الثورة
عزل إسماعيل وتعيين توفيق
لم تكد البلاد تنتهي من فرحها حتى فوجئت بعزل إسماعيل، إذ ما زالت إنجلترة وفرنسا حتى استطاعتا إكراهه على خلعه، وأمر الخديو بمغادرة البلاد في موعد حدد له فغادرها على الباخرة المحروسة إلى إيطاليا.
وخلفه على العرش توفيق أكبر أنجاله وكان في السابعة والعشرين من عمره، ولم يكن توفيق بالرجل الذي يصلح للحكم في ظروف البلاد يومئذ، فقد كان ضعيف الإرادة محدود الأفق، قليل الذكاء والتجربة؛ ولذلك سرعان ما أصبح ألعوبة في أيدي الأجانب. وكان وجود مثله على عرش مصر في ذلك الوقت مما يضاف إلى أسباب شقائها وسوء طالعها.
وما أشبه توفيقًا في ذلك الموقف بملك فرنسا لويس السادس عشر، ذلك الذي قال عنه بعض المؤرخين: إنه ورث عن أسلافه العرش والثورة معًا، فلقد تجمعت عوامل الثورة الفرنسية قبل عهده ثم انبعثت أيام حكمه. ولقد ورث توفيق عن أبيه المعزول العرش والثورة كذلك، فها هي ذي عواملها تجتمع من قبل أن يلي عرش البلاد.
تظاهر توفيق أول الأمر بأنه يوافق الوطنيين في آمالهم، ثم ما لبث أن تنكر للحركة الوطنية، وذلك أن شريفًا كان قد وضع نصب عينيه ألا يعود الحكم المطلق فقدم للخديو مشروعًا لدستور يجعل الوزارة مسئولة أمام مجلس تختاره الأمة، ولكن الخديو رفض هذا المشروع؛ لأن البلاد في رأيه لم تتهيأ بعد لمثل ذلك الدستور. ولم يجد شريف بدًّا من الاستقالة فاستقال في ١٨ أغسطس سنة ١٨٧٩، فبادر الخديو بقبول استقالته، وأسند الوزارة إلى رياض، وكانت استقالة شريف في ذلك الوقت عاملًا من أهم عوامل إذكاء الروح الوطنية وإشعال جذوتها.
فقد غضب الوطنيون أشد الغضب إذ رأوا آمالهم تذهب مع الريح، وكانوا يحسون أن رجعية توفيق إنما جاءت بوحي من الأجانب، وأن الأجانب هم الذين يسيطرون فعلًا على البلاد. وكانت المراقبة المالية الثنائية قد عادت في أول عهد توفيق، واشترط ألا يجوز فصل المراقبين بدون رأي حكومتيهما، وبذلك أصبحت المراقبة إدارة تابعة في الواقع للدولتين المتدخلتين في شؤون البلاد.
وكره الوطنيون من رياض شدته وموافقته الخديو على أن البلاد لم تتهيأ للحكم الدستوري، فكثرت الاجتماعات بين الوطنيين وصار مقرها في حلوان بعيدًا عن جواسيس رياض، كما ازدادت الجماعات السرية في صفوف الجيش.
ثورة الضباط على وزير الحربية
استغنى عن عدد كبير من الضباط الوطنيين في أوائل عهد توفيق، وكان وزير الحربية في وزارة رياض شركسي الجنسي هو عثمان رفقي، وكان هذا يكره المصريين كما يكرههم بنو جنسه؛ ولذلك كان يجعل أكثر الترقيات والألقاب في الجيش للشراكسة، وأخذ هذا الشركسي يعد مشروعًا يمنع به ترقية الجند من السلاح لكي يبقى الشراكسة في الجيش العنصر الذي يسود.
وكان يسخر الجند في أعمال لا تمت بصلة إلى الجندية كحفر الترع، ومد السكك الحديدية والزراعة في أرض الخديو وغير ذلك، ولقد عارض عرابي معارضة شديدة في أن يعمل جنوده في حفر الرياح التوفيقي، ولم يبال بغضب الحكومة من معارضته ولم يغب عن أذهان الجند والضباط، كيف استرخصت أرواح الجيش في حرب إسماعيل في الحبشة، وكيف امتهنت كرامة الجيش هناك.
لذلك أخذت تتوالى الاجتماعات سرًّا بين الضباط، وأخذوا يتصلون بالجنود ليضموهم إلى ما يبيتون.
واشتد التذمر حين نما إلى الضباط أن عثمان رفقي أخذ يفكر في عزل كبار الضباط أو إبعادهم عن مراكزهم، ومن ذلك ما انتواه من عزل أحمد عبد الغفار قائمقام السواري وتعيين شركسي مكانه، ونقل عبد العال حلمي أميرلاي السادس السوداني إلى عمل بديوان الوزارة، ووضع شركسي كذلك مكانه.
واجتمع عدد كبير من الضباط بمنزل أحمد عرابي وأرسلوا يدعونه إذ كان غائبًا ومنهم علي فهمي الديب قائد الحرس الخديوي، وعبد العال حلمي، وأحمد عبد الغفار وعلي الروبي، ومحمد عبيد، ولما حضر عرابي اختاروه لينوب عنهم في رفع شكوى إلى رئيس الوزراء من تعصب عثمان رفقي. قال عرابي في مذكراته الخطية: «قالوا كلهم: إنا فوضنا إليك هذا الأمر فليس فينا من هو أحق به وأقدر عليه منك، فقلت: كلا، بل انظروا إلى غيري وأنا أسمع له وأطيع وأنصح له جهدي، فقالوا: إنا لا نبغي غيرك ولا نثق إلا بك فأبنت لهم أن الأمر عصيب ولا يسع الحكومة إلا قتل من يتصدى له، فقالوا: نحن نفديك ونفدي الوطن العزيز بأرواحنا، فقلت لهم: أقسموا على ذلك فأقسموا».
وقد اختير عرابي لما عرف عنه من الجرأة والإخلاص والصدق؛ ولأنه كان أشد المصريين في الجيش سخطًا على الشراكسة، وذلك اعتزازًا منه بمصريته وقوميته، فلقد ظفر بالترقية إلى مرتبة أميرالاي في أوائل عهد توفيق، وكان ذلك كافيًا لأن تزيل ما عسى أن يكون قد بقي في نفسه مما لحقه من أذى في عهد إسماعيل.
وذهب عرابي وبصحبته زميلاه عبد العال حلمي وعلي فهمي، فقابلوا رياضًا ورفعوا إليه باسم الضباط عريضة موقعًا عليها منهم يطلبون فيها عزل عثمان رفقي من وزارة الحربية، وإسناد هذا المنصب إلى وزير وطني.
ودهش رياض أشد الدهشة من هذه الجرأة وعدها تمردًا واستشاط غضبًا. وكانت لهجة العريضة شديدة، وكان رد عرابي عنيفًا على رياض حين كان يتكلم باسم زميليه. ثم تجهم وجه رياض وقال للضباط في غلظة وكبرياء: «إن أمر هذه العريضة مهلك وهو أشد خطرًا من عريضة أحمد فني الذي أرسل إلى السودان». وكان هذا قد نفي إلى السودان حيث قضى نحبه؛ لأنه احتج على المحسوبية وطلب مساواته بغيره.
وسكت رياض أسبوعين وهو يحاول إقناع الضباط بسحب العريضة، ولكنهم أصروا عليها وتوالت اجتماعاتهم بمنزل عرابي، وغضب الخديو أشد الغضب وأمر بمعاقبة الضباط الثلاثة. ثم دعاهم رفقي إلى وزارة الجهادية بقصر النيل بحجة الاستعداد لحفلات زفاف إحدى الأميرات.
وما كادوا ثلاثتهم يدخلون الوزارة وكان ذلك في أول فبراير سنة ١٨٨١، حتى وجدوا أنفسهم بين صفوف مسلحة من الشراكسة فقبض عليهم وانتزعت منهم سيوفهم وأودعوا السجن، وهم يسمعون عبارات السب يقذفهم بها هؤلاء الشراكسة.
