تمهيد
كانت الثورة العرابية حركة وطنية قومية انبعثت في مصر في أواخر القرن الماضي، حين ثار الوطنيون من مدنيين وعسكريين على تدخل الأجانب في شؤون مصر، وعلى فساد الحكم الذي كانت تخضع له البلاد وما آلت إليه من فساد أحوالها جميعًا، وقد انتهت زعامة هذه الحركة القومية العظيمة التي عمل الاحتلال البريطاني على تشويهها والحط من قيمتها إلى الزعيم الوطني أحمد عرابي أحد ضباط الجيش المصري، ويجدر بنا قبل أن نذكر أسباب هذه الثورة، وقبل أن نسرد حوادثها أن نلم بنشأة هذا الزعيم المصري العظيم.
نشأة أحمد عرابي
ولد أحمد عرابي في شهر مارس سنة ١٨٤١ في قرية «هرية رزنة»، وهي قرية صغيرة بالشرقية تقع غير بعيد من مدينة الزقازيق.
نشأ في هذه القرية الصغيرة ذلك الصبي الذي قدر له أن يقترن اسمه بحركة من أكبر الحركات الإصلاحية في تاريخ مصر الحديث، والذي صارت حياته وأعماله فصلًا من تاريخ وطنه، والذي كان أول مصري فلاح واجه حاكم مصر المطلق في شجاعة وإباء فأسمعه أن المصريين لم يعودوا عبيدًا، وأنهم جديرون بأن يعيشوا أحرارًا «وأنهم لن يورثوا بعد اليوم».
وكان أبوه محمد عرابي شيخ هرية رزنة، ويذكر عرابي عن أبيه في مذكراته التي كتبها في أواخر حياته أنه كان «شيخًا جليلًا رئيسًا على عشيرته عالمًا ورعًا تقيًّا نقيًّا موصوفًا بالعفة والأمانة»، ويذكر كذلك فيما يذكر من أنباء والده قوله: «وكان قد أمر والدي بترتيب درس فقه في المسجد الذي جدده للعامة بعد عصر كل يوم وبعد صلاة العشاء، فتفقه عامة أهل البلد في دينهم وصحت عبادتهم، وحسن حالهم بفضل قيام المرحوم والدي على تعليم قومه وأهل بلده».
وأدخله أبوه مكتب القرية وهو كما يقول من منشآته فيها؛ وفي هذا المكتب فتحت عينا الصبي على نور العلم فحفظ شيئًا من القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة.
وعرف الصبي في المكتب بفصاحة اللسان وسرعة الحفظ وبهما تحدث معلمه إلى أبيه. وتعهده صراف القرية ميخائيل غطاس، فعلمه مبادئ الحساب وتحسين الخط.
ومات أبوه وهو في الثامنة من عمره، ولكن يتمه لم يحل بينه وبين أن ينال قسطًا من التعليم في الأزهر، فقد أرسله أخوه الأكبر محمد عرابي إلى هناك عسى أن يكون عالمًا من علمائه، ولكن الصبي لم يلبث بالأزهر إلا أربع سنوات تعلم فيها على طريقة الأزهر يومئذ شيئًا من الفقه والتفسير والنحو، وحفظ الصبي القرآن بالضرورة كما يفعل من يلتحقون بهذا الجامع العتيد.
وعاد الصبي إلى قريته ولا ندري ما الذي حمله على العودة. وكان من الممكن أن يعيش هذا الصبي القروي بقية عمره في تلك القرية يعمل في الزراعة أو غيرها، ثم يموت فيها كما يعيش ويموت سواه من الفلاحين.
ولكنه سوف يخرج بعد قليل من القرية؛ ليخطو أجرأ خطوة في تاريخ مصر حتى ذلك الوقت؛ وليصبح زعيمها وقائد ثورتها على الفساد والاستبداد والباطل.
خرج الفتى من القرية إلى الجندية، فإن سعيدًا باشا حين أراد أن ينهض بالجيش المصري قد أمر أن يكون في صفوفه أبناء المشايخ والأعيان؛ كيلا يحتقر الجندي في نظر الناس إذ كانوا لا يرون إلا المستضعفين والفقراء يحشدون ويساقون إلى الجيش ليكونوا عساكره، أما ضباطه وقواده فكان أكثرهم من الشركس.
