أحداث ونذر!
ما لبثت أن بدرت في البلاد بوادر الطامة الكبرى؛ فقد تلاحقت الأحداث، وجرت الشائعات بالنذر وانبعثت الإحن والحزازات، وتنابذ الناس وتباغوا، وأصبح بأسهم بينهم شديدًا. فما هي إلا رجفة ثم ينفجر البركان ويزلزل البنيان.
وكانت أولى تلك الأحداث ما وقع في مجلس الشيوخ؛ فقد كان في المجلس رجل يدعى سمنر، وكان أستاذًا للقانون بجامعة هارفارد، وتلقى العلم أثناء شبابه بأوربا، وقد عرف بقوة الجنان وزلاقة اللسان وتوقد القريحة، وكان ممن يكرهون الرق أشد كره، فحمل في قوة وجرأت على قرار نبراسكا، وأهاب بالناس أن يتمسكوا باتفاق مسوري، وكانت لهجته لاذعة وحجته قاطعة وعبارته مقذعة، وقد تهكم تهكمًا قاسيًا على أحد الأعضاء وهو المدعو بنلر وجعله سخرية الساخرين، فلما كان ذات يوم بعدها جالسًا إلى مكتبه في المجلس يكتب في سكون، إذ هجم عليه أحد أقارب بتلر فأهوى على أم رأسه بعصا غليظة فخر على الأرض صعقًا! وظل بعد ذلك سنوات يقاسي آلام العلة من هذه الضربة.
وكانت هذه الضربة في الواقع أولى ضربات الحرب الأهلية؛ فأهل الجنوب بدل أن يستنكروا هذه الفعلة هللوا لها واعتبروا صاحبها بطلًا جديرًا بالإعجاب والتوقير، وقدم له جماعة من الطلبة عصًا ذات رأس من الذهب، أما أهل الشمال فلك أن تتصور مقدار ما بلغته الفعلة من نفوسهم وما تركته من الغيظ في صدورهم، فذلك ما لا ينهض لتصوره كلام.
وجاءت بعد ذلك قضية دردسكوت، فكانت حادثًا رج البلاد من أركانها وإن كان هينًا في ذاته؛ وذلك أن عددًا من العبيد رحلوا مع سيدهم إلى ولاية من الولايات الشمالية الغربية، وكان فيهم عبد ذكي رزق حظًّا من التعليم ويدعى دردسكوت، أدرك أنه وراء الحد الفاصل بين ولايات الرق والولايات الحرة — أي حد اتفاق مسوري — فرفع أمره إلى القضاء يطلب أن يتمتع هو وأسرته بالحرية ما داموا في ولاية حرة.
ولكن هذا العبد كان يحمل ومن معه بالقوة من جهة إلى جهة، فصار ينقل قضيته من محكمة إلى محكمة، وحجته أنه ظفر بالحرية فعلًا؛ إذ كان وراء خط اتفاق مسوري؛ ولذلك فإن نقله بالقوة إلى الجانب الآخر من خط الاتفاق — أي إلى الجهات التي تأخذ بالرق — لا يذهب عنه حريته؛ لأنه انتزاع رغم أنفه.
وكان دردسكوت في الواقع يمثل ملايين العبيد، فقضيته قضية الرقيق جميعًا، فما يجوز عليه يجوز على كل زنجي في البلاد، ومن هنا جاءت أهميتها، ثم إنها وقعت في وقت كانت تتصارع فيه الآراء والمبادئ وأذهان الناس جميعًا متجهة إلى ما عسى أن تفضي إليه معضلة الرق، ولو أن هذه القضية قد جاءت قبل ذلك لما كان لها مثل ما اتفق لها الآن من خطر.
