جنون العاصفة!
لم يكد يمضي ثلاثة أشهر على اشتعال نار هذه الحرب الأهلية التي انبعثت شرارتها الأولى في الثاني عشر من شهر أبريل سنة ١٨٦١، حتى ماجت وشنطون بالمتطوعين، وأصبحت المدينة معسكرًا عظيمًا.
ولكن الرئيس يعوزه القواد، وإنه ليطيل التفكير فيمن عساهم يصلحون للقيادة في هذا النضال الهائل. لقد كان على رأس القوات سكوت، وهو شيخ كبير ناهز الخامسة والسبعين، والموقف يتطلب قائدًا فتيًّا يبث من روحه في قلوب جنده ويمشي بهم إلى النصر، ألا بئس ما يفعل لي! لقد رفض ما عرض عليه ثم انضم إلى الثائرين وأصبح أكبر قوادهم.
فكر الرئيس وتدبر، وأخذ يقلب الأمر على وجوهه، والرأي العام من حوله يزيد موقفه صعوبة، فلكل حزب رأي ولكل جماعة فكرة، ولحكام الولايات آراؤهم وإلا توقفوا عن إرسال الجنود.
والرئيس يتمنى أن يهيئ له الناس بسكوتهم أن يختار قواده على أساس الكفاية، ولكنهم لا يفعلون وهو لا يستطيع أن يغضب هاتيك الجهات في مثل هذه الظروف القاسية، بينما هو لا يستطيع كذلك أن يرضيهم جميعًا.
ويستعرض الرئيس الموقف الحربي فيجد القائد ماكليلان قد وفق في أعماله في فرجينيا الغربية، ويسمع الثناء عليه من جهات كثيرة حتى لقد سماه بعض الناس نابليون الجديد؛ ولذلك يدعوه الرئيس إليه ويعينه قائدًا عامًّا للقوات في فرجينيا.
وتتجه الأنظار كلها إلى القائد ماكليلان؛ فهو شاب في الرابعة والثلاثين، وفيه كثير من الصفات التي تحمل الناس على محبته، فله حسن السمت وهيبة الطلعة وروح الشباب، وله من صغر جرمه ما يشبه به نابليون، وكذلك له من صفات نابليون بريق عينيه وما يبدو من مضاء عزيمته وتوقد حماسته.
وسرعان ما تعظم شهرته حتى يجري اسمه على الألسن جميعًا، وكم له في الحياة من أشباه ممن قامت شهرتهم على أوهام الجماعات، ولكن لعل الأيام تثبت جدارته، فإن الأعين والقلوب متفقة على الإعجاب به.
على أن للشباب نزعاته ونزواته، فهذا القائد يدل بجاهه من أول الأمر، ومردُّ ذلك إلى أنه بات يعتقد أنه الرجل الذي يستطيع أن ينقذ البلاد مما هي فيه، وشايعه في هذا الزعم كثير من الناس حتى بعض الوزراء، فلقد عظمت ثقة هؤلاء فيه حتى لَيميلون إلى جانبه أحيانًا إذا هو رأى من الأمر ما لا يراه الناس، والرئيس يتذرع بالصبر ويتغاضى عن ذلك في سبيل ما يعقد من الآمال على ما عسى أن يأتي به ذلك الشاب.
وأخذ القائد الشاب يدرب مائتي ألف رجل على حدود فرجينيا، وقام بذلك العمل على خير ما يرجى، ولكنه أطال التدريب وأطاله حتى تسرب الملل إلى الرأي العام فضاق بما يفعل، فإن الناس كانوا يستعجلون الزحف، وكذلك ضاق الرئيس ذرعًا، ولكن ماكليلان يعِد الناس أنه يستعد لحركة عظمى سوف تطفئ نار الثورة.
وشاع في الناس اسم قائد آخر هو فريمونت، أول مرشحي الحزب الجمهوري للرياسة عند نشأته، ولقد كانت له جهود محمودة في الجهات الغربية يومئذ، وكان لهذا الرجل قبل ذلك في الناس منزلته وخطره، وله في قلوب الساسة وأولي الرأي نفوذ كبير.
