سياسة وساسة
كان وشنطون الرئيس الأول للولايات المتحدة، وقد بدأت رياسته كما أسلفنا سنة ١٧٨٩. وقد أعان وشنطون في تدعيم قواعد الاتحاد وزيران: هما هاملتون؛ وقد جعله على خزانة الاتحاد، وجفرسون؛ وقد جعله لشئون الدولة. ومن اتجاهَي الرجلين في السياسة وفْق ميولهما نبتت الأحزاب في الولايات المتحدة.
حارب هاملتون في حروب الثورة وجاهد جهادًا محمودًا، ولكنه لم يكن متحمسًا للمُثل التي صورتها أذهان الناس، وكان قليل الثقة بالجمهور ونزعاته؛ ولهذا كان يبدي فتورًا إزاء الديمقراطية، وكان يطلق على الجمهور اسم «الوحش العظيم»، وينكر على العامة صلاحيَّتهم لوزن الأمور، واتجهت ميوله إلى إنشاء طبقة أرستقراطية، في يدها أزمَّة المال والحكم، وهدفها تقوية الاتحاد وتثبيت نفوذ الحكومة المركزية.
وكان جفرسون يعمل على نقيض ذلك؛ كان يؤمن بالديمقراطية وسلطة الشعب إيمانًا شديدًا، ولذلك نراه يرقب سياسة هاملتون وشيعته في حذر وضيق، فلما رأى أنه أوشك أن ينجح جاهر بمخالفته إياه ومضى كل منهما يعمل على شاكلته.
ووقع أول خلاف بينهما ذو بال حين عمل هاملتون على إنشاء مصرف الولايات المتحدة، وكانت حجة هاملتون في إنشائه اجتذاب ذوي المصالح المالية نحو حكومة الاتحاد؛ ومن ثم تكون السلطة المركزية للولايات مهيمنة على الشئون الاقتصادية للجميع، وفي هذا تقوية للاتحاد.
ورأى جفرسون أن الاتحاديين — كما سمي حزب هاملتون — إنما يريدون أن يَملُئوا الكونجرس بأناس يرعون مصالحهم الاقتصادية قبل كل شيء، فهم موالون للحكومة لارتباطهم بها من أجل أغراضهم، وفي ذلك إفساد للحكم الديمقراطي ليس كمثله إفساد.
وكانت أغلبية الكونجرس في جانب هاملتون، فاحتكم جفرسون إلى الدستور، وكتب كل منهما يؤيد حجته، ولما عرض المشروع على وشنطون لتوقيعه تردد بين الرأيين، ثم وقعه على أن يترك الفصل في حكم الدستور للمحكمة العليا، وجاء قرار تلك المحكمة مؤيدًا مشروعية إنشاء المصرف، وتم النجاح للاتحاديين.
وتداعى أشياع جفرسون وسموا أنفسهم الجمهوريين، ثم غيروا اسم حزبهم بعد حين فصاروا يعرفون باسم الجمهوريين الديمقراطيين، ثم اختصر الاسم فأصبح يقال لهم الديمقراطيون.
وثمة نجاح آخر كان من نصيب الاتحاديين؛ فقد فاز مرشحهم لمنصب نائب الرئيس على مرشح الديمقراطيين في الانتخابات الثانية لهذا المنصب، أما الرئيس وشنطون فقد نزل على الرغبة العامة، فرشح نفسه للمرة الثانية وفاز برضاء الحزبين جميعًا.
واتجهت أنظار العالمَين القديم والجديد إلى ما كان يحدث في فرنسا. ووجد أنصار هاملتون البراهين على ما ينجم من خطر من تطرف الديمقراطية، في حكم الإرهاب بفرنسا، ووصفوه بأنه الفوضى التي يخشونها، وحملوا على الفرنسيين، وهم إنما يحملون بذلك على الديمقراطيين في وطنهم، ووقف يدافع الديمقراطيون عن الديمقراطية، ويمتدحون الفرنسيين، وينددون بالاستبداد، ويُعْزون هذا الذي سماه الاتحاديون الفوضى إلى ما ذاقه الفرنسيون أحقابًا على يد الطغاة المستبدين، واستعرتْ الحرب الكلامية بين الحزبين، وعلى الأخص حين دخلت إنجلترة التحالف الدولي الأول ضد فرنسا، فقد حبذ فعلها الاتحاديون وأنكره الديمقراطيون أشد الإنكار.
على أن الحزبين قد آزرا الحكومة في حيادها الذي التزمته، وإن رأى جفرسون أنه وإن لم يدع إلى التدخل لمؤازرة فرنسا، فإنه لا يجد ثمة ما يفرض على الأمريكان إخفاء شعورهم نحو الفرنسيين، وإنهم بإخفائهم شعورهم لَيَظهرون بمظهر ناكري الجميل، فضلًا عن تنكرهم لمبادئ ثورتهم التي بذلوا من أجلها ما بذلوا من الأنفُس والأموال.