وكانت كلمة «فلاح» أكثر ما أطلق به ألسنتهم هؤلاء السفهاء. ولبث الضباط في السجن ينتظرون المحاكمة أمام مجلس عسكري، وقد عزلوا بادئ ذي من مناصبهم.
وشاع الخبر في الجند الوطنيين فثارت ثائرتهم، وكان أكثرهم جرأة وإقدامًا ووفاءً الضابط الباسل محمد عبيد بطل معركة التل الكبير فيما بعد، فقد هجم بجنوده وكان في ألاي علي فهمي بحرس عابدين، على قصر النيل، ولاذ رفقي بالفرار من إحدى النوافذ في صورة مخزية وهرب أعضاء محكمته، وحطم الجند الأثاث والمكاتب ثم حطموا الأبواب، وأخرجوا الضباط الثلاثة من السجن وفك عبيد قيودهم وحياهم هو وجنوده.
وتوجه الجميع إلى عابدين وجددوا طلب عزل رفقي، فأجابهم الخديو إلى مطلبهم وأعادهم إلى مناصبهم، ثم عين محمود سامي البارودي وزيرًا للجهادية وهو يضمر في نفسه الانتقام.
وأدى انتصار عرابي وزملائه على هذه الصورة إلى ذيوع صيته لا في القاهرة وحدها بل في القرى كذلك. ولقد عجب الأعيان والفلاحون أن يجرؤ رجل هو منهم على تحدي الخديو والرؤساء والشراكسة على هذا النحو، وأحبه الناس وإن لم يروه. وجاء كثيرون إلى القاهرة يحبونه ويشكرونه. يقول بلنت في كتابه عن هذا الحادث وقد كان في مصر عند وقوعه: «ولست أتذكر أني سمعت اسم عرابي قبل ذلك، ولكن الدور الذي لعبه في ذلك اليوم قد أكسبه شهرة سريعة، وأصبح مقامه في بضعة أسابيع مقام رجل ذي نفوذ وقوة في مصر، أو على الأقل أصبح يعزى إليه القوة. وصارت تتقاطر عليه كما هي العادة في مصر الظلامات من أناس عانوا الظلم، ولقد أذاع صيته خارج القاهرة ظهوره بمظهر من يحمي الفلاحين من جور الحكام الشراكسة، واتصل به كثيرون من الأعيان وأشياخ البلاد، وكان يرد على كل بما يسمعه من رد حسن أو بما يدخل في طوقه المحدود من عون، وكان يؤثر الناس تأثيرًا حسنًا أينما لقوه بحسن محضره وبابتسامته الجذابة وفصاحته في الحوار. ويجب أن نذكر أنه في تاريخ مصر لم يبرز في مدى ثلاثة قرون على الأقل فلاح بسيط إلى حد أن يصبح ذا مكانة سياسية لها خطرها، أو إلى حد أن يصبح داعية إصلاح أو إلى أن يهمس بكلمة تدعو حقًّا إلى الثورة» وقال في موضع آخر: «وأخذ الناس في الأقاليم يذكرونه بقولهم: «الوحيد»، ولقد استحق هذه التسمية حقًّا».
بهذا الذي فعله عرابي أصبح بيته مقصد الكثيرين من الأحرار من المدنيين، ومن العلماء ومن رجال الجيش. والحق أن عمله يومذاك كان بالغ الجرأة كما كان عظيم الأهمية، فإن الخطوة الأولى في كل حركة تتطلب إقدامًا، هي التي تنقل التاريخ من صفحة إلى صفحة.
رأى الوطنيون ما نال رجال الجيش من ظفر سريع بينما قد لحقهم هم الفشل، وقد شدد عليهم رياض الرقابة وراح يلغي الصحف ويصادرها، فسرعان ما تقربوا من عرابي وأخذ شريف يراسله، وحذا حذو شريف زعماء الإصلاح في الأزهر وزعماء النواب مثل سلطان باشا الذي كان يمثل الأعيان كذلك؛ لأنه منهم.
وما الثورة العرابية في معناها الصحيح إلا التقاء الوطنيين والعسكريين على غرض موحد، هو إزالة ما كانت تشكو منه البلاد من أسباب الفساد، ولسوف يغدو عرابي زعيم المدنيين والعسكريين جميعًا.
سوء سياسة الخديو وحكومته
كانت الشهور التي أعقبت حادث قصر النيل مليئة بكل ما من شأنه أن يخيف العسكريين والوطنيين، ولقد كانت سياسة توفيق من أهم العوامل في تطور الحوادث على النحو الذي سوف نراه، وهكذا تشاء الظروف النكدة أن يكون رجل كتوفيق هو الذي يدير دفة الأمور في ذلك الجو العاصف.
أجاب البارودي الضباط إلى كثير من مطالبهم المتعلقة بإصلاح الجيش فهدأت نفوسهم نوعًا ما، ولكن الشائعات أخذت تحيط بهم عن نيات الخديو ورياض.
ومن ذلك ما نما إليهم من أن رياض يدبر مشاجرة بين الجند يندس فيها من يقتل عرابيًّا أو من يحضر من زميليه؛ ومنه ما علمه من تحريض بعض أعوان الخديو في الجيش على كتابة عرائض ضد عرابي وأنصاره، وما سمعوه من أن هؤلاء الأعوان يغرون بالمال والمناصب بعض رجال الألايات؛ ليكونوا في الوقت الموعود إلى جانب الخديو.
واتهم تسعة عشر ضابطًا أحد رؤسائهم بأمور أثبت التحقيق بطلانها، فأبعدتهم الوزارة عن مناصبهم، فبادر الخديو بإعادتهم متحديًا بذلك البارودي.
وترامى إلى عرابي وإخوانه أن الخديو يريد تشتيتهم ليقضي عليهم متفرقين، كما علموا أن الخديو يمرن حرسه على الرماية، وأنه يشهد ذلك بنفسه وينثر الذهب على المتفوقين. وأرادت الحكومة أن تسخر الجند في حفر الترع لإبعادهم فرفض عرابي وأيده البارودي في رفضه.
وحدث أن دهمت عربة لأجنبي في الإسكندرية أحد الجنود فقتلته، واستشاط تسعة من الجند غضبًا وأملت عليهم سذاجتهم أن يحملوا القتيل إلى سراي رأس التين؛ ليشكوا إلى الخديو وقد اقتحموا الباب راجين أن يتدخل الخديو بنفسه لمعاقبة هذا الأوروبي. وكان ما عوقب به هؤلاء الجند على اقتحامهم السراي بالغ الصرامة؛ فقد عوقب الجندي الذي حرضهم بالأشغال الشاقة المؤبدة وعوقب الباقون بالسجن ثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة بليمان الخرطوم.
لما ذاع النبأ في الجيش اشتد استياء الضباط والجند من فداحة الحكم، وكتب عبد العال حلمي إلى البارودي يقارن بين ما عومل به هؤلاء السذج وبين ما عومل به الضباط التسعة عشر، وأقره البارودي على رأيه فغضب الخديو غضبًا شديدًا.
ثم إن الخديو صرح أمام الوزراء أن البارودي هو سبب ما في الجيش من فوضى، فاستقال البارودي وعين الخديو مكانه صهره داود يكن.
واتبع داود منتهى الصرامة في معاملة رجال الجيش، فحظر عليهم الاجتماع بالمنازل أو التحدث في السياسة، ولكن أمراء الآلايات ردوا إليه هذه الأوامر قائلين: إنها مخالفة للقوانين العسكرية ومهينة للشرف العسكري.
أما عن الوطنيين، فقد شدد حكمدار القاهرة عليهم الخناق بأمر رياض وأحاط منازلهم بالجواسيس.
يوم عابدين ووثبة عرابي على الطغيان
أيقن الوطنيون أنه لم يعد بد من عمل حاسم يحملون به الخديو ورياضًا على قبول الدستور، فإن الحكم المطلق هو العقبة الكؤود في سبيل أي إصلاح، وهو الذي يهيئ للأجانب التدخل في شؤون البلاد، وهو الذي يحول دون حل المشكلة المالية حلًّا في مصلحة الشعب.
