الأب أبراهام!
افتتح العام الرابع والبلاد تتأهب للانتخاب! فلقد قرب موعد الانتخاب للرياسة، ورأى المخالفون الفرصة تواتيهم ليعلنوا ما في نفوسهم نحو الرئيس لنكولن وسياسة حكومته.
وظهرت في الصحف، وتواترت على الألسن أسماء مرشحين جدد لينافسوا الرئيس، فإن الديمقراطيين كانوا يقدمون ماكليلان، ذلك الذي انسحب من الحرب على نحو ما رأينا، وكان بعض الجمهوريين يرشحون جرانت، وبعضهم يميلون إلى تشيس وزير المالية، وأيد هؤلاء جريلي الذي ما برح ينتقد الرئيس ويسدي له ما سماه نصحًا، ورشح فريق فريمونت لهذا المنصب العظيم.
ولبث الرئيس ساكنًا مطمئنًا إن خاف على شيء فخوفه على قضية الوحدة فحسب، ومتى ذاق أبراهام طعم الراحة منذ أن ولي الرياسة؟ كان يخشى أن يترك قيادة السفينة لربان غيره وهي لما تزل في مهب الأنواء وفي مسالك الصخر، ولو أنه كان موقنًا من وجود غيره ليقودها ما تردد أن يكلها إليه، فحسبه أن تصل إلى المرفأ. وكثيرًا ما كان يقول إنه لو وجد في الرجال من يحسن إدارة الأمور خيرًا منه لتنازل له عن طيب خاطر، بل لقبل ذلك مبتهجًا؛ إذ يرى فيه وسيلة من وسائل النجاح.
على أنه يترك الأمور للبلاد فلها القول الفصل، قال لبعض جلسائه يومًا: «إن انتخابي للرياسة مرة ثانية شرف عظيم كما أنه عيب عظيم، وإني لن أجفل منهما إذ قدر لي ذلك.»
ولكن البلاد لم ترض عن رجلها بديلًا، وما لبث أن أدرك مخالفوه أنهم كانوا واهمين، وكيف تتخلى البلاد عن ذلك الذي تدين بنجاحها له على الرغم مما يحيط بها من شدة، ولماذا ينصرف عنه الناس ومكانته في صميم قلوبهم؟ ألأنه أبلى فأحسن البلاء وصبر فأوشك أن يجتني من الصبر الظفر، وسهر فلم يشكُ يومًا من السهر؟ لقد كان الناس يدعونه بقولهم الأب أبراهام، وكانوا يخاطبونه فيقولون: يا أبانا ماذا ترى في كيت وكيت. وما كان أشد تأثره بهذا اللقب الذي أضافوه إلى ألقابه!
ألا إن الناس ليحرصون على أبيهم هذا، لا تدور أعينهم إلى غيره، ولا تتسع قلوبهم لسواه، فها هي ذي العرائض بترشيحه تترى على الحزب من أنحاء البلاد ومن ميادين القتال في كثرة عظيمة تليق بجلال قدره وخطورة شأنه وعظيم ما قدمت يداه.
•••
ولندع حديث الانتخاب لنعود إلى الحرب وشئونها، وأول ما نذكره أن الرئيس قد اتفق مع الكونجرس على إسناد القيادة العليا للجيوش جميعًا إلى القائد جرانت، ثم كتب إلى جرانت يدعوه إلى العاصمة فحضر إليها، وتوجه إلى البيت الأبيض فلقيه الرئيس وأسمعه عبارات الإطراء والثناء، ثم تلقى منه جرانت نبأ تعيينه في منصبه الخطير.
وكان لهذا القائد الذي بزغ نجمه كبيرُ شبهٍ بالرئيس في نشأته وفي كثير من طباعه؛ كلاهما واجه الحياة ولما يزل في سن اللهو واللعب، وكلاهما شق طريقه فيها بنفسه، فكان كالنبتة القوية المستقيمة، لا كتلك الألفاف التي لا تعرف من معنى النماء إلا أن تتسلق على غيرها وهي في ذاتها هزيلة نحيلة.
كان جنديًّا في سني يفاعته، ثم انصرف عن الجندية إلى الزراعة حينًا، ثم إلى التجارة بعد ذلك، وظل بضع سنين حائرًا يضرب في الأرض في طلب الرزق، ولو لم تقم هذه الحرب الأهلية ما وعى التاريخ عنه إلا بقدر ما يعي عن الآلاف غيره من البشر، الذين يعبرون هذا الوجوده وكأن لم يخلقوا.
ولقد تزاحم الناس وتدافعوا بالمناكب حول البيت الأبيض وفي قاعته؛ ليروا هذا القائد الذي تعلق عليه بعد زعيمهم الآمال، ولقد علق جرانت على هذا اللقاء العظيم بقوله: «هذه معركة أشد حرًّا مما شهدت في الميادين من معارك.»
