نذر العاصفة
لبث أبراهام نحو أربعة أشهر في سبرنجفيلد ينتظر موعد الانتخاب للرياسة، وأقام في المدينة هذه المدة فما عهد عليه أحد من أهلها أنه تغير أدنى تغير عمَّا كان عليه؛ فهو في الناس فرد منهم وإن كان بسبيل أن يذهب عما قريب إلى البيت الأبيض.
وظلت سبرنجفيلد أيامًا في ابتهاج ومرَح وأبراهام يلقي الوفود في داره خافضًا لهم جناحه باذلًا من الود والحب أكثر ممَّا يبذلون، وهم معجبون برجلهم الذي هو اليوم مناط آمالهم وموضع تجِلَّتهم، يعجبون منه بكل شيء، وبخاصة ذلك التواضع الذي يبدو الآن رائع الجلال باهر الجمال.
وكان أبراهام في تلك الأيام كثير الصمت يطيل التأمل والتفكر أحيانًا أكثر ممَّا كان يفعل من قبل، ولقد أحاط الناس بداره ليلة مجيء ذلك الوفد وطلبوا إليه أن يخطبهم، فأطل عليهم بعد إلحاح منهم، فقال وهو الخطيب الذي يفيض كما يفيض السيل: «أي مواطنيَّ! توجد لحظات في حياة كل سياسي يكون خير ما يفعل فيها أن يحتفظ بشفتيه مضمومتين، وإني أحسب أن مثل تلك اللحظات قد حانت الآن بالنسبة إليَّ.» ولم يَزِدْ على هذه الكلمة شيئًا على الرغم من تحمس الناس لسماعه.
ولما ضاقت بالوفود داره جعل لقاء الناس في قاعة من قاعات مقر الحكم في المدينة، لا يرد عن مجلسه أحدًا ولا يأخذ الحيطة من أحد، فإذا سأله شخص عن أمر في السياسة ناقشه في هدوء أو أعطاه نسخة من مجموعة خطبه، وهو يذهب بنفسه إلى مكتب البريد فيحضر رسائله المتعددة التي تأتيه من كل فَجٍّ، فيفضها ويقرؤها ويرد على ما يتطلب الرد، إمَّا بيده أو بيد كاتب اتخذه له منذ قريب.
وظل أيامًا طويلة يلقى أنماطًا من الناس؛ فمن معجبين بشخصه محبِّين له، إلى مستطلعين يحبون أن يروا أبراهام لنكولن ذلك الذي اختاره الجمهوريون وآثروه على سيوارد، إلى صحفيين يريدون أن يوافوا صحفهم بكل ما يستطيعون من نبأٍ عن ذلك الرجل الذي يشغل الحديثُ عنه أذهانَ الناس، ويملأ مجالسهم في طول البلاد وعرضها. وكم كان يبتسم ابن الغابة ابتسامة السخرية من غرور الحياة إذ تقع عيناه في صحيفة على مثل قول أحد الصحفيين: إنه لا يعيش كما يظن بعض الناس عيشة الأوساط أو أقل منهم؛ فإن له بيتًا جميلًا، وإنه يرتدي ملابس جيدة التفصيل، وإن امرأته تتكلم الفرنسية في طلاقة، وإن له ابنًا في جامعة هارفارد.
ولبث في سبرنجفيلد لا يأبه لما يتقول عليه أعداؤه، ويرتاح لما يثني به عليه أولياؤه. وقد وقع في نفسه أحسن وقع ما كتبه سيوارد عنه؛ فقد طلبتْ إليه إحدى صحف نيويورك أن يكتب كلمة عن أبراهام ليعرفه لمن يجهله من الناس؛ فإن كثيرًا من الولايات الشرقية لا يعلمون عنه إلا اليسير، وضرب سيوارد مثلًا طيبًا، فكتب يثني على أبراهام ويصف خلاله، ويهنئ البلاد باختيار حزبه إياه ويتمنى له الفوز في المعركة الأخيرة.
ووقع في نفسه كذلك موقعًا طيبًا ما سمعه عن دوجلاس خصمه العنيد؛ فقد قال دوجلاس عندما علم باختيار حزبه إياه إن الحزب قد اختار في الحق رجلًا قويًّا جد قوي أمينًا حق أمين، وقال يصفه لأحد أصدقائه: «إنه من أقدر الرجال في الأمة كلها.»
وما فتئت الكتب تُلقى إليه من أنحاء البلاد تحمل إليه التأييد والإعجاب، وإن كان بينها عدد كريه جاءه من خصومه ينطق بكراهتهم إياه ويسمعه تهديدهم ونذرهم.
أي فتاتي الصغيرة العزيزة، تلقيت كتابك الجدير جدًّا بالقبول، المؤرخ في ١٥ أكتوبر سنة ١٨٦٠، وإني لآسَفُ أن أراني مضطرًّا إلى إخبارك أنه ليس لي ابنة، إن لي ثلاثة بنين؛ عمر الأول سبعة عشر عامًا، والثاني تسعة، والثالث سبعة، ومن هؤلاء وأمهم معهم تتألف أسرتي كلها. أما عن إطلاق لحيتي أفلا ترين، ولم تكن لي من قبل لحية، أني إذا أطلقتها الآن إنما آتي بذلك ما يعد ضربًا من التكلف السخيف؟ … هذا وإني لك الصديق الوفي المخلص.