وأرسلت الجمهورية الناشئة في فرنسا على أثر القضاء على الملكية سفيرًا لها بأمريكا، فاستقبله الشعب الأمريكي استقبالًا حماسيًّا، بلغ من روعته أنه كاد يُنسي الأمريكان ما كان من حماستهم لزعيمهم الأكبر غداة استقلالهم، ودل هذا على أن الشعور العام في جانب جفرسون، ولكن هذا السفير ما لبث أن أساء استغلال هذا الشعور، فكان يريد أن تخرج أمريكا عن حيادها، فلما رفضت الحكومة بلغ به الحمق أن أراد أن يحتكم إلى الشعب ضد حكومته، وإذ ذاك لم يسع حتى جفرسون نفسه إلا أن يصده عن طريقه في إباءٍ وقوة، ولكن سياسة هذا السفير الفرنسي أضعفت حماسة الأمريكان لفرنسا، وجعلت شعور الكثيرين يميل بعض الميل إلى إنجلترة.
وفي سنة ١٧٩٤ صمم جفرسون على الاستقالة، وقد حاول وشنطون أن يحوله عن عزمه فلم يفلح، وكان من أسباب استقالته ضيقه بسياسة هاملتون وسياسة الدولة على العموم ومسلك ذلك السفير الفرنسي.
وقامت في السنة التالية ثورة في ولاية بنسلفانيا؛ احتجاجًا على سياسة هاملتون المالية، وأظهر جفرسون عطفه على الثوار بأن حمل على القانون الذي أدى بهم إلى الثورة، فإنه يؤمن بحق الشعب في الخروج على جور ذوي الجور، وقد أعلن صراحة أن ثورة الناس على الظلم دليل على وجود الديمقراطية في نفوسهم، وأضاف إلى ذلك قوله إنه يأمل ألا تخلو الدولة كل عشرة أعوام من ثورة أيًّا كان نوعها.
على أن وشنطون، وإن لم يكن عدوًّا للديمقراطية، قد قضى بقوة السلاح على ثورة بنسلفانيا، ولم يخف الزعيم الكبير مخاوفه من انتشار أندية الحزب الديمقراطي في البلاد، وذلك في رسالة منه إلى الكونجرس، فثارت بذلك ثائرة الديمقراطيين ووجهوا سهام غضبهم إلى وشنطون نفسه.
وفي سنة ١٧٩٧ انتهت رياسة وشنطون الثانية، وأصر الرئيس الأول على رفض ترشيحه للمرة الثالثة، على الرغم من إلحاح الناس، واعتزل وشنطون السياسة.
وظن الناس أن الفائز بالرياسة سوف يكون هاملتون؛ لما له ولحزبه من نفوذ، ولكنه لم يرشح ورشح بدله جون آدم من الاتحاديين، ويعزى عدم ترشيح هاملتون إلى أمور كثيرة؛ منها أنه جر عليه وعلى حزبه عداوات عنيفة ما كان أغناهم عنها! ومنها أنه لم يكن أمريكيًّا بمولده؛ فإنه ابن سفيح لتاجر اسكتلندي، ولعل لما أحاط بمولده غير ما يتعلق منه بالموطن أثرًا كذلك في رغبة الناس عنه، كما أن كثيرًا من الشائعات جرَت حول حياته الشخصية.
على أن الحزب قد لحق به الضعف بخلو الميدان من الرجل الذي أنشأه وقوَّى دعائمه، كما أن سياسة الاتحاديين — التي عملت على خلق طبقة أرستقراطية غنية تستأثر بالحكم — قد قدر لها الضعف والانحلال بإقصاء هذا الرجل الذي كان حربًا متصلة على الديمقراطية، والذي لم يبال عند وضع الدستور أن يقترح أن تكون رياسة الاتحاد وعضوية الشيوخ مدى الحياة، وأن يعين الرئيس حكامًا للولايات يكون من حقهم نقض قرارات مجالسها التشريعية، والذي غازل خياله النظام الملكي طيلة حياته السياسية، والذي عمل أثناء حكمه بمبدأ الحماية الجمركية، وجاهد في إنشاء الرأسمالية الصناعية والتجارية، ليبني جيلًا غنيًّا يقاوم به ديمقراطية جفرسون، الذي آمن بالشعب ولم يثق في غير الثروة الزراعية تنمو على أرض واسعة يمكن أن يستمتع بها الجميع. ولئن قدر لها ملتون أن يكون جاعل أمريكا موطن ذوي الملايين، فسوف يقدر لجفرسون أن يكون جاعلها موطن الديمقراطية.