وكان عرابي يومئذ في الرابعة عشرة من عمره، وقد عين أول الأمر «جاويشًا» في عمل كتابي «بالأورطة الرابعة من آلاي المشاة الأول»، وما لبث أن رقي بعد سنتين إلى رتبة ملازم ثان ثم إلى رتبة ملازم أول، ثم إلى يوزباشي بعد سنة، ولم يمر عامان بعد ذلك حتى وصل إلى رتبة قائمقام، وكان أول مصري وصل إلى هذه الرتبة.
وكان سلاح عرابي في هذا الرقي ذلك القدر من التعليم، الذي حصل عليه فيه تمكن من دراسة القوانين العسكرية واجتياز الامتحانات في تفوق، ولا شك أن هذا الترقي السريع قد بث في نفس هذا الفتى القروي كثيرًا من الطموح والإقدام.
وأول ما عرف عن عرابي الجندي كراهته للعنصر الشركسي في الجيش لترفع هؤلاء على المصريين. فكان لا يفتأ يقارن بين نصيب هذا العنصر ونصيب المصريين من المناصب، فلا تزيده المقارنة إلا غضبًا وكرهًا لهؤلاء الأجانب. وعرف هؤلاء الأجانب فيه هذه النزعة فظلوا يكيدون له، ولكنه كان حسن الصلة بسعيد باشا، فلم يصبه أذاهم في عهده. ويقول عرابي في مذكراته: إنه أحب سعيد باشا؛ لأنه كان يميل إلى المصريين في الجيش، ويريد أن يرفع عنهم ما لحقهم من غبن على يد الشركس.
ولقد أهدى إليه سعيد باشا تاريخ نابليون مترجمًا إلى العربية فقرأه عرابي، واشتد إعجابه بذلك القائد العظيم. ومن كراهة عرابي للأجانب في الجيش ومن حبه لسعيد بسبب عطفه على المصريين، نستطيع أن نتبين في نفس عرابي نزعة قومية وطنية صادقة، أشار إلى ذلك مستر بلنت بقوله: «وقد كون عرابي آراءه السياسية الأولى أثناء هذه الصلة القريبة بسعيد، وهذه الآراء هي المساواة بين طبقات الأمة، وما يجب للفلاح من احترام باعتباره العنصر الغالب في القومية المصرية، وهذا الدفاع عن حقوق الفلاح هو الذي جعل لعرابي ميزة بين مصلحي ذلك العصر، فقد كانت حركة الأزهر ترمي إلى إصلاح حال المسلمين عامة بغير تمييز، بينما كانت حركة عرابي في جوهرها قوامها الجنسية، وقد جعلها هذا أوضح في معنى القومية، ومن ثم قدر لها أن تكون أكثر شهرة وذيوعًا».
وفي عهد إسماعيل وشى به شركسي في الجيش اسمه خسرو، وما زال يكيد له حتى تمكن من فصله من الجندية، وجاء في تقرير خسرو عنه: «أنه صلب الرأي شرس الأخلاق لا ينقاد للأوامر، ولا يحفل بما يصدر منها عن ديوان الجهادية».
ويذكر عرابي في مذكراته أن خسرو كان يمقته؛ لأنه مصري؛ ثم لأنه لم يشايعه فيما أراد من ترقية أحد الضباط ممن كان عرابي من ممتحنيهم، وكان في نظر عرابي لا يستحق الترقية بينما كان خسرو شديد الرغبة في ترقيته، هذا في الوقت الذي أبعد فيه خسرو عن الترقية ضابطًا آخر يستحقها.
وظل عرابي ثلاث سنوات مبعدًا عن وظيفته إلى أن عفا عنه الخديو، بعد أن ظلت ظلامته لديه هذه السنوات الثلاث مهملة في غير سبب ظاهر.
