الفصل الثاني
الجزء الأول
(أبو قابوس – اثنان من أتباعه)
أبو قابوس
:
قد وصلنا هنا مكان الجريمه
وهنا تظهر الذنوب العظيمه
وهنا تُغفر الذنوب ولا يغـ
ـفر ذنبًا إلا النفوس الكريمه
صنت نفسي بالنسك عشرين عامًا
وتركت البلاد مني يتيمه
وقضيت الأعوام يحسبني النا
س قتيلًا بين العظام الرميمه
غير أني سمعت صوت بلادي
تشتكي الذل والرزايا الأليمه
فتركت النفار عنها وأقبلـ
ـت إليها بنيةٍ مستقيمه
وبعزمي إنقاذها من بلايا
ها وأحكام قومها المذمومه
فإذا ما حييت تحيا، وإن متُّ
فموت الذليل أشهى غنيمه
فاكتموا ما نويت، فالمرء لا
ينجيه إلا أعماله المكتومه
لا تقولوا: إني مليك وقولوا
رب فقر في غربة مستديمه
فعساني أرى أخي وأنجي
وطني والعقبى تكون سليمه
رام قتلي فيما مضى وأنا اليو
م سأعفو عنه وأمحو الجريمه
الأول
:
مولاي، أتكون الملك العظيم أبا قابوس سيد العرب، وتعود إلى ملكك بمثل هذه
الملابس، وعلى هذا الحال.
أبو قابوس
:
هكذا تقتضي الحكمة، فإما أن أنقذ بلادي وأنا على هذه الصفة، وإما أن أموت
فقيرًا كما أنا الآن، فلا يعرفني سواكم أحد.
الثاني
:
ولكن يا مولاي، أين كنت كل هذه المدة؟ وما الذي تقصده من هذا المكان؟
أبو قابوس
:
لقد عشت في القفار والجبال عشرين عامًا حسبني فيها الناس مائتًا، واستبد
الحكام في الأمور والأحكام وأنا أحسب أنني أُكفر عن ذنوبي، وأمحو ما لعله فرط
من الآثام. أما الآن فقد رأيت بلادي في ربقة الظلم والضيق، ولا ينقذها سواي
وعلمت أن أخي الذي ظن أنه قتلني لا يزال حيًّا، وهو من أقوى الأمراء، فأتيت لكي
أراه فأغفر له ذنبه في قتلي وأُبشره بأنني لا أزال حيًّا، ثم أستعين به وبقومه
على إنقاذ البلاد.
الثاني
:
وكيف قتلك أخوك يا مولاي.
أبو قابوس
:
كنت عنده في قصره هذا أيام شبابي، فعشقت فتاة جميلة وعشقها معي ثم رآنا كلينا
في خلوة غرام، فغار غيرة شديدة، وضربني بخنجره وألقاني من النافذة إلى النهر،
فألتقطني بعض الرعاة وأنقذوني من الموت، وهو يحسب أنني في عداد الأموات.
الأول
:
ولما صرت ملك العرب، ألم يعرف ذلك؟
أبو قابوس
:
لقد كنت عنده أُدعى زيادًا حينما ضربني وألقاني في النهر، ولما ملكت العرب
ببأسي وقوتي لقبوني أبا قابوس، فأخفى هذا اللقب الجديد ذلك الاسم القديم، ولم
يعرف أخي أن أخاه القتيل لا يزال حيًّا.
الثاني
:
ولما صرت ملكًا، ألم تسعَ في طلبه؟
أبو قابوس
:
لقد جئت بجندي فحصرت حصنه هذا، وحاربني وهو لا يعرفني فلم أقدر على أخذه، بل
كواني في زندي بحديدة محماة وجمح بي جوادي، فألقاني في النهر، وانكسر العسكر
بعدي، وهم يحسبون أنني قُتلت، أما أنا فكنت قد نجوت بنفسي من النهر، وذهبت
فتنسكت في القفار، واعتزلت الملك والحروب حتى ظنوني ميتًا، وهذه هي أسرار أخي
بي إلى الآن.
الأول
:
وهل تريد أن تخبر أخاك الآن أنك أخوه؟
أبو قابوس
:
سأرى كيف تكون ظروف الأحوال، أما قصدي الأول فهو إنقاذ البلاد من دمارها كما
قلت لكما، وهو الأمر المهم الذي أتيت لأجله.