انتقلت القضية من محكمة إلى محكمة حتى وصلت إلى المحكمة العليا للولايات، ويصف دردسكوت موقفه في إحدى المراحل في كتيب تداولته الأيدي، ونقلت عنه الصحف حتى بات حديث البلاد كلها، ومما جاء فيه قوله: «قال القاضي إنني وفق تلك القوانين كنت حرًّا كَمَالِكِي على سواء أثناء أن كنت في إلينوى وفسكنسن، وكان لي أن أجعل من الرجل الأبيض عبدًا لي كما يجعلني عبدًا له، وشعرت بالأسف لأن أحدًا لم يقل لي مثل هذا الكلام وقت أن كنت هناك، وقد استشعرت الفرح إذ حسبت أن القاضي سيهبني الحرية، ولكن القاضي تكلم بعد هنيهة فقال إنه بمجرد أن جاء بي مالكي إلى هذه الناحية من خط اتفاق مسوري ذهب حقي في الحرية، وعدت أنا وأطفالي وأسرتي متاعًا من المتاع فحسب! وأحسست القسوة في أن يرسم البيض خطًّا من صنع أيديهم على سطح الأرض، على جانب منه لا يكون الرجل الزنجي رجلًا بأي حال، وأنهم يبقون ذلك سرًّا فلا يطلعون أي زنجي عليه حتى يعودوا به إلى هذا الجانب من الخط؛ ولذلك لم أجد بدًّا من الالتجاء إلى المحكمة العليا … يا إخواني في الإنسانية، هل فيكم من يستطيع مساعدتي يوم الفصل في القضية؟ ألا يتكلم أحد كلمة من أجلي في وشنطون ولو لم يكن له عليها من أجر إلا دعوات رجل أسود وأسرته؟ لست أدري ماذا أفعل، ولست أملك إلا أن أصلي وأدعو الله أن يتحرك قلب كريم بالشفقة علي، فيفعل لي ما لست أستطيع أن أفعله لنفسي، وأن تعلن المحكمة العليا إذا رأت الحق في جانبي للناس هذا الحق …»
وبات الناس ينتظرون حكم المحكمة وقلوبهم مليئة بالإشفاق على هذا الزنجي الفرد، الذي تجاوبت البلاد كلها صدى كلماته مفعمة بالرثاء له، ثم إن قرار المحكمة لن يكون إلا حكمًا في قضية الرق كلها، وكانت المحكمة العليا هي التي تفسر ما يختلف الناس فيه إذا كان اختلافهم على دستورية قانون من القوانين وقولها في ذلك الفصل.
وقضت المحكمة بحكم لم يكن للناس في البلاد حديث غيره زمنًا؛ لفرط دهشتهم منه، ولأهمية مغزاه في تلك الظروف، ومؤدى هذا الحكم أنه ما كان لأي زنجي أن يرفع قضيته أمام محكمة من محاكم البلاد كما يفعل الرجل الأبيض، وأنه ليس للكونجرس ولا لأي مجلس من مجالس الولايات أي سلطة تخوله أن يمنع أي شخص من أن يعود برقيقه من الولايات الحرة إلى ولايات الرق، وليس لأحد أن يتدخل بين مالك الرقيق ورقيقه في أي جهة من الجهات!
ومغزى هذا الحكم أنه يجعل اتفاق مسوري اتفاقًا غير ذي موضوع؛ لأن مالك الرقيق بمقتضى الحكم حر فيما يفعل برقيقه في أية ولاية من الولايات، ما كان منها في هذا الجانب من خط اتفاق مسوري أو في ذاك. وكذلك يقضي هذا الحكم على قرار نبراسكا الذي يجعل لمجلس الولاية الحق في تقرير مبدأ الرق في الولاية أو رفضه، فمرد المسألة الآن إلى مالكي الرقيق أنفسهم، وفي هذا وحده من معنى حماية المحكمة العليا لملاك الرقيق في البلاد ما حق لأهل الجنوب أن يطفروا فرحًا به.
أما أهل الشمال فكان الحكم في نفوسهم غمة وفي حلوقهم شجى، فلا حديث لهم أينما تلاقوا إلا ما ينطوي عليه من معان، وأدرك الشماليون أن قد أزفت الآزفة، واقترب اليوم الذي يحتكم فيه أنصار الحرية وأنصار الرق إلى السيف، فقد أعلن الجنوبيون أن على الشماليين أن يذعنوا للحكم وإلا انسحبوا هم من الاتحاد، وكانوا يتهمون دعاة التحرير بأنهم هم الذين دبروا هذه القضية، وأن دردسكوت ما عمل إلا بوحيهم، وأيقن لنكولن أن الحوادث تؤيد ما ارتأى، ولعله كان يحس بينه وبين نفسه أنْ قد اقتربت الساعة التي يتناول فيها معولًا، لا ليقطع الأخشاب كما كان يفعل من قبل في الغابة، بل ليهوي به على ذلك النظام البغيض فيضربه الضربة الحاسمة.
أيقن لنكولن ذلك، فهو وإن لم يكن يعرف الذهاب بنفسه يدرك اليوم أن قد صار له في السياسة مكانة الزعماء؛ فلقد ذاع اسمه خارج ولاية إلينوى وتقبله الناس بقبول حسن، وقد رأينا أن أهل إلينوى رشحوه لمنصب نائب الرئيس، ونذكر أنه نال من أصوات المؤتمر الأهلي للجمهوريين في مساشوست مائة صوت وعشرًا، ونال ديتون مائتين وستة وخمسين، فأصبح ديتون مرشح الحزب، على أن حصول لنكولن على هذا العدد — وإن لم يرشح — دليل على نمو مكانته في نفوس الجمهوريين، ولما علم لنكولن بذلك تبسم ضاحكًا وقال: «حسبت أول الأمر أن هناك رجلًا عظيمًا في مساشوست يدعي كذلك أبراهام لنكولن.»
