الفصل الأول
مفاهيم أساسية
«الإنسان مذنب دائمًا وأبدًا. إنه مذنب منذ لحظة الميلاد، ومَدِينٌ
لنفسه بكل ما لم يحققه من الممكنات التي مُنِحَت له، وبكل ما كان يذخره
له المستقبل … مدين حتى النفس الأخير. إن كل فعل وكل قرار وكل اختيار
يتضمن نبذَ كل الممكنات الأخرى التي تنتمي أيضًا لوجوده في تلك اللحظة.
يتمثل الذنبُ الوجودي إذن في هذا الفشل في تنفيذ التفويض الممنوح له
بتحقيق كل ممكناته.»
ميدارد بوس، التحليل النفسي والتحليل الوجودي
«لا يكون الإنسانُ نفسَه في تجربة الإبداع إلا بقدر ما يخرج مما هو.
هويتُهُ جدلٌ بين ما هو وما يكون. إنها أمامه أكثر مما هي وراءه؛ بوصفه،
جوهريًّا، إرادة خَلقٍ وتغيير. لِنَقُلْ ليست الهوية موروثًا نرثه بقدر
ما هي إبداع نحققه. فالإنسان خلافًا للكائنات كلها، يبدع هويته فيما يبدع
حياته وفكره.»
أدونيس، النص القرآني وآفاق الكتابة
(١) خبرة «أنا موجود»
إن إدراك الإنسان لوجوده (أنا أحيا الآن، وبوسعي أن أتولى أمر حياتي)،
يمكن أن يكون له تأثيرٌ صحيٌّ شافٍ. يقول نيتشه: «كم من حياة أنقذتها فكرةُ الانتحار.»
١ يبدو أن الإنسان منا يظل ضحية للظروف وضحية للآخرين إلى أن
يأتي اليوم الذي يستطيع فيه أن يعي وجوده ويقول لنفسه: «إن الحياة حياتي
والخبرة خبرتي … ولي أن أختار وجودي الخاص».
وليس بالأمر اليسير أن يجد الإنسان نفسه ويحدد وجوده. لأننا في مجتمعنا
هذا ننساق في الأغلب إلى أن نكبت حس الوجود ونخضعه لوضعنا الاقتصادي،
ونربطه بالنمط الخارجي للحياة التي نحياها. فكلٌّ منا يعرف نفسه، ويعرفه
الآخرون، لا بصفته كائنًا أو ذاتًا، بل بصفته بقالًا أو بائع تذاكر بمترو
الأنفاق أو أستاذًا جامعيًّا أو نائب رئيس أو ما شئتَ من تلك الوظائف
الاقتصادية. هذا الفقدان لحس الوجود يعود إلى الاتجاهات الجماعية
collectivism والامتثالية التي تطبع
ثقافتنا الحديثة. تلك الاتجاهات التي يوجه إليها الفيلسوف الوجودي الفرنسي
جبرييل مارسيل هذا الاعتراض اللاذع: «أما من منهجِ تحليلٍ نفسي أعمقَ وأفطن
من هذا الذي بين ظهرانينا، يكشف لنا التأثيرات المرضية لكبتِ هذا الحس
«بالوجود» وتجاهلِ هذه الحاجة؟»
٢
يحاول العلاج الوجودي أن يكون هو هذا النوع العلاجي الأكثر عمقًا
وتفطنًا.
لنتأمل هذه الحالة لمريضةٍ نشأت ابنةً غير شرعية لإحدى البغايا،
وكفَلَها أقاربها حتى كبرت. تقول هذه المريضة:
«ما زلتُ أذكر ذلك اليوم الذي كنت أمشي فيه أسفل خطوط السكة الحديدية
في ذلك الحي الفقير، تغمر إحساسي هذه الفكرة: «أنا طفلة غير شرعية» فأتصبب
عرقًا وأمتلئ كربًا إذ أحاول أن أتقبل هذه الحقيقة. عندئذٍ أدركت كيف يكون
إحساس إنسان عليه أن يتقبل حقيقة أنه زنجي وسط المحظيين البيض، أو حقيقة
أنه أعمى وسط المبصرين. فلما أقبل الليل وغشيني النوم، إذا بي أفيق وقد
أُلقِيَ في روعي هذا الوعي:
إنني أتقبل هذه الحقيقة:
أنا طفلة غير شرعية.
غير أنني لم أعد طفلة … إذن تكون الحقيقة هكذا:
أنا غير شرعية.
