دوي العاصفة!
كان على أبراهام أن يقضي أربعة أشهر أخر قبل أن يحتفل بتسلمه أزمَّة الحكم، فقضاها في سبرنجفيلد، بينما كان الرئيس بوكانون يكمل مدته بقضاء تلك الأشهر في البيت الأبيض في وشنطون.
ولبث أبراهام في سبرنجفليد يلقى زائريه كل يوم، ويمشي كعادته في الطرقات بين الناس لا يجعل بينه وبينهم كلفة، ولا يتخذ من دونهم حجابًا، يحييهم فيدعوهم بأسمائهم ويردون فيدعونه بأحب أسمائه إليه؛ فمنهم من يناديه أيب العجوز، ومنهم من يقولها مجردة من النعوت، وتبدو «أيب» يومئذ أقرب النعوت منه وأعلقها به؛ فإن على محياه لكآبة شديدة هي من أثر ما يهجس في نفسه، وإنه اليوم لكثير التأمل والإطراق لا يسمع الناس من أقاصيصه ما كانوا قبل يسمعون، ولا يشهدون من عذوبة روحه ما كانوا يشهدون.
أما امرأته فمرحة طروب لا تملك نفسها من الزهو إذ تقف إلى جانب بعلها في شرفة الدار وهما يطلان على الجماهير الهاتفة، وإن كانت لَتكره منه وتتبرم بهذا الوجوم وهذا الصمت، وإن كانت لَتنكر عليه ما يظهر فيه من ملابس، وبخاصة قبعته التي ألحت عليه وما تفتأ تلح أن يستبدل بها أخرى جديدة فلا يطيع.
وحق له أن يبتئس وأن يرتاع؛ فما تزال تترامى إليه الشائعات والأنباء المزعجات؛ فهذه صحيفة من صحف الجنوب تعلن نبأ اختياره للرياسة تحت عنوان «أخبار خارجية»، وهذا حاكم كارولينا الجنوبية يتناول المعول فيهدم أول حجر من بناء الاتحاد، فقد استقال أعضاء مجلس الشيوخ من هذه الولاية وانسحبوا من وشنطون، وأخذ ذلك الحاكم يعد ما استطاع من معدات الحرب وتذيع صحفه في صراحة أن قد صار الاتحاد أثرًا بعد عين، وإنه ليسعى بالتفرقة ويحرض الولايات الجنوبية على الانسحاب من الاتحاد، بعد أن أعلن بلسان المجلس التشريعي في ولايته أن لا صلة اليوم لهذه الولاية بالاتحاد، وأخذ يقيم لولايته حكومة مستقلة.
وإنه ليدور بعينيه في هذه المحنة باحًا عمن عسى أن يشد أزره من الرجال، فيرى والأسى يرمض فؤاده أن كثيرًا من رجال حزبه لا يرون رأيه، فهم يميلون إلى مصالحة أهل الجنوب، وكان على رأس القائلين بذلك سيوارد نفسه.
ولكن أبراهام يعلن إليهم في ثبات عجيب أن مصالحة أهل الجنوب معناها التهاون في المبادئ، والتسليم بانتشار الرق، والاعتراف بحقهم في اتباع القوة وفي الانسحاب من الاتحاد، وهو لا يأمن أن يعودوا إلى مثل ذلك في أي وقت. ويسمع أصحابه ذلك الكلام ويعقلونه ولكنهم خائفون، وإنهم ليحملونه كل ما عساه أن ينجم بعد ذلك من مصائب.
والنذر لا تني تأتي من الجنوب بما يقلق المضاجع ويزعج النفوس؛ فها هي ذي ست ولايات أخرى تنسحب من الاتحاد، وتنضم إلى كارولينا الجنوبية فتؤلف من بينها تحالفًا، وتجعل له حكومة يرأسها جفرسون دافز. وهكذا يقع ما طالما تخوَّف أبراهام أن يقع؛ ففي البلاد اليوم حكومتان، وينهار البناء على هذا النحو حجرًا بعد حجر، والرئيس الجديد ما يزال في سبرنجفيلد يشهد ما تفعل العاصفة.