وسخط الناس في الجنوب على اختيار رجال حزبه إياه، وأصابهم من ذلك كرب شديد وضيق، وراحت صحفهم تناله بفاحش الهجاء؛ فهو تارةً الجمهوري الأسود، وآونةً فالق الأخشاب الجاهل الذي هو بسبيل أن يفلق الاتحاد، وأحيانًا الرجل الذي لا يحسن إلا النكات الخشنة المسفَّة، وطورًا الشبيه بالغورلا، وهو يقابل ذلك كله بالصبر الجميل مترفعًا ترفع الكرام عن جهل اللئام.
ولم يحدث منذ نشأة الولايات المتحدة أن قامت العداوة والبغضاء بين أهل الجنوب وأهل الشمال كما قامت بينهما عقب اختيار الجمهوريين أبراهام لنكولن.
وهبت من الجنوب الشائعات بالنذر؛ فلقد ازدادت الدعوة إلى الانسحاب من الاتحاد، وإلى إعلان التمرد والعصيان إذا قدر أن ينتخب لنكولن رئيسًا للولايات، ونمى إليه فيما نمى من الأنباء أن أهل الجنوب يطاردون بالقوة كل من يدعو إلى تحرير العبيد في ولاياتهم، وكتبت صحف الجنوب تندد بدعاة التحرير من أهل الشمال، وقد غاظ الجنوبيين أن ينظر خصومهم إلى الرق نظرة خلقية؛ إذ إنهم بذلك يعرضون بهم ويريدون أن يقولوا إنهم قوم بعيدون عن الإنسانية، وأخذت تلك الصحف الجنوبية تنكر على الشماليين ما يزعمون لأنفسهم من نبل؛ فهم في رأيها قوم يتظاهرون بالسمو في حين أنهم أجلاف ليس فيهم إلا كل متكلف كثير الادعاء.
على أن أعظم ما أزعج أبراهام يومئذ ما أفضى به إليه قائد من القواد من أنهم في الجنوب يعدون معدات القتال! لقد ارتاع أبراهام لسماع ذلك وأحس بميل شديد إلى معرفة كل شيء، ولكنه يشعر، ولم ينتخب للرياسة بعد، أن ليس له أن يسترسل فيما هو فيه من استطلاع، فيطلب إلى محدثه أن يتبين قبل أن يزيده علمًا، فإذا لم يكن في الإفضاء بما يعلم خيانة فليفْضِ به وهو يترك له تقدير ذلك.
ولم يقتصر الأمر على الجنوب؛ فإن في الشمال قومًا يخيفهم أن ينتخب أبراهام، ويرون أن المسألة لم تعد مسألة الرق فحسب، بل هي اليوم مسألة الاتحاد، وهل يظل قائمًا أم ينهار بناؤه، وإنهم ليخافون ما تنذر به الأيام؛ فها هم أولاء بعض المدينين من تجار الجنوب يرفضون أن يدفعوا ما عليهم لدائنيهم من أهل الشمال، والأسعار في جميع عروض التجارة آخذة في الارتفاع، وكثير من الناس يكرهون أن يسمعوا ما يقال عن الرق ويضيقون بقضيته ذرعًا، حتى لقد فض فريق من أهل بوستن بالقوة اجتماعًا عقده بعض أعداء الرق، وبعض ضباط الجيش يعلنون في غير حرج أنه إذا انتخب لنكولن رئيسًا للاتحاد فسوف يتخلون عن مناصبهم ويذهبون إلى الولايات الجنوبية.
ولا يُخفي كثير من كبراء الجمهوريين أنفسِهم مخاوفَهم من اختيار لنكولن في مؤتمر شيكاغو، ويرون في ذلك نذرًا سوداء تقض مضاجعهم وتقلق بالهم، كتب أحدهم في ذلك يقول: «أذكر إذ وقعت عيناي لأول مرة على ذلك النبأ مكتوبًا على لافتة انتخابية في أحد شوارع فيلادلفيا؛ أني أحسست لحظة بألم جثماني شديد، وكان حالي يومئذ حال من أصيب بضربة قوية فوق رأسه، ثم خانتني قوتي وشعرت أن قضيتنا قد مُنِّيت بفشل لا رجاء معه.»
وكان نفر من الجمهوريين في الولايات الشرقية يرون أن سيوارد قد ذهب ضحية الغفلة والجهل، وأنه أحق من أبراهام بالرياسة، وذهبوا في ذلك إلى حد أنهم نصحوا له أن يتجاهل قرار مؤتمر شيكاغو ويتقدم لمنافسه أبراهام في معركة الانتخاب، ولكنه رفض أن يستمع إلى ذلك.
وبات أنصار أبراهام من الجمهوريين موضع استهزاء الجنوبيين وسخطهم؛ فهم أُجَرَاء حقيرون، وهم قوم لا يدرون معنى الاجتماع، وهم سُذَّج بُلَهاء مخبولون، وإن الواحد منهم في أحسن حالاته لا يصلح لأن يكون ندًّا لخادم من خدم سيد من أهل الجنوب!
وتصل أنباء هاتيك النذر جميعًا إلى أبراهام وهو في سبرنجفيلد فينكدر لها خاطره، ولكنه ينتظر ما عسى أن تأتي به الأيام، ولَكم استمع إلى نذر العاصفة في الغابة وهو في كوخه، ولَكم أنصت إلى دويِّها وهي هوجاء مجنونة تحطم الفروع وتقتلع الجذوع، فما مثله من ينخلع فؤاده من عاصفة وإن كانت اليوم تنذر بالنار والدم. إنه يكرهها ولكنه ليس يحس تلقاءها شيئًا من الخوف.