لا … ولا هذه تترجم الحقيقة … لقد وُلدتُ غير شرعية … فغير الشرعي هو
ميلادي ليس إلا … ماذا يتبقى إذن؟ يتبقى هذا:
أنا … «أنا أكون» … «أنا موجودة».
وما إن استحوذتُ على هذا الاتصال ﺑ «الأنا موجود» وقبِلتُه حتى أهدى
إليَّ هذه الخبرة:
ما دام لم يبقَ إلا «أنا» … فإن لديَّ كل الحق في أن أكون.» (ماي،
وآخرون، ١٩٥٨م).
إن خبرة «أنا موجود» هذه ليست في حد ذاتها حلًّا لمشاكل فردٍ من
الأفراد. إنها بالأحرى «شرط للحل». لقد قضت المريضةُ المذكورة نحو سنتين
بعد ذلك في عملية تناولٍ استيعابي لمشاكل نفسية محددة، تمكنت من إنجازها
بفضل استنادها إلى خبرة الوجود.
هذه الخبرة — خبرة الوجود — تُفضي أيضًا وتُحيل إلى خبرةٍ أخرى هي خبرة
«عدم الوجود» أو خبرة «العدم» nothingness.
يتمثل العدم في خبرات من قبيل العدوانية المدمرة، الموت المهدَّد، القلق
الشديد المُقعِد، الحالة المرضية الحرجة … إلخ. إن الفناء مُصلت، وتهديد
العدم قائمٌ بدرجة أو بأخرى في جميع الأوقات؛ قائمٌ حين نعبر الشارع
متلفتين يمنةً ويسرةً حذَرَ أن تصدمنا إحدى السيارات. وقائم حين يسلقنا
شخصٌ ما بتعليق جارح، وحين نذهب إلى امتحانٍ لم نستعدَّ له كما ينبغي. كل
هذه أمثلةٌ لتهديد العدم.
تُعرف خبرة «أنا موجود» أو خبرة الوجود في مجال العلاج الوجودي بوصفها
فكرة أنطولوجية ontological. وتأتي هذه
اللفظة من كلمتين يونانيتين: أونتوس ontos
وتعني «يوجد» أو «يكون». و logical وتعني:
«علم كذا …»، فهي إذن «علم الوجود»، وهو مصطلح كبير الشأن في مجال العلاج
الوجودي كما سنلاحظ في تناولنا الآتي لخبرة القلق.
(٢) القلق السوي والقلق العصابي
يُعرِّف المعالجون الوجوديون القلق تعريفًا أوسع من تعريف الجماعات
العلاجية الأخرى. ينجم القلق عن حاجتنا الشخصية للبقاء والاحتفاظ بوجودنا
وتأكيد هذا الوجود. ويفصح القلق عن نفسه جسميًّا بمظاهر من قبيل زيادة سرعة
ضربات القلب وارتفاع الضغط وتجهيز العضلات الهيكلية للكر أو للفر، وذلك
الشعور بالخشية والرَّوع في داخلنا وهو أوجع هذه المظاهر جميعًا. ويعرِّف
رولو ماي القلق بأنه: «ذلك التهديد لوجودنا أو للقيم التي جعلناها مساويةً
لوجودنا.» (١٩٧٧م، ص٢٠٥).
والقلق أعم من الخوف وأكثر منه شمولًا وقاعدية. وهو ما يجعلنا نهدف في
العلاج النفسي إلى مساعدة المريض على مواجهة القلق مواجهةً شاملة قدر
الإمكان، وبذلك نخفض القلق إلى «مخاوف» هي عندئذٍ أشياء موضوعية مكشوفة
يمكن تناولها والتعامل معها. غير أن الوظيفة العلاجية الرئيسية هي أن نساعد
المريض على أن يواجه القلق السوِيَّ، الذي هو جزءٌ من الحالة البشرية لا
مناص منه.
للقلق السويِّ normal anxiety ثلاث
خصائص؛ فهو أولًا: متناسب مع الموقف الذي نواجهه. وهو ثانيًا: لا يتطلب
الكبت، وبمقدورنا أن نتصالح معه كما نتصالح — مثلًا — مع حقيقة أننا جميعًا
سوف نواجه الموت في النهاية. وهو ثالثًا: قلقٌ صحيٌّ مفيد يمكن أن نوظفه
توظيفًا إبداعيًّا. فهو على سبيل المثال يمكن أن يكون منبهًا يضع أيدينا
على المشكل الذي أثار القلق، ومن ثَم يساعدنا على مواجهته وتناوله.