ويحمل البريد إلى أبراهام كل يوم آلافًا من الرسائل، بينها نوع تنفر نفسه منه كل النفور، وإن كان لا يجزع ولا يرتاع، نوع ملؤه الوعيد والسباب، وتفصيل صور الموت التي تنتظره إن هو مضى فيما هو فيه وأصر على عناده، وهو يطوي تلك الرسائل ليلقي بها في النار مخافة أن تقع عين امرأته على ما يتوج الكثير منها من صور الخناجر وأسلحة الموت.
ويتطلع أبراهام في هذا الهول إلى وشنطون ليرى ما عسى أن يفعله بوكانون الرئيس القائم، ولكن هذا الرجل يسلك مسلكًا عجبًا؛ فهو يتراخى ويتهاون ويدع الأمر كله للرئيس القادم، فما هي إلا أيام حتى يأوي إلى عزلته، وليته يحافظ على الحال كما هي، إذن لخفت تبعته وقل وزره، ولكنه يدع أنصار الجنوب يفعلون ما يشاءون ويعدون ما يستطيعون من قوة ومن عتاد الحرب، ثم يزيد فداحة الخطْب بتصريح له خطير، مؤاده أنه وإن لم يكن للولاية حق الانسحاب من الاتحاد، فليس لحكومة الاتحاد حتى ردها إليه بالقوة إذا هي انسحبت، ويكون بوكانون بتصريحه هذا كمن يلقي بالحطب على النار حين يجدر به أن يلقي عليها الماء!
وتشيع الخيانة في وزرائه، فيرسل بعضهم الرجال والمال إلى الولايات الجنوبية، ويستقيلون من مناصبهم، ومن ذلك ما فعله وزير الحرب؛ إذ أرسل أكثر رجال الجيش إلى الجنوب كما أرسل إلى هناك ما استطاع إرساله من العتاد والمؤن، وكذلك ما فعله وزير المال؛ إذ أرسل ما وسعه إرساله من مال الخزانة العامة إلى الجنوب، حتى أوشكت أن تصبح خالية، وما فعله وزير الشئون الداخلية؛ إذ عمل على سحب الجند من بعض المواقع الهامة وتسليمها إلى أهل الجنوب! وهكذا يبيت الأمر فوضى، حتى لكأن البلاد بغير حكومة. وليس أدل على مبلغ هذه الفوضى من كلمة قالها أحد الشيوخ من ولاية كارولينا الشمالية يومئذ؛ فقد حدث وزير الشئون الداخلية هذا الشيخ قائلًا له إنه انتدب ليعمل على أن تنسحب كارولينا الشمالية من الاتحاد، وفهم الشيخ أن ذلك معناه أن الوزير استقال حتى يكون له أن يفعل ذلك، ولكن ما كان أعظم دهشة الشيخ إذ نفى الوزير استقالته، قائلًا إن الرئيس بوكانون يريده على أن يبقى حتى اليوم الرابع من شهر مارس، وتساءل الشيخ في دهشة، أيعلم بوكانون ماذا يصنع الوزير في كارولينا الشمالية؟ وأجاب الوزير أنه يعلم ذلك، فصاح الشيخ قائلًا: «لم أعلم من قبل أن حاكمًا يرسل عضوًا من أعضاء وزارته ليصنع ثورة ضد حكومته.»
وتقدم أحد الوزراء إلى بوكانون ساخطًا يعلن له احتجاجه فما أصاخ إليه، فقال له ذلك الوزير الأمين: «إن واجبي كناصحك الشرعي هو أن أنبئك أنه ليس لك من حق في أن تسلم شيئًا مما هو من أملاك الدولة، ولا أن تدع أعداءك يأخذون جيشها وسفنها، وإن ما سلكه وزير الأمور الداخلية في هذا الشأن لَهُوَ من الخيانة، ولوسف يشركك ومن كان له يد في هذا فيما ينطوي عليه ذلك الفعل من معنى.» ثم ناوله الوزير استقالته.
