الفصل الثاني
المدارس الأخرى
(١) السلوكية
سنشرع أولًا في تفحص الفروق بين النظرية الوجودية والنظرية السلوكية.
بوسعنا أن ندرك هذا الاختلاف الجذري عندما نلحظُ الهوة القائمة بين الحقيقة
المجردة والواقع الوجودي.
يقول كنيث سبنس Kenneth W. Spence
(١٩٥٦م) قائد أحد أجنحة النظرية السلوكية: «هل هذا المجال أو ذاك من ظواهر
السلوك أكثرُ حقيقةً أو أقرب إلى الحياة الفعلية وأولى — من ثَمَّ — بالبحث
والاستقصاء؟ ذاك سؤالٌ لا يَعِنُّ، أو لا ينبغي أن يَعِنَّ، للسيكولوجي
بصفته عالمًا.» ومفاد هذا القول أنه لا يهم كثيرًا ما إذا كان ما تجري
دراستُه حقيقيًّا أم لا!
أية مجالات إذن ينبغي أن تُنتقى للدراسة العلمية؟ إن سبنس يعطي
الأولوية «لتلك الظواهر التي تُسْلِم نفسها لدرجات من التحكم والتحليل تسمح
بصياغة قوانين مجردة.» لم يرد هذا المبدأ بوضوح وتجرؤ كما ورد على لسان
سبنس: ننتقي للدراسة العلمية كل ما يتسنى رده إلى قوانين مجردة. أما مسألة
ما إذا كان ما ندرسه له نصيبٌ من الحقيقة الفعلية أم لا، فذاك أمرٌ غير ذي
صلة بهذا الهدف!
١ وكم ذا شَيَّد المشيدون في علم النفس من أنساق معجبة تتراكم
فيها التجريدات عاليةً تجريدًا فوق تجريد، مستسلمين كدأب المفكرين
العقلانيين لعقدة الصرح
edifice complex
إلى أن يتم لهم بناءٌ مهيب خلَّاب. المشكلة الوحيدة هي أن الصرح كان في
أغلب الأحوال منبتًّا عن الواقع في أساساته ذاتها.
أما الأطباء النفسيون وعلماء النفس المنتمون إلى حركة العلاج الوجودي،
فيصرون على أننا يلزمنا بالضرورة، وما يزال باستطاعتنا، أن يكون لدينا علمٌ
يضطلع بدراسة الكائنات الإنسانية في واقعها الفعلي.
(٢) الفرويدية التقليدية
يفترق لودفيج بنسفانجر، وغيره من المعالجين الوجوديين، عن فرويد في
عديدٍ من النقاط الهامة. منها رفضهم لما ذهب إليه من أن المريض النفسي
مُسَيَّرٌ بالغرائز والدوافع. فالفرويديون، على حد قول سارتر، قد غاب عنهم
ذلك «الكائنُ الإنساني» الذي تَحْدُث له هذه الأشياء.
كذلك يُلقي الوجوديون ظلالًا من الشك على فكرة فرويد عن اللاشعور بوصفه
خزانًا للميول والرغبات والدوافع التي تتحكم في السلوك وتوجهه. فهذه النظرة
إلى اللاشعور «القبو» cellar تتيح للمريض
في الموقف العلاجي أن يتنصل من المسئولية عن أفعاله بعبارات من قبيل: «إن
اللاشعور هو الذي فعلها وليس أنا». ويصر الوجوديون دائمًا على أن
يُحَمِّلوا المريضَ المسئولية بأن يسألوه أسئلةً مثل: «لا شعور من
هذا؟!»
تتجلى الاختلافات بين الوجودية والفرويدية أيضًا في مسألة أشكال
العالم. فرغم عبقرية فرويد وأهميته في كشف النقاب عن أشكال الغرائز ومسائل
الدوافع والحدوث والحتمية البيولوجية، إلا أن الفرويدية التقليدية لا تقدم
لنا عن العلاقات بين الأفراد كذواتٍ (العالم-مع) إلا تصورًا باهتًا
مبهمًا.
(٣) المدرسة البينشخصية في العلاج النفسي
إن نظرة متفحصةً في الأشكال الثلاثة للعالم لَتكشف الفروق بين العلاج
الوجودي وبين المدرسة البينشخصية interpersonal
School كما تتمثل في كتابات إريك فروم وهاري ستاك
سوليفان. صحيحٌ أن لدى المدارس البينشخصية أساسًا نظريًّا يتناول
«العالم-مع» تناولًا مباشرًا (يكفي أن تتأمل في ذلك نظرية سوليفان) وأن
هناك نقاط التقاء كثيرة بين الطرفين (وإن لم تصل لدرجة التطابق)؛ غير أن
مكمن الخطر هناك هو أننا إذا أغفلنا العالم الشخصي
Eigenwelt تميل العلاقات الشخصية لأن
تصبح خاوية عقيمة. لقد هاجم عالِمٌ مثل سوليفان مفهوم الشخصية الفردية،
وجَهَدَ غاية الجَهد كي يُعَرِّفَ النفسَ في حدود التقييم المنعكس (عن
الجماعة) والمقولات الاجتماعية، أي الأدوار التي يؤديها الفرد في العالم
البينشخصي. إن هذا، على المستوى النظري، يعاني كثيرًا من عدم الاتساق
المنطقي، بل يتجه على النقيض من إسهامات سوليفان الأخرى. أما من الوجهة
العملية فهو يكاد يجعل من النفس مرآةً للجماعة من حولها، ويفرغها من
الحيوية والأصالة، ويختزل العالم البينشخصي إلى مجرد علاقات اجتماعية،
ويفتح الطريق لتَوَجُّه مضاد تمامًا لأهداف سوليفان وغيره من مفكري المدرسة
البينشخصية؛ ألا وهو «الامتثال الاجتماعي social
conformity».