وكانت أكثر الأصوات بعد جون آدم لجفرسون؛ فأصبح هو نائب الرئيس، وصار بذلك الموقف عجيبًا؛ فالرئيس ونائبه يمثل كل منهما حزبًا من حزبينِ الحربُ بينهما سجال.
أما جون آدم فقد كان شرًّا على حزبه؛ وذلك أنه جعل العنف سلاحه، فأرسل إلى الكونجرس مشروعَي قانونين، قصد بأولهما حماية النظام من العبث به، وكان الآخر خاصًّا بالأجانب والصلة بهم. ورأى الديمقراطيون أنهم هم المقصودون بذلك، ورأت أغلبية البلاد أن الحرية الوليدة إنما تهيأ لها الأغلال، فهبت العاصفة فزلزلت الاتحادين ورئيسهم، زلزلت مبادئهم زلزالًا لم يرجو بعده قوة.
وخرج جفرسون من عزلته وتزعَّم حركة المقاومة، وكانت كنطكي أول ولاية أعلنت عدم دستورية القانونين، وكتب جفرسون لمجلسها التشريعي ما عرف باسم قرارات كنطكي التي رفضت بمقتضاها اعتماد القانونين في المقاطعة.
وفي سنة ١٨٠١ فاز جفرسون زعيم الديمقراطيين بالرياسة، فكان الرئيس الثالث للولايات المتحدة، ثم أعيد انتخابه للمرة الثانية فبقي في منصب الرياسة حتى سنة ١٨٠٨.
وفي عهد رياسته الأولى أقدم جفرسون على شراء لويزيانا من إسبانيا، وقد آلت هذه المستعمرة العظيمة الممتدة في قلب أمريكا إلى تلك الدولة من فرنسا سنة ١٧٦٢، وبينما كان يفاوض جفرسون الإسبان تدخل نابليون فاستعاد هذه المستعمرة لفرنسا في شروط بينه وبين إسبانيا، وأظهر جفرسون كياسة وحزمًا، وظل يرتقب الظروف حتى نقض صلح أميان بين إنجلترة وفرنسا، واستؤنفت الحرب بينهما، واحتاج نابليون إلى المال فساوم الفرنسيين ليشتري المستعمرة، وتم له هذا الشراء، على أنه تعرض لحملات الاتحاديين، فقالوا إنه أنكر على حزبهم بالأمس تأسيس مصرف بحجة عدم دستورية هذا العمل، وهو اليوم يشتري لحساب الاتحاد مستعمرة بأموال عامة مخالفًا بذلك روح الدستور.
وقد أظهر جفرسون ترددًا كبيرًا عند ترشيحه للمرة الثانية، وما قبل إلا لأنه وجد خصومه يوجهون إليه مطاعن شخصية تمس نزاهته، فرأى أن رفضه الترشيح قد يُلقي شبهة على براءته. ولم تقع في رياسته الثانية حوادث ذات بال، وكل ما يعنينا هو أن الديمقراطيين قد ازدادوا من القوة بقدر ما خسر الاتحاديون منها. وتوطدت قواعد الديمقراطية على يد هذا الديمقراطي العظيم، الذي كتب وثيقة إعلان الاستقلال، والذي قاد الحزب الديمقراطي ومكن له في البلاد حتى قضى على ما كان يبيِّت الاتحاديون من تمكين حكم الأقلية، والذي جرى في حكمه على قواعد ديمقراطية ومظاهر ديمقراطية لم يتحول عنها مرة.
وخلف جفرسون في الرياسة ميدسون، وهو كذلك فرجيني وديمقراطي وأشد أنصار جفرسون تحمسًا له، وقد أخذ طيلة عهد رياسته يمكِّن للحزب الديمقراطي كما فعل جفرسون.
وقد اختير ميدسون كذلك للرياسة مرتين، وفي مدة رياسته الأولى اشتد الخلاف بين إنجلترة والولايات؛ بسبب تفتيش إنجلترة للسفن في المحيط الأطلنتي حتى المحايدة منها، على الرغم من احتجاج الولايات المتحدة مرة بعد مرة على تفتيش سفنها، وتفاقم الخلاف حتى بات ينذر بالحرب، وحاول ميدسون أن يحسم الخلاف بغير حرب فلم يفلح، وتشيَّع للحرب رجال من ذوي الرأي والنفوذ مثل منرو وهنري كلِيي … وأعلنت الحرب سنة ١٨١٢ قبيل انتهاء رياسته.