الأول
:
والآن، فماذا يأمر مولاي الملك أن نفعل؟
أبو قابوس
:
أُريد أن تبقيا هنا في انتظاري، وأنا ذاهب إلى الحصن وحدي، وسأفعل هناك
أفعالًا عجيبة يرويها التاريخ عني، فإذا نجحت في قصدي دعوت بكما إليَّ، وإذا لم
أنجح وقتلوني فارجعا عن هذه البلاد، ولا تخبرا أحدًا بأمري:
اذهبا الآن واخفيا عن عيون الـ
ـناس طرًّا من كاشحٍ وصديق
واكتما عنهم جميع حديثي
وادعوَا لي بالفتح والتوفيق
الجزء الثاني
(سالم – قراد – قيس – حماد – ناقد – عامر – زياد – حسان – سلمان – ثم
ضابط)
سالم
:
انظر أيها الأمير، إن باب الحصن وطريقه يظهران من هنا.
قراد
:
ما هذا المكان الواسع المظلم؟
قيس
:
إن من يرى هذا الباب المظلم يقول: إنه مكان تسكنه الجن.
حماد
:
هنا يجلس جدي الكبير.
قيس
:
وحده.
حماد
:
لا، بل مع أبي.
قراد
:
لله درك، كيف قدرت أن تخلص من هذين الشيخين.
حماد
:
لقد ذهبت أيامهما واختلَّ عقلهما كثيرًا، وها قد مضى على جدي الآن أكثر من
شهرين لا يتكلم، فانظر مفاعيل الشيب والهرم، فإن عمره يبلغ نحو المائة سنة، أما
أنا فقد أخذت مكانهما بعد أن تخليا عنه.
ضابط
(يدخل)
:
مولاي.
حماد
:
ماذا تريد؟
ضابط
:
إن الأسير الهندي لم يدفع الفدية بعد.
حماد
:
اشنقوه.
ضابط
:
إن عرب الحدود قد جاءوا طائعين، وهم يطلبون الأمان.
حماد
:
انهبوا أموالهم فقد أخذنا أموالهم بسيوفنا.
ضابط
:
وماذا نصنع بجيرانهم.
حماد
:
انهبوهم أيضًا (يخرج الضابط).
ناقد
:
إن شرابك جيد أيها الأمير.
حماد
:
هذا لا شك فيه، فإن لي ضريبة من الخمر كل سنة على قبيلة غسان.
قيس
:
وعلم الله أن خطيبتك ليلى لجميلة.
حماد
:
نعم، لا بأس بها فهي نسيبتنا من جهة الأم.
قيس
:
وكذا يظهر أنها مريضة.
حماد
:
ليس ذلك شيئًا يذكر.
الضابط
(يدخل)
:
علمت أن بعض التجار سيمرون من هنا غدًا.
حماد
:
استعدوا لقطع الطريق عليهم، لقد كان آباؤنا يقاتلون، أما نحن فنلهو الآن
ونطرب، وقد كانوا يستعملون القوة، أما نحن فنستعمل الحيلة والخداع، وما أنكر أن
الناس تشتمني، والتجار تلعن اسمي، والعرب تتعوذ من بأسي، ولكن كل ذلك لا يهمني
ما دمت أضحك وأشرب، وما دام حصني منيعًا يرد عني غارة الأعداء، وما دامت خطيبتي
جميلة تسر الناظرين، وعلى ذكر الخطيبة هل تزوجت بنت أمير اليمن؟
قيس
:
لا.
حماد
:
ولكنك وعدت أباها، وأخذت منه مالًا.
قيس
:
نعم، وعدت وأخذت، ولكني أترك البنت لأبيها وأترك المال عندي.
حماد
:
ولكن ماذا يقول أبوها عنك؟
قيس
:
ليقل ما شاء أن يقول.
حماد
:
وما تصنع بالوعد الذي وعدت؟
قيس
:
ذلك شأن لا يهم.