ويشتد عدوان أهل الجنوب، وقد اتخذ الاتحاد الجديد هناك دستورًا جديدًا يقر الرق، ويعلن أنه أمر مشروع من وجهة الدين ومن وجهة الخلق، وكذلك من وجهة النظام الاجتماعي؛ ويعظم بذلك هياج العاصفة ويشتد دويها.
وأبراهام في سبرنجفيلد كالسنديانة العظيمة لا تهز العاصفة إلا فروعها؛ يخوفه سيوارد عاقبة الأمر فلا يخاف ولا يلين، ويسخط بعض أهل الشمال أنفسهم على أبراهام وينكرون عناده وإصراره على موقفه من الرق فلا يحجم ولا يتراجع. قال ذات مرة لرجل يحاوره: «اذهب إلى شاطئ النهر وخذ معك غربالًا متينًا فاملأه بالحصى، فسترى بعد هزات قوية أن الرمل وصغيرات الحصى تنفذ من الثقوب وتتوارى عن الأعين؛ إذ تضيع على الأرض وتبقى في الغربال القطع التي تزيد عنها حجمًا؛ إذ إنها لا تنفذ من بين الخيوط … وبعد هزات أخرى متكررة يتبين لك أنه من بين القطع الباقية في الغربال تصل كبرياتها إلى القمة، وهكذا فإنه إذا لم يكن من الحرب بد، وأن هذه الحرب سوف تهز البلاد من وسطها إلى جوانبها، فإنك ستجد صغار الرجال يتوارون عن الأنظار في هزاتها، بينما ترتكز الكتل على قواعد ثابتة ويرتقي أكابر الرجال إلى القمة، ومن بين هؤلاء يبرز أعظمهم فيكون منه قائد القوم في الصراع القائم.»
هذا هو العز الذي لا يعرف التردد، ولكن من وراء هذا العزم نفسًا شاعرة وقلبًا عطوفًا وطبعًا ينفر من الشر، وما كانت هموم نفسه إلا مما يريد أن يدفعه عن بلده من شر وبيل يوشك أن يملأها من بعد أمنها خوفًا، أما عن نفسه فهو لا يبالي أن يذوق الموت بعد أن جمع للجهاد عزمه وجعل لقضية الاتحاد همه.
وها هو ذا قد وصل في بلاده إلى القمة، فهل ابتغى من وراء ذلك جاهًا أو تلهى بالعرض عن الجوهر؟ هل تنفس الصعداء واستكان إلى الدعة وجعل من المنصب متعة وغرورًا؟ كلا، فها هو ذا يجعل من وصوله إلى هذه المرتبة مبدأ مرحلة جديدة في جهاده المرير، وإنه ليحس أنه هالك في الجهاد لا محالة، ففي نفسه من المعاني ما يشير إلى ما سوف يلقاه من خطوب وويلات، تحدث هذا الصنديد الجلد إلى صديق له بعد فوزه بالرياسة بسنوات، يصف ما كان يهجس في خاطره عقب ذلك الفوز، فذكر أنه نظر ذات مرة يومئذ، وقد جلس متعبًا على مقعد إلى مرآة أمامه، فرأى فيها لوجهه صورتين، فوثب في مكانه يستوثق من ذلك فامحت الرؤيا، ولكنها عادت كما كانت حين عاد فجلس، وكانت إحدى الصورتين تخالف الأخرى في أنها تبدو مصفارة مخيفة، ولقد أوجس أبراهام في نفسه خيفة، ولم يكن خوفه مما رأى في ذاته، بل كان لما انبعث منه من معانٍ في نفسه. ولقد تكرر ذلك المنظر بعد أيام ثم انقطع على رغم محاولاته أمام المرآة، أما امرأته فإنها فسرت ذلك بأنه سيختار للرياسة مرة أخرى ثم يموت في تلك المرة! يالله ما أعجب نبوءات هذه المرأة!