وبعد أن درس القائد خططه المقبلة مع الزعيم ورجاله، استأذن في الرحيل، فطلب إليه الرئيس أن يبقى قليلًا ليحضر وليمة أعدتها زوجته له، ولم يكن يعلم الرئيس بها من قبل ليدعوه إليها، فاعتذر عن عدم قبوله بقوله: «حسبي ما لاقيته من تلك المظاهر أيها الزعيم.» وفرح الزعيم أيما فرح بما يسمع، فما يهدم الرجال شيء في رأيه أكثر مما يهدمهم الغرور.
ورحل جرانت إلى الميدان وقد زوده الرئيس بقوله: «أنت رجل همة وعزم، ولست أريد — وقد سرني منك ما تقول — أن أضيع وقتك أو أن أضع في طريقك ما يعوقك، وإذا كان في طاقتي أي شيء يمكنني أن أمدك به فدعني أعرف ذلك. والآن سر في عون الله على رأس جيش باسل وفي سبيل قضية عادلة.»
•••
برز جرانت إلى الميدان وفي نفسه من العزم بقدر ما في فؤاده من الأمل، وكأنما سرت عزيمته إلى قواده وجنوده؛ فما منهم إلا من وطد النفس على أن يخوض أهوال القتال إلى النصر، ونبغ من هؤلاء البواسل قائدان صار لهما في هذه الحرب خطر عظيم؛ وهما شيرمان وشريدان.
وزحف جرانت بجيشه في مايو سنة ١٨٦٤، وكانت خطته أن يواصل الزحف ما وسعه القتال حتى يأتي رتشمند عاصمة الجنوبيين فيحصرها، ولقد لازمه النصر في هذا الهجوم على الرغم من مقاومة أعدائه، وما زال يدفعهم أمامه حتى أصبح على مقربة من عاصمتهم، وكانت تصل أنباء انتصاره إلى العاصمة فتهزها هزًّا، وكان الناس يجتمعون حول البيت الأبيض فيطل الرئيس عليهم ويخطبهم، وقد سره أن ذهب عنهم الروع.
وكذلك سار شيرمان مبتدئًا من الغرب، وراح يدفع أعداءه أمامه، وإنهم لينازعونه الأرض شبرًا شبرًا ويعركون جيشه عركًا شديدًا، حتى واتاه النصر عليهم في اليوم الثاني والعشرين من شهر يوليو، فسقطت في يده مدينة أتلنتا بعد أيام، وهي موقع حصين ومركز حربي خطير، وكان على رأس الجنوبيين في تلك الجهة قائدهم هود، وهو من ذوي البأس، ولقد لم شمل جيشه وخاض الحرب مرة أخرى ولكنه ما لبث حتى عاودته الهزيمة. وسر الرئيس وأصحابه أيما سرور بانهزام هود وجنوده فلقد كانوا يوجسون منه شرًّا.
ونشط الشماليون في البحر وضيقوا الخناق على أعدائهم، وشدوا الوثاق فأذاقوهم لباس الجوع والخوف، وكانت سيطرة فراجت على البحر وثيقة، فكان موقفه بذلك من أكبر عوامل النصر.
وراح جرانت يبذل كل ما في وسعه ليحيط بالقائد الكبير لي، فإنه يدرك أن تطويقه خير وسيلة لهزيمته وإجباره على التسليم، وكان يدرك جرانت أن عدته وجنده أوفر مما هو لدى عدوه منهما؛ ولذلك عول أن يشد عليه الوثاق.
وكان لنكولن وأصحابه يتلقون هاتيك الأنباء الطيبة فتطمئن نفوسهم، ولكن الرئيس كان لا يفتأ يبدو مهمومًا ضائق الصدر، وكيف يطيق قلبه الكبير أن يعلم نبأ هاتيك الضحايا دون أن يتحرك؟ لقد كان يجزع أشد الجزع لمرأى الأمهات والزوجات يقفن في طريقه أو يتجمعن حول البيت الأبيض متسائلات، وإنه ليسأل الله أن يجعل للناس من هذا البلاء مخرجًا.
وبينما كانت جرانت وشيرمان يروعان بجيشهما أهل الجنوب على هذه الصورة، إذ زحف أحد قواد الجنوب — ويدعى إيرلي — زحفًا مباغتًا على وشنطون حتى بات منها على سبعة أميال! ولقد كان عمله هذا من أسوأ ما لاقته المدينة في هذه الحرب، فما أقبح الخوف بعد الأمن! وما أوجع الغم بعد الفرح!