أما القلق العصابي neurotic anxiety
فهو، في المقابل، قلق لا يتناسب مع الموقف؛ كأن يصل حرصُ الأبوين على
طفلهما ألا تدهَمَه سيارة إلى حد منعه من مغادرة المنزل. والقلق العصابي
ثانيًا هو قلق مرتهَن للكبت، بنفس الطريقة التي يكبت بها معظمنا خوفه من
الحرب النووية. وهو ثالثًا قلقٌ مدمرٌ غيرُ بنَّاء. فهو إلى أن يشلَّ
الفردَ أميَلُ منه إلى حفز إبداعِه.
وليست وظيفة العلاج أن يخلصنا من كل قلق. وما من إنسان يمكن أن يعيش
ويبقى وهو خالٍ تمامًا من القلق. أما القول المبتذل المكرور بأن الصحة
النفسية هي في العيش دون قلق فهو عبث وهُراء. فالصحة النفسية هي أن نعيش
دون قلق عُصابي قدر الإمكان، على أن نتحلى بالقدرة على احتمال القلق
الوجودي المحتوم والمصاحب لعملية الحياة.
(٣) الذنب ومشاعر الذنب
تعني خبرةُ الذنب لدى المعالج الوجودي معنًى شديد الخصوصية. فالذنب —
شأنه في ذلك شأن القلق — يمكن أن يأخذ كلا الشكلين: السويِّ، والعصابي.
فمشاعر الذنب العصابية neurotic guilt تنجم
عن خطايا موهومة. أما الذنب السوي normal
guilt فهو يرهف إحساسنا بالجانب الأخلاقي من
سلوكنا.
ويبقى هناك صنف آخر من الذنب، هو شعورنا بالذنب تجاه أنفسنا لفشلنا أن
نسلك وفق ما لدينا من إمكانات، أو بتعبير ميدارد بوس
Medard
Boss: لنسياننا وجودنا.
٣ وخير مثال يوضح موقفنا إزاء هذا النوع من الإحساس بالذنب كما
يتجلى في جلسات العلاج الوجودي هو الحالة التي أوردها ميدارد بوس
(
1957b). وهي حالة مريض بالوسواس القهري
الشديد كان يعالجه بوس. وكان هذا المريض — وهو طبيبٌ مصابٌ بغسل اليد
القهري — قد أُجرِيَ له من قبل تحليلٌ نفسي فرويدي وآخر يونجي. وإذ كان
يعاوده حلمٌ يتضمن أبراج الكنيسة، فقد فسر له الفرويديون الأبراج كرموز
قضيبية
phallic symbols، وفسرها اليونجيون
كرموز دينية بدئية
archetypal. لقد استطاع
هذا المريض أن يشرح هذه التفسيرات بذكاء وإسهاب، غير أن سلوكه العصابي
القهري — بعد توقفٍ مؤقت — عاد ينتابه ويعوقه بنفس الشدة السابقة.
في الأشهر الأولى من التحليل مع بوس كان هذا المريض يروي حلمًا أخذ
يعاوده في تلك الفترة. لقد كان في الحلم يقصد إلى دورة مياه لغسل يديه،
وكلما بلغها وجد الباب منغلقًا لا ينفتح. أما بوس فقد اقتصر على سؤال مريضه
كل مرة: لماذا كان على الباب أن يكون منغلقًا؟ ولماذا كان عليك أن تخشخش
المقبض؟ وأخيرًا رأى المريض في حلم له أنه فتح الباب فوجد نفسه داخل كنيسة.
كان غائصًا في الغائط حتى وسطه، وكان مشدودًا بحبلٍ مربوط حول وسطِه وطرفه
الآخر يؤدي إلى برج جرس الكنيسة. وقد بقي معلقًا هكذا يعاني من الشد الرهيب
بحيث ظن أنه سوف ينبتر. بعدئذٍ مَرَّ هذا المريض بنوبة ذهان دامت أربعة
أيام لازَمَه خلالها بوس، ثم استأنف التحليل الذي انتهى بشفاء
المريض.