هكذا كان أبراهام يحس ما يخبئه له الغد من مكروه؛ ولذلك فهو يقدم على علم بما ينتظره، فلا يتهيب ولا ينكص وإنما يحذَر ويتدبر أن تصيب بلاده دائرة.
وظل يمني نفسه أن يثوب أهل الجنوب إلى رشدهم وأن تخشع للحق قلوبهم، ولكنهم في شطط من عنفهم وغرورهم، فها هي ذي الأنباء تأتي بجديد من كيدهم، وبيان ذلك أنه كانت لحكومة الاتحاد حصون في الولايات الساحلية، بها جند تحميها، وكان من تلك الحصون في كارولينا حصنان؛ أهمها حصن سمتر، فأرادت كارولينا أن تستولي على الحصنين لتتم سيادتها فلم تفلح إلا في أحدهما، وكان ذلك عقب إعلان انفصالها.
واحتمى الجند في حصن سمتر وأرسلوا إلى الرئيس بوكانون أن يمدهم بالعون والذخيرة، فلم يستطع بوكانون أن يصم أذنيه عن هذا الطلب وأرسل سفينة تحمل المئونة والرجال، ولكن أهل كارولينا أطلقوا النار عليها في ميناء شارلستون وأجبروها على الرحيل، وطلبت حكومة الاتحاد الجنوبي تسليم حصن سمتر، فرفضت الحامية بقيادة أندرسون أن تسلمه، فضرب عليه الحصار، وبات في الواقع أهل الشمال وأهل الجنوب في حرب.
وعاد سيوارد يلح على أبراهام أن يتفق أهل الشمال وأهل الجنوب على شروط تخفف من غضبهم، فرفض أبراهام ذلك وأعلن أنه مصر على الرفض مهما يكن من الأمر. ولما يئس سيوارد من إقناعه عرض عليه أن يزحف على العاصمة في جيش من المتطوعين، ويأخذ بيده زمام الأمور من بوكانون قبل أن يستحفل الشر، فرفض أبراهام أن يفعل ذلك لما فيه من خروج على الدستور.
وازداد الموقف شدة حين ترامى إلى سمع لنكولن أن كثيرًا من الناس يودون لو ينسحب ويدع تقرير الأمور إلى رئيس غيره يختار. ولو أن رجلًا غيره كان في موقف مثل موقفه هذا لخارت عزيمته وانكسرت نفسه، ولكنه ما وهن ولا استكان، وما زادته الشدائد إلا صبرًا وعزمًا ولا المحن إلا رغبة في النضال والجلاد.
وظل في سبرنجفيلد يعد الأيام بل يعد الساعات وفي مسمعيه بل في أعماق نفسه دوي العاصفة، ولكنه لا يستطيع اليوم أن يفعل شيئًا؛ الأمر الذي يؤلمه ويكربه. قال ذات ليلة لأحد أصحابه وقد جلس إليه يحدثه ويسري عنه: «إني أرحب أن أفقد من عمري من السنين ما يساوي عدده ذينك الشهرين الباقيين لي هنا؛ كي أتسلم مقاليد منصبي وأقسم اليمين الآن.» ولما سأله صاحبه لمَ ذلك أجاب بقوله: «لأن كل ساعة تمر علي هنا تزيد تلك المصاعب التي انتدبت لمواجهتها، وما تفعل الحكومة الحاضرة شيئًا لمقاومة هذا الاتجاه نحو الانهيار، وأنا الذي دعيت لكي أضطلع بهذه التبعة الخطيرة يتحتم علي أن أبقى هنا لا أعمل شيئًا … وإن كل يوم يمر إنما يزيد في حرج الموقف وصعوبته.»
على أنه يحاول أن يفعل شيئًا وهو في سبرنجفيلد، فإن له صديقًا من أهل الجنوب؛ ألا وهو ألكسندر ستيفن زميله في الكونجرس، ذلك الديمقراطي الذي ألقى خطابًا ذات يوم في صدد حرب المكسيك دمعت له عينا صاحبه، وأشار إلى شدة إعجابه به فيما كتب يومئذ إلى صديقه هرندن، ولقد ظلت صلته وثيقة بهذا الديمقراطي منذ أن عرفه قبل اثنى عشر سنة.