واجتمع عرابي برؤساء الحزب الوطني، وكان قد تجمع لديهم عرائض من الشعب يطالب الشعب فيها بعزل وزارة رياض ودعوة مجلس نواب على أساس دستوري، واتفق الزعماء على أن يقوم الجيش بمظاهرة سلمية تأييدًا لمطالب الأمة، وحدد لهذه المظاهرة الوطنية الكبرى اليوم التاسع من سبتمبر سنة ١٨٨١.
وإن هذا اليوم المشهود ليعد حتى ذلك الوقت أعظم يوم في تاريخ القومية المصرية، ذلك التاريخ الذي بدأ حين سار السيد عمر مكرم والشيخ عبد الله الشرقاوي في شهر مايو سنة ١٨٠٥ على رأس جمهور من المصريين، فألبسوا محمد علي شارة الحكم بإرادة الشعب المصري دون رجوع إلى السلطان.
وأخلق بهذا اليوم أن يكون له في نفوس المصريين مثل ما لليوم الرابع عشر من شهر يوليه في نفوس الفرنسيين، فإنه بدء حياتهم أمة لها كرامة.
أخذ عرابي للأمر عدته، فكتب إلى وزير الحربية ينبئه بأن آلايات الجيش ستحضر إلى ساحة عابدين في الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الجمعة ٩ سبتمبر؛ «لعرض طلبات عادلة تتعلق بإصلاح البلاد وضمان مستقبلها».
وأرسل عرابي إلى قناصل الدول ينبئهم ألا خوف على الأجانب، فإنها مظاهرة سلمية.
ذعر الخديو ووزراؤه واجتمعوا ليتشاوروا في الأمر، وأوفد الخديو ياوره طه باشا لطفي إلى عرابي ليقنعه بالعدول عن المظاهرة، فرد عرابي بقوله: إنها «مظاهرة عادلة لا بد منها لضمانة حرية الأمة وسعادتها». وفي هذا الذي صنعه الخديو ومن معه، أبلغ دليل على ما وصلوا إليه من ضعف وقلة حيلة.
واستدعى الخديو إلى قصره بالإسماعيلية السير وكلند كلڨن المراقب المالي الإنجليزي فاستشاره ماذا يفعل. قال كلڨن يشير إلى ذلك: «فنصحت إليه أن يقاوم فقد أخبرني رياض باشا أن في القاهرة فرقتين مواليتين؛ لذلك أشرت على الخديو أن يدعوهما إلى عابدين مع ما يمكن الاعتماد عليه من الحرس الحربي، فإذا ما وصل عرابي قبض عليه بشخصه، فأجابني أن لدى عرابي بك المدفعية والفرسان وربما أطلقوا النار. فأجبت بأنهم لن يجرؤوا على ذلك، ومتى توفرت له الشجاعة وعرض نفسه شخصيًّا فسيقضي على المتمردين وإلا فهو هالك».
ويتضح من كلام هذا الإنجليزي أنه كان يريد أن يتفاقم الأمر، وتحدث الفتنة التي تسهل لدولته التهام مصر.
توجه الخديو إلى قصر عابدين قبل حضور الفرق بزمن طويل وكان معه كلڨن ورياض، فاستدعى علي بك فهمي رئيس الحرس، وأشار عليه بالدخول إلى القصر بفرقته والتحصن بالنوافذ العليا. وقد نصح للجند بقوله: «أنتم أولادي وحرسي الخاص، فلا تتبعوا التعصب الذميم ولا تقتدوا بأعمال الألايات الأخرى»؛ ودخل الجند القصر وأخذوا يتأهبون.
وطاف الخديو بنفسه على الألايات الأخرى في القلعة والعباسية يحاول منعها عن الحضور، فرفضت الفرق طاعته، ولقد ثارت فرقة القلعة في وجهه حينما أمسك بتلابيب قائدها فودة حسن، ووضع العساكر الأسنة في بنادقهم وتجمهروا حول الخديو حتى أطلق القائد.
وفي عصر ذلك اليوم المشهود تحرك الجيش المصري نحو عابدين، فخطت الثورة الوليدة أجرأ خطواتها وأبعدها أثرًا في تطورات الحوادث فيما بعد.
واحتشد في عابدين نحو أربعة آلاف جدي معهم مدفعيتهم وضباطهم. وأرسل عرابي يستدعي علي بك فهمي من داخل القصر، فعاتبه، فرد علي فهمي بقوله: «إن السياسة خداع»، ثم انضم بفرقته إلى الجيش، فأصبح القصر خاليًا من كل عناصر المقاومة.
وتجمع وراء صفوف الجيش آلاف من أهل القاهرة، واشرأبت أعناق الشعب الذي طالما صبر على المذلة، وتطلع من فوق أكتاف الجند، ومن خلال صفوف الفرسان لينظر ماذا يكون في هذا الموقف الرهيب، واسم عرابي على الألسن وهو على ظهر جواده يتأهب لمقدم الخديو ليسمعه كلمة مصر، كلمة الشعب الذي اختار جده بإرادته بالأمس واليًا على البلاد. وما أعظم أن ينطق بهذه الكلمة اليوم فلاح من أعماق القرى، فيتحدى بها الخديو الذي كان يظن ألا رأي إلا رأيه.
وخرج الخديو إلى الميدان ووراؤه ستون باشا رئيس أركان حرب الجيش المصري ومستر كوكسن القنصل الإنجليزي بالإسكندرية، وبعض الضباط من الأوروبيين والوطنيين.
وتقدم الخديو نحو الجند، فأشار عليه كلڨن أن يأمر عرابي بتسليم سيفه متى دنا منه، وأن يأمره بالانصراف، ثم يطوف بعد ذلك على الفرق فيأمرها بمثل هذا الأمر.
وتقدم عرابي على ظهر جواده حتى إذا اقترب من الخديو صاح به الخديو قائلًا: «انزل» فوثب عرابي من فوق جواده ومشى نحو الخديو ومن حوله نحو خمسين ضابطًا، فأدى التحية العسكرية. وأشار الخديو إشارة ذات معنى إلى سيفه فأسرع عرابي بإغماده.
الموقف بالغ الرهبة، فهذا حاكم مصر المطلق يتمثل فيه الجاه الموروث وأبهة السلطان، ومن ورائه الطامعون من الأجانب، وهذا زعيم الشعب تتمثل فيه الحرية الوليدة والنهضة الجديدة، ومن ورائه الطامحون من أهل مصر جميعًا.
وهمس كلفن في أذن الخديو: «هذه هي ساعتك» فأجاب الخديو: «نحن بين أربع نيران» فقال كلڨن: «كن شجاعًا»، فتهامس الخديو وأحد الضباط الوطنيين ثم التفت إلى كلڨن قائلًا: «ماذا عسى أن أفعل؟ نحن بين أربع نيران … إنهم يقتلوننا».
ويحسن أن نورد ما حدث بعد ذلك على لسان عرابي، وهو لا يخرج عما ذكره المؤرخون قال: «ثم صاح بمن خلفي من الضباط أن أغمدوا سيوفكم وعودوا إلى مكانكم. فلم يفعلوا وظلوا وقوفًا خلفي ودم الوطنية يغلي في مراجل قلوبهم، والغضب ملء جوارحهم، ولما وقفت بين يديه مشيرًا بالسلام خاطبني بقوله: «ما أسباب حضورك بالجيش إلى هنا؟» فأجبته بقولي: «جئنا يا مولاي لنعرض عليك طلبات الجيش والأمة وكلها طلبات عادلة»، فقال: «وما هي هذه الطلبات؟» فقلت: «إسقاط الوزارة المستبدة وتشكيل مجلس نواب على النسق الأوروبي، وإبلاغ الجيش إلى العدد المعين في الفرمانات السلطانية، والتصديق على القوانين العسكرية التي أمرتم بوضعها»، فقال: «كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا خديو البلد أعمل زي ما أنا عاوز وقد ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا»، فقلت: «لقد خلقنا الله أحرارًا ولم يخلقنا تراثًا وعقارًا، فوالله الذي لا إله إلا هو إننا سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم».