ولن يقل فريمونت عن ماكليلان اعتزازًا وترفعًا، فهو يحيط نفسه بفرقة من الحرس، ويرقى بعض الجند دون أن يرجع إلى الرئيس الذي هو بحكم منصبه القائد الأعلى لقوات الدولة. وكذلك يتباطأ فريمونت في الرد على البريد القادم من العاصمة، ولن يقف أمره عند ذلك، بل تأتي الأنباء أن فريمونت ينوي إقامة اتحاد ثالث في الجهات الشمالية الغربية!
ولكن الرئيس لا يصدق هذه الشائعات، فهو واثق قبل كل شيء من إخلاص الرجلين لقضية الاتحاد، وإلا فما كان ليضعهما حيث وضع مهما يكن من الأمر.
وأحاط فريمونت نفسه أول الأمر بجو من الكتمان، ولكنه ما لبث أن أذاع قرارًا خطيرًا اهتز له الرئيس وتبرم منه وضاق به؛ وذلك أن القائد أنذر أهل ولاية مسوري في آخر شهر أغسطس سنة ١٨٦١؛ أي بعد قيام الحرب بنحو أربعة أشهر، أنه منفذ قانون الحرب في الولاية؛ ولذلك فهو يحدد منطقة فيها يجعلها محرمة، فيعدم كل من يحمل السلاح فيها ضد حكومة الاتحاد، وكذلك يعلن القائد أن كل من تحدثه نفسه بالثورة من أهل الولاية جميعًا يكون جزاؤه مصادرة أملاكه وتحرير عبيده إن كان له عبيد.
ارتاع لنكولن للقرار وتربد وجهه وأوشك أن ينفد صبره، وكان يلاحظ من رأوه ساعة أن علم به علامات الهم الشديد على محياه، ولكنهم رأوا كذلك أمارات العزم والصلابة ودلائل الحزم والثبات.
انزعج الرئيس لإثارة مسألة العبيد في تلك الآونة؛ فلقد جعل المبدأ الذي قامت عليه هذه الحرب من أول الأمر المحافظة على الاتحاد، حتى تكون قضية دستورية لا عيب فيها، وبذلك تجد سبيلها إلى القلوب، وتستنهض الهمم بما تثيره عدالتها من حماسة، ولا تدع سبيلًا لأحد أن يتهم أهل الشمال بأنهم أوقدوا نار الحرب من أجل أغراضهم، وبدافع عواطفهم في مسألة الرق. وكذلك كان يتحاشى الرئيس إثارة تلك المسألة حتى لا تثور الولايات المحايدة وتنضم إلى أهل الجنوب، ويفقد الرئيس بذلك كل أمل في ضمها إلى جانبه، ومن تلك الولايات مسوري نفسها؛ فقد كان فيها كثيرون ممن يقتنون العبيد، وأهم منها وأعظم خطرًا كانت ولاية كنطكي التي ينتمي إليها الرئيس منذ نشأته، ولقد بذل الرئيس كل ما في وسعه للمحافظة على مودة أهلها لتنضم إلى جانبه أو لتبقى على الأقل محايدة، فلموقعها الجغرافي في هذه الحرب شأن أي شأن.
ولكن هذه السياسة الرشيدة العاقلة التي جرى عليها الرئيس ما لبثت أن طاح بها ذلك القرار الطائش، فسرعان ما هاجت الخواطر في تلك الولايات المحايدة، وسرعان ما جزع كثير ممن يسلمون بنظام الرق من أهل الولايات الشمالية.
وعظم خطر هذا القرار حتى أصبح نقطة تحول جديد في الموقف كله. ونظر الرئيس فإذا هو تلقاء عاصفة شديدة من هياج الرأي العام، فإن دعاة التحرير وأعداء نظام الرق ما لبثوا أن هتفوا بالقائد الجريء الحازم، وراحوا يمتدحون خطته بقدر ما أخذوا يعيبون على الرئيس تردده، بل وخوره كما كانوا يزعمون!
وانطلقت الصحف تدعو الرئيس أن يقر فريمونت وأن يحذو حذوه؛ فيعلن قرارًا عامًّا ينطبق على الولايات الثائرة جميعًا، ولما وجدوا منه الإعراض والغضب، عصفت برءوسهم النزوات حتى لقد راح بعضهم يدعون إلى إرغام الرئيس على اعتزال منصبه ووضع فريمونت مكانه.
