الرئيس أبراهام لنكولن!
تأهبت البلاد في شهر أكتوبر من عام ١٨٦٠ للمعركة الانتخابية، وما من أمريكي ذي صلة ولو قليلة بالسياسة إلا وكان يدرك ما كانت تنطوي عليه تلك المعركة يومئذ من خطورة بالغة، ولعله لم يسبق في تاريخ الاتحاد أنْ عظُم اهتمام الناس بما عسى أن تكون نتيجة المعركة كاهتمامهم بذلك في عامهم هذا؛ فإنه إما أن يبقى بناء الاتحاد، وإما أن ينصدع فإذا هو اتحادان.
وأخذ كل حزب يسعى سعيه وينشر في البلاد ما وسعه من أساليب الدعوة، وأخذ اسم فالق الأخشاب ينتشر في طول البلاد وعرضها، وأخذت صورة هاتيك الأخشاب فوق الصناديق والعلب وغلايين الطباق، وصار الناس يتغنون بأغنيات تدور حول النجار فالق الأخشاب، ووضعت قطعتان من هاتيك الأخشاب في مقر الحزب في نيويورك على أنها من صنع أبراهام نفسه، كما ادعى نادٍ من الأندية السياسية أن لديه المعول الذي استعمله في فلق الأخشاب فتى الغابة أبراهام لنكولن.
وعظمت حماسة الناس في الولايات الناقمة على الرق حتى ما ينهض لوصفها كلام، ودوت هذه الحماسة في الاتحاد كله، وتألفت فِرَق من المتحمسين كانت تطوف في البلاد تحمل المشاعلَ أثناء الليل والأعلامَ في وضح النهار، وكانت تحمل لوحات عليها اسم لنكولن ولوحات أخرى رسمت على كل منها عين مفتوحة حدقتها إلى أقصى ما يمكن أن تفتح، وسميت هذه الفرق باسم «المقل الساهرة اليقظة».
وسارت فرق غيرها من الجمهوريين في مظاهراتها تحمل قطع الأخشاب، أو تحمل مثالًا مصغرًا للأكواخ التي درج في أشباهها أول ما درج مرشحُ الجمهوريين ابنُ الأحراج؛ أبراهام لنكولن.
ونشط أصحاب لنكولن من ذوي المكانة يدعون له ويعملون على فوزه بكل ما في طوقهم من الوسائل، ومن هؤلاء زميله هرندن، ولْنَدَعْ هرندن يقص علينا بعض الذي حدث، قال: «لقد فرح الجمهوريون بالمعركة ووضعوا أيديهم في أيدي دعاة التحرير، ومشوا جميعًا صوب النصر متأثرين بما توجه عبارة لنكولن: إنه ينبغي أن يوقف اتساع نطاق الرق في المستقبل، ويجب أن يوضع الرق بحيث يطمئن الرأي العام إلى أنه مقضي عليه في النهاية بالفناء.
ولما حميت المعركة واشتدت، تقدمتُ بخدماتي فألقيت عددًا من الخطب في بعض مراكز الولاية، وأذكر ذات يوم وأنا ألقي خطبة في بيترسبرج، وقد قاربت موضعًا حماسيًّا منها، أن جاءني رجل قد تقطعت من الجري أنفاسه وناولني كتابًا، ولقد ارتعت أول الأمر وفزعت من أن يكون به أنباء عن حادث وقع لأسرتي، ولَكم كان ارتياحي عظيمًا إذ تلوته ولقد جهرت بتلاوته، وكان كتابًا من صاحبي لنكولن ينبئني فيه أنه يحق لي أن أغتبط؛ فقد باتت أهايو وبنسلفانيا وإنديانا جمهورية، وكان خط الرسالة ملتويًا بعض الالتواء؛ مما يدل على أن لنكولن كان مضطربًا لا يملك أعصابه وقت كتابتها. وقد سببت تلاوة هذه الرسالة كثيرًا من الهرج، وبعثت في السامعين حماسة شديدة، حتى لقد نسوا أن هناك خطيبًا يخطبهم، وخرجوا من القاعة هاتفين صائحين، حتى ما استطعت بعد ذلك أن أتم خطابي.»
وكان لنكولن أثناء المعركة التي بدأت في أول شهر أكتوبر ينتظر ما عسى أن تأتي به، وهو في سبرنجفيلد لا يبرحها، وكان يلقى الناس ورجال الصحافة أثناء النهار في قاعة من قاعات مقر الحكومة في المدينة، وقد اتخذ له كاتبًا يرد على رسائله كما ذكرنا. أما في الليل فكثيرًا ما كان يختار الجلوس في مكتبه ومكتب زميله هرندن؛ حيث يوافيه عدد من صحابته الأدنَيْن، فيخلص إليهم من مشاغل المعركة ويجلسون هناك جلسات هادئة، يذكر صاحبه هرندن أنها كانت من أجمل ما احتفظ به هو وخلافه من ذكريات صاحبهم العظيم.