ولقد قرأ لنكولن بعد انتخابه بشهر خطبتين لصديقه الجنوبي، جاء فيهما أن اختيار لنكولن عمل دستوري، وأن الثورة خطة غير مضمونة، وإذا وقعت الحرب فقد تؤدي إلى القضاء على الرق. وكان صوت ستيفن نذيرًا لأهل الجنوب، وسرعان ما ذاع في الأمة كلها، وكان وقعه عظيمًا في نفس لنكولن، فكتب إليه أبراهام يساله أن يرسل إليه الخطبتين، فرد عليه ستيفن يعتذر بأنه لم يحتفظ بنصيهما وجاء في رده قوله: «إن الأمة في خطر عظيم حقًّا، ولم يقع قط على كاهل رجل من التبعات ما هو أعظم مما يقع على كاهلك في هذه الأزمة القائمة.»
وكتب إليه لنكولن في كياسة وحسن سياسة يقول: «هل يعتنق الناس في الجنوب الخوف حقًّا مما عسى أن يؤدي إليه قيام حكومة من الجمهوريين من تدخل في شئون الرقيق، أو تدخل في شئونهم هم، فيما هو من الرق بسبب؟ إذا كان الأمر كذلك، فإني أود أن أؤكد لك — وقد كنتَ صديقي ذات مرة ولستَ كما أرجو حتى اليوم من عدوي — أن هذه المخاوف لا تقوم على شيء، لن يكون الجنوب اليوم في هذه الحال أقل أمنًا مما كان في عهد وشنطون، وإني أظن أن هذه المخاوف لا تتفق والقضية القائمة، إنكم ترون أن الرق صواب وينبغي أن يتسع نطاقه، ونحن نرى أنه خطأ وينبغي أن يمنع اتساعه، وهذا هو الاحتكاك، إنه حقًّا هو الخلاف الوحيد الملموس بيننا وبينكم.»
ولكن ستيفن الذي طالما ذهب مذهب صاحبه فيما مضى في سبيل الإنسانية، وإن اختلفا من الوجهة الحزبية، ما لبث اليوم أن انساق في تيار الجنوب، حتى لقد أصبح نائب الرئيس في الاتحاد الجنوبي، وعدم لنكولن في هذه المحنة معونة رجل كان يرجو على يديه أن تضيق هوة الخلاف بين شقي الأمة.
ويشتد ضيق الرئيس الجديد وهو لا يستطيع أن يفعل شيئًا، وكلما لمح له ما يأمل فيه أن يكون معينًا له على أمره سعى إليه ولو بدا أنه غير ذي خطر، ها هو ذا يعلم أن جريلي الصحفي الذي طالما تنكر له من قبل يمر بالمدينة ويقيم بفندق من فنادقها، فلا يستنكف الرئيس أن يذهب إليه بنفسه، وقد رأى منه أنه لم يطلب مقابلته، وقد كان خليقًا أن يغضب لقعود هذا الصحفي عن السعي إليه وهو اليوم رئيس الولايات المتحدة، ويمضي الرئيس إلى الفندق فيقابل جريلي ويحاول أن يقنعه بأن يسدي إلى الأمة صنيعًا لا ينسى؛ بدعوة أهل الجنوب إلى الرشد وتأييد قضية الرئيس الجديد بقلمه وبما له من صيت ومكانة، ولكن جريلي لا يقتنع. ويخرج الرئيس من عنده وعلامات الأسف على محياه.
وأخذ الرئيس يختار مجلس وزرائه، وقد قرب موعد سفره إلى واشنطون ليحتفل بتلسمه أزمَّة الحكم، ووقع اختياره أول ما وقع على سيوارد، وقد وقف إلى جانب أبراهام بعد أن رأى من ثباته وعزمه ما لم يتعلق به من قبل وهمه، ورضي سيوارد بادئ الرأي أن يعمل معه في منصب يعادل منصب وزير الشئون الخارجية في الحكومات الحالية، يضاف إلى ذلك أنه كاتم سره ومستشاره وحامل أختامه، وأخذ أبراهام يبحث عن غيره ممن يأنس فيهم الكفاية في مثل هاتيك الشدة.