ويتطلع الرئيس بعينيه الواسعتين فإذا بوادر الفرقة والتنازع تكاد تقضي على قضية البلاد، وإذا العاصفة تشتد وتشتد، وإذا هو تلقاء أمر لا يقل خطرًا عن الحرب الدائرة.
ولكنه الرجل الذي لم يعرف الفزع يومًا ما، وهل يذكر أنه خاف العاصفة مرة حين كانت تنطلق مدوية عاتية فتهتز لها أرجاء الغابة، وتكاد تجتث من شدتها عظيمات الدوح؟ كلا، بل كان يقف منها موقف المتفرج، وذلك الموقف الذي ما كان يطيقه صبي في مثل سنه إلا إذا كان مثله من بني الأحراج الذين ألِفوا ملاقاة العواصف.
لم يتردد الرئيس في العمل على إبطال قرار فريمونت، على الرغم مما بدا له من تحمس الرأي العام له، ومظاهرته إياه فيه على نحو ما بينا. ولقد كان من أبرز خلال أبراهام أنه كان لا يعرف التردد أو النكول إذا عقد النية على أمر اقتنع بصوابه ووثق من مقدرته على الاضطلاع به. وما جرب عليه من عملوا معه أنه صمم قط على رأي ثم انصرف عنه، وذلك أنه كان لا يصمم إلا عن بينة وطول أناة وحسن مشاورة، فإذا عزم أذعن له مرءوسوه طوعًا وكرهًا، فما لهم من ذلك بد.
وتصرف لنكولن تصرف السياسي الحكيم، فكتب إلى فريمونت يشير عليه بأن يعدل قراره بنفسه، وأن يظهر للناس أنه يفعل ذلك من تلقاء نفسه، ولكن فريمونت لم يذعن لذلك وكبر عليه أن يتراجع.
ولم ير الرئيس بدًّا من أن يعلن قرارًا يلغي به قرار فريمونت غير عابئ بدوي العاصفة في مسمعيه وفي نفسه، ولا وجل من تصايح الصائحين من دعاة التحرير.
وبذلك العمل الخطير الحازم قضى الرئيس على سبب خطير من أسباب التنابذ والفرقة، وكسب بذلك وقوف ولاية كنطكي إلى جانبه.
وما كان أبراهام، كما تقول عليه خصومه ومخالفوه في الرأي من أنصاره، متخذًا بما فعل سبيلًا رجعية، كلا، إنما هي السياسة الحكيمة تقضي عليه ألا يتنكب الطريق التي رسمها منذ شبت الحرب؛ ألا وهي جعل المحافظة على الوحدة أساس هذا الصراع القومي، أما مسألة العبيد فما هو عنها بغافل، وإنما يؤثر الأناة حتى تتهيأ الفرصة.
•••
هذا ما كان من أمر فريمونت، أما ماكليلان فلقد ظل يدرب جيشه على حدود فرجينيا وهو لا يفتأ يرسل إلى الرئيس يطلب فرقًا جديدة، ولا يفتأ يتبرم بأي استفهام يأتيه من قبل الرئيس عما هو عسيٌّ أن يفعله، ولقد كان هذا القائد يكره من الحكومة ما يعدُّه تدخلًا في شئونه، بل لقد كان يزدري أعضاء مجلس الوزراء ويرميهم بالغباء، أو كما يقول في تهكم: «إني أشاهد أكبر نوع من الأوز في هذا المجلس.»
ولقد بلغ به الذهاب بنفسه حدًّا جعل الناس يظنون به الظنون حتى ليحسبونه يتطلع إلى الرياسة، فهو ينتظر لا يعمل عملًا حتى تواتيه الفرصة إلى انقلاب يأتي به على غرة.
ولكن الرئيس على الرغم من تلكؤ ماكليلان يعينه قائدًا عامًّا للقوات بعد أن يترك سكوت العمل لكبر سنه.
ولا يقف صلف ماكليلان عند حد، فانظر كيف بلغ به الشطط كل مبلغ؛ فلقد ذهب الرئيس إليه مرة يستنبئه عن أمر، فتركه القائد لحظة قبل أن يلقاه! وشاع ذلك في الناس وأشارت إليه الصحف، واجتمعت الآراء على استنكاره، ولكن الرئيس العظيم لم يعبأ بما حدث، فما كان أبراهام بالذي تلهيه الأمور الشخصية عما هو فيه، ولم يزد على أنْ ردَّ على فعل القائد بقوله: «إني لأمسك لماكليلان زمام جواده إذا هو جاءني بنصر.»