وأعيد انتخابه فأدار دفة الحرب، وعصفت العاصفة بالولايات من الداخل ومن الخارج؛ ففي الداخل بدت بوادر الانقسام، فإن بعض الولايات — وفي مقدمتها نيو إنجلند — رغبت عن الحرب؛ بسبب ما تعرضت له من خسائر تجارية وأضرار ساحلية، وعادت تردد نغمة حق الولاية في حرية العمل؛ وفي الخارج حاقت الأخطار بالاتحاد على حدود كندا وعند مصب المسيسبي، على الرغم مما أظهر الأمريكان من بسالة وتوفيق في البحيرات، ودفاع مجيد في الجنوب على يد المجاهد البطل جاكسون الذي سوف يكون له شأن عظيم في التطور السياسي لبلاده.
وسئمت إنجلترة القتال، وقد أعياها النضال في أوروبا أمام نابليون، فعقد الصلح بينها وبين الولايات سنة ١٨١٤، وخرجت الولايات من المحنة أحسن حالًا مما كانت قبل، فإن عدوان الإنجليز قد أيقظ وطنية الأمريكان وحماستهم على نحو ما حدث في حرب الاستقلال، وقام لهم الدليل المادي مرة ثانية على أن نجاة الجميع في اتحادهم وترابطهم. ولقد ارتكب الإنجليز أخطاء جمعت على كراهيتهم الأمريكان من كل حزب، وفي مقدمة تلك الأخطاء إحراق وشنطون بعد احتلالها، ولم يزل بعد إجلائهم اللون الأبيض يغطي مقر الرياسة؛ إشارة إلى محو ما خلَّفه فيه الحريق من سواد، وما يذكر الأمريكان البيت الأبيض إلا ذكروا ما أصابه من حريق على يد الإنجليز، وتجددت كذلك ثقة الأمريكان في أنفسهم، فهذه أول حرب يخوضونها بعد الاستقلال فيخرجون منها ولم يمسسهم ما كانوا يتوهمون من سوء.
وفي سنة ١٨١٦ خلف منرو بعد ميدسون وهو كذلك ديمقراطي من فرجينيا ومن أتباع جفرسون، إلا أنه يزيد عن سابقيه في نزعته القومية، فالاتحاد وزيادة دعائمه همه الأول.
وفي أوائل عهده ظهرت قوة حزب جديد عرف باسم الحزب الجمهوري القومي، في مبادئه خير ما في مبادئ الحزب الديمقراطي، وفيها كذلك بعض مبادئ الاتحاديين خالية من نزعتهم الأرستقراطية.
كان في مقدمة مبادئ هذا الحزب تقوية الاتحاد، وأن تكون للاتحاد سياسة خارجية قوية، وأن يُعدَّ الاتحاد ما استطاع من قوة حربية، كذلك كانوا يرون أن ينهض الاتحاد بالإصلاحات التي فيها الفائدة للجميع؛ كالطرق والترع وإصلاح مجاري الأنهار، وأن تدفع الولايات نفقات ذلك كله بغير نظر إلى ما يردده القائلون بحق الولايات، كذلك كانوا يطالبون بالحماية الجمركية لحماية الصناعات الجديدة التي نشأت في البلاد أثناء الحرب، كما أيَّدوا في حماسة إحياء مشروع هاملتون بإنشاء مصرف قومي، كل أولئك على قاعدة ديمقراطية سليمة لا تدع مجالًا لأقلية تحكم كما كان يريد أشياع هاملتون.
وقد اختير منرو للرياسة مرة ثانية وأعلن في عهد رياسته الثانية مبدأ منرو الشهير، الذي يحول بين الأوروبيين وبين التدخل في شئون أمريكا، والذي أصبح قاعدة تحرص أمريكا عليها كجزء هام من سياستها. وسبب إعلان هذا المبدأ هو أن دول التحالف الرباعي في أوروبا أرادت التدخل لحمل مستعمرات إسبانيا الثائرة على الإذعان لها، وكانت إنجلترة قد انسحبت من التحالف وقد غاظها أن تستعين الحكومة الإسبانية بالجيش الفرنسي للقضاء على الثورة الدستورية في إسبانيا بإذن من دول التحالف، وفطنت إلى ما يترتب على ذلك من امتداد النفوذ التجاري الفرنسي إلى مستعمرات إسبانيا حول خليج المكسيك، فأشار كاننج وزير خارجية إنجلترة على الرئيس منرو، فخطا هذه الخطوة التي جعلت الولايات المتحدة هي المسئولة عن شئون العالم الأمريكي.
