فتى الغابة
شمر توماس لنكولن عن ساعديه، وأهوى بفأسه على الأشجار يقطعها ويشقها ويسوي فروعها، حتى تم له إعداد ما يلزم من الأخشاب لإقامة كوخ تأوي إليه الأسرة، ثم دعا إليه بعض جيرانه ليساعدوه على رفع تلك الأخشاب وقد شدت بعضها إلى بعض، وكان رفع الأخشاب «عملية» يدعى إليها الجيران فيلبون في سرور وإخلاص؛ إذ قلما كانت تتاح لهم الفرصة لمثل هذا الاجتماع؛ ولذلك كان يجري في أمثاله من فنون اللهو والمزاح ومن ضروب اللعب والتندر بقدر ما يكون فيه من نصب ومشقة.
وكانت الحياة هنا في إنديانا أسهل منها في كنطكي؛ إذ كانت الحيوانات موفورة في الغابة لمن يطلب الصيد، ولكن مثل هذه المعيشة كانت مع ذلك بعيدة كل البعد عن أسباب الراحة إذا قيست إلى معيشة المدن، وحسبك أن الملابس كانت ما تزال تُتخذ من جلود الحيوانات إلا في بعض الأحيان؛ حيث كان يغزل الصوف وينسج في الأكواخ، وحسبك أن المساكن كانت هاتيك الأكواخ الحقيرة، وأن تلك الأصقاع كانت تفتقر إلى سبل المواصلات وإلى مظاهر العمران من متاجر أو دور تعليم أو دور استشفاء، إلا ما كان منها في أبسط حالاته.
على أن الصبي كان مغتبطًا ببيته الجديد في إنديانا؛ فقد كان أوسع من ذلك الذي درج فيه بكنطكي، وكان له ولأخته سرير من الخشب في ركن منه، عليه حشية من الجلد ملئت بالريش وورق الشجر، وكانت به بعض المناضد وبعض المقاعد.
وكان الصبي يأنس بكثرة الجيران هنا، ويرى الحياة أكثر نشاطًا وأوسع مجالًا، ولقد جاء بعض ذوي قرباه، فأقاموا معهم حيث كانوا يقيمون، وكان معهم شاب تبنوه في نحو الثامنة عشرة.
وكان كل امرئ يؤدي نصيبه من العمل لم يتخلف عن ذلك حتى الصغار؛ فهذا «أيب»، وكان على نحافته غلامًا قوي الساعدين، يبذر الحَب في الربيع، ويشترك في الحصاد وقت الصيف، ويطعم الخنازير ويحلب الأبقار أكثر الأيام، ويتعهد سور المزرعة بالإصلاح إذا أمالت جوانبَه الحيواناتُ، ثم إنه إلى جانب ذلك قد بدأ يعاون أباه في أعمال النجارة. وهذه أخته سارا تعاون أمها فيما لا يحسنه أيب من شئون البيت.
وظل هذا حال تلك العشيرة مدة عامين، ولكن الزمن القاسي يأبى إلا أن تنتابهم حمَّى مروعة ناءت بالناس والدواب، وحار في أمرها الكبار والصغار، وهم لن يجدوا طبيبًا إلا أن يقطعوا نيفًا وثلاثين ميلًا على الأقل، وهل كانوا يستطيعون أن ينتقلوا بضع خطوات؟ لقد هدَّهم المرض؛ فرقدت الأم، ورقد كثير من الجيران وبعض ذوي القربى، ومات جده لأبيه وجدته لأمه، ثم حم القضاء فماتت الأم! ورزئ أيب بأقوى صدمة من صدمات الأيام، وأي صدمه! لقد ضاقت في وجهه الدنيا، وأحس الغلام معنى اليتم إحساسًا قويًّا، وقد زاد وقعه في نفسه ما فطر عليه من عمق الخيال واشتداد العاطفة، لقد طالما وقف إلى جوار سرير أمه المحتضرة ينظر إلى الدموع تتساتل على وجه أبيه المصفار، وقد أنهكته كثرة أعماله في تلك الأيام، فضلًا عن حزنه؛ إذ كان يقضي كل يوم معظم نهاره في تسوية توابيت من الخشب لمن تطوي أعمارَهم الحمى، ولما أخذ يعد تابوتًا لزوجته، وقف ابنه يساعده شارد اللب، في محياه وفي نظراته اليتم والبؤس. ولقد ظل الصبي هناك أمام تلك البقعة من الأرض التي دفنت تحتها أمه حتى تناوحت من حوله رياح المساء، ومشت في الأفق ظلال الطفل، وسكتت العصافير على الشجيرات القريبة، فذرفت عيناه سخين الدمع، وعاد وحده إلى الكوخ كسِيرَ القلب موجوع النفس، يحس أنه غريب في هذا الوجود الواسع وهو يومئذ في العاشرة من عمره.