وظل الرجل العظيم على عادته يذهب بنفسه إلى مكتب البريد، فيأتي برسائله ويجلس في قاعة لا يتخذ له حاجبًا ولا يوصد بابه في وجه أحد، على الرغم مما لقيه من كتب سوداء تنذره بالويل، وكانت بين يديه مئات من مجموعة خطبه يعطيها لمن يسأله آراءه السياسية قائلًا في رفق ودماثة: «كأنك يا صاحبي لم تقرأ خطبي؛ إذن فدونك مجموعة منها ففيها تجد آرائي.»
وهو لا يضيق بزائريه مهما كثر عددهم، اللهم إلا فئة لا يرتاح إليهم، ولكن أدبه يجبره على أن يكتم عنهم ضيقه منهم، وهؤلاء هم الذي يظهرون الزلفى ويكشفون عما يبتغون من خير على يد الرئيس المنتظر، إما بالتلويح وإما بالتصريح، لا يعنيهم إلا أشخاصهم، وكان يزدري الرئيس المنتظر هذه الطائفة، ولكن خبرته بالدنيا ومعرفته بطباع الناس كانت تخفف أحيانًا من مَوجِدَته عليهم، حتى ليكون أقرب إلى الرثاء لهم منه إلى مجافاتهم وبغضهم.
وأمسك أبراهام عن الخطابة أثناء المعركة؛ فقد جرى العرف ألا يخطب في الناس داعيًا لنفسه من يرشح للرياسة، وكان خيرًا له ما فعل؛ فلقد بيَّن للناس من قبلُ آراءه، فليدعها على ما هي عليه بينة سهلة لا غموض فيها ولا التواء. ولقد أوحى إلى كاتبه نيكولي أن يكتفي بإرسال نسخة من خطبه إلى كل من يكتب إليه يسأله آراءه السياسية، مشفوعة بكتاب مؤاده أنه بينما يتلقى كتبًا من بعض الناس يسألونه رأيه في بعض مسائل السياسة، إذا به في الوقت نفسه يتلقى كتبًا غيرها يرجو فيها مرسلوها منه ألا يدلي بآرائه بعد أن بينها من قبل؛ فقد وضحت تلك الآراء عندما اختاره حزبه، وينبغي تجنب ما عسى أن يُشيع الاضطراب في المعركة الانتخابية الدائرة، وبهذا يخلص أبراهام من الحرج؛ فلا هو أهمل الرد على سائليه، ولا هو زاد مشاغله بإرسال آرائه السياسية إلى كل سائل.
وكان ينتقل أحيانًا إلى بعض جهات المدينة ليشهد حفلًا أقامه محبوه للدعوة له. وقد رآه الناس ذات مرة يمشي بين جموعهم على قدميه إلى مكان الاجتماع، وقد اشتد الحر فكان يرتدي سترة خفيفة حالَ لون صبغتها قليلًا، وكان يضع فوق رأسه قبعة تغضنت بعض التغضن من جانبيها، وهو هو لنكولن الذي عرفوه واحدًا منهم، يحيِّي هذا ويبتسم لذاك ويهش لهؤلاء، ويذكر الجميع بأسمائهم، ويطرق برأسه إذ يهتفون باسمه متحمسين؛ فما يجب أن يزهى.
على أن هذا الرجل — وإن كان التواضع من شيمه — لا يحب أن يظهر له أحد شيئًا يفهم منه عدم الاكتراث له، كما لا يحب أن يجبهه أحد بالخشن من القول، وهو حتى في مثل هذه المواقف يأبى إلا أن يظل دمثًا مهذبًا، ولكنه يخرج من الحرج في كياسة وظرف وقد ألقى في نفس المخطئ ما يشيع فيها الخجل، ويحملها في رفق هو أبلغ من العنف على الاحتشام والتأدب؛ ومن ذلك أنه بينما كان ذات يوم يتحدث واقفًا إلى بعض الرجال، تقدم شخص بادي الغلظة وجلس على كرسي لنكولن، وكان هو الكرسي الوحيد الخالي، فلمحه أبراهام، وبعد أن أتم حديثه التفت إليه يكلمه، ثم مد يده إليه مسلمًا وهو على خطوتين؛ بحيث لا يستطيع ذلك الشخص مصافحته إلا إذا نهض من مكانه، واتجه لنكولن إلى الكرسي في هدوء، فجلس وترك ذلك الرجل يعاني الخجل والارتباك! وهكذا يأبى الرئيس المرتقب إلا أن يحرص على دماثته دون أن يسهو عن مكانته.