وقد تألم لنكولن وانكدرت نفسه لذلك الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا، تلمح ذلك فيما عقب به عليه؛ إذ أخذ يقارن حال العبيد يومئذ بما كان يرجى لهم غداة إعلان استقلال الولايات، قال: «في هاتيك الأيام كان إعلاننا الاستقلال أمرًا يعده الناس مقدسًا كما أنهم عدوه ينتظم السكان جميعًا، أما اليوم فقد سخر منه وهوجم وأُوِّل وفق الأهواء ومزق شر ممزق، حتى إنه لو أمكن أن يبعث صانعوه اليوم من مراقدهم ما أمكنهم أن يتعرفوه، وذلك بما فعلنا إذ حاولنا جعل استعباد الزنجي أمرًا عامًّا أبديًّا، وإن جميع قوى الأرض لتظهر كأنها تتحد سريعًا عليه، فأله المال «مَمونْ» في أعقابه، ومن ورائه الطمع، ثم من وراء هذا الفلسفة، تتلوها جميع نظريات العصر التي تتكاتف جميعًا لتؤيد الصيحة ضده. لقد ألقوا به في سجنه بعد أن فتشوه ولم يدعوا في يده أية آلة ينقب بها الجدار، وأغلقوا عليه الواحد بعد الآخر أبوابًا ثقيلة من الحديد، كل منها ذو مائة مفتاح، ولا يمكن فتحه إلا أن تتفق على ذلك كل هاتيك المفاتيح، وإنها لفي أيدي مائة من الرجال مختلفين مبعثرين في مائة مكان سحيق، وإنهم فوق ذلك ليفكرون أي اختراع في كافة جوانب العقل والمادة يمكن أن يضاف إلى ذلك، ليتأكد لهم استحالة هربه أكثر مما يتأكد على هذه الصورة!»
وحق لأبراهام أن ينطلق لسانه بهذا الغضب، وأن تجزع نفسه لهذا الحكم؛ إذ ما نصيب موقف حزبه من القرب أو البعد من روح الدستور بعد هذا الحكم، وهو الحزب الذي يجعل اتفاق مسوري القاعدة التي يصدر عنها في معضلة الرق؟
وظلت الأحداث والنذر تأتي بعضها في إثر بعض؛ فهذه كنساس لا تزال تتوثب فيها الفتنة ويتحفر الشر، فقد أخذت تضع لها دستورًا، وكان أنصار الحرية فيها أكثر عددًا من أنصار الرق، ولكن هؤلاء عمدوا عند انتخاب مؤتمر عام يضع الدستور إلى القوة المادية، وتألفت عصابات منهم ومن بعض مؤيديهم من الولايات القريبة، وحالوا بين الأحزاب وبين أمانيهم بوسائل الإرهاب والتنكيل، وجرت الانتخابات على صورة مؤلمة، فلم ينتخب إلا أنصار الرق، فانفردوا بوضع الدستور، وقرروا فيه أن كنساس من ولايات الرق، واجتمع أنصار الحرية وأعلنوا احتجاجهم، وأعدوا دستورًا آخر يحرمون فيه الرق.
ويأبى الرئيس بوكانون في تلك الآونة العصيبة إلا أن يعتمد قرار المؤتمر، فيقبل الولاية في الاتحاد على أنها إحدى الولايات التي تأخذ بنظام الرق كما جاء في دستورها.
وجاء هذا مع الحكم في قضية دردسكوت ألمًا على ألم لنفوس الأحرار، ولشد ما تألم لنكولن لهذا القرار، ولكن ذلك كان عنده الألم الذي يلد الأمل ويحفز النفوس إلى العمل ويغريها بالجهاد، ولولا أن كان من المؤمنين الصادقين لتطرق إلى نفسه الوهن ومشى في عزمه اليأس.
وفضلًا عما أحدث دستور كنساس من أثر في قضية الرق العامة، نراه يؤثر في موقف لنكولن من خصمه دوجلاس؛ فقد كان يرجى لنكولن أن يظفر بأصوات الناس إذا رشح نفسه مرة ثانية لمجلس الشيوخ، ولكن دوجلاس عرف كيف يستغل هذا الموقف ويكسب تأييد عدد من الجمهوريين أنفسهم بتلونه واتباعه سياسة اقتناص الفرصة المواتية.