يشير بوس إلى أن مريضه كان مذنبًا. لأنه أغلق أو احتبس بعض الإمكانات
الأساسية لديه؛ ولذا كان يحس بالذنب، «فأنت حين تحتبس إمكاناتك ولا تطلقها
فأنت مذنب أو مَدِين تجاه ما أُعطيَ لك في منشئك … في صميمك. هذه الحال —
حال كونك مَدينًا وكونك مذنبًا — هي التي تتأسس عليها كل مشاعر الذنب كيفما
اتخذت لها من أشكالٍ عينية والتواءات لا تُحصَى تتبدَّى بها في الواقع
المعيش.» فهذا المريض قد أوصد الباب أمام ممكنات الخبرة، سواء منها الجسدية
والروحية (أو الجانب الدافعي والجانب الألوهي على حد تعبير بوس). سبق لهذا
المريض أن تقبَّل التفسيرات القائمة على الليبيدو وعلى النماذج البدئية
ووعاها تمامًا. غير أن هذا، في رأي بوس، لا يعدو أن يكون وسيلةً جيدةً
للهروب من الأمر برُمَّته. لقد فاته أن يقبل ويتولى هذين الوجهين (الدافعي
والألوهي) ويدمجهما بوجوده. وهو لهذا السبب كان مذنبًا تجاه نفسه ومدينًا
لها. هذا هو منبعُ مرضه، ومنشأ عُصابه وذُهانِه.
(٤) أشكال العالم الثلاثة
ثمة مفهوم أساسي آخر في العلاج الوجودي يُطلق عليه «الوجود-في-العالم»
being-in- the-world. ومفاده أننا يجب أن
نفهم العالم الظاهراتي الذي فيه يوجد المريض ويشارك. فلكي نفهم عالم هذا
الشخص أو ذاك يتعين علينا ألا نكتفي بوصف البيئة المحيطة به مهما تكن دقة
هذا الوصف وشموله. فما البيئة غير شكل واحد من أشكال العالم. يقول عالم
البيولوجيا ج. فون إكسكل J. Von Uexkull:
إن لنا أن نفترض بيئاتٍ بعدد ما هناك من حيوانات، فذلك أمر يتوقف على
الطريقة التي تشارك بها النملةُ أو الفيل أو الثعلب في هذه البيئة. ويمضي
إكسكل فيقول: «ليس هناك زمان واحد ومكان واحد، بل هناك من الأزمنة والأمكنة
بعدد ما هناك من ذوات.» (ماي، وآخرون، ١٩٥٨م). إن هذا القول يصدق على
الإنسان «من باب أولى». فإلى أي حد يفوق الكائنُ الإنساني باقي الحيوانات
في تفرُّدِ عالمه؟ ذاك سؤال يَجبَهُنا بمشكلة صعبة؛ فلا نحن نستطيع أن نصف
العالم وصفًا موضوعيًّا خالصًا، ولا العالمُ بقابلٍ أن يُختزل إلى مشاركتنا
الذاتية والتخيلية في البنية القائمة حولنا، رغم أن هذه المشاركة هي أيضًا
جزءٌ من «الوجود-في-العالم».
إن العالم الإنساني هو تلك البنية من العلاقات الدالة التي يوجد فيها
الإنسان، والتي يشارك في تشكيلها (دون أن يفطن إلى ذلك عادةً). ألسنا نرى
أن ظروفًا واحدةً في الماضي والحاضر قد تعني لدى مختلف الأشخاص أشياء
شديدةَ التباين؟ بلى، فليس عالم الشخص هو جملة الأحداث الماضية التي تحدد
وجودَه وجملة المؤثرات الحتمية التي تعتَوِره. إنما هو تلك المؤثرات
والأحداث كما تتراءى له وتتمثل في وعيه. وهو تلك المؤثرات والأحداث كما
يصوغها هو ويشكلها ويعيد تشكيلها على الدوام. فأن يعي المرء عالمه يعني في
نفس الوقت أن يصوغه ويشكله ويرَكِّبه.
ثمة — من وجهة نظر العلاج الوجودي — ثلاثة أشكال للعالم
٤ الأول هو
Umwelt ويعني «العالم
المحيط» أو العالم البيولوجي أو ما يقال له عادة «البيئة». والثاني هو
Mitwelt ويعني حرفيًّا «العالم-مع»، وهو
العالم المكون من رفاق الشخص من البشر، أو المجتمع الخاص بالشخص. والثالث
هو
Eigenwelt ويعني «العالم الشخصي» أو
علاقة الشخص بذاته.