وعمل خصوم لنكولن على إسقاطه ما وسعهم العمل، لا يدعون فرية إلا ألصقوها به مهما افتضح أمرهم؛ فهم لا يتناهون عن منكر فعلوه، بل إنهم ليزدادون عدوانًا وإثمًا كأن بينهم وبينه تِرة.
ومن أكبر ما كدره يومئذ موقف رجال الدين في سبرنجفيلد؛ فقد حمل إليه أنصاره ذات يوم قائمة بأسماء مريديه في المدينة، فنظر في أسماء رجال الدين فلم يجد إلا ثلاثة منهم وهم ثلاثة وعشرون، فبدت أمارات الأسف والألم على محياه، على الرغم من أنه يرى في القائمة ما يشبه الإجماع على محبته، ولعل هذا الإجماع هو الذي أبرز موقف رجال الدين حياله، فقال معقبًا على ذلك الموقف: «يعلم هؤلاء الناس حق العلم أني أنصر الحرية وأن خصومي ينصرون الرق، ومع هذا فإنهم وهذا الكتاب في أيديهم (وهو الإنجيل قد أخرجه من جيبه) هذا الكتاب التي لا تعيش الأغلال الإنسانية في ضوئه لحظة، أقول إنهم مع هذا يريدون أن يمنحوا أصواتهم خصمي، إني لست أفهم ذلك أبدًا، إني أعلم أن الله حق، وأنه يكره الظلم والاستعباد، وإني أرى العاصفة مقبلة وأرى يد الله فيها، فإذا كان قَدَّر لي موضعًا فيها وعملًا — وذلك ما أظنه واقعًا — فإني أعتقد أني على أهبة. إني لست شيئًا مذكورًا ولكن الحق هو كل شيء، وإني لأعلم أني على الحق؛ لأني أعلم أن الحرية هي من الحق وأن المسيح يدعو إليها. ولقد أخبرتهم أن البيت المنقسم بعضه على بعض لا يمكنه أن يتماسك، وإن المسيح وإن العقل ليقولان مثلما أقول، ولسوف يعلمون ذلك. وما يبالي دوجلاس نصر الرق أم خذل، ولكن الله يبالي ذلك والإنسانية، وإني لأباليه ولن أخذل ما دام الله في عوني، وقد لا يقدر لي أن أرى الخاتمة ولكنها آتية، ولسوف تكون مبررة لما أقول، ويومئذ سيرى هؤلاء الناس أنهم لم يقْرَئوا الإنجيل كما ينبغي أن يقرأ.» وسكت أبراهام لحظة ثم أضاف إلى ذلك في لهجة شديدة قوله: «إني أفكر في هذه المسألة؛ أعني مسألة الرق، أكثر مما أفكر في أية مسألة أخرى، ولقد فعلت ذلك منذ سنين.»
ولم يكن منافسوا لنكولن ضعاف الجانب كما قد يخيل إلى المرء بالنظر إلى قوة الحزب الجمهوري، وحسب المرء أن فيهم دوجلاس، ولقد خرج دوجلاس على العرف وخاض المعركة بنفسه يخطب الناس أينما حل، ويحمل في صرامة على الجمهوريين وأنصارهم من دعاة القضاء على الرق لا يفرق بينهم، ويرميهم جميعًا بأنهم قاضون بسياستهم الطائشة على بناء الاتحاد، وكان في تلك الخطب الملتهبة يرمي آخر ما في جعبته من سهام، ولكنها إن دلت على حماسته ونشاطه، فإن خروجه على العرف إنما يدل على أنه يفعل فعل اليائس الذي يخاف أن تفلته وسيلة، وكان كلامه يدور حول فكرة مؤداها أنه أسلم من في الميدان جانبًا؛ لأنه لا يسلك مسلك لنكولن في محاربة الرق ولا مسلك بِركنرِدْج في التمسك به، ولكن الأمة كانت في الحق قد سئمت هذه السياسة، وأصبح الإحساس العام هو الوصول إلى حل لتلك المشكلة؛ فإما بقاء الرق وإما فناؤه.
وكان أهل الجنوب يسخطون على دوجلاس منذ أن أوقعه أبراهام في الشرك إذ سأله في صراعهما الطويل: إذا أردت أن تقضي على الرق فهل تفعل ذلك في غير حرج؟ ورد دوجلاس على ذلك بقوله نعم تفعل ذلك في غير حرج، فأغضب الجنوبيين، ورضي بالعاجلة وهي الظفر بمقعد في مجلس الشيوخ، حتى جاءت الآجلة وهي الرياسة، فتبين له سوء ما فعل، ولقد فطن لنكولن إلى ما سوف يكون لقوله من أثر منذ قال، وتنبأ بهذا الأثر وأظهر أصحابه عليه كما بينا ذلك في موضعه.