تلفت الخديو بعد ذلك إلى كلڨن قائلًا: «أسمعت ما يقول؟» فأشار عليه هذا بالعودة إلى القصر، إذ لا يجمل أن يزيد الأمر بينه وبين عرابي عن هذا الحد. فانصرف الخديو إلى القصر، وكان به الوزراء وقناصل الدول وبقي الجيش في مكانه لا يتزحزح.
وأقبل كوكسن ومعه ترجمان فأخذ يناقش عرابيًّا في غلظة ليثير الفتنة، ومما وجهه إلى عرابي قوله: إنه لا حق له في أن يطالب بالمجلس النيابي وإسقاط الوزارة فذلك من شأن الخديو، أما عن الجيش فمالية البلاد لا تساعد على ذلك. ورد عرابي بقوله: إن الأمة أنابت الجيش عنها، ثم أشار إلى الجموع المتراصة خلف الجند، وقال: «هذه هي الأمة وما الجيش إلا جزء منها».
ثم إنه ظل يخوف عرابيًّا من الالتجاء إلى القوة؛ وأخيرًا سأله سؤالًا خبيثًا: «وماذا فعل إذا لم تجب إلى طلبك؟»، وكان عظيمًا حقًّا من عرابي أن يضبط نفسه في هذا الموقف، فقال ردًّا على ذلك: «أقول كلمة أخرى»، فقال ذلك الإنجليزي: «وما هي؟» فأجاب عرابي: «لا أقولها إلا عند اليأس والقنوط».
وأخذ كوكسن يغدو ويروح بين عرابي والخديو حتى جاءه آخر الأمر ينبئه قبول الخديوي إسقاط الوزراة، وأن سموه سينظر في بقية المطالب فلا بد في بعضها من مشاورة السلطان، وعرض الخديو على الجيش اسم حيدر باشا لرياسة الوزارة ولكنهم رفضوه. وجرى على الألسنة اسم شريف بطل الدستور، فعاد كوكسن بعد حين يعلن إلى عرابي قبول الخديو إسناد الوزارة إلى شريف، فقابل الجيش ذلك بالهتاف بحياة الخديو. وطلب الضباط مقابلة الخديو فأذن لهم ثم قال لهم: «إنه وافق على تلك الطلبات بنية صافية»، وشكره عرابي باسم الأمة؛ وعاد الجنود إلى معسكراتهم …
هذا هو يوم عابدين المشهود. تم فيه للجيش ما أراد فجعل كلمة الأمة هي العليا في غير عنف يشوه حركته أو ينقص من جلالها، ولقد كان القصر أمام الجيش خاليًا من أية قوة، فروعيت حرمته أحسن حرمة، وروعي كذلك مقام الخديو، فلم يخرج أمامه هذا الجندي الثائر عن طوره، بل لقد تمالك نفسه فترجل وأدى التحية وأغمد سيفه، ثم شكر الخديو باسم الأمة حين أجابها إلى ما طلبت على لسانه. وقد فوت عرابي بهذا الموقف العظيم على الدساسين كيدهم وأحبط مؤامراتهم، وهذا مما يدعو إلى الإعجاب والإكبار حقًّا، فلقد كانت أية كلمة نابية أو أية إشارة يساء فهمها كفيلة بأن تسيل الدماء في تلك الساحة؛ قال عرابي فيما كتبه من مذكراته فيما بعد: «لو حاول الخديو قتلي لأطلقت عليه النار».
نجحت الثورة نجاحًا يدعو إلى الفخر، وتهيأت البلاد لأن تستقبل عهدًا يسود فيه الإصلاح والنظام والحرية؛ ولذلك فهذه الثورة جديرة بأن توضع إلى جانب الثورات التي قصد بها الحرية في تاريخ الإنسانية كثورة سنة ١٦٨٨ في إنجلترة وثورة استقلال أمريكا، والثورة الفرنسية الكبرى. وحسبها أنها قضت على الحكم المطلق وقررت مبدأ سيادة الشعب. وصف بلنت الأيام التي أعقبت هذه الثورة بقوله: «إن ثلاثة الشهور التي أعقبت هذا الحادث لهي من الوجهة السياسية أسعد الأيام التي شهدتها مصر، ولقد ساعدني الحظ بمشاهدة ما جرى فيها بعيني رأسي. إني لم أر في حياتي ما يشبه هذه الحوادث. إن كل الأحزاب الوطنية وكل أهالي القاهرة قد اتفقت كلمتهم فترة من الزمن على تحقيق هذه الغاية الوطنية الكبرى لا فرق في ذلك كما يظهر بين الخديو والأمة، وسرت في مصر رنة فرح لم يسمع بمثلها على ضفاف النيل منذ قرون؛ فكان الناس في شوارع القاهرة حتى الغرباء منهم يستوقف بعضهم البعض يتعانقون، وهم جذلون مستبشرون بعهد الحرية العظيم الذي طلع عليهم على حين غفلة طلوع الفجر إثر ليلة حالكة الظلام».
صفاء لم يدم
قدر على مصر مع الأسف ألا تنعم طويلًا بهذا الصفاء، وكيف كان يرجى ذلك وفي الأفق من أول الأمر بوادر الكدرة؟ فهذا الخديو يبيت الغدر فيدفع البلاد بالتوائه وغدره إلى العنف؛ وهؤلاء الأجانب يتربصون بمصر الدوائر، وقد غاظهم نجاح الحركة الوطنية على هذا النحو.
وزارة شريف
ألف شريف وزارته بعد أن تردَّد كثيرًا، وكانت حجته أنه بقبول الوزارة يضع نفسه تحت سلطة العسكريين؛ ولذلك دارت بينه وبين عرابي وزملائه مفاوضات استمرت أيام تحرجت الأمور فيها، حتى أوشك أن يتنحى شريف عن تأليف الوزارة.
واشترط شريف ألا يتدخل الجند في شيء، وأن يرحل عرابي وعبد العال بفرقتيهما إلى مكان يختار لهما وأن يترك حرًّا في اختيار وزرائه، وقبل عرابي ما اشترط شريف، فحلت الأزمة وقد كان ذلك بوساطة فريق من الزعماء.
وأصدرت الوزارة الوطنية في سبتمبر سنة ١٨٨١ القوانين العسكرية التي اقترحتها لجنة إصلاح الجيش في عهد البارودي، فارتاح لذلك رجال الجيش، وفي أكتوبر استصدر شريف أمرًا من الخديو بانتخاب أعضاء مجلس شورى النواب، على أن يجتمع المجلس في ٢٣ ديسمبر من نفس العام.
وتقرر أن يسافر عرابي وآلايه إلى رأس الوادي بمديرية الشرقية، وأن يسافر عبد العال حلمي وآلايه السوداني إلى دمياط.
وخرج عرابي وآلايه في اليوم الثامن من أكتوبر سنة ١٨٨١، فما كاد يتوسط القاهرة حتى ألفى الشوارع مكتظة بالناس، وإنهم ليهتفون باسمه في حماسة عظيمة ويحيونه تحية الزعيم المنقذ، ونثر الناس في طريقه الزهور والرياحين.