وخلف من بعد منرو سنة ١٨٢٤ جون كونسي آدم ابن جون آدم الرئيس الذي خلف وشنطون، وقد حدث في انتخابه أنه لم يَفُزْ بالأغلبية المطلقة لأعضاء الهيئة الانتخابية، كما أنه لم يَفُزْ بها كذلك أحد غيره، وفي مثل هذه الحالة يختار مجلس النواب وفقًا للدستور واحدًا من الثلاثة الذين حصلوا على أكثر الأصوات، وقد تخطى المجلس أندرو جاكسون، وكان أكثر الثلاثة أصواتًا واختار كونسي آدم.
وأذعن جاكسون لحكم الدستور، بيد أنه ما لبث أن جرت إشاعة مؤداها أن فوز آدم على جاكسون إنما يرجع إلى تأثير هنري كلِيي من كبار زعماء الكونجرس، فلقد دأب هذا الرجل حتى ظفر بإقناع من استطاع إقناعهم من أعضاء مجلس النواب معتمدًا على فصاحته ونفوذه ودهائه، وكان هنري يخشى من اختيار جاكسون الجندي للرياسة، مدعيًا — فيما ادعى من أسبابٍ — أنه يشفق أن تتجدد باختياره مأساة يوليوس قيصر.
ولكن شعور السخط يملأ البلاد؛ إذ إنها ترى آدم يختار هنري وزيرًا للدولة، وقال الناس إن هذا هو الثمن والأمر مبيَّت من قبل، وإن المصالح الشخصية بدأت تتسرب إلى السياسة العليا للبلاد … وحمل جاكسون حملة عنيفة على آدم وصاحبه، وكان جاكسون أقرب الزعماء إلى قلوب الناس، يتمتع بينهم بمحبة لم يظفر بمثلها إلا وشنطون، فلما حل موعد الانتخاب للرياسة سنة ١٨٢٨ فاز جاكسون بأغلبية كبرى، وولي الرياسة رجل يعد في تاريخ أمريكا من أكبر زعماء الديمقراطية، وفي تاريخ الاتحاد مؤسسه الثاني، وفي تاريخ التطور السياسي للبلاد علمًا من أبرز الأعلام.
كان جاكسون جنديًّا لا يعرف الالتواء أو اللين، وكان صريح الطبع لا يماري في صداقة أو خصومة، كما كان صادق العزيمة، إذا هم بأمر يعتقد صوابه لا يثنيه عنه شيء إلا الموت، وقد اتصف بالإقدام والهمة، وتجلى ذلك في الحرب ضد الإنجليز سنة ١٨١٢، كما تجلى في حرب الاستقلال من قبل.
وكان جاكسون من أصقاع الحدود، وليس لتلك الأصقاع مثل ما للشرق في أمريكا من ثروة ومدنية، ولكنها كانت صادقة الديمقراطية؛ لأن الناس هناك يكادون أن يكونوا سواسية، والناس هناك أهل جَلَد وعزيمة وأصحاب فطرة سليمة في الجملة، لم تؤَثر فيهم تقاليد الحضارة وأوضاع المدنية أثرًا كبيرًا كما حدث في الولايات القديمة في الشرق.
وكان جاكسون يؤمن بالديمقراطية إيمان جفرسون، أو لعله كان أشد إيمانًا بها، وكان يدين بمبدأ سيادة الشعب وأنه مصدر كل سلطة، فلن تقوم حكومة مشروعة إلا إذا رضي عنها الناس وواجبها أن تفعل بمشيئة الناس على ما فيه صالحهم.
وكانت لجاكسون حاسة غريبة ينفذ بها في سرعة ودقة إلى رغبة جمهور الناس، فإذا عمل فإنما يعمل بوحي منهم، وإنه ليُظهر للناس أنه هو الذي يوحي إليهم فيوجههم الوجهة التي يريد، وهذه فيما نرى خلة من ألزم ما ينبغي من خلال لقائد شعبي. وهو بعدُ يفضل الإخلاص على المقدرة، ويضع القلوب إذا اختار الرجال قبل العقول.
وتتجلى سيادة الشعب في انتخاب جاكسون أكثر مما تجلت في انتخاب من سبقوه؛ فإن الهيئة الانتخابية التي تختار الرئيس كان يختارها أعضاء المجالس التشريعية في الولايات، ولكن الناس في الولايات — ما عدا كارولينا الجنوبية — هم الذين انتخبوا هذه الهيئة، فجاءت وليدة إرادتهم لا وليدة المجالس التشريعية، فكانت بذلك ممثلة للرغبة العامة. وعد جاكسون مرشح الشعب الأمريكي لا مرشح العلية من الساسة، وجاء نجاحه على الرغم من مجهودات مخالفيه من الزعماء تأكيدًا لسيطرة الشعب لا سيطرة فريق من صفوته، فكان ذلك أول مظهر من مظاهر الديمقراطية في وضعها الجديد، كما كانت هذه الخطوة من جانبه — أعني الالتجاء إلى الرأي العام وإغفال مجالس الولايات — ثورةً ديمقراطية في سبيل سيادة الشعب.