العالم الأول Umwelt هو عالم الموضوعات
العينية المحيطة بنا. هو العالم الطبيعي. فجميع الكائنات الحية لديها
Umwelt. إنه العالم الذي يقدم للكائنات
الحيوانية والإنسانية ما يلزم حاجاتها البيولوجية ودوافعها وغرائزها. وهو
العالم الذي كان خليقًا أن يستأثر بنا لو لم نكن وُهِبنا ملَكةَ الوعي
بالذات. هو عالم القانون الطبيعي والدورات الطبيعية؛ النوم واليقظة،
الميلاد والموت، الرغبة والإشباع .. عالم التناهي والحتمية البيولوجية الذي
يتعين على كل منا أن يتوافق معه بشكل أو بآخر. إنه حق وواقع يسلِّم به
المحللون الوجوديون ويقبلونه. يقول كيركجارد: «ما يزال القانون الطبيعي
مُلزِمًا وساريًا كما كان أبدًا.»
للحيوانات — إن شئنا الدقة — «بيئة». بينما للكائنات البشرية «عالم».
ذلك أن «العالم» ينطوي أيضًا على بِنية المعنى التي تشكلها العلاقات
القائمة بين أفراده.
ولعل العالم الشخصي Eigenwelt هو أقل
العوالم الثلاثة حظًّا من البحث والفهم من جانب علم النفس الحديث وعلم نفس
الأعماق. إنه العالم القائم على الوعي بالذات والعلاقة بها، وهو وَقْفٌ على
الكائنات البشرية دون غيرها من الكائنات. فحيثما نفطن إلى ما يعنيه شيءٌ ما
في العالم إلى الملاحظ الفرد — تلك الطاقة من الزهر أو ذاك الشخص الآخر —
فثم العالم الشخصي أو Eigenwelt. وقد نبه
د. ت. سوزوكي D. T. Suzuki إلى أن النعوت
في اللغات الشرقية — مثل اللغة اليابانية — تتضمن دائمًا الإحالة الشخصية
for-me-ness، بمعنى أن قولي: «هذه الزهرة
جميلة» يعني في هذه اللغات «بالنسبة لي – هذه الزهرة جميلة».
ومن بين متضمنات هذا التحليل لأشكال الوجود-في-العالم، أنه يمنحنا
قاعدةً لفهم الحب. فمن الجلي أن خبرة الحب تَنِدُّ عن الوصف داخل حدود
العالم المحيط Umwelt. فنحن لا يمكننا بحال
أن نتحدث عن الكائنات البشرية بوصفها «موضوعات جنسية». فما إن نصف شخصًا
بأنه موضوع جنسي حتى لا يعود شخصًا. لقد قَصَّرَت نظرياتُ الشخصية في حق
هذه المسألة تقصيرًا كبيرًا. صحيح أن المدارس البينشخصية قد تناولت الحب
بوصفه علاقة بينشخصية، ولا سيما عند هاري ستاك سوليفان H.
S. Sullivan ومفهومه لمعنى كلمة
Chum، وكذلك تحليل إريك فروم
Erich Fromm لمصاعب الحب في المجتمع
الاغترابي المعاصر، غير أن لدينا ما يحملنا على الشك في أن أيًّا من هذه
النظريات قد أمدنا بأساس نظري يخولنا مزيدًا من التعمق في خبرة الحب. ففي
غياب مفهوم وافٍ للعالم المحيط Umwelt يغدو
الحب مفرغًا من الحيوية، وفي غياب العالم الشخصي
Eigenwelt يفتقد الحب القوة والقدرة على
أن يخصب نفسه. وقد أكد فردريك نيتشه Friedrich
Nietzsche أهمية العالم الشخصي في خبرة الحب. وكذلك فعل
كيركجارد الذي أكد مرارًا أن الحب يفترض مسبقًا أن الفرد قد أصبح «فردًا
حقيقيًّا» … واحدًا متفردًا … إنه الفرد الذي تم له وعيُ السر العميق: إنك
لكي تكون في حب حقيقي مع شخص آخر، يلزمك بالضرورة أن تكون أيضًا قانعًا
بنفسك متوجهًا إليها مُؤتنِسًا بها.