وفي المحطة وجد عرابي جميع ضباط الجيش المصري، وجمهورًا عظيمًا من العلماء والأعيان، وذوي المكانة، وعددًا هائلًا من الناس، وكانت توزع الحلوى وتنثر الزهور في طريقه. وخطب عبد الله نديم الذي سوف يغدو خطيب الثورة، ثم أنصت الجمع إلى عرابي فألقى خطابًا خطيرًا جاء فيه قوله: «سادتي وإخواني: بكم ولكم قمنا وطلبنا حرية البلاد ولا ننثني عن عزمنا حتى تحيا البلاد وأهلها، وما قصدنا بشعبنا إفسادًا ولا تدميرًا، ولكن لما رأينا أننا بتنا في إذلال واستعباد ولا يتمتع في بلادنا إلا الغرباء، حركتنا الغيرة الوطنية والحمية العربية إلى حفظ البلاد وتحريرها والمطالبة بحقوق الأمة»، وقال عن الظفر بالحقوق: «ونحن اكتسبناها في ساعة واحدة من غير أن نريق قطرة دم، أو نخيف قلبًا، أو نضيع حقًّا أو نخدش شرفًا وما وصلنا إلى هذه الدرجة القصوى إلا بالاتحاد والتضافر على حفظ شرف البلاد»، ومن أهم ما جاء في خطابه قوله: «البلاد محتاجة إلينا وأمامنا عقبات يجب أن نتخطاها بالحزم والثبات، وإلا ضاعت مبادئنا، ووقعنا في شرك الاستبداد بعد التخلص منه»، وقوله: «وقد فتحنا باب الحرية في الشرق ليقتدي بنا من يطلبها من إخواننا الشرقيين».
واستقبل عرابي بحفاوة كبيرة في المحطات التي وقف بها القطار. وكان ممَّا قاله عرابي في الزقازيق: «أنا أخوكم في الوطنية اسمي أحمد عرابي من بلدة هرية رزنة من بلاد الشرقية هذه»، ومما جاء في خطابه هذا قوله: «لا تعولوا على الأراجيف وإشاعات أهل الفساد، واعلموا أن البلاد محتاجة إلى الخدمة بالقوة والفكر والعمل»، وقال في خطبة أخرى بالزقازيق: «لقد أنقذناكم من يد من لم يعرفوا لكم حرمة ولا يعترفون بحق، ولا يرون أنكم مثلهم من بني الإنسان … وأنتم الآن مهيئون للانتخاب فلا تميلكم الأهواء والأغراض لانتخاب ذوي الغايات، بل عولوا على الأذكياء والنبهاء الذين يعرفون حقوقهم، ويدفعون المظالم عنكم ويفتحون باب العدل والإنصاف في بلادنا».
وأولمت لعرابي ولائم كثيرة في دور وجهاء مديرية الشرقية، واحتفى به الفلاحون حفاوة عظيمة أينما حلَّ، وليس بخفي ما ينطوي عليه من معانٍ تكريمُ هذا المصري الفلاح الذي نشأ في بيت متواضع، على أيدي هؤلاء السادة والكبراء، ففي ذلك أول مظاهر الديموقراطية في هذا الوادي الذي خضع قبل ذلك زمنًا طويلًا لمظاهر السيادة والأرستوقراطية.
وافتتح مجلس شورى النواب في ٢٦ ديسمبر سنة ١٨٨١، وجاء في خطاب الخديو ما يشبه الاعتذار عن تأخر افتتاحه حتى ذلك اليوم، وأوصى بمراعاة قرار لجنة تصفية الديون كما أوصى بالاعتدال والتأني، وقد وسع شريف سلطة المجلس، وقرر مبدأ مسئولية الوزارة أمامه إلى حد ما.
ولكن الخلاف ما لبث أن دب بين شريف والمجلس، فكان يرى النواب أن من حقهم مناقشة الميزانية والموافقة عليها، ما دام لهم حق الرقابة على الإدارة العامة للبلاد؛ ورأى شريف أن ذلك يعرض المراقبة الثنائية وقانون التصفية، وكل ما يتصل بالديون لتدخل النواب، وكان شريف قد اتفق مع ممثلي الحكومتين الإنجليزية والفرنسية أن لا يكون ذلك من سلطة النواب، مخافة أن يؤدي ذلك إلى تدخل الدولتين؛ ولكن النواب أصروا على رأيهم، فنشأت بذلك أزمة حادة بين الوزارة والمجلس عرفت باسم أزمة الميزانية.
سنحت الفرصة لتدخل الدولتين، وكانتا تتربصان السوء بالبلاد كما أسلفنا فتقدمتا بما عرف بالمذكرة المشتركة في ٨ يناير سنة ١٨٨٢، ومما جاء فيها: «إن الحكومتين متفقتان كل الاتفاق على ضرورة منع أسباب الارتباك، سواء كانت هذه الأسباب داخلية أم خارجية، ويكون من شأنها تهديد النظام القائم في مصر، وذلك بتوحيد جهودهما، ولا يخالجهما شك في أن إعلان هذا التصريح الرسمي سيمنع حدوث ما عسى أن يطرأ من الأخطار التي تتعرض لها حكومة الخديو، والحكومتان مقتنعتان بأن الخديو سيجد من هذا التصريح الثقة والقوة اللتين يحتاج إليهما في إدارة شؤون مصر وأهلها».
ولقد عظم سخط المصريين جميعًا حين علموا أن الخديو قد قبل هذه المذكرة، ولم يكتف بهذا القبول المشين. فكتب إلى القنصلين يشكر حكومتيهما على ما تبديان من عطف نحوه؛ وفي هذا دليل صريح على أن الخديو آثر الانحياز إلى الدولتين، ونسي موضعه من السلطان ولم يعد يعبأ بالرأي العام في مصر.
وظلت الأزمة قائمة بين شريف والنواب بالرغم من أن النواب ارتضوا أن يبعدوا من اختصاصهم كل ما هو متصل بالديون والجزية. فذهب وفد منهم يطلبون من الخديو إسقاط شريف. وقد أجمع على ذلك المدنيون وزعماء الجيش، فقدم شريف استقالته، ثم أسندت الوزارة إلى محمود سامي البارودي، وقد اختير عرابي فيها وزيرًا للجهادية.
وزارة البارودي أو وزارة الثورة
واجه البارودي أزمة الميزانية في شجاعة فلم يشايع المتطرفين، ولم يخف من الخديو أو مما تنطوي عليه المذكرة المشتركة من تهديد. فأقر حق المجلس في مناقشة ما يتبقى من الميزانية بعد استبعاد الجزية المقررة للسلطان، وما يتصل بالدين وبالتزامات الحكومة نحو الأجانب؛ كما أقر مسئولية الوزارة أمام المجلس على أساس دستوري صحيح، وضمن ذلك كله لائحة وافق عليها المجلس في ٨ فبراير سنة ١٨٨٢.
وقد فرح النواب وفرح الناس جميعًا من مدنيين وعسكريين لصدور اللائحة أو الدستور، وأخذت مصر تستقبل عهدًا دستوريًّا كان بعد بداية طيبة جدًّا للديموقراطية في مصر والشرق كله، لولا دسائس الدولتين.
ويتجلى فرح مصر في الحفلات العديدة التي أقيمت غداة صدور الدستور في القاهرة وغيرها من البلاد، مما يدل على أن البلاد كانت تنهض فيها حركة قومية حرة، لو أنها حدثت في بلد غير مصر لم يرزأ بالاحتلال، لكان لها في سجل الحركات القومية العالمية مكان عظيم.
وبقدر ما فرح الوطنيون كان استياء الأجانب، الذين أخذوا يشيعون المفتريات عن الوزارة، ويصفونها بالتطرف والتعصب والغفلة، واشتدت لهجة الصحف الإنجليزية والفرنسية في توجيه المطاعن إليها، وذلك على الرغم مما ظهر من اعتدالها في مسألة الميزانية.
وظل الإنجليز ينتظرون أن تسنح لهم فرصة أخرى للتدخل، حتى وقع حادث المؤامرة الشركسية المشؤوم فاستغله الإنجليز أقبح استغلال وأرذله، على بعد ما بينه وبين السياسة العامة للبلاد.
أراد بعض الشراكسة أن يقتلوا عرابيًّا وأصحابه، وقد نمى ذلك إلى علم عرابي من طلبة باشا عصمت قائد اللواء الأول، وهذا علمه من أحد المتآمرين وهو راشد أنور أفندي، الذي خالف إخوانه فسارع إلى إفشاء سرهم.