وكانت أول خطوة خطاها الرئيس الجديد هي اختيار من يعاونونه من رجال الحكومة من الموالين له وصرف من لا يرى التعاون معهم، لا في مناصب الوزراء فحسب، ولكن في المناصب الهامة جميعًا. وفعل جاكسون ذلك غير مبال بصيحات خصومه، والحق أن واشنطون قد سبقه إلى مثل هذا ولكن في مجال ضيق، أما هو فقد توسع فيه حتى أصبح هذا الإجراء المظهر الثاني لديمقراطيته، ولقد أصبح فيما بعد تقليدًا يحتذيه الرؤساء. قال جاكسون يرد على منتقديه: «لقد انبعث ضجيج شديد حول هذا. إن الأمر سوف يعرض على الكونجرس، وستوضح أسبابه … إن كل رجل يلي منصبًا بضع سنين يعتقد أن له أمره مدى الحياة كحق يكتسب، فإذا وليَه عشرين عامًا أو أكثر فإنه لا ينظر إليه كحق له فحسب، بل كشيء يرثه أبناؤه، فإن لم يكن له أبناء فأقرب ذوي قرابته. ليس هذا مبدأ حكومتي … إن تغيير أصحاب المناصب هو الذي يضمن للحرية الدوام.» وواضح من كلامه هذا أنه كان يخشى أن تقوم طبقة معينة بالحكم يرثها أبناؤها فيه، وهذه هي الأرستقراطية.
وألفى جاكسون نفسه محاطًا بخصوم أقوياء مثل هنري كلِيي وكالهون، وغيرِهما ممن كان كثيرٌ من الموظفين من صنع أيديهم، فكانوا بذلك خير وسائل نفوذهم، وكان كالهون نائب الرئيس، وكانت بينه أول الأمر وبين جاكسون محبة واحترام متبادلين، بيد أنه حدث أن جرت إشاعة سوء حول زوجة أحد الوزراء الموالين، غضب لها الرئيس أشد الغضب؛ لأن زوجة الوزير كانت تحظى بثقة زوجته التي طواها الموت، وكان الرئيس شديد المحبة والإخلاص لتلك الزوجة الذاهبة؛ ومن ثم كان يُعز كل صديقاتها، وهو لم ينس أن زوجه التي يُكبر ذكراها لم تسلم هي كذلك من أحاديث الإفك وإشاعات السوء. ونمى إلى الرئيس أن كالهون هو مدبر الإشاعة ليسيء إلى الوزير الذي يخلص له الولاء، كما أنه ما لبث أن اكتشف أن كالهون — وكان وزيرًا للحرب في عهد منرو — هو الذي حمل ذلك الرئيس يومئذ على إساءة الظن به وكرهه؛ فلهذا اشتد البغض بين الرجلين وتقاطعا وقد كانا صديقين.
ويعنينا أمر هذا الخلاف لعلاقته بمشكلة دقيقة امتحن فيها ثبات جاكسون وابتليتْ عزيمته؛ وذلك أن ولاية كارولينا الجنوبية موطن كالهون قد عادت تنادي بحرية الولايات في العمل وتنذر الاتحاد بعاصفة جديدة، وبيان ذلك أن الحكومة — جريًا على سياسة الحماية الجمركية التي اتجه الرأي إليها حرصًا على الصناعات الجديدة التي نشأت إبان الحرب سنة ١٨١٢ — قد قررت على الواردات ضريبة عالية سنة ١٨٢٨، فغضبت لذلك الولايات الجنوبية مصدِّرة القطن ومؤيدة مبدأ حرية التجارة، وأعلنت كارولينا الجنوبية إنكارها دستورية هذه الضريبة، ولكن المحكمة العليا خذلتها فيما ادعت، فلجأت إلى قاعدة أخرى أذاعتها مؤداها أن لكل ولاية في الأمور الخارجية مثل ما لأي دولة مستقلة لا ترتبط إلا بما تقضي به معاهدة الاتحاد، وعلى ذلك فهي تتصرف في موقفها من هذه الضريبة دون مراعاة لأية سلطة مركزية؛ ونتيجة لهذا أعلنت إلغاء الضريبة الجمركية من موانيها.
ووضعت كارولينا بذلك أساس قاعدة خطيرة؛ هي حق كل ولاية في إلغاء ما لا توافق عليه مما تفرضه حكومة الاتحاد، وفي ذلك زلزلة للاتحاد في كل وقت.