أصبحت سارا الصغيرة ربة الأسرة بعد موت أمها، وكانت سارا في الثانية عشرة من عمرها، فأخذت تخدم أباها وأخاها فيما يلزم لهما من شئون البيت، والرجل وابنه يحسان الوحشة كلما أويا إلى الكوخ من عملهما في الغابة أو في المزرعة؛ فلا الرجل ملاقٍ نظرة الحنان والعطف ولا ابتسامة الشكر التي كانت بالأمس تضيء جوانب نفسه، وتهون عليه متاعب عمله، ولا الصبي واجد من يفتح له ذراعيه ويضمه إلى صدره، كما كانت تفعل أمه حين كانت تستقبله وتقبل جبينه وتنعته بالرجل الصغير وتشير مغتبطة إلى مستقبله.
ولم يطق الرجل صبرًا على هذه المعيشة وقد مضى على وفاة زوجه عام، فرحل عن المقاطعة قائلًا إنه قد يغيب أيامًا، ولكنه على أي حال لن يطيل إلا مضطرًّا.
غاب الأب أيامًا، فما أحس الصبي لغيابه وحشة كما أحس لغياب أمه، أكان ذلك لأن غياب أبيه كان إلى حين وكانت إلى الأبد غيبة أمه؟! على أنه يحس دائمًا لغيبة أمه في أعماق نفسه حزنًا لن يفتر على الأيام، حزنًا دفينًا يمس خواطره جميعًا من بعيد؛ مسًّا هينًا مرة ومسًا شديدًا مرات، وسيبقى هذا الحزن الهادئ الدفين في أعماق نفسه لا تُنقص الأعوام منه شيئًا.
وإنه ليسمع همسًا حوله أن أباه ما غاب إلا ليعود بزوج أخرى غير أمه، فيستعيد الصبي ما سمعه من قبلُ عن امرأة الأب وما يكون في قلبها من قسوة على غير بنيها، وهل له أن يلوذ بعطف أبيه، وإنه ليحس منذ وفاة أمه كلما خشن عليه إحساسًا لم يكن يداخله من قبل؟! فإن نظرة عطف أو كلمة حنان من أمه كانت تذهب بخشونة أبيه جميعًا.
ما باله تتنازعه الهواجس، ويتحرك الحزن في أعماق نفسه؟ وما بال تلك الغابة المحيطة به تملأ اليوم خاطره بصور ينكرها خياله وإن ارتاحت إليها نفسه الحزينة؟
أكان ذلك إرهاص نفس شاعرة؟ إنه ليميد سمعه نحو الغابة إذا جنَّه الليل، فينصت إلى زئير الوحوش وصراخها وإلى تناوح الريح وصفيرها وإلى هدير الأمواه في الغدران المنحدرة وخريرها، ثم إلى تلك الخشخشة القوية التي تشبه الصوت المنبعث من البحر، تحدثها الأشجار إذ تعصف بها الرياح العاتية، وإنه ليميد خياله نحو الغابة، فيصور لنفسه ما تزدحم به ألفافها من وحوش وهنود وزواحف وأطيار وخلائق أخرى يتحدث عنها الناس حديثًا مبهمًا، وإنه ليخرج من هذا كله بمثل ما يخرج به راكب البحر أو جائب البيد من الشعور بضآلة الإنسان أمام عظمة الخالق، ثم بالإذعان والضراعة والاستسلام.
عاد توماس لنكولن في عربة يجرها أربعة من الجياد القوية الممتلئة، ونزلت من العربة سيدة يذكر الصبي أنه رآها في كنطكي، ونزل منها غلام وبنتان، وكانت السيدة هي زوج أبيه! ودهش أيب لِمَا رأى من متاع جديد؛ فقد رأى سُررًا حقيقية وكراسي وخوانًا ومائدة ومدى وآنية، وأشياء غيرها مما لم تقع عليه عينه من قبل بين جدران الكوخ، وسرعان ما كون الصغار رفقة تربط بينها المودة والمحبة، وكانت إحدى البنتين القادمتين تدعى «سارا» ففرح بذلك أيب وفرحت أخته سارا، وما لبثا أن علما أن ربة البيت الجديدة تدعى كذلك «سارا»، فكان لاسمها وقع طيب في نفسيهما الصغيرتين.