عامر
:
عهدت الكريم إذا ما وعد
وفي أو يخون قواه الجلد
وكنا إذا ما عقدنا العهود
تراها علينا كدرع الزرد
يراه الكريم لدى بابه
ويلقاه في حلمه إن رقد
وتنفد أعمار أصحابه
وأكثر أوعادهم ما نفد
تبارك ربي إلى أي حالٍ
غدونا وأي زمانٍ فسد
فضاعت مواعيد أبنائنا
وضاع الذمام وضاع الرشد
وأضحى البغاة مكان النسور
وقام الكلاب مقام الأسد
حماد
:
احذر يا أبي فأنت تهيننا، واذكر أن الملك أبا قابوس عاقب عمه مرة على إهانة
أصغر من هذه، فلا تتركني أتبع هذا المثال.
عامر
:
يظهر لي أني سمعت اسم أبي قابوس، فإياكم أن يلفظ أحدكم هذا الاسم أمامي
بعد.
قيس
:
وبماذا ساءك هذا الملك أيها الشيخ؟
عامر
:
أتقول بماذا ساءني، انزل في هذه الهوة، وانظرْ كَم فيها من قصور مهدمة بيد
هذا الملك العاتي، انظر كم أذلَّ من أبطالنا، وكم أسر من رجالنا، وكم سبى من
نسائنا، وكم سفك من دمائنا على أيدي جنوده الغادرين، أتقول بماذا ساءني؟ لقد
استعبدنا ثلاثين عامًا يقتل أبناءنا، ويحرق منازلنا ويستعبد رؤساءنا، ويسجن
أبطالنا، ويسومنا الذل والخسف ويضع في أيدينا قيود الحديد، ولا يلبث أمامه أحد،
وأنا أذكر أنه نازلنا في إحدى المعارك، واقتحم وحده جيشًا كاملًا من جيوشنا،
فلم يقدر أن يقف في سبيله واحد منا إلا أبي هذا، فإنه صادمه في طريقه وكوى زنده
برمح من حديد، أما الآن فقد ذهب كل ذلك هباءً منثورًا، وبادت رجال الحرب
جميعًا، ولم يبقَ من تلك الغابة العظيمة إلا شجرة واحدة؛ وهذه الشجرة هي أنت
أيها الولد الكريم. أتقولون: أبو قابوس، ويلٌ لمن يذكر هذا الاسم الكريه، وويلٌ
لي إذا لم أنتقم منه إذا كان لا يزال حيًّا أو من أولاده إذا كان قد مات، وأنا
أسأل الله قبل موتي أن يسهل لي هذا السبيل، ولو بأن اضرب هذا الملك ضربة واحدة
في حياتي، ثم أموت بعدها مسرورًا، بل أكاد أقول: إنني لو كنت ميتًا في ترابي
وتمثل لي أبو قابوس على قبري لنهضت إليه مسرعًا، ونفضت غبار الموت عني وطعنته
طعنة واحدة بهذا الخنجر … ويلاه ماذا أقول أنا الشيخ العاجز الفاني.
حماد
:
يظهر أن أبي قد خرف.
زياد
:
غدًا يصير أبي مثل أبيه وجده، وآخذ أنا مكانه.
حماد
:
إن كل جنودنا خاضعون لهذا الشيخ، فما هذا المصاب؟!
زياد
:
تعالَ يا أبي، وانظر إلى هذا الشيخ.
قراد
:
إنه يصعد بهدوٍّ، وتلوح عليه علائم التعب.
ناقد
:
حتمًا إنه في تعب شديد.
سالم
:
نعم، ويظن أنه فقير، فإن عباءته ممزقة تنسفها الرياح.
زياد
:
أظن أنه يطلب الضيافة في القصر.
قيس
:
إنه فقير لا شك فيه.
قراد
:
بل أظنه جاسوسًا.
سالم
:
إذن فاطردوه من هنا.
حماد
:
اطردوا هذا الكلب في الحال، وارجموه بالأحجار.
زياد
:
اذهب من هنا يا كلب.
عامر
:
أعوذ بالله، أي عصر صرنا إليه وأي رجال أهل هذا الزمان؟ أيطردون الشيخ البائس
المسكين برجم الأحجار، لقد كنا أيام الصبى والشباب مثلكم نسكر ونطرب كما
تفعلون، ولكن إذا مرَّ بنا شيخ عاجز فقير، ونحن في السكر والطرب كنا ننهض في
الحال، فنملأ كفه ذهبًا ونقربه قربًا حسنًا، ونرد سلامه ردًّا جميلًا، ثم نعود
إلى ما كنا عليه من اللهو والسرور، تلك كانت أحوالنا من قبل فقيسوا عليها
أحوالكم الآن.