وبات الموقف بالغ الحرج؛ فإن جاكسون من أهل الجنوب بمولده وإن كان من أصقاع الحدود الغربية بنشأته، وإنه يدين بنجاحه ومكانته للجنوبيين أكثر مما يدين لغيرهم، وإن له خصومًا يتربصون به، وقد اعتزل كالهون منصبه وبات في أهل كارولينا، زعيمهم الذي لا يمل، ولسانهم الذي لا يكل.
والرئيس جاكسون حريص على الاتحاد ما وسعه الحرص، وعنده أن فصم عروته هي الكارثة التي لا تعظم عنها كارثة، ولكنه في الوقت نفسه ديمقراطي مثل جفرسون، وهو لم ينس موقف جفرسون وأنه صاحب قرارات كنطكي.
وتهيأت فرصة لتسمع البلاد رأي جاكسون، وكان الرئيس قد مال إلى ضريبة معتدلة ليجمع بين الرأيين، وأغضبه أن خصومه لم يرضوا حتى بهذا، فلما كان عيد ميلاد جفرسون اجتمع عدد كبير من السياسيين، وألقوا الخطب، وشربوا الأكواب، وكانت معظم الخطب في جانب حرية الولايات في العمل، ونهض جاكسون وشرب كوب الاتحاد قائلًا في عزيمة وصرامة: «إتحادنا! إنه يجب أن نحفظه.» ونهض كالهون فحاول أن يخفف من وقع كلمة جاكسون فقال: «اتحادنا هو أعز شيء لدينا بعد حريتنا.» وفهم الناس مغزى كلمة الرئيس؛ فلم تكن إلا إعلان الحرب.
وأخذ الرئيس يعد عدته، فكتب إلى الكونجرس يطلب أن يمنحه حق القضاء على المؤتمرين في كارولينا بقوة السلاح، وأفضى إلى وزرائه بتصريح خطير، جاء فيه أنه إن لم يوافق الكونجرس فلن يعدم حيلة! إنه سيدعو البلاد لإرسال متطوعين لحماية الاتحاد، ثم يزحف على رأسهم فيغزو الولاية الثائرة، ويقبض على رءوس الفتنة فيها. وهال أهل كارولينا تصريح الرئيس المصمم، وحار خصوم الرئيس من أعضاء الكونجرس في أمرهم حيرة شديدة.
واتصل هنري كلِيي بكالهون يقترح حلًّا وسطًا، ومؤداه أن تخفف الضريبة بعض الشيء، ووافقه كالهون، ومال الرئيس إلى قبول ذلك الحل، ولكنه اشترط أن يوافق الكونجرس على لائحة استعمال القوة، وأن تكون اللائحة سابقة في صدورها صدور اللائحة بالحل الذي اقترحه هنري وكالهون. وظفر الرئيس بما أراد وصدرت اللائحتان حسبما طلب، ورجعت كارولينا عن ثورتها، ونفذت الضريبة الجديدة! كتب الرئيس إلى أحد أصدقائه قائلًا: «إن لديك بعض من يقولون بحق الإلغاء، ألا قطِّب لهم وجهك؛ فما كانت الضريبة إلا حجة واهية، وإنما يريد الجنوبيون اتحادًا خاصًّا بهم من الولايات الجنوبية، وإن حجتهم القادمة سوف تكون مسألة العبيد.» ولله ما أعجب هذه النبوءة التي سوف تثبتها الأيام!
ونفض الرئيس من المشكلة يديه ظافرًا، وقد ازداد إعجاب الناس ببسالته ووطنيته وإخلاصه للاتحاد، ولكن خصومه تداعوا وتكاتلوا يعارضونه ويتهمونه بالثورة على الدستور، وينددون بلائحة استعمال القوة، وراح هنري كلِيي يقول إنه كان محقًّا في تخوفه من اختيار جاكسون الجندي لرياسة الاتحاد. وهكذا تألفت في الكونجرس جماعة قوية من الساسة تناصل جاكسون.
وفي مثل هذا الجو العاصف تحدى الرئيس خصومه في قضية أخرى اهتم بها الرأي العام أعظم اهتمام؛ وهي قضية مصرف الولايات المتحدة.
قُضي على المصرف الأول الذي دعا إليه هاملتون والذي عارضه فيه جفرسون، وذلك بعدم تجديد لائحة سنة ١٨١١، ولكن مصرفًا جديدًا أنشئ سنة ١٨١٦، وما لم تتجدد لائحته فإنه ينتهي سنة ١٨٣٦، ولكن جاكسون يكره هذا المصرف كما يكره جميع المصارف؛ ولذلك يقف عقبة في سبيل تجديد لائحته.