وما لبث أيب وأخته أن رأَيا في زوج أبيهما امرأة صالحة طيبة القلب رقيقة العاطفة حلوة الشمائل ذكية الفؤاد نشطة دءوبًا، تسهر على راحتهم جميعًا، وتُعنى بشئون الدار كلها في غير تبرُّم أو كلال، وزادها محبة في نفس أيب أن رآها، فوق ما أولته من عطف، تميل إلى تعليمه وإلى تعليم الصغار جميعًا، وقد سمعها تجادل زوجها في ذلك، وتصرُّ على أن يذهبوا عصبة إلى المدرسة، وما زالت به تقنعه، وقد كان في بداوته يقدم الفأس على القلم، ويضن بابنه وقد رأى قوة ساعديه ومهارة يده أن يرسله إلى المدرسة، وهو أحوج ما يكون إلى عونه، وقد تغلب رأيها آخر الأمر، وسار الأولاد إلى المدرسة وكانت على مسافة ميل ونصف ميل من كوخهم.
وما كان أعظم فرحة الصبي بالذهاب إلى المدرسة! فلقد كان شديد الرغبة في تعلم القراءة، وكانت تتأجج في نفسه تلك الرغبة كلما رأى واعظًا يمر بهم أو أحد ماسحي الأرض أو رجلًا من المشتغلين بالقانون والمحاماة، وكان يتساءل بينه وبين نفسه لم لا يكون كهؤلاء الذين يقرءون ويكتبون.
وأقبل الصبي على تعلم الكتابة والقراءة إقبالًا لم يعهد مثله في نظرائه، ولقد كان يعمد إلى قِطع الفحم كلما عاد إلى الكوخ، فيكتب بها على غطاء صندوق من الخشب تارة، أو على ظهر محرك الموقد تارة أخرى! وكان يكرر ذلك في غير ملل مع صعوبة الكتابة بالفحم على مثل تلك الأشياء، وأنَّى له المداد والورق إلا ما ندر من قصاصات رديئة كان يضن بها على التمرن، فلا يخط عليها إلا ما أحسن كتابته على الخشب، وهكذا تعود الصبي أن ينفي عبارته من الحشو، وأن يفكر مليًّا قبل أن يكتب كي لا يثبت على الورق إلا ما تطمئن نفسه إليه.
ولم تشغله سعادته التي يجدها في التعلم عن ذكرى أمه، وكانت عادةُ القوم في تلك الأصقاع أن يقيموا حفلًا دينيًّا لكل ميت خلال العام التالي لعام وفاته، فهل يفوت الصبي إقامة هذا الحفل؟! كلا؛ فما تغيب عن قلبه ذكرى أمه الحبيبة، وإن كان لَيرى أباه في شغل عنها، وإن انشغال أبيه عن تلك الذكرى ليوجع نفسه، ولكنه يزيده تعلقًا بها ورغبة في إحيائها.
حار الصبي أول الأمر ماذا يفعل، ولكن فيم الحيرة؟ أوليس يستطيع اليوم أن يكتب؟! فليتناول ورقة وليكتب إلى رجل من رجال الدين يعرفه في كنطكي، وأكبر الظن أن الرجل لن يحجم عن الحضور؛ فإنه طيب القلب، ولقد كان كثير العطف على أهل لنكولن، وعلى الأخص ربة الدار، وهكذا كتب الصبي أولى رسائله.
وأشد ما أثلج فؤاده أن جاءه رد ذلك الرجل الصالح ينبئه أنه ملبٍّ دعوته عند أول فرصة يدنو به فيها عمله من إنديانا، وسنحت الفرصة المرتقبة بعد أيام، وحل بصقعهم ذلك الرجل الصالح، وقد قطع في سفره إليهم ما يربو على المائة ميل.
وتلقاه أيب ودموع الشكر والفرح في مقلتيه، وأذيع النبأ في الجيرة، وحدد يوم لذلك الحفل.
وفي صباح اليوم المحدد تجمع على مقربة من قبر أمه نحو مائتين من ساكني الأكواخ المتناثرة في تلك الجهة، والتفتت أعين الجمع إلى حيث يقوم كوخ توماس لنكولن، فإذا برجل الدين يمشي مِشية الصالحين الأتقياء، ووراءه توماس لنكولن يتبعهما أيب ثم أخته سارا وبعض الجيرة الأقربين، وسلَّم الرجل وترحَّم على الميتة ودعا لها الله، وكانت كلماته بردًا وسلامًا على قلب الغلام، وأحس بعدها كأنما طرح عن قلبه عبئًا كان يئوده ويؤلمه، وصار يَشفي نفسه كلما ذكر أمه ما قاله القس عن شمائلها وما دعا لها به الله من دعاء.
وستنصرم بعد ذلك الأعوام وهو لا ينسى ذلك الصباح، ولا ينسى ذلك القس الرحيم ولا كلماته الطيبات التي الْتأمتْ بها جراحات قلبه الصغير.