(٥) دلالة الزمن
ثمة حقيقة تستوقف المعالجين الوجوديين وتستأثر باهتمامهم. وهي أن معظم
الخبرات الإنسانية العميقة تحدث في البعد الزماني من الوجود أكثر مما تحدث
في البعد المكاني. وقد قدم يوجين منكوفسكي Eugene
Minkowski — وهو طبيب نفسي يعمل بباريس — دراسة حالة
تُبرز هذا البعد الزماني. وهي حالة مريض بالفصام الاكتئابي واقع في قبضة
ضلال فكري مفاده أنه سوف ينفَّذ فيه حكم بالإعدام. أوضح منكوفسكي في دراسته
أن هذا المريض قد فقد القدرة على أن يقيم صلةً بالزمن، بمعنى أنه لم يعد
قادرًا على أن يأمل في الآتي ويتشوَّفَ إلى المستقبل. فكل يوم يمر به كان
بالنسبة إليه جزيرةً منفصلة بلا ماضٍ وبلا مستقبل. لم يعد هذا المريض
يستشعر أي امتدادٍ يصله بالغد. في مثل هذه الحالة نتوقع من أي طبيب نفسي،
حين يفكر بطريقة تقليدية، أن يعلل هذه القطيعة بين المريض وبين المستقبل،
أو هذا العجز عن التوجه الزمني، بأنه ببساطةٍ ناجمٌ عن اعتقاده الضلالي
بأنه سوف يُعدَم وشيكًا. ولكن منكوفسكي يَجبَهُنا بافتراض عكسي تمامًا
فيقول: «ألا يمكننا، على العكس، أن نفترض أن الاضطراب الأساسي هنا هو
الموقف المنحرف الشائه تجاه المستقبل، بينما ضلال الإعدام مجرد مظهر من
مظاهرِه؟» (ماي، وآخرون، ١٩٥٨م).
ويمضي منكوفسكي في بحث هذا الاحتمال في دراسته للحالة. لقد سلط بمدخله
المبتكر شعاعًا من النور على هذه البقاع المعتمة غير المستكشَفة من مفهوم
الزمن، وأتاح انعتاقًا جديدًا من حدود الفكر الإكلينيكي وقيوده وتصوراته
التقليدية للزمن. وهنا نذكر هوبارت مورر
Hobart Mowrer (١٩٥٠م) الذي قال: إن الارتباط بالزمن هو الخاصة المميزة
للشخصية الإنسانية، وإن لدى الإنسان قدرةً يستحضر بها الماضي إلى الحاضر
كجزء من السلسلة السببية التي فيها تقوم الكائنات الحية بالفعل ورد الفعل،
ولديه قدرة أخرى على العمل في ضوء توجهات المستقبل البعيد، وإن جماع هاتين
القدرتين يشكل جوهر الذهن والشخصية.
يتفق المعالجون الوجوديون مع هنري برجسون Henri
Bergson في أن «الزمن هو قلب الوجود»، وأن الخطأ الذي
نرتكبه في عصرنا الحديث هو أننا نفكر في أنفسنا بصيغةٍ مكانيةٍ بالدرجة
الأولى، كما لو كنا أشياء يمكن أن توضع في هذا الموضع أو ذاك شأنها شأن
غيرها من المواد. وبهذا التشويه والتحريف نفقد علاقتنا الوجودية الأصيلة
بأنفسنا، بل نفقد أيضًا علاقتنا الأصيلة بالآخرين من حولنا. ويستتبع هذا
التركيز الزائد على التفكير المكاني أن «تندر اللحظاتُ التي نفهم فيها
أنفسنا، وبالتالي تندر حريتنا وتتقلص» كما يقول برجسون. (ماي، وآخرون،
١٩٥٨م).
غير أنه في نطاق العالم-مع، أي عالم العلاقات الشخصية والحب، يمكننا أن
نرى بصفة خاصة أن الزمن القياسي الكمي ليس له كبير شأنٍ بأهمية أي حدث من
الأحداث أو بدلالته. فنحن على سبيل المثال لا يمكننا بحالٍ أن نقيس طبيعة
أو درجة حبنا لشخصٍ من الأشخاص بعدد السنوات التي عرفناه فيها. صحيح أن زمن
الساعة له دخل كبير في العالم-مع (فكثير من الناس يبيعون وقتهم بالساعة،
وما تجري الحياة اليومية إلا وفق جداول زمنية) غير أن ما يعنينا هنا هو
المعنى الباطن للأحداث. يقول المثل الألماني: «ما من ساعةٍ تدق للمرء
السعيد»، وقد صَدَقَ، فالأرجح الغالب أن تكون أهم الأحداث دلالةً ومغزى في
الوجود النفسي للمرء هي بالتحديد تلك الأحداث المباشرة التي تخترق المجرى
الزمني الرتيب المعتاد. كأن تقع للمرء بصيرةٌ مفاجئة، أو تغشاه رؤيةٌ
جماليةٌ للحظةٍ واحدة، غير أنها لا تبرحُ ذاكرته أيامًا وشهورًا.