كان جاكسون يكره المصرف؛ لأنه يضم عددًا كبيرًا من رجال الحكم والسياسة، ولأنه جزء من مال أجنبي، وقر في نفسه أن المصارف فتنة للناس، وأداة لإفساد الضمائر والنفوس، وخطر على روح الديمقراطية، وشايع جاكسون الكثير من أهالي الولايات، وعلى الأخص الغربية والجنوبية؛ لأن معظم هؤلاء كانوا من المدينين للمصرف، بينما كان أهل الشرق والشمال هم أصحاب الصناعة وأصحاب المال.
وحمل خصوم جاكسون حملة عنيفة عليه، ورموه بالجهل بالأمور المالية وقصر النظر، ولكنه لم يعبأ بذلك كله وظل كالصخرة لا تنال منه العاصفة.
وقد كان لمعظم هؤلاء مصلحة شخصية في بقاء المصرف، حتى الوزراء أنفسهم قد انقسموا حزبين: أحدهما يؤيد الرئيس، والآخر يخالفه. ووافق النواب على لائحة التجديد ووافق عليها الشيوخ، ومعنى ذلك أن الكونجرس يؤيدها، ولكن الرئيس على الرغم من ذلك يرفض اللائحة، ثم هو يحذر الكونجرس في رسالة بليغة مذكرًا أعضاءه بمساوئ المصارف، وأنها وسيلة لاستعباد طائفة من الشعب طائفةً أخرى، وبأن «أمواله الأجنبية أشد عداوة وأشد خطرًا على الاتحاد من أسطول دولة معادية وجيشها»، ويقطع جاكسون الطريق على المحكمة العليا التي صار لها بحكم التقاليد أن تفصل في الخلاف الدستوري إذا نجم بين الرئيس والكونجرس، فيصرح أنه يجب ألا تكون المحكمة العليا مهيمنة على السلطتين التنفيذية والتشريعية، وإنما ينبغي ألا يكون لها من أثر إلا بقدر ما يكون في آرائها من إقناع، والحقيقة أن الدستور لم يبين ما إذا كان واضعوه قد قصدوا أن تكون للمحكمة العليا الكلمة النهائية في دستورية القوانين أم لم يقصدوا.
وطمع هنري كلِيي في تأييد الرأي العام، فدعا إلى عقد مؤتمر للدفاع عن المصرف سماه مؤتمر الهِوِجْ، وتألف حزب جديد بهذا الاسم جمع معارضي جاكسون، ولكن ما كان أعظم دهشة هؤلاء الساسة وحيرتهم وقد حل موعد الانتخاب للرياسة سنة ١٨٣٢ أن يروا جاكسون يظفر هذه المرة، على الرغم من نشاطهم بأغلبية تتضاءل أمامها تلك التي حصل عليها سنة ١٨٢٨، ورأى هؤلاء الناس عين اليقين أن الرجل الذي يؤيده شعبه لن تخذله قوة أو حيلة!
وكانت الانتخابات لمجلس النواب تجرى أثناء انتخاب الرئيس، فجاءت أغلبية المجلس الكبرى في جانب جاكسون، أما مجلس الشيوخ فظلت فيه أغلبية من الهِوِج المعارضين، وذلك لأن مجلس النواب يتجدد كل سنتين بينما يبقى مجلس الشيوخ ست سنوات!
وظل الشيوخ على عدائهم للرئيس حتى بلغ بهم الأمر أن قرروا توجيه اللوم رسميًّا إليه، ولكن حينما تجدد انتخاب الشيوخ ظفر جاكسون بأغلبية المجلس، وغلب الهِوِج على أمرهم، وسحب المجلس الجديد ذلك اللوم الذي وُجِّه للرئيس وحذفه من المضبطة. أما لائحة تجديد المصرف فقد رُفضت وبات إلغاؤه أمرًا مقضيًّا.
وقضى جاكسون ما بقي من مدة رياسته الثانية في هدوء، ولو كانت له شهوة للحكم كما ادعى خصومه لقبل رياسة ثالثة، ولكنه آثر أن يفعل كما فعل وشنطون؛ فرفض الترشيح على الرغم من إلحاح الشعب، وذهب إلى عزلته حيث عاش تسع سنوات ثم قضى نحبه بعيدًا عن السياسة وأعاصيرها، وانقضت حياة الرجل الذي كتب بأفعاله صفحة مجيدة في تاريخ أمريكا، فوطد سلطة الشعب وقضى على سيطرة الفئة القليلة من السياسيين، وأقام بنيان الاتحاد وقد أوشك أن ينقض، وجعل سلطة الرئيس مستمَدة من الرأي العام، متمشيًا في ذلك مع روح الديمقراطية.