بالأفئدة ويستهوي المشاعر، ويتدفق لا يكل منطقه ولا تفتر حماسته ولا يضعف صوته، والسامعون مأخوذون عن أنفسهم بما يقول، حتى لقد ألقى مندوبو الصحف أقلامهم وأقبلوا بعقولهم وقلوبهم عليه يحرصون ألا تفوتهم كلمة من هذا السحر الحلال. وصفه أحد المستعمين فقال: «لم أعلم قبل ذلك قط أن مستمعين لخطيب فعلت فيهم الفصاحة الإنسانية فعل الكهرباء كما فعلت فصاحة لنكولن بهؤلاء، لقد كانوا يثبون من أمكانهم نهوضًا على أقدامهم أو فوق المقاعد بين حين وحين، وكانوا يعبرون عن مبلغ ما أثَّرت كلماته في عقولهم وقلوبهم بصيحات طويلة وبالتلويح بقبعاتهم في أيديهم.»
ذلك أن الغاب قاطع الأخشاب، ذلك هو النجار هدية الأحراج إلى عالم المدنية، قد هيأته الأقدار لرسالته؛ فبعثته من موطنه قويًّا قوة الطبيعية لا يعتريها ضعف، واضحًا وضوح الشمس لا يحجبها غيم، ولكنها أودعت في نفسه سر العظمة رهيبًا عميقًا خافيًا عن الأبصار، تحس النفوس تلقاءه بمثل ما يحس به من يقف في مدخل الغابة.
أوضح في خطابه سياسته فلم يترك مجالًا للبس أو شك، وكان إلى التحذير والإنذار أقرب منه إلى التفاؤل والتمني، حذر الناس أن يشتطوا فيؤدي شططهم إلى انسحاب أهل الجنوب من الاتحاد، فإنه ليحس أن في الجو مثلما يسبق العاصفة، وأنذرهم أن يتهاونوا أو يتخاذلوا فتذهب ريحهم وتضيع أصواتهم بددًا، وهو في كل ما يزجي من القول صريح كأعظم ما تكون الصراحة، واضح كأتم ما يكون الوضوح.
تعرض لمسألة كنساس فقال في قوة اليقين وفي جلال الحق: «ستكون كنساس حرة.» وكانت الولاية لم تستقر بعد على وضع والصراع فيها بين أنصار الرق وأنصار الحرية على أشده، وذكَّر السامعين أن الخروج على اتفاق مسوري والسماح بانتشار الرق وراء الحد الفاصل مفضٍ حتمًا إلى جعل الرق مسألة قومية عامة؛ ولذلك فإنه للفوز أبدًا أو الهزيمة أبدًا، فإنه ليشعر بتزايد قوة أنصار الرق، بينما يتراخى الداعون إلى مقاومة تياره، وكان يبدو منه في خطابه ما يبدو من رجل مقبل على موقف حاسم في تاريخ حياته، ففي نبراته رنين الإخلاص، وفي مقاطعه وابتداءاته لهجة اليقين وبينات الحرص الشديد على أن يتدبر المنصتون كلامه، وعلى وجهه علامات الاهتمام حينًا، وأمارات القلق حينًا، ومخايل الحذر والخوف واللهفة أحيانًا، وكذلك العظيم إذا تكلم كان كلامه من وجدانه ومن لبِّه، وكانت حركاته خفقات جوانحه ووثبات قلبه.
ولقد تنبأ ذلك الرجل العظيم فذكر للناس أن مسألة الرق لن تحل حتى تنتهي إلى أزمة تجتازها الأمة بفضل صلابتها وقوة إرادتها، فإن تلك الإرادة متى أُوقِظت اجتاحت الصعاب، وكأنه كان يتطلع من وراء حجب الغيب على ما ينتظر البلاد من حرب أهلية ضروس، وامتزجت في قلوب السامعين الحماسة لما يقول الخطيب بالوجل الذي يلقيه في روعهم بما ينذر، فلقد اشتدت في الجنوب الحركة التي ترمي إلى الانسحاب من الاتحاد حتى باتت خطرًا قريبًا يحسب له حسابه.
•••
وحدث أن كان مولد الحزب الجديد في نفس السنة التي كانت تختار فيها البلاد رئيسًا جديدًا للولايات؛ وهي سنة ١٨٥٦، فكان النشاط السياسي بذلك مضاعفًا، وأحس الناس جميعًا أن مسألة الرق قد أصبحت القطب الذي يدور عليه هذا النشاط السياسي، فألقوا بالهم إليها على نحو لم تسلف بمثله فترة في تاريخ البلاد.
وكان مرشح الجمهوريين هو كابتن فريمونت، وكان أول مرشح للحزب الوليد، كما كانت الانتخابات في تلك السنة أول انتخابات يخوض هذا الحزب معركتها، ورشح الحزب لمنصب نائب الرئيس ويليام ديتون من ولاية جرزي الجديدة، ولكن أهل سبرنجفيلد وأهل إلينوى أرادوا أن يكون لنكولن من يرشح لهذا المنصب.