وفي اليوم الثاني عشر من أبريل سنة ١٨٨٢ قبض على تسعة عشر ضابطًا، وسيقوا إلى مجلس عسكري ألف لمحاكمتهم بعد موافقة الخديو، وقد جعلت رياسة المجلس لضابط شركسي هو الفريق راشد باشا حسني؛ وبعد عشرة أيام بلغ عدد المقبوض عليهم ثمانية وأربعين منهم عثمان باشا رفقي، وقد اعترف بعض الضباط بالمؤامرة وعزوها إلى راتب باشا أحد أعوان إسماعيل.
وقضى المجلس العسكري بإدانة أربعين رجلًا كان بينهم عثمان رفقي، فحكم بتجريدهم جميعًا من ألقابهم ونفيهم إلى السودان … وعوقب بهذا العقاب اثنان من المدنيين وأحيل خمسة على المحاكم الأهلية؛ وعوقب راتب باشا بالحرمان من العودة إلى مصر فإذا عاد نفي من فوره … وذكر المجلس أن الخديو إسماعيل هو الذي دبر المؤامرة، واقترح أن ينظر مجلس الوزراء في مرتباته.
ثارت ثائرة الإنجليز والفرنسيين على هذا الحكم، وراحوا يصفون الحكومة بالتعصب الأعمى والفوضى والظلم، ثم اتخذوا منه فرصة ليوقعوا بين الخديو والوزارة.
أشار السير إدوارد مالت قنصل إنجلترة في مصر على الخديو برفض هذا الحكم. وحار توفيق واشتدت حيرته، ورأى الأمر جد خطير، فهو بالرفض يتحدى الوزراء والرأي العام في غير حق، وفي موقف كهذا تحيط فيه الدسائس بالوزارة الوطنية. ووقف الخديو موقفًا مبهمًا أول الأمر، ولكنه ما لبث أن أخذ برأي مالت، فخطا بذلك خطوة أخرى من خطواته التي كانت تعجل سير الحوادث نحو الغاية التي رسمها الإنجليز وهي الاستيلاء على مصر.
ولعلنا نذكر من مواقف توفيق السالفة ما كان يدفع به الحوادث في طريق العنف والثورة دفعًا. فهو الذي أدى إلى انضمام المدنيين والعسكريين يوم تنكر للدستور وأخرج شريفًا من الوزارة، وهو الذي تقع على عاتقه مسئولية مظاهرة عابدين؛ ثم هو الذي قبل المذكرة المشتركة فأحرج شريفًا مرة ثانية وصدم الوطنيين صدمة عنيفة؛ وها هو ذا ينحاز إلى جانب القنصل الإنجليزي في أمر لا دخل للإنجليز فيه قط. والحق أن الخديو يتحين الفرص للقضاء على الحركة الوطنية منذ حادث قصر النيل، ولقد أصبح في الواقع تحت حماية الدولتين، وبخاصة إنجلترة منذ يوم عابدين.
واتخذت الأزمة بين الوزارة والخديو مظهرًا خطيرًا كل الخطر، فهي في الواقع صراع بين الحكم المطلق وبين مشيئة الأمة؛ ثم إن الخديو رأى بإيحاء مالت أن يرجع إلى السلطان، فغضب الوزراء؛ لأن معنى ذلك ضياع استقلال مصر.
ثم أرادت الوزارة أن تحبط كيد الأجانب، فتقدمت إلى الخديو تقترح عليه أن يخفف الحكم من تلقاء نفسه، والوزارة ترضى أن ينفى المحكوم عليهم إلى أي جهة من الجهات دون أن تمس رتبهم أو ألقابهم وإنما تستبعد أسماؤهم من سجلات الجيش، ولكن توفيقًا لم يرض حتى بهذا وكان وراءه مالت يوحي إليه؛ فوقع على أوراق الحكم بنفي المتآمرين إلى خارج البلاد مع عدم استبعاد أسمائهم من سجلات الجيش، ومعنى ذلك أنه نفي مؤقت.
وتلقت الوزارة اللطمة وآلم عرابيًّا وضباط الجيش هذا الترفق بالمتآمرين، وقارنوا بين ذلك وبين غضب الحكومة والخديو على الضباط الثلاثة، لمجرد أنهم تقدموا بعريضة يشكون فيها من جور رفقي.
وأعلن البارودي أنه لا بد من قرار آخر يلغي هذا القرار؛ ووسوس مالت إلى الخديو ألا يفعل ذلك؛ ونجح مالت وكتب إلى وزارة الخارجية البريطانية في ١٨ مايو سنة ١٨٨٢ يقول: «لقد انقطعت الصلة بين الخديو ووزرائه، ووصل الموقف إلى أقصى الخطورة».
وتقدمت الوزارة لترد على الخديو والذين يوحون إليه، فدعت مجلس النواب من عطلته دون إذن من الخديو، فازدادت الأمور حرجًا على حرج، إذ رأى أعداء البلاد أن هذا العمل لا يقل في مغزاه عن خلع الخديو.
وسئل رئيس الوزراء عن وجهة نظره، فكان جوابه أن الخلاف قد استحكم بين الوزارة والخديو، بحيث لا يمكن الاتفاق بينه وبينهم، «وإن شكوانا من سموه هي أنه سلك مسلكًا يقضي على استقلال مصر، وكثيرًا ما فعل ذلك دون مشاورة وزرائه».
ولقد ضاق الخديو بالحركة الوطنية حتى ما يهمه استقلال البلاد. وصار يسمي هذه الحركة حكم الفوضى؛ ولن نجد دليلًا على ذلك أبلغ مما ذكره كرومر في كتابه مصر الحديثة، حيث يقول عن الخديو: «إنه بين للسير إدوارد مالت في يوم ٦ مايو أنه يفضل أن تفقد مصر بعض امتيازاتها على يد الباب العالي، وتعود إليها السلطة المنظمة على أن تبقى في مثل تلك الفوضى».
وكانت الوزارة قوية بادئ الأمر؛ لأنها كانت مغترة بإجماع النواب على تأييدها، ولكنها نظرت في هذه الظروف الشديدة، فإذا برئيس المجلس سلطان باشا يدعو إلى الحكمة والروية، وقد أخذ ينحاز إلى جانب الخديو؛ ولقد ذهب سلطان في هذا إلى حد أن قال للسير إدوارد مالت: «لقد أسقط المجلس شريفًا تحت ضغط عرابي، وإن نفس الأعضاء الذين ألحوا في ذلك أكثر من غيرهم يتوقون اليوم إلى إسقاط الوزارة، وقد استبان لهم أنهم خدعوا».
وعلمت الوزارة أن بعض النواب قد انحازوا كذلك إلى الخديو؛ ولقد آثر النواب أن يجتمعوا في منزل رئيسهم سلطان باشا، ولم يجتمعوا في مجلسهم، فكان عملهم هذا نوعًا من التردد في مشايعة الوزارة.
إزاء ذلك قدم البارودي استقالته إلى الخديو؛ ولكن توفيقًا عجز عن إقامة وزارة في البلاد؛ ولقد صرح الوزراء على الرغم من استقالة رئيسهم، أنهم لا يستقيلون إلا إذا كان ذلك بأمر من مجلس النواب.
إلى هذا الحد تحرجت الأمور بسبب انحياز الخديو إلى الأجانب، وبخاصة السير إدوارد مالت. ولقد كان عرابي هو الذي أوحى إلى الوزراء أن يقفوا موقفهم هذا، وقد عز عليه أن يبعد الوزراء عن مناصبهم بمشيئة غير مشيئة الأمة. وكتبت الحكومات إلى ممثليها في مصر أن «يرسلوا إلى عرابي فيبلغوه أنه إذا أصاب النظام خلل، فسوف يجد أوروبا وتركيا كما يجد إنجلترة وفرنسا ضده، وأنهم يحملونه تبعة ذلك».
وتلقى عرابي هذا الكلام رابط الجأش، وإن كان ليفطن إلى خطورة الموقف. ولما لم يجد معه التهديد حلت الأزمة بأن أشار ممثلا إنجلترة وفرنسا على الخديو «بأن يطرح المسائل الشخصية جانبًا، وبما أن سموه لم يستطع أن يقيم وزارة جديدة، فإنهم يطلبون إليه أن يجدد علاقته بالوزارة القائمة».