(٤) مدرسة يونج
هناك أوجه شبه بين مدرسة يونج Jung
وبين العلاج الوجودي. وقد كان معالج وجودي مثل مدارد بوس لسنوات عديدة
عضوًا في الحلقة التي كان يعقدها يونج بانتظام في منزله. إلا أن المأخذ
الذي يأخذه الوجوديون على أتباع يونج هو أنهم يسارعون إلى تجنب الأزمات
الوجودية المباشرة للمريض بأن «يقفزوا إلى النظرية». وقد أوضح بوس هذا
المأخذ في الحالة التي أوردها في فصل «الذنب ومشاعر الذنب». وهي حالة مريضة
يتملكها الخوف من الخروج بمفردها من المنزل، قام معالج يونجي بتحليلها لمدة
ست سنوات، فَسَّرَ خلالها عديدًا من الأحلام كإشارة إلى أن الله يتحدث
إليها. لقد أرضى هذا غرور المريضة. غير أنها بقيت عاجزة عن الخروج من
المنزل! وقد استطاعت فيما بعد أن تتغلب على عُصابها المُقْعِد حين قُيِّضَ
لها معالجٌ وجودي أَلَحَّ على أنها لن تتمكن من قهر مشكلتها إلا إذا أرادت
هي بشكل إيجابي أن تقهرها. وهي طريقة أخرى للقول بأنها هي التي يلزمها —
وليس الله — أن تتحمل المسئولية عن مشكلتها وتملك زمام أمرها.
(٥) العلاج المتمركز على العميل
يوضح رولو ماي الفارق بين المدرسة الوجودية ومدرسة روجرز
Rogers في تقاريره التي كتبها عندما كان
يعمل حَكَمًا للعلاج المتمركز على العميل client-centered
therapy في تجربة لهذا العلاج أُجريت بجامعة ونسكونسين.
فقد استُعين في هذه التجربة باثني عشر خبيرًا خارجيًّا للحكم كانت تُرسَل
إليهم شرائطُ تسجيل للجلسات العلاجية. قرر رولو ماي (١٩٨٢م) بصفته أحد
الخبراء الخارجيين أنه لم يكن يحس في كثير من الأحيان أن هناك شخصين
متمايزين في غرفة العلاج. فحين يقتصر دورُ المعالج على أن يعكس كلمات
المريض يتكشف الأمر عن «هوية واحدة لا شكل لها، ولا يعود هناك ذاتان
تتفاعلان في عالم تشارك فيه كلتاهما؛ عالم يعج بالحب والكراهة، والثقة
والشك، والصراعات والاعتمادية، بحيث يمكن تناول كل ذلك وفهمه وتمثُّلُه.»
كان ماي يخشى أن الإفراط في التوحد مع المريض
overidentification من جانب المعالج،
يفوِّت على المريض فرصة أن يخبر نفسَه كذات لها استقلالها، أو أن يأخذ
موقفًا من المعالج … أن يَخْبُر نفسَه حقًّا في عالمٍ بينشخصي.
ورغم ما ينادي به الروجريون في علاجهم الفردي والجمعي من انفتاح وحرية
في العلاقة العلاجية، فقد اتفق الحكام الخارجيون في دراسة ونسكونسين على أن
«الطبيعة الجامدة المتحفظة للمعالج كانت تضع حائلًا يحجب عنه كثيرًا من
الخبرات الخاصة به والخاصة بالمريض.»
كتب أحد المعالجين الروجريين، بعد خبرةٍ كمعالجٍ مستقل هذا النقد:
«كنتُ أطبق المفهوم الأول للعلاج المتمركز على العميل، فأكبح غضبي
وعدوانيتي … إلخ؛ فكان المردودُ الذي وصلني آنذاك هو أنني كنت مهذبًا
لطيفًا بحيث صَعُبَ على المرضى أن يُفْضوا إليَّ بأشياءَ غير مهذبة وغير
لطيفة، وصعب عليهم أن يثوروا عليَّ ويغضبوا.» (Raskin,
1978, p. 367).
وجملة القول: إن العلاج المتمركز على العميل يحيد عن المفهوم الوجودي
الصحيح، إذ يتنكب مواجهة المريض بشكلٍ مباشرٍ حازم.
٢