رأى دوجلاس أن قرار المحكمة العليا قد قضى على ما راح يدعو إليه من توطيد مبدأ سيادة الولايات في تقرير مصيرها، ذلك المبدأ البراق الذي ظل يخلب الألباب ويلوح به لأهل الجنوب ليكونوا عدته في الوصول إلى الرياسة، ولقد بات من أمره في حيرة شديدة؛ فهو يخشى أن يفقد محبة أهل الجنوب إذا عارض دستور كنساس، بينما هو يخشى كذلك أن يفقد ثقة أهل إلينوى إذا هو نسي مبدأ سيادة الولايات وسلطانها؛ فيؤدي ذلك إلى خذلانه في الانتخاب لمجلس الشيوخ، وقد أوشكت مدته فيه أن تنتهي.
وآثر الآن أن يحرص على ثقة ناخبيه لمجلس الشيوخ، فأعلن عداءه لدستور كنساس، ووقف يحمل عليه في المجلس حملات شديدة بعثت في قلوب الديمقراطيين الغيظ وأثارت في عقولهم الدهش، فهذا الرجل الذي يعدونه من أقوى رجالهم لا يستحي أن يخرج على هذه الصورة، ولا يتورع أن يعارضهم في غير هوادة، كأنما انقلب بغتة فصار من رجال الحزب الجديد.
ولقد هلل بعض زعماء الجمهوريين لموقف دوجلاس واستبشروا به، بل لقد أخذوا يوحون بضم دوجلاس إلى حزبهم ليزدادوا به قوة ومنعة، وراح جريلي أحد أصحاب الصحف بنيويورك، وهو من قادة هذا الحزب، يدعو القراء إلى انتخاب دوجلاس، وأخذ يثني على صفاته ويتوخى في مديحه الإطناب والمغالاة، وكان هذا الرجل من أشهر رجال الصحافة في الشمال، وكانت له عند الناس مكانته، كما كان لصحيفته عدد كبير من القراء المعجبين به.
ولكن أبراهام أنكر كل هذا الاتجاه ولم يحس في نفسه الميل إلى هذا التناقض، وهنا تعود للظهور خصلة من أبرز خصاله؛ ألا وهي الاستقامة إذا صح أن تعبر هذه الكلمة عن المعنى الذي نريد، والذي نراه ينحصر في إطلاق النفس على سجيتها لتسير على نهج من فطرتها في غير تناقض أو تذبذب أو اضطراب، وما كان أبراهام ليتكلف شيئًا لا ينزع إلى وجدانه، ومن هنا كانت خطواته بطبيعتها مسددة صوب الغاية مفضية إليها، مهما كثر ما يعترضه من الصعاب، ثم من هنا كان خطره إذا هم بأمر، قال حين علم بتلك الدعوة الجديدة: «لقد أتى جريلي نحوي بما لا يعد عدلًا. إني جمهوري من صميم الجمهوريين، ولقد وقفت دائمًا في طليعة الصفوف عند المعركة، والآن أراه يفاوض دوجلاس خير من يمثل رجل الاتفاقات وأنصاف الحلول، ذلك الذي كان ذات مرة آلة أهل الجنوب، والذي هو اليوم أحد معارضيهم، ذلك هو الرجل الذي يحاول أن يضعه في صفنا الأمامي … إنه يحسب أن مكانه الرفيع وشهرته وتجاربه ومقدرته — إذا سره ذلك — تقوم مقام المركز الجمهوري الخالص الذي ينقصه، بل وتزيد على ذلك … ولذلك فإن إعادة انتخابه للشيوخ — على أن يمثل القضية العامة لحزبنا — أجدى علينا من انتخاب من هو خير منه من رجالنا الجمهوريين الخلص ممن ليست لهم مثل شهرته، ماذا تعني «نيويورك تريبيون» بذلك الإطراء والإعجاب والتعظيم الذي تزجيه دائبة لدوجلاس؟ هل تعبر بذلك عن شعور الجمهوريين في وشنطون؟ هل وصلوا نهائيًّا في رأيهم إلى أن قضية الحزب الجمهوري على العموم تتقدم خيرًا من ذي قبل بتضحيتنا هنا في إلينوى؟ إن كان ذلك كذلك فنحب أن نعلمه عاجلًا، على أني حتى الآن لست أعلم بجمهوري هنا يرغب أن ينضم إلى دوجلاس، وإذا استمرت التريبيون ترن باسم دوجلاس في مسامع الخمسة أو العشرة الآلاف من قرائها في إلينوى، فإن ذلك يكون أكثر من أن نأمل معه أن يظل الشمل جميعًا. إنني لا أشكو ولكنني أرغب في أن أصل إلى بينة من الأمر.»