وبقيت الوزارة قائمة وعدت عجز الخديو على هذا النحو عزاءً لها عن موقفه في حادث المؤامرة الشركسية.
إنذار نهائي
بينما كانت الوزارة تعمل في داخل البلاد على إشاعة الهدوء بعد نفي المحكوم عليهم من الشراكسة إلى سوريا، إذا بالدولتين عملًا باقتراح فرنسا ترسلان سفنًا فرنسية وإنجليزية إلى الإسكندرية، وقد وصلت هذه السفن في ١٩ مايو سنة ١٨٨٢، وكان مبعث سياسة فرنسا هذه أنها تخشى تدخل تركيا في مصر، فأرادت بذلك منع تدخلها.
ووافقت إنجلترة على الاقتراح ففي وجود السفن إرهاب كذلك للوزارة الوطنية وتأييد للخديو، وأحدثت هذه المظاهرة البحرية بعض تأثيرها الملطوب، فقد أخذ سلطان رئيس مجلس النواب يجاهر بتأييد الخديو، كما انضم إليه صراحة عدد من النواب.
واضطرب الوطنيون ممن يشايعون الوزارة، وقد أخذ توفيق يتنمر وقد واتته الفرصة بمجيء السفن، ليضرب الحركة الوطنية ضربة قاضية.
أما الوزارة فقد آثرت أن تخطو في هذا الموقف العصيب خطوة جديرة بالثناء. فتوجه الوزراء إلى الخديو وأعلنوا له عن رغبتهم في الوئام مقدمين مصلحة الوطن على كل اعتبار متناسين كل شيء في سبيل مصر وحمايتها مما تبيت الدولتان. وكان الوزراء يرجون أن يجعل توفيق مصلحة مصر فوق المسائل الشخصية، فإنهم لم يبالوا بما عسى أن يوصف به عملهم هذا من ضعف، في سبيل المصلحة، كالقائد الشجاع الذي يتراجع؛ لأنه يعتقد أن عمله هو الصواب.
وأوحى مالت إلى الخديو ألا يعتد بقول وزرائه، وما كان توفيق في حاجة إلى هذا الذي يوحي به مالت، وهو يريد أن يشفي ما بنفسه من غل.
وأخذت الوزارة في الوقت نفسه تتأهب لملاقاة ما يندر به الموقف من جسيمات الأمور، وصمم الوزراء ألا يقروا أي تدخل لإنجلترة وفرنسا في البلاد.
وتزايد انضمام الرأي العام إلى عرابي بقدر ما تزايد سخطه على توفيق والإنجليز، ومن انحاز إليهم من المستضعفين وذوي الأطماع.
وفي ٢٥ مايو سنة ١٨٨٢ تلقت الوزارة إنذارًا نهائيًّا من قنصلي الدولتين، مؤداه أن يخرج عرابي باشا من مصر مع احتفاظه بلقبه وراتبه، وأن يبعد كل من عبد العال حلمي وعلي فهمي إلى بلده مع احتفاظه كذلك بلقبه وراتبه، وأن تستقيل الوزارة من الحكم.
وقررت الوزارة في غير تردد رفض هذا الإنذار، وأبلغت الرفض إلى قنصلي الدولتين محتجة على تدخلها في شؤون البلاد.
ولم يمض يوم واحد على هذا الموقف الوطني من جانب الوزارة، حتى أعلن الخديو موافقته على الإنذار، فلم يجد البارودي بدًّا من الاستقالة، وقد ذكر في كتاب استقالته أن قبول الخديو الإنذار فيه مساس بحقوق السلطان.
ولم يتردد الخديو في قبول استقالة الوزارة مهما تكن النتائج؛ فهو لم يعد يهمه إلا استعادة سلطته المطلقة، ولو أدى ذلك إلى ضياع البلاد.
الخديو يعجز عن إقامة وزارة
أبرق مالت إلى دولته في اليوم التالي لسقوط الوزارة يقول: «رأى الوزراء أنهم إذا رفضوا الشروط التي قبلها توفيق، فإنهم بذلك يبيتون في ثورة مكشوفة بدلًا من ثورتهم المستترة، وهذا موقف أشفقوا منه، وعلى ذلك فإن سقوط الوزارة يرجع إلى المسلك الحاسم الذي سلكه سموه».
على أنه ما لبث أن أرسل برقية أخرى جاء فيها: «يحاول الخديو للآن إقامة وزارة ولو أن أمله ضعيف في أن يوفق إلى وزارة ذات كفاية، إن كان ثمة من أمل في إمكان قيام وزارة ما».
وظل الخديو يومين في حيرة، وزاد الموقف خطورة أن ورد على الخديو برقية من كبار رجلال الجيش والشرطة يقولون فيها: إنه إذا لم يعد عرابي إلى منصبه في اثنتي عشرة ساعة، فهم غير مسئولين عما تقضي إليه الحوادث.
وعقدت عدة اجتماعات في منزل سلطان والبارودي وعرابي، شهدها النواب والأعيان والعلماء والتجار وممثلو الأديان؛ وذهب وفد من هؤلاء إلى الخديو فما زالوا يتوسلون إلى توفيق حتى رضي بعد إلحاح شديد بإعادة عرابي وزيرًا للحربية، وقبل عرابي أن يضمن الأمن والنظام أمام قناصل الدول.
وفي هذه الأثناء كان لا يفتأ مالت يبرق إلى حكومته يصف لها ما يزعمه من سوء الحالة في البلاد، وخوفه من تعرض الأجانب للخطر، ويستحثها على التدخل السريع.
مندوب من قبل السلطان
في اليوم السابع من يونيو سنة ١٨٨٢، وصل إلى مصر وفد من قبل السلطان عبد الحميد برياسة المشير مصطفى درويش باشا، ومن أهم أعضائه أحمد أسعد أحد ذوي المكانة والحظوة عند السلطان وقد جاء رقيبًا على درويش.
وقوبل الوفد في الإسكندرية والقاهرة بمظاهرات عظيمة، كانت تهتف بسقوط الإنذار النهائي وكان يسميه الناس يومئذ اللائحة، وكان الهتاف الشعبي أن يقول أحد الناس: «اللايحة اللايحة» … فيرد الجميع قائلين: «مرفوضة مرفوضة»، وعظمت الهتافات لعرابي وللدستور، حتى لقد عجب درويش ووفده من هذه الروح الطيبة وشيوعها في جميع طبقات الشعب.
ويظهر أن درويشًا كان مزودًا بتعليمات: أن يظهر العطف على الخديو من جهة، وأن يشجع عرابيًّا من جهة أخرى نكاية من السلطان في إنجلترة وفرنسا وتوفيق؛ ثم لكي يستعيد سلطانه في مصر بأن يجعل الجانبين يلجآن إليه.
وقد أخذ درويش يستقصي أسباب الخلاف بين عرابي والخديو، ويسأل عن مسلك الجيش، ولم يقبل عرابي أن يصحبه إلى الآستانة حين عرض عليه ذلك، كما أنه لم يقبل أن يتنازل له عما أخذه على عاتقه من حماية الأمن، إلا إذا حصل منه على كتاب رسمي يخليه فيه من كل تبعة.
وطلب درويش من السلطان نحو مئتي وسام للضباط وللمدنيين. فأجابه السلطان إلى طلبه وأنعم على عرابي بالوسام المجيدي الأكبر. وقد ضايق توفيقًا هذا الإنعام فهو تأنيب عملي له على … بالدولتين؛ كما أن فيه معنى الرضاء عن عرابي؛ لأنه يقف في وجه الدولتين المتدخلتين في شؤون مصر. وأبرق عرابي يشكر السلطان. فجاءته برقية من السلطان تتضمن رضاءه عنه، وثناءه على حسن سلوكه وإخلاصه لواجبه.
توفيق يتآمر ضد البلاد — حادث ١١ يونيو بالإسكندرية
حدثت في يوم ١١ يونيو سنة ١٨٨٢ مشاجرة بين أحد الوطنيين، واسمه السيد العجان وبين مالطي استأجر حمار هذا الوطني، فقد طعن المالطي صاحب الحمار بسكين عدة طعنات فقتله؛ وذلك لأنهما تخاصما على الأجر.