وألحق عرابي بالحملة الحبشية في تلك الحرب التي شنتها مصر على الحبشة في عهد إسماعيل، ولكن عمله في تلك الحرب لم يكن عمل الجندي المحارب، فقد كان «مأمور مهمات» بمصوع. ولقد حنق عرابي على تلك الحرب حنقًا شديدًا، وما فتئ يندد بما كان فيها من إهمال وخيانة ورشوة، ولقد اتهم لورنج أحد قوادها وهو أمريكي الجنس بأنه كان يتصل عن طريق أحد القساوسة بالأحباش ويطلعهم على كل شيء. كما نقم عرابي وكثير غيره من الضباط المصريين على الخديو الذي لم يكن يبالي بشيء في سبيل المظهر الكاذب بالفتح والتوسع، في حين أن قتلى المصريين قد تكدست أجسادهم بعضها فوق بعض، إذ كان ينقصهم السلاح والمؤونة والقيادة الصالحة؛ ولقد استقر في نفس عرابي منذ هذه الحرب أن لا صلاح لمصر إلا بالقضاء على الفساد من أساسه، يقول بلنت في كتابه: إنه «قد عاد من الحملة ساخطًا كما سخط العائدون على ما كان فيها من الفوضى، وإليها يرجع اتجاه نفسه نحو السياسة، وازدياد بغضه وغضبه، ذلك الغضب الذي كان في ذلك الحين متجهًا أكثر ما يتجه إلى الخديو».
وفي شهر فبراير سنة ١٨٧٩ اتهم عرابي بتدبير مظاهرة الضباط الخطيرة، ويتلخص هذا الحادث في أن أربعة مئة من الضباط بزعامة البكباشي لطيف سليم، قد أثارهم إحالة ٢٥ ضابطًا إلى الاستيداع بنصف راتب وكان لهم على الحكومة مبالغ متأخرة، فتوجهوا إلى وزارة المالية، ولما حضر نوبار باشا رئيس الوزراء وكان معه السير ريفرز ولسن وزير المالية هجم هؤلاء الضباط عليهما، وأشبعوا نوبار لطمًا ولكمًا وامتدت أيديهم كذلك إلى وزير المالية، وكاد يتفاقم الحادث لولا أن خف إلى هناك الخديو في فرقة من حرسه فانصرف الضباط.
وحكم على عرابي واثنين من الضباط المصريين بالتوبيخ، وفصل كل منهم عن آلايه إلى جهة بعيدة، وكانت الإسكندرية من نصيب عرابي وفيها اتصل بكثير من الأوروبيين.
ولم يكن لعرابي يد في هذه التهمة إذ كان في رشيد وقت وقوع الحادث؛ وإن في اتهامه على هذا النحو لدليلًا على ما كان يشيع في ذلك العهد من دسائس، وما كان يدبر للأحرار من مكائد، ولقد كان ذلك يومئذ من أبرز مساوئ الحكم.
ولقد أدى اتهام عرابي إلى ازدياد كراهته لإسماعيل وعهد إسماعيل، ولسوف يكون ذلك من أهم الدوافع له على الثورة. ولقد أخذ يزداد اتصاله بالناقمين من المدنيين ممن كانوا يجتمعون في بيت البكري في أواخر عهد إسماعيل كما سيأتي بيانه؛ قال في ملخص أرسله في أواخر حياته لصديقه بلنت، وأثبته هذا في آخر كتابه «التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر»: «ولكن قبل أن نفترق اجتمعنا فاقترحت أن نتحد ونخلع إسماعيل، ولو أننا فعلنا ذلك لكان خير حل للقضية؛ لأنه كان يسر القناصل أن يتخلصوا من إسماعيل على أية صورة، ثم إنه كان يوفر على البلاد ما حدث بعد ذلك من تعقد في الأمور، كما كان يوفر تلك الملايين الخمسة عشر التي حملها إسماعيل معه عندما عزل؛ ولكنه لم يكن يوجد يومئذ من يقود هذه الحركة؛ ولذلك فإن مقترحي لم ينفذ وإن حاز القبول؛ وقد ألقى عزل إسماعيل بعد ذلك عبئًا ثقيلًا على كواهلنا وعم الفرح، ولكن لو أنا فعلنا ذلك بأنفسنا لكان أفضل إذ إننا كنا نستطيع أن نتخلص من أسرة محمد علي كلها، فإنه لم يكن فيها حاكم صالح إلا سعيد، وكنا نستطيع أن نعلن إقامة جمهورية. وقد اقترح الشيخ جمال الدين على الشيخ محمد عبده أن يقتل إسماعيل عند جسر قصر النيل، ووافقه محمد عبده على ذلك».
هذا هو عرابي قبل الثورة نراه متحمسًا شديد النقمة على الأجانب تواقًا إلى الإصلاح، فلننظر ماذا كان من أمر وثبته على الفساد والطغيان.