أما العالم الشخصي Eigenwelt عالم
العلاقة بالذات والوعي بها والتبصر بالمعنى الشخصي للحدث، فلا صلة له من
قريب أو بعيد بزمن الساعة الذي تتعاقب فيه اللحظاتُ على نحو نظامي. فجوهر
البصيرة والوعي بالذات هو أنهما هناك؛ حاضران ومباشران. ولحظة تَنَزُّلِ
الوعي لا تفقدُ دلالتها عبر الزمن. بوسع المرء أن يرى ذلك بسهولة حين يلاحظ
ما يجري داخله لحظةَ تقع له بصيرةٌ من البصائر. إنها تقع بشكل مفاجئ …
تولَدُ مكتملة إن صح التعبير. وسوف يكتشف أن التأمل فيها ساعة أو غير ساعة
قد يكشف له مزيدًا من مكنوناتها؛ ولكنه لن يرُدَّها أوضح مما كانت، بل هي
بعد ساعة التأمل ستغدو للأسف أقل وضوحًا وتحددًا مما كانت في
البداية.
تتوقف قدرة المريض على استدعاء الأحداث الهامة في ماضيه على قراره بصدد
المستقبل. وما من معالجٍ إلا ويعلم أن المرضى قد يسترسلون في سرد ذكريات من
الماضي حتى الغثيان، دون أن تحركهم منها ذكرى واحدة. فالسردُ بأكمله فاترٌ
ممل غير ذي بال. ليست مشكلة هؤلاء المرضى — من وجهة نظرٍ وجودية — أنهم
عانوا ماضيًا ماحلًا فقيرًا، ولكن مشكلتهم بالأحرى أنهم لا يستطيعون أو لا
يريدون أن ينذروا أنفسهم للحاضر والمستقبل. وهم إن كان ماضيهم لم يعد حيًّا
نابضًا فما ذلك إلا لأنهم فقدوا شغفهم بالمستقبل. إنهم بحاجة ماسة إلى بعض
الأمل والتكريس من أجل تغيير شيءٍ ما في المستقبل القريب؛ وليكن التغلب على
القلق أو التغلب على الأعراض المؤلمة أو استجماع النفس من أجل إبداع قادم.
ولن يتحلى كشفهم للماضي بأي مصداقية أو واقعية قبل أن يتحلوا هم بهذا الأمل
وهذا التكريس.
(٦) قدرتنا البشرية على تجاوز الموقف الراهن
إذا كان لنا أن نفهم شخصًا ما بوصفه موجودًا ديناميًّا في تحولٍ مستمر
وصيرورة دائمة، فلن يسعنا إذ ذاك أن نغفل بُعدًا وجوديًّا هامًّا هو بُعدُ
«العلو» transcendence. «فأن توجد» يتضمن
أن تكون في انبثاق مستمر … في تطور انبثاقي emergent
evolution بمعنى أنك تتخطى ماضيك وحاضرك وصولًا إلى
المستقبل. وعليه يكون الفعل transcendere
(ويعني حرفيًّا: يتسلق الشيء ويتخطاه) واصفًا لما ينخرط فيه الكائن
الإنساني كل حين، ما لم يقعد به مرضٌ خطير أو يعطله اليأسُ أو القلق. وبوسع
المرء بطبيعة الحال أن يلمس التطور الانبثاقي في كل عمليات الحياة. لقد
أعلن نيتشه على لسان نبيه القديم زرادشت: «ولقد أَسَرَّت إليَّ الحياةُ
نفسُها قائلة: انظر؛ إنني ذلك الشيء الذي لا بد أن يتخطى ذاته كل حين»
(ماي، وآخرون، ١٩٥٨م).
وصف كورت جولدشتاين Kurt Goldstein
الأساس النيوروبيولوجي لهذه القدرة البشرية وصفًا يؤثَر (ماي، وآخرون،
١٩٥٨م). فقد قام بدراسة المرضى المصابين بعطب في الدماغ. فوجد أنهم — ولا
سيما الجنود الذين ذهب الرصاص بأجزاء من اللحاء الجبهي من دماغهم — قد
فقدوا بصفة خاصة تلك القدرة على التجريد، أي القدرة على أن يفكر المرء
بصيغة الممكن. فكانوا موثوقين بأي موقف عياني مباشر يكتنفهم في أي لحظة.