ورشح الديمقراطيون للرياسة بوكانون وهو من ولاية بنسلفانيا، وقد حاول دوجلاس بكل ما في وسعه أن يظفر بهذا الترشيح، ولكن بوكانون تغلب عليه وظفر بتأييد أغلبية أنصار الحزب.
وظهر في الميدان حزب ثالث باسم حزب أمريكا، وهو في الواقع بقية الهوجز، وقد رشحوا للرياسة فلمور، وكان نائبًا للرئيس تيلور سنة ١٨٤٨.
واشتدت المعركة بين الأحزاب، وكان مدار الدعاية اليوم قضية الرق وموقف كل حزب منها وما يعتزم أن يفعل إذا قدر له الفوز، وهكذا يشمل الاتحاد إحساس عام أن هذه القضية أصبحت المحور الذي تدور عليه سياسة البلاد.
وأعلن الجمهوريون أثناء المعركة مبادئهم وعملوا على إذاعتها في طول البلاد وعرضها، ومؤداها أنه لا الكونجرس ولا أي مجلس غيره في أية مقاطعة ولا أي فرد من الأفراد ولا جماعة من الجماعات؛ لا أحد من هؤلاء جميعًا يملك أن يجعل امتداد الرق أمرًا مشروعًا في أية بقعة من بقاع الولايات المتحدة، وذهب الجمهوريون إلى أكثر من ذلك فقالوا إن الدستور قد جعل للكونجرس سلطة الحكم في جميع الولايات، وعلى ذلك فمن حق الكونجرس ومن واجبه عند تنفيذ هذه السلطة أن يقضي في الولايات على «التوأمين الباقيين من عهد الهمجية؛ وهما تعدد الزوجات والرق.»
أما الديمقراطيون فلم يعلنوا آراءهم واضحة في المشكلة كلها، وإنما أعلنوها واضحة في مشكلة كنساس نبراسكا، فقالوا كما قال دوجلاس إن لأهل الولايتين أن يقرروا ما إذا كانوا يأخذون بالرق أو يرفضونه، وترى من ذلك أن قرار كل من الحزبين يناقض الآخر، ومن هنا كانت المعركة بين الرق والحرية.
وقد اختير لنكولن في ولايته فيمن اختيروا من هيئة انتخاب الرئيس، وراح يبذل أقصى جهده في الدعوة لمرشح الجمهوريين أينما حل، وتكلم كثيرًا وندد بالرق كثيرًا، بيد أنه كان لا يغفل عن تأكيد رغبة حزبه في الحرص على كيان الاتحاد.
وكان أنصار الرق من أهل الجنوب ومشايعوهم من الشماليين ينشرون في طول البلاد وعرضها مبدأ دوجلاس الخلاب؛ وهو تقرير سيادة الشعب، ولن يكون ذلك إلا أن يترك الناس أحرارًا في نظرهم إلى الرق، وكانت كنساس حتى ذلك الوقت لا يزال يتوزعها أنصار الرق وأنصار الحرية، وكان النضال بينهم فيها عنيفًا، كل يطمع أن ينتصر مبدؤه.
ومما يذكر من فكاهات لنكولن في معركة الرياسة هذه أن فاجأه أحد المستمعين في جهة من الجهات بسؤال أراد به أن يزعزعه فقال: «أحقًّا يا مستر لنكولن أنك دخلت هذه الجهة أول ما دخلت حافي القدمين تسوق أمامك عددًا من الثيران؟» وأجاب لنكولن: «إن لدي هنا «دستة» من الرجال على الأقل يشهدون بصحة هذه الواقعة إذا كان إثباتها أمرًا ضروريًّا في القضية التي نحن بصددها.»
وتحمس لنكولن فقال إن ما بلغه من مكانة إنما كان ثمرة من ثمار الحرية، وعلى ذلك أليس محقًّا في أن يمقت الرق الذي يوبق الروح، ويستذل النفوس في صفوف السود والبيض جميعًا، ويمجد الحرية التي يبلغ المرء في كنفها ما يطمح إليه من رفعة؟ وختم خطابه بقوله: «نعم سنتكلم في سبيل الحرية وضد العبودية طالما يتيح لنا دستورنا حرية الكلام؛ حتى لا تشرق الشمس على هذه الأرض العريضة ولا ينزل الغيث ولا تهب الريح على رجل يقسر على ما لا يؤجر عليه من عمل.» وكان يستطيع أن يقول على رجل يسترق، ولكنه لم يزل حريصًا لا يحب أن يندفع في محاربة الرق إلى حد الجهر بالتحرير.
وانجلت المعركة الانتخابية عن فوز بوكانون، ولكن نجاح الحزب الديمقراطي كان ينطوي على معنى الضعف، فإن ثلث عدد أصواته انضم إلى الحزب الجديد الذي كان يتلو على حداثته الحزب الفائز في عدد الأصوات، حتى لقد اعتقد الكثيرون أن الفوز الحقيقي إنما كان للجمهوريين، ولولا الخوف من دعوة التحرير وسرعة انتشارها في البلاد وشدة إشفاق الجنوبيين وأنصار الرق في الشمال منها؛ لجاز أن كانت تأتي نتيجة الانتخاب يومئذ بخلاف ما انتهت إليه.