ولكن جرانت لم يلبث أن أرسل شريدان فأقصى العدو ورماه بهزيمة كبيرة، وكان ذلك في أوائل سبتمبر عقب سقوط أتلنتا بيوم واحد.
ولندع جرانت وأصحابه فيما هم فيه من جهاد ونصر لننظر ماذا كان من أمر الانتخاب.
•••
لقد كان انتصار الجيوش على هذا النحو مما قضى على كيد الكائدين من خصوم الرئيس، إذ كانت البلاد تتأهب لمعركة الرياسة.
وكان الديمقراطيون يذيعون في الناس أن من المصلحة العامة اختيار رئيس غير هذا الرئيس، وراحوا يقولون إن الحكومة من الوجهة الحربية قد منيت بالفشل منذ قامت الحرب، ولا محيص من أن يُتبع في الحرب سياسة أقوى وأسرع من سياستها، وتارة أخذوا يطالبون بمصالحة أهل الجنوب ووضع حد لهذا البلاء، وهم في ذلك يرشحون ماكليلان للرياسة، ولقد اختاره لذلك مؤتمرهم الذي انعقد في شيكاغو في أغسطس من ذلك العام.
وكان بعض الجمهوريين من حزب لنكولن يدعون إلى انتخاب رجل غيره؛ إذ كانوا يزعمون أنه ابتعد عن مبادئ الحزب وعن روحه، فهم يخالفونه فيما أعلن غداة تحرير العبيد من أن ذلك كان من أجل ضرورة حربية، متجاهلين أنه كان يبرر بذلك تصادمه بالدستور الذي أباح الرق، وهم يعيبون عليه مسلكه تجاه الولايات الوسطى وتجاه أهل الجنوب. كما أنهم يقولون إن الحرب لا تسير على خير ما يرجى.
وكان هؤلاء الجمهوريون يرشحون جرانت تارة وفريمونت تارة، ولكن معظمهم كانوا يميلون إلى تشيس وزير المالية، وكان تشيس هذا من أكفأ الرجال، وكان الرئيس يحترم آراءه ويحرص على أن ينتفع بها، كما كان يشهد له بالذكاء ويقر بفضله. ولكن تشيس كان دائم الشكوى من الرئيس وكثيرًا ما ضايقه بتقديم استقالاته من الوزارة، وذلك أن تشيس كان ينفس على الرئيس منصبه ويعتقد أنه أحق به منه وأجدر.
وما كان الرئيس كما أسلفنا يحرص على الحكم إلا أن يكون وسيلة لتحقيق غرضه. قال ذات مرة يرد على الداعين إلى ترشيح جرانت: «إذا كان الناس يعتقدون أن القائد جرانت في منصبي يكون أسرع مني في القضاء على الثورة، فإني أتخلى له عنه.»
وعلى الرغم من ذلك كان خصومه يدعون أنه حريص على الحكم مولع بالرياسة، وكان من أقدر هؤلاء الخصوم وأنشطهم جريلي، ذلك الذي طالما حرص الرئيس على مودته وعمل على إرضائه، على أن الرئيس كان على علم بهذا كله فلم يعبأ به؛ وذلك لأنه كان يجعل اعتماده على عامة الناس، وهل اعتمد على غيرهم منذ كان يقطع الأشجار ويسحب الأبقار معهم في الغابة؟
وجاءت بعد ذلك أنباء انتصار جنده، فكان ذلك أبلغ رد على ما يزعم المخالفون والخوارج.
ولقد كان مؤيدو الرئيس من الجمهوريين أعز نفرًا وأعلى في البلاد صوتًا، وهؤلاء أجمعوا أمرهم على ترشيحه في مؤتمرهم الذي عقدوه في الثامن من يونيو سنة ١٨٦٤، وكانت حماستهم له جديرة به شديدة على كارهيه وخصومه. وحُمل إليه نبأ ذلك فتلقاه على عادته في دعة، قال: «إنهم رشحوني لا لأنهم رأوني أعظم رجل في أمريكا وأفضل رجل، وإنما كان ذلك لأنهم لم يروا من الحكمة أن يغيروا الخيل أثناء عبور الماء، ولأنهم رأوا بعد ذلك أني لست فرسًا بلغ من السوء مبلغًا لا يمكن معه استخدامه، ولو في مشقة أثناء محاولة ذلك العبور.»
وكان المؤتمر قد عبر عن رغبته في تعديل الدستور، بحيث لا يكون من مواده ما يتضمن الاعتراف بالرق؛ حتى لا يتعارض قرار التحرير مع نصوص الدستور، ولقد وافق الرئيس على ذلك قائلًا: «إن مثل هذا التعديل المقترح يجيء خاتمة مناسبة ضرورية للنجاح النهائي لقضية الاتحاد، وهذا وحده يقف ردًّا على كل تجنٍّ، وإن الذين يوافقون على الوحدة بلا شرط من الشماليين والجنوبيين يدركون خطورته ويتعللون به، فباسم الحرية والوحدة مجتمعتين دعونا نعمل لنكسبه صفة شرعية وأثرًا عمليًّا.»