ولم يفطن الناس إلى حصافة ابن الغابة وبعد نظره وعمق سياسته، فإنه يدع القائد المدل الذي افتتن به الناس ويصابره حتى يعلم الناس حقيقة أمره؛ فإن سار إلى النصر فذلك ما يبغي الرئيس ويبغي الناس، وإن قعد عن ذلك وتبين أنه في مسلكه لم يكن إلا متلكئًا، نبذه الناس وخلعه الرئيس في غير ضجة.
وحدث بعد ذلك أن ذهب الرئيس ومعه كبير وزرائه إلى مقر القائد فلم يجداه، فجلسا ينتظران حتى رجع، وأنبأه بعض الجند بانتظارهما إياه، ولكنه بدل أن يخف للقائهما صعد إلى غرفته وأرسل إليهما رسالة يأسف فيها لعدم استطاعته أن يراهما، معتلًا بأنه متعب! واستشاط سيوارد من ذلك غضبًا، ولكن الرئيس راح يهون الأمر، على أنه كف بعدها عن زيارة ذلك القائد المدل بنفسه.
•••
وعادت العاصفة تهب من ناحية أخرى، وقدر على الرئيس أن يجد عنتًا جديدًا من الرأي العام، فقد راح الناس يأخذون عليه مسالك القول والعمل في مسألة جديدة، كانت نتيجة لما أدت إليه الحوادث بين حكومة الاتحاد الشمالي وبين الحكومة الإنجليزية.
كان يخشى لنكولن أن تسوء العلاقات بين حكومته وبين إنجلترة؛ إذ كانت الأنباء تنذر بذلك، فكثير من رجال الحكومة الإنجليزية كانوا يرون أن تعترف حكومتهم بالاتحاد الجنوبي كحكومة مستقلة؛ حتى يتسنى لإنجلترة أن تدخل سفنها الموانئ الجنوبية، وبخاصة موانئ القطن، دون أن يكون في ذلك تصادم مع قرار الحصار المضروب عليها من الشماليين. وأخذت الحكومة الإنجليزية تدعو إلى ذلك وتلح في الدعوة غير عابئة بما ينطوي عليه ذلك من تحدٍّ لأهل الشمال.
واشتد غضب حكومة الاتحاد الشمالي بقدر ما عظم فرح الجنوبيين؛ إذ كان كل فريق ينظر باهتمام شديد إلى ما عسى أن يحدث من جانب إنجلترة. وبلغ من استياء سيوارد أنه كتب احتجاجًا عنيفًا إلى الحكومة الإنجليزية، لم يخفف من عنفه ما أدخله عليه الرئيس من تعديل؛ فلقد كان يحرص الرئيس أشد الحرص على أن يفوت على الجنوبيين ما يأملونه من انضمام إنجلترة إليهم.
وفي هذا المأزق الشديد يأتي أحد القواد البحريين من الشمال عملًا تزداد به الأمور تحرجًا، حتى ليحسب الناس أن الحرب واقعة بين إنجلترة والولايات الشمالية ما من ذلك بد.
وبيان ذلك أن القائد البحري وِلِكس داهم سفينة إنجليزية كانت تحمل رسولين من قبل الولايات الثائرة: أحدهما إلى إنجلترة والثاني إلى فرنسا؛ ليسعيا سعيهما لدى الحكومتين الإنجليزية والفرنسية كي تأخذا بيد الاتحاد الجنوبي، وأرغم ولكس الرسولين على النزول من السفينة وأسرهما، على الرغم من احتجاج قائدها.
ووصلت الأنباء إلى واشنطون فراح الناس يعلنون إعجابهم بولكس ويثنون على عمله، وما لبثت أن انهالت عليه رسائل الإعجاب والثناء، ولقد أثنى عليه فيمن أثنوا المجلس التشريعي نفسه، وكثير من الزعماء ورجال الصحافة، وهكذا ينحاز الرأي العام إلى ولكس كما انحاز إلى فريمونت من قبل، لتزداد الأمور بذلك تعقدًا وخطرًا.