وخف رفاق القتيل ليمسكوا بالقاتل ولكنه هرب إلى بيت قريب، وسرعان ما رأى الوطنيون الذين تجمعوا الرصاص يتهاوى عليهم من بعض النوافذ والأبواب القريبة، فسقط بعضهم صرعى وجرحى، وعظم الهياج وتنادى الوطنيون للانتقام فأخذوا ما اتفق لهم من العصي والحجارة والخناجر، وانهالوا على كل من صادفهم من الأوروبيين ضربًا، لا يبالون أين يقع؛ ونهبت بعض الدكاكين واستمرت الفتنة حتى الساعة السابعة مساءً، حيث حضر الجند فأعادوا الأمن إلى المدينة. وقد انبعثت الفتنة من ثلاثة أمكنة مختلفة بمجرد حدوث المشاجرة. وقد اختلفت المصادر في عدد القتلى من الجانبين وهو على أي حال لا يقل عن خمسين من الأجانب، وأكثر من ذلك من الوطنيين، فضلًا عن الجرحى من الجانبين.
وحادث المشاجرة بين صاحب الحمار والمالطي حادث عادي في ذاته، لم يأت نتيجة تدبير بل هو ابن وقته. ولكن الأدلة قد توفرت بما لا يدع مجالًا للشك على أن ما أعقب المشاجرة من فتنة كان أمرًا مبيتًا مدبرًا من قبل، وأنه لو لم يقع حادث السيد العجان والمالطي، لوقعت المأساة عقب أي حادث من نوعه أو من أي نوع آخر.
ولقد كان لهذه المأساة نتائج خطيرة في ذلك الوقت بالذات، فقد جاءت عقب إعلان عرابي أنه يضمن الأمن؛ ولذلك فهي ضربة موجهة للحركة الوطنية في الصميم، وهي حجة للخديو وأعوانه من الأجانب على فساد الأحوال الداخلية، وتعرض أموال الأوروبيين وأرواحهم للخطر بسبب الحركة القومية، التي ظل ينعتها الإنجليز منذ قامت بالفوضى.
ولقد جاء في كتاب كرومر «مصر الحديثة» أن مالت أبرق إلى حكومته في نهاية شهر مايو قائلًا: «إنه قد يقع التحام في أي وقت بين الأوروبيين والمسلمين».
وأما من دبر هذه المأساة، فقد تجمعت الأدلة كذلك على أنها من جانب العنصر المصري في الهياج، تمت بالاشتراك بين الخديو وعمر لطفي. فقد ذكر رندلف تشرشل في مجلس العموم بين أدلة اتهاماته نبأ برقية من الخديو إلى عمر لطفي على أعظم جانب من الخطورة وهي: «لقد ضمن عرابي الأمن العام ونشر ذلك في الجرائد، وقد تحمل مسئولية ذلك أمام القناصل، فإذا نجح في ضمانه، فإن الدول سوف تثق به وسوف تفقد بذلك اعتبارنا، يضاف إلى ذلك أن أساطيل الدول في مياه الإسكندرية، وأن عقول الناس في هياج وأن الحرب قريبة الوقوع بين الأوروبيين وغيرهم … والآن فاختر لنفسك هل تخدم عرابيًّا في ضمانه أم هل تخدمنا؟»
ولقد شهد كثير من الأوروبيين بأن شرطة المدينة، وهم تحت إمرة لطفي قد اشتركوا في القتل والضرب بدل أن يقضوا على الفتنة. ومن أخطر هذه الشهادات من نزلاء الإسكندرية قول مستر أمبروز رالي: «لكي نرى مبلغ خيانة المسئولين، فحسبنا أن نعلم أن الفتنة وقعت في الساعة الثالثة، وأن الشرطة قد تمت على أيديهم معظم حوادث القتل، وأن ذلك استمر حتى الساعة السابعة حين وصلت أخيرًا فرقة من الجند، كانت كفيلة بأن توقف الفتنة في ربع ساعة من بادئ الأمر لو أن المسئولين أرادوا ذلك».
ويقول الشيخ محمد عبده في تقرير له كتبه في منفاه بسوريا: «حقًّا إن أكثر من اتهموا ومن قبض عليهم بعد الحادث بيوم كانوا يصيحون بقولهم: لا لوم علينا فإن سعادة المحافظ هو الذي كان يأمرنا بأن نضرب وأن نسرق».
إلى هذا الحد بلغ حقد توفيق على الوطنيين حتى ليتآمر هذا التآمر الخطير على سلامة مصر وسمعتها. ولسوف تتخذ الدولتان من هذه المأساة حجة لهما على أن بعثة درويش باشا لم تفد شيئًا في علاج الحالة، وعلى أن عرابيًّا لم ينجح في ضمان الأمن كما أعلن، وأنه لا بد من عمل حاسم سريع.
وبعد هذه المأساة بيومين حضر الخديو إلى الإسكندرية؛ ليقيم بها كي يكون على مقربة من السفن الإنجليزية، ولينفض يديه من الأحوال الداخلية مؤقتًا ريثما يتم القضاء على الحركة الوطنية واستعادة سلطانه. وقد استدعى إسماعيل راغب باشا في ١٨ يونيو، وكلفه تأليف وزارة بعد أن ظلت البلاد بلا وزارة مدة أسبوعين، وظل عرابي وزيرًا للجهادية، والحق أن وزارة راغب باشا كانت صورية، بعد أن ارتمى توفيق على هذا النحو في أحضان الإنجليز …
الإنجليز ومأساة الإسكندرية
لم يكن الإنجليز بمعزل عن مأساة الإسكندرية، بل لقد كان لهم في تحريض الأجانب، ما كان لعمر لطفي ومن ورائه توفيق في تحريض الوطنيين؛ وحسبنا أن نكرر الإشارة إلى برقية كوكسن الخبيثة بأن التحامًا سوف يقع بين الأوروبيين والمسلمين؛ ومن هذا القبيل برقية أرسلها مالت إلى وزارة الخارجية البريطانية في مايو يقول فيها: «إنه لا بد من حدوث اضطرابات قبل تسوية المسألة المصرية، وأن الأصوب استعجال هذه الاضطرابات لا تأجيلها».
وكان كوكسن دائب السعي في تسليح الأوروبيين وبخاصة الإنجليز، يتبين ذلك من برقية أرسلها مالت إلى حكومته جاء فيها: «إن قنصل السويد العام وصل اليوم من الإسكندرية وعرض عليَّ مشروعًا للدفاع عن الأوروبيين ورغب في موافقة ممثلي الدول عليه، وقد أجمع الممثلون على أن تسليح ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف تمهيدًا لهذا الدفاع عمل بالغ الخطورة؛ وأنه بجانب ذلك عمل في ذاته يفضي إلى التصادم في أي وقت، وعلى ذلك فقد اتصلوا بقناصلهم كيلا يشاركوا في شيء من هذا، وبناء على ذلك أبرقت إلى مستر كوكسن ألا يشارك بعد الآن في شيء منه».
وقال المسيو جون نينيه وهو سويسري أقام بمصر زمنًا طويلًا: «وفي الطريق قابلت مستر كوكسن في عربة، وأخبرني أحد الواقفين بجانبي أنه كان في بيت أحد المالطيين أثناء إطلاق النار، وأنه اعتدي عليه عند خروجه من ذلك البيت؛ لأن الدهماء عدوه مسئولًا عن إطلاق النار».
وكان لكوكسن تنقلات في المدينة أثناء الفتنة، يتضح ذلك مما كتبه إلى مالت بعد ذلك بخمسة أيام إذ يقول: «وقد أعنت على النهوض والتوجه صوب مخفر الشرطة، حيث لم يتحرك أحد منهم لحمايتي على الرغم من أن الدماء كانت تسيل من جسمي، ومن خلفي بعض النابحين من العرب يضربونني بالعصي».