وسمع أن ولاية ماري لاند قد عدلت دستورها على هذا الأساس فعلًا، فاغتبط قائلًا: «إن ذلك يساوي عندي انتصارات كثيرة في الميدان.»
وحسب جريلي أنه واجد غميزة أخرى في سياسة الحرب، فراح يندد بها وبتطاولها ويدعو إلى الصلح، قائلًا إن البلاد على شفا جُرُفٍ هَارٍ، وإن السلم على شروط معقولة خير من هذه الحرب التي ضجت البلاد منها ورزحت تحت أعبائها. ومما ساقه في هذا المجال قوله إنه على صلة بقوم من الجنوب يقبلون الصلح على أساس الوحدة والقضاء على الرق، وهنا لم يتردد الرئيس أن يرسل إليه يقول إنه على استعداد أن يلقى أي رجل أو جماعة من الجنوب يفاوضونه على هذا الأساس، على أن يكونوا مسئولين، وليكن جريلي شاهدًا على ذلك، وعاد جريلي مستخذيًا، وقد رأى أن الذين دعوه إلى السلم من الجنوبيين قوم لا أهمية لهم.
وتطلبت الحرب عددًا جديدًا من الرجال، وأشفق أنصار لنكولن أن يدعوا البلاد إلى رجال في مثل هاتيك الظروف، ولكن هل كان مثله يحجم عن أمر يعتقد صوابه، وبخاصة إذا كان هذا الأمر يتصل بالحرب، بله الحرب تحت قيادة جرانت؟ لم يحجم الرئيس ولم يتردد، وأصدر أمره في ثبات وجرأة.
وجاء يوم الانتخاب فكان فوز الرئيس عظيمًا. قال، وما أجمل ما قال: «إني أعرف قلبي، وأرى غبطتي لا يشوبها شائبة من الفوز الشخصي، وإني لأعترض على بواعث أي شخص ضدي، وليس مما يسرني أن أظفر على أحد، ولكني أشكر الله على هذا البرهان الشاهد على اعتزام الناس أن يؤيدوا الحكومة الحرة وحقوق الإنسانية.»
وكان الداعون إلى السلم ينشرون مبدأهم في العاصمة الشمالية، حتى لقد أخذوا على الرئيس أنه يصم أذنه عن هذه الدعوة. وحدث أن أرسل جفرسون دافز رسولًا إلى السلم، ويقترح عقد مؤتمر لتقرير ذلك. وكتب الرئيس لنكولن ردًّا حمَله ذلك الرسول إلى جفرسون، وفيه يوافق الرئيس على عقد المؤتمر، واجتمع في مركز قيادة القائد جرانت ثلاثة من قِبل أهل الجنوب، وناب عن الشماليين سيوارد ثم لحق بهم الرئيس، وعرض الشماليون شروطهم فلم تحز قبولًا لدى خصومهم، ورأى الرئيس أن في الأمر خداعًا، وأنهم لا يبغون سوى أن يكسبوا الوقت بالمفاوضة ريثما يعدون ما يستطيعون من قوة؛ ولذلك نراه ينصح لجرانت ألا يتهاون أو يخفف من وطأته، وانفض المؤتمر ولم يصل إلى رأي.
وفي اليوم الرابع من شهر مارس ١٨٦٥ احتفلت وشنطون الاحتفال التقليدي بتسلم الرئيس أزمَّة الحكم، وشهد وفد من السود هذا الحفل، فكان بهذا أول حفل من نوعه في تاريخ الولايات المتحدة، وأطل الرئيس على القوم فراعهم ما مشى في بدنه من سقم ونحول، وما تجمع في محياه الكريم من خطوط وغضون، وبدا لهم كأنه شيخ في السبعين وهو لم يتجاوز السادسة والخمسين.
وأوضح الرئيس سياسته في خطابه الرسمي، وإنك لتجد هذه السياسة واضحة في هذه العبارة التي اختتم بها هذا الخطاب، قال: «والآن فمن غير مَوجِدة على أحد، بل مع نية الإحسان للجميع والثبات على الحق كما يطلب الله أن نرى الحق، دعونا نجاهد كي نفرغ من هذا العمل الذي نحن بصدده، وأن نضمد جراحات الأمة، وأن نعنى بهؤلاء الذين جاهدوا وبأراملهم وأيتامهم، وأن نبذل قصارى جهدنا لنصل إلى السلام الدائم، وأن نعزَّه بين أنفسنا وبين جميع الأمم.»