أما عن موقع النبأ في إنجلترة، فلك أن تتصور مبلغ ما أثار من سخط واستنكار في ظروف كتلك التي تتحدث عنها، وكذلك كان للنبأ في فرنسا موقعه الشديد وأثره السيء.
اعتبرت إنجلترة هذا العمل من جانب القائد ولكس إهانة للعَلم البريطاني، الذي كان يخفق في سارية تلك الجارية التي كانت تحمل الرسولين، وأسرعت لندن فأرسلت احتجاجها إلى وشنطون وأنذرتها أنها تقابل العدوان بمثله إلا أن تتلقى الترضية الكافية! ولن ترضى إنجلترة بأقل من إطلاق الرسولين وعدم التعرض لها أينما اتجها، ثم الاعتذار عما حدث.
عندئذ اشتد هياج الولايات الشمالية، ورأت في إنذار إنجلترة إياها على هذه الصورة معاني الإذلال وسوء النية وقبح استغلال الحادث، وأصر الناس على المقاومة مهما يكن ثمنها. وأمدت إنجلترة حامية كندة، وأخذت الولايات تزيد في قوة ثغورها الشمالية، ودوت العاصفة في أذني الرئيس وفي نفسه من جديد، فلن يرضى الناس إلا بإعلان الحرب.
على أن بعض العقلاء استطاعوا أن يطيلوا الوقت المحدد للإنذار بضعة أيام؛ علَّ أهل الولايات وخصومهم في إنجلترة يجدون حلًّا تحقن به الدماء.
وأخذ الوقت يتصرم، ولكن أهل الولايات مصرون على موقفهم لا يثنيهم عنه شيء! ورئيسهم ووزراؤه يتفكرون في هذا الخطر الداهم، وكان سيوارد يميل إلى خوض غمار الحرب ضد هؤلاء الإنجليز، الذين تنطوي قلوبهم على الحقد والحنق منذ خلعت الولايات الأمريكية نير إنجلترة في عزة وإباء.
وهكذا يجد لنكولن نفسه في شدة ما مثلها شدة؛ فهو بين أن يجاري الرأي العام، وبذلك يجر على البلاد حربًا خارجية طاحنة تأتي مع الحرب الداخلية القائمة في وقت واحد؛ أو يطلق الرسولين ويقضي على أسباب الخلاف بينه وبين إنجلترة؛ وبذلك يجنب البلاد خطرًا محدقًا، وإن تعرض بعدها للوم اللائمين وسخط الساطين واتهامات المبطلين.
ولكنه لنكولن الذي لا يعرف الخور والذي لا يطيش في الملمات صوابه، إنه الرجل الذي تزداد عزيمته مضاء بقدر ما تزداد الحادثات عنفًا وخطرًا، والذي تزداد قناته صلابة كلما ازدادت الخطوب فداحة والأعباء ثقلًا واستفحالًا.
عقد أبراهام مجلس وزرائه وأخذ يناقش الأعضاء ويناقشونه، وهو من أول الأمر لا يؤمن بعدالة ما فعله ولكس، وبعد جهد استطاع أن يحمل المجلس على قبول رأيه، ثم أعلن بعدها في شجاعة وحزم إطلاق الرسولين! وأجاب على إنذار الحكومة الإنجليزية برسالة متينة، جاءت دليلًا قويًّا على حكمته وبعد نظره، رسالة احتفظ فيها بكرامة بلاده وعزة قومه، وجنبها بها في الوقت نفسه خطرًا ما كان أغناها عنه يومئذ.
ذكر لنكولن في رده على الحكومة الإنجليزية أنه إنما يعتذر عما حدث لأنه يتنافى مع مبادئ أمريكا نفسها، ولئن كان ما فعله ولكس عدوانًا، فإنَّ حمْل إنجلترة رسولين من الجنوبيين في سفينة من سفنها عمل فيه معنى العدوان؛ وذلك لأنه خروج على مبادئ الحياد.
وما كان لإنجلترة أمام هذا المنطق القوي وهذا العمل المنطوي على الشجاعة والكياسة، إلا أن تبدي ارتياحها، وإن كانت لتخفي غيظها من إفلات الفرصة التي كانت تؤدي بها إلى محاربة الولايات الشمالية، وقلما واتت إنجلترة فرصة لتعكير المياه إلا عكرتها؛ لأنها تحسن الصيد في الماء العكر.