وكان قد كتب إليه تشيس أحد منافسيه من الجمهوريين عقب فوزه يهنئه ويشير إلى عظم العبء الملقى على عاتقه ويرجو له التوفيق، فاختاره لنكولن أحدَ وزرائه وقبِل هذا بعد أن تدبر في الأمر ثلاثة أشهر.
وقال الرئيس ذات يوم لبعض جلسائه، لو أنه استطاع أن يؤلف مجلس وزرائه من المحامين الذين كانوا يصحبونه في إحدى جولاته القضائية، لأمكن أن يتجنب الحرب، فقال أحد الجالسين: «ولكن أكثرهم كانوا ديمقراطيين.» فأجاب الرئيس: «لَأَنْ أعمل مع ديمقراطيين أعرفهم خير لي من العمل مع جمهوريين أنا في جهل من أمرهم.»
وكان يشغل الرئيس في تلك الأيام طالبو المناصب ومتصيدوها ممن يمشون بالزلفى بين يدي كل رئيس جديد، وقد ضاق بهم فندق المدينة، والرئيس يصغي لكل قادم إليه لا يتأفف ولا يضيق به ذرعًا مهما ألح ولج في إلحاحه، حتى ليعجب أصدقاؤه من طول صبره وعظيم دماثته، ويظهرون له ألمهم وضجرهم، فيبتسم قائلًا إنه لا يستطيع أن يعنف ذا حاجة، وإنه وقد نشأ بين عامة الناس لا يسعه الإفلات منهم أو التكره لهم.
ولكن الرئيس لا يعد أحدًا على حساب الصالح العام، ومهما يكن من طول صبره فهو لا يعدو أن يصرف الطالبين بالحسنى، أو يعد من يستحق بإجابة مطلبه متى جاء وقت ذلك، ولا يحب أن يحيل أحدًا على مرءوسيه من الموظفين تخلصًا منه؛ لأن في هذا التواء لا يتفق مع طبعه.
ويعلن الرئيس أنه لن يبعد عن منصبه أحدًا ممن يخالفونه في السياسة، بل إنه ليذهب إلى أبعد من ذلك، فيبدي رغبته في أن يضع في بعض المناصب فريقًا ممن كانوا خصومًا للحزب الجمهوري إبان المعركة! بل إنه ليود لو جعل من وزرائه رجلين من أهل الجنوب.
ويعجب الناس من أمره هذا كل العجب، فقد جرى العرف أن يختار كل رئيس أعوانه في الحكم من مؤيديه، وأن ينأى بجانبه عن مخالفيه في الرأي وخصومه في السياسة.
وقابل ذات يوم صديقه القديم سبيد، ذلك الرجل الذي آواه عنده يوم أن دخل سبرنجفيلد يريد أن يحترف المحاماة، ومتاعه في جوالق يحمله على ذراعه ولا يجد له مسكنًا، والذي توثقت بينه وبين لنكولن عرى الصداقة والمحبة منذ ذلك اليوم، ويسأله الرئيس ضاحكًا عن حاله فيفطن سبيد إلى غرضه فيقول له: «أيها الرئيس، يخيل إلي أني أفطن إلى ما تريد أن تقول، إني بخير ولك شكري، فما أظن أني في حاجة إلى أي منصب تريد أن تقدمه إلي.»
وتتندى عينا الرجل العظيم ويبتهج قلبه؛ فها هو ذا سبيد يقدم دليلًا جديدًا على صدق محبته ونزاهة صداقته.
وقرب يوم الرحيل ودوي العاصفة ملء نفسه، لكنه كلما أخطر بباله عظم ما هو بسبيل أن يضطلع به ازداد عزمًا ويقينًا، وما أندرَ ما غاب عن باله هذا العبء الجسيم الذي قل مثله فيما تمتحن به بطولة الرجال.