وزاد موقف دوجلاس ضعفًا على ضعف انقسام الديمقراطيين كما أسلفنا؛ فإن كثيرين منهم يظاهرون بِركنرِدْج، وعلى الأخص في الجنوب، بينما أجمع الجمهوريون أمرهم على رجل وحد هو لنكولن.
وكان في الميدان منافس آخر هو بِل، التف حوله أنصار حزب جديد عرف باسم حزب الاتحاد الدستوري، وهو حزب ينكر إثارة مشكلة الرق ويدعو إلى الحرص على كيان الاتحاد وفق مبادئ الدستور.
وشملت المعركة أمريكا كلها، فما مر بالبلاد في تاريخها الحر معركة كان لها من الخطر مثل ما لهذه المعركة الدائرة، ورددت الألسن اسم أبراهام لنكولن في الشمال والجنوب والشرق والغرب على نحو لم يسلف بمثله الزمن لاسم آخر، وكان لنكولن عند أنصاره الرجلَ الذي جاء على قدر من الله ليمسك البناء أن ينهار، فهو المتمم لما فعل وشنطون، وكان عزاؤهم في المحنة التي تتهدد البلاد أن الأقدار قد هيأت لها هذا الرجل، وكان عند خصومه هو المحنة التي يخافون، فلئن أصبح الرئيس فلسوف يكون للجنوب رئيس غيره، ومن هنا يستطيع أن يتصور المرء مبلغ ما كان لهذه المعركة من عظيم الخطر، ومبلغ ما شغل الأذهان من أنبائها وضوضائها، وما ملأ البلاد من مظاهر نشاطها وجلبتها.
وجاء يوم الفصل وهو اليوم السادس من شهر نوفمبر، وترقب الناس النبأ العظيم، فإذا هو فوز فالق الأخشاب! وأصبح لنكولن الخليفة الخامس عشر للرئيس وشنطون العظيم بطل الاستقلال، وكأنما أرادت الأقدار أن تقرن اسمه باسم وشنطون في تاريخ بلاده، فلئن كان هذا قد أقام الصرح فعلى أبراهام اليوم أن يمسك بنيانه أن يخر من القواعد.
وكان نجاح أبراهام محققًا قبل يوم الفصل؛ بما كان لحزبه من جاه ونفوذ في أهل الشمال، وهم أحكم سياسة من أهل الجنوب، وذلك فضلًا عن اتحاد كلمة هذا الحزب بينما كان يتنازع الديمقراطيون كما رأينا كأن بينهم عداوة.
حصل لنكولن على قرابة مليوني صوت من عدد أصوات الناخبين جميعًا، وكانوا نحو أربعة ملايين ونصف مليون رجل، وقد زاد على دوجلاس أقوى منافسيه بنحو أربعمائة صوت، وحصل المنافسان الآخران مجتمعين على نحو مليون من الأصوات.
وأما باعتبار مندوبي الولايات المتحدة، وهم الذين ينتخبهم الناس في كل ولاية لينتخبوا بدورهم الرئيس حسب قواعد الدستور، فقد ظفر لنكولن منهم — وكان عددهم ثلاثمائة رجل وثلاثة — بمائة وثمانين هم الذين اجتمع فيهم المليونان، وظفر دوجلاس باثني عشر رجلًا فحسب، وهم الذين اجتمع فيهم المليون ونصف المليون، وظفر بِركنرِدْج باثنتين وسبعين، وبِل بتسع وثلاثين.
ومما هو جدير بالملاحظة أن لنكولن لم يظفر بمندوب واحد من خمس عشر ولاية، وفي عشر ولايات لم ينل صوتًا واحدًا، ولقد ظفر بأغلبية المندوبين في ولايات الشمال الثماني عشرة ما عدا نيوجيرسي؛ حيث تعادلت الأصوات فيها بينه وبين دوجلاس، ولم ينل إجماع المندوبين إلا في ولاية مسوري.
وراح خصوم أبراهام يعيرونه بهذا الفوز؛ إذ كانوا لا يعدونه فوزًا إلا إذا نظر إليه باعتبار ما ظفر به من أصوات المندوبين، فإذا نظر إليه باعتبار أصوات الشعب، فإن لنكولن لم يفز إلا بأقل من النصف.
ولكن أصحابه لا يعبَئون بهذا الكلام، وعندهم أن العبرة بعدد أصوات المندوبين لا بما يكون وراء هذه الأصوات من أعداد تقل أو تكثر حسب إقبال الناس على الانتخاب، ولقد ناله لنكولن من أصوات المندوبين ما قلما ظفر بمثله رئيس قبله إذا قيس ذلك إلى ما ناله كل من منافسيه، وبخاصة دوجلاس ذو الخطر والمكانة.