كان الواحد منهم يتخطفه القلق ويتناثر سلوكه لو تصادف أن كانت خزانته غير
مُرتبة. ذلك هو الترتيب القهري compulsive
orderliness وهو وسيلة للتشبث المتصلب بالموقف العياني
اللحظي. وعندما كان جولدشتاين يطلب من أحدهم أن يكتب اسمه على صفحة من
الورق كان دأبه أن يكتبه في ركنٍ بعينه من الصفحة فلا يحيد عنه مهما تكرر
المطلب. كانت أية مجازفة بالكتابة خارج تلك الحدود من الورقة تمثل له
تهديدًا خطيرًا! يرى جولدشتاين أن ما يميز الكائن الإنساني السويَّ هو هذه
القدرة بالتحديد … القدرة على أن يجرد، أن يستعمل الرموز … أن يوجه نفسه
خارج الحدود المباشرة للمكان الآني أو اللحظة المعطاة … أن يفكر بصيغة
«الممكن». أما المرضى والمصابون فإنهم يفقدون هذا النطاق … نطاق «الإمكان»،
فينكمش في عالمهم المكان ويتقلص الزمان، ويفقدون بالتالي حريتهم فقدًا
تامًّا.
نمتلك نحن البشر تلك القدرة على تجاوز الزمن والمكان. فبوسعنا أن نرتحل
بأنفسنا ألفي سنة إلى الوراء لنصل إلى بلاد الإغريق ويتسنى لنا أن نشاهد
مأساة أوديب تُمَثَّلُ في أثينا القديمة. وبوسعنا أن ننتقل للتوِّ إلى
المستقبل فنتصور ما سوف تكون عليه الحياة بعد ٢٥٠٠ سنة مثلًا. هذه الصور من
«العلو» أو «التجاوز» transcendence هي جزء
لا يتجزأ من الوعي الإنساني. وخير مثال للعلو هو قدرة البشر الفريدة على أن
يفكروا ويتحدثوا بالرموز. فأنت حين تتعهد بشيء ما أو تعد به فإن ذلك يفترض
مسبقًا أن لديك صلة واعية بذاتك، وهو شيء يختلف تمامًا عن السلوك الاجتماعي
المبني على التكيف الغُفْل، وعن العمل وفق متطلبات الجماعة الحيوانية أو
قطيع السوائم أو خلية النحل. يقول جان بول سارتر: إن الكذب أو التضليل شكل
سلوكي يتفرد به الإنسان؛ «الكذب شكل من أشكال العلو أو التجاوز» فَلِكَي
نكذب يتوجب أن نكون في نفس الوقت على علم بأننا نتخطى الحقيقة وننأى
عنها.
ليست القدرة على تجاوز الموقف المباشر مَلَكة تندرج بين غيرها في قائمة
الملكات. ولكنها بالأحرى جزء من الطبيعة الأنطولوجية للكائن البشري. أما
التجريد والمَوضَعة
٥ فهما أمارات لها وأدلة. في ذلك يقول مارتن هيدجر: «لا يتألف
العلو من الموضعة، ولكن الموضعة تفترض العلو.» إن قدرة الإنسان على أن يكون
في علاقة بذاته تمنحه فيما تمنح تلك القدرة على أن يموضع عالمه وأن يفكر
ويتحدث بالرموز … إلخ. وهذا ما كان يعنيه كيركجارد عندما كان يذكرنا أننا
لكل نفهم أنفسنا يلزمنا أن نعي بوضوح أن «التخيل ليس ملكةً كغيرها من
الملكات. ولكنها — إن صح التعبير — ملكةُ الملكات. فأي شعور يملكه هذا
الإنسان أو ذاك؟ وأي معرفة وأي إرادة؟ ذلك شيء يتوقف في نهاية المطاف على
ما لديه من ملكة التخيل، أي على الطريقة التي يتأمل بها هذه الأشياء. إن
ملكة التخيل هي التي تجعل كل تفكُّر ممكنًا. وقوة هذه الملكة الوسيطة شرط
لقوة الذات (كيركجارد، ١٩٥٤م، ص١٦٣).