سلمان
:
اسكت أيها الشاب تلك كانت أحوالكم، أفتعرف كيف كانت أحوالنا؟ كنا نجلس على
طعامنا وشرابنا وأمامنا بعير بأسره في قصعة واحدة نأكل منه ونشرب عليه، وإذا مر
بنا الشيخ الفقير المسكين، أفتعرف ماذا كنا نصنع له؟ كنا نرسل طليعة من الجند
لاستقباله، ثم نضرب الطبول عند دخوله ثم ننهض كلنا إلى ملاقاته، ولو كان في
مجلسنا أبناء الملوك، ويتقدم الكبير منا إلى ذلك الفقير، ويمدُّ إليه يده وهو
يقول: يا مرحبًا بالضيف … اذهب وقل للفقير ليأتِ.
حماد
:
ولكن يا مولاي …
سلمان
:
اسكت.
قيس
:
مولاي إنه …
سلمان
:
لقد قلت: اسكتوا فمن يتجاسر أن يتكلم.
حسان
:
أحسنت يا شيخ العشيرة في الذي
قد قلته وكذا يكون أبو الكرم
يا أيها الأسد الذي من حوله
خبث الذئاب يلوح في خوف الغنم
ارفع زئيرك غاضبًا كي يسكتوا
إن الشباب يخاف من صوت الهرم
زياد
:
لقد أتى يا مولاي.
سلمان
:
قفوا جميعًا واصطفوا هنا حولي كما تفعلون في استقبال الملوك.
الجزء الثالث
(المذكورون – الفقير)
الجميع
:
أهلًا بضيف زارنا
في دار مولانا السعيد
نحن الضيوف وأنت رب
الدار فافعل ما تريد
سلمان
:
كن من تشاء فأنت ضيـ
ـفي أيها الشيخ الطريد
وانزل على الربع الرحيـ
ـب لديك والعيش الرغيد
والآن فاسمع هل سمعـ
ـت بسيدٍ بطلٍ فريد
شاد المفاخر كلها
في حصنه العالي المشيد
وعدا على ريب الزما
ن بذلك البأس الشديد
لم يرهب الأهوال فيـ
ـه ولم يخف منه الوعيد
سقطت جميع رجاله
من دونه مثل الحصيد
وأقام ثابت دولةٍ
في ذروة المجد الوطيد
بليت جميع رجاله
وزمانه غضٌّ جديد
أعرفته من وصفه
أم أنت ترغب أن أزيد
يدعى بسلمان الشريـ
ـد، وكان يدعى بالعنيد
طال الزمان به كما
من قبل طال على لبيد
أنا ذلك الرجل المشا
ر إليه في هذا القصيد
فابشر فإنك نازلٌ
في دار سلمان الشريد
وجميع حصني رهن أمـ
ـرك فاقضِ فيه بما تريد
الفقير
:
يا أيها الأمرا جميـ
ـعًا والعساكر والعبيد
اصغوا لما ألقي، فإنَّ
كلاميَ النصح المفيد
لا تحقروا الضيف الفقيـ
ـر إذا أتاكم من بعيد
وتصدقوا بالخير إنَّ
الخير مفتاح المزيد
وثقوا بأن الموت يأ
تي سابقًا خيل البريد
يعدو على الشيخ الكبيـ
ـر ولا يعفُّ عن الوليد
فليذكر الشبان منكم
في مشيبهم العتيد
وليندم الأشياخ إنَّ الـ
ـموت منهم بالوصيد
وحسابهم أدنى إلى الـ
أرواح من حبل الوريد
وأعطوا الفقير، فإنما
هذا هو الفخر الأكيد
وبه يدوم نعيمكم
ويزيده من يستزيد
ومصيرنا طرًّا لمن
في الحشر يفعل ما يريد
الجميع
:
يا أيها الضيف الكريم
قد فزت بالخير العميم
فاهنأ بذا الود السليم
والأمن من شر اللئيم
فالخير من طبع الكرام
والعرب ترعى للذمام
والشكر يسري في الأنام
يبقى على طول الدوام