ذلك هو لنكولن اليوم، انظر كيف يجمع بين منطق المحامي وحصافة السياسي، وانظر كيف يدفع عن نفسه بما نشأ عليه من دماثة ما يجد فيه عدوانًا على شخصه ونيلًا من كرامته، فهو يطيق أن يكون دوجلاس خصمًا له، ولكنه لا يطيق أن يراه مرشح الحزب دونه في إلينوى، وهو فيما يعتقد لا يرى كفايته تتقاصر عن ذلك.
وسافر صديقه هرندن إلى الجهات الشرقية ليرى ما حال الحزب هناك، وليقابل زعماءه البارزين، فعاد إليه ينبئه بأن اسمه يقابل بالاحترام من كثير من قادة الحزب، بيد أنه يحمل إليه مع ذلك أنباء لا تسره؛ فرجال الحزب منقسمون بعضهم على بعض؛ فإن لجريلي آراءه، ولستيوارد أطماعه، ولغيرهما من أساطين الحزب من أوجه الرأي ما يخشى منه انحلاله.
هكذا صارت السياسة شغله الشاغل فهو لا يستطيع اليوم غير ذلك، لا لأنه يتخذ من السياسة وسيلة إلى تحقيق أطماع شخصية كما عسى أن يفعل غيره؛ ولكن لأن عقيدة تحرك نفسه وتستثير وجدانه، ولأن رسالة من الرسالات الإنسانية الكبيرة ينبض بها قلبه الكبير. وهل عهدنا عليه من قبلُ ما نحمل معه اشتغاله بالسياسة على غير محمله؟
على أنه لم ينفض يده من المحاماة بعد، فما زالت المحاماة مرتزقة، ولقد ارتفع فيها إلى مستوى يحق معه لرجال المحاماة جميعًا، في كل جيل وفي كل بلد، أن يذكروه كعلَم من أعلامها، وأن يضيفوا اسمه إلى ما يعدونه في مهنتهم من دواعي الشرف وبواعث الفخار.
عزيزتي مسز آرمسترنج
علمت الآن بألمك العميق وبإلقاء القبض على ابنك متهمًا بالقتل، ويصعب علي أن أصدق أنه عسيٌّ أن يرتكب ما اتهم به، إن ذلك لا يبدو ممكنًا، وإني لأرجو أن يُجْرى معه تحقيق عادل على أي حال، وإن عرفاني بالجميل نحوك وما كان لي منك أيام شدتي من عطف طالت أيامه؛ ليحدوني أن أتقدم في سماحة نفس بخدماتي المتواضعة لصالحه، فإن هذا سوف يتيح لي الفرصة أن أرد ولو بقدر ضئيل تلك المبرات التي نلتها على يديك ويديْ زوجك المأسوف عليه؛ إذ لقيت تحت سقفكم مأوًى كريمًا بغير مال وبغير ثمن.
وثمة حادثة أخرى لها دلالتها على عظمة الرجل ونبله وسمو نفسه؛ ذلك أنه تقدم عن طيب خاطر ليدافع عن حفيد القس كارترايت، ذلك الرجل الذي طعنه في دينه قبل ذلك بعشرين عامًا وهو ينافسه في الوصول إلى مقعد في مجلس الولاية، وكانت هذه التهمة كذلك تهمة القتل، ولشد ما تأثر كارتريت وهو اليوم شيخ كبير؛ إذ شاهد حرارة دفاع خصمه القديم لنكولن عن حفيده الذي ما لبث أن برئت ساحته.
على أن للسياسة اليوم أكثر همه، فما يفرغ من عمله إلا أخذ يتقصى حال حزبه، وكان نشاط دوجلاس يومئذ، ورغبته أن يظفر بمقعده ثانية في مجلس الشيوخ، وميل بعض زعماء الجمهوريين من أمثال جريلي إلى اجتذابه للحزب الجمهوري؛ كل أولئك كان موضع اهتمامه، لا يني يفكر فيه؛ وذلك لصلته بالقضية الكبرى التي باتت قضية الاتحاد كله؛ ألا وهي قضية الرق، فها هي ذي الأحداث والنذر — كالاعتداء على سمنر، وحكم المحكمة العليا في قضية دردسكوت، وقبول الناس في الاتحاد ولاية من ولايات الرق — تسبق العاصفة وتنذر بالراجفة.