ولكن الرئيس لقي في بلاده من السخط والاستياء ما لم يكن يقوى على مواجهته غيره، ولو كان في مكانه غيره لخيف على مكانته في القلوب أن تتزعزع؛ فلقد أخذ يرتاب فيه حتى أشد أنصاره تحمسًا له، أما المبطلون فقد وجدوا فرصة يصفون فيها عمله بالجبن والخور.
ولكنه بينه وبين نفسه يعتقد أنه أسدى صنيعًا إلى قومه لا يدركه إلا العقلاء، الذين لا يجعلون للعواطف في كل وقت سلطانًا على أعمالهم. قال مرة يرد على الساخطين: «لقد حاربنا بريطانيا العظمى مرة لأنها فعلت عين ما فعله الكابتن ولكس، فإذا ما رأينا إنجلترة تحتج على هذا الفعل وتطلب إخلاء سبيل الرسولين، فواجبنا ألا نخرج على مبادئنا التي ترجع إلى عام ١٨١٢، يجب أن نطلق هذين السجينين وحسبنا حربًا واحدة في وقت واحد.»
ومضى الرئيس بعدها يؤدي للإنسانية وللوطن رسالته، وإننا لنرى هذا الجبار الذي درج من بين الأحراج والأدغال يحمل العبء وحده في الواقع، بل إنه كما ذكرنا ليلاقي مما يفعل كثيرًا من أكابر رجاله أعباءً تضاف إلى أعبائه، ولكنه معوَّد حمل الأعباء ومواجهة الأنواء.
وإنه ليسأل نفسه: ألم يأن لهؤلاء الرجال أن يعملوا كما تحتم الظروف؟ وماذا كان يضير فريمونت لو أنه رجع إليه؟ ثم ماذا كان يضير ماكليلان لو أنه خفض جناحه وألان جانبه وأخذ الأمور بالشورى؟
على أن العاصفة لا تهدأ في جهة إلا لتنبعث من جهة أخرى؛ فها هو ذا قائد آخر يفعل مثل ما فعل فريمونت أو أشد منه، وذلك هو هنتر الذي كانت له القيادة في كارولينا الجنوبية.
كان هنتر أكثر جرأة من فريمونت أو على الأصح أكثر نزقًا، فلقد أعلن أن العبيد في فرجينيا وفلوريدا وكارولينا الجنوبية أحرار بعد اليوم إلى الأبد.
وهال الرئيس هذه الخطوة البالغة الجرأة، فلم يسعه إلا أن يعجل بنقض هذا القرار في غير مجاملة أو هوادة؛ فلقد كان هنتر خليقًا أن يعتبر بما كان من أمر صاحبه فريمونت. وكان مما أعلنه الرئيس قوله: «إن حكومة الولايات المتحدة لم تمنح القائد هنتر، ولا أي قائد أو شخص سِواه، من السلطان ما يعلن معه تحرير العبيد في أية ولاية من الولايات، وإن هذا الإعلان المزعوم سواء أكان حقيقيًّا أم زائفًا، هو إعلان باطل.»
ولكن الرئيس لا يكاد ينتهي من نزق إلا ليواجه نزقًا غيره، وما يذكر ابن الغابة أنه شهد في مجاهل الأرض، حيث نبت ونما، عاصفة متعددة نواحي الهبوب كهذه العاصفة التي يواجهها، فها هي ذي تنذر بهبة جديدة؛ وذلك أن وزير حربيته نفسه، كامرون، يرسل رسالة إلى بعض الضباط شبيهة بما أعلن فريمونت وصاحبه هنتر! ولولا أن تدارك الرئيس الأمر لأحدثت من سوء الأثر ما يصعب بعدُ علاجه، فلقد أبرق إلى مكاتب البريد لترد نسخ تلك الرسالة المطبوعة، وحال بذلك دون وصولها إلى وجهاتها.
ألا ليت هؤلاء يفطنون إلى أن رئيسهم أشد عداوة منهم للرق، وأنه يتمنى بينه وبين نفسه لو قضى عليه بكلمة يحبسها في نفسه، وأنه لأكثر منهم تحرقًا إلى ساعة إعلانها.