الشخصية
(١) نظرية الشخصية
العلاج الوجودي شكل من أشكال العلاج الدينامي يقدم نموذجًا ديناميًّا لبنية الشخصية. وكلمة دينامي مصطلح كثير الاستخدام في علم النفس وفي العلاج النفسي. فنحن كثيرًا ما نتحدث مثلًا عن الديناميات النفسية للمريض، أو المدخل الدينامي للعلاج. ولكلمة «دينامي» معنى دارجٌ وآخر تكنيكي. ومن الضروري أن نكون على بينةٍ من المعنى المقصود لهذه الكلمة حين ترد في سياق نظرية الشخصية. فبمعناها الدارج تحمل هذه الكلمة دلالات الحيوية، فهي تثير تداعيات من مثل: دينامو، ديناميت، لاعب كرة دينامي، قائد سياسي دينامي … إلخ.
أما المعنى التكنيكي لكلمة دينامي فيما يتصل بنظرية الشخصية فيشير إلى مفهوم القوة. كان فرويد أول من أدخل هذه الكلمة في الاستعمال في نظرية الشخصية. فقد اعتبر الشخصية نظامًا مكونًا من قوى في صراعٍ بعضها مع بعض. ينجم عن هذا الصراع مجموعةٌ من الانفعالات والسلوك (منها التكيفي والمرضي) هي التي تكوِّن الشخصية. ولا يكتمل تعريف الشخصية عند فرويد إلا إذا أضفنا أن هذه القوى المتصارعة توجد على مستويات مختلفة من الوعي. وأن بعضها يوجد خارج الوعي تمامًا، أي يوجد على مستوى لا شعوري.
بذلك عندما نتحدث عن الديناميات النفسية لفرد من الأفراد فإنما نشير إلى القوى والدوافع والمخاوف الشعورية واللاشعورية المتصارعة الخاصة بذلك الفرد. أما العلاج الدينامي فهو العلاج المبني على النموذج الدينامي لبنية الشخصية.
هناك في الحقيقة نماذج دينامية عديدة للشخصية. وعلينا لكي نفرق بينها ونميز النموذج الوجودي منها أن نسأل: ما هو «محتوى» الصراع الداخلي الشعوري واللاشعوري؟ نعم هناك قوى ودوافع ومخاوف تصطرع مع بعضها البعض داخل الشخصية، ولكن أية قوى هذه؟ وأية دوافع؟ وأية مخاوف؟
وربما يتجلى المفهوم الوجودي للصراع الداخلي بصورة أكثر وضوحًا حين نقارنه بمفهومين آخرين شهيرين لديناميات الشخصية، هما النموذج الفرويدي والنموذج البينشخصي (الفرويدية الجديدة).
(٢) النموذج الفرويدي للديناميات النفسية
وصفوة القول في طبيعة الصراع من وجهة نظر النموذج الدينامي الفرويدي، أننا بإزاء كائن مدفوع بالغرائز، ما برح في حرب مع عالمٍ يحول بينه وبين إشباع هذه الدوافع الفطرية العدوانية والجنسية.
(٣) النموذج البينشخصي للديناميات النفسية (الفرويدية الجديدة)
(٤) الديناميات النفسية الوجودية
يستند النموذج الوجودي للشخصية إلى تصور آخر للصراع الداخلي. فالصراع الأساسي وفقًا لهذا النموذج ليس صراعًا ضد دوافع غريزية مقموعة. لا، ولا هو صراعٌ ضد بالغين ذوي خطر في حياة الفرد المبكرة. إنما هو صراعٌ بين الفرد وبين معطيات الوجود.
ما هي هذه المعطيات؟
يحدد يالوم أربعة هموم نهائية ذات صلة كبيرة بالعلاج النفسي؛ وهي: الموت، الحرية، العزلة، اللامعنى.
إن مواجهة المرء لكل من هذه الهموم هي التي تشكل محتوى الصراع الداخلي وفق الإطار المرجعي الوجودي.
(٥) الموت
الموت هو — بين هذه الهموم النهائية — أكثرُها وضوحًا وجلاءً. فليس بخافٍ على الجميع أن الموت آتٍ لا مَرَدَّ له. إنها حقيقة مرعبة. ونحن نستجيب لها في المستويات الأعمق من دواخلنا برعبٍ أكبر. فكل شيء كما يقول سبينوزا «يريد أن يبقى على حاله». إنه لصراعٌ صميمي ذلك الناشب بين وعينا بالموت المحتوم وبين رغبتنا الآنية في البقاء. تلك هي الرؤية الوجودية. فالموت يضطلع بدور كبير في خبرة المرء الداخلية، ويراوده كما لا يراوده أي شيء آخر. الموت يدمدم بلا توقفٍ تحت غشاء الحياة. وهَمُّ الموتِ يغمرُ الإنسان منذ نعومة أظفاره. فالتعامل مع خطر المحو والإزالة هو من المهام الكبرى التي يتعين على الطفل أن ينهض بها في رحلة نموه.
(٦) الحرية
ليس من دأبنا أن ننظر إلى الحرية كمصدرٍ للقلق. فنحن على العكس تمامًا نعتبرها مفهومًا إيجابيًّا على طول الخط. وتاريخ الحضارة الغربية حافل بالتوقِ إلى الحرية والكفاح في سبيلها. إلا أن للحرية — داخل الإطار المرجعي الوجودي — معنًى تكتيكيًّا خاصًّا؛ معنًى لصيقًا بالرعب!
تعني الحرية في الإطار الوجودي أن الإنسان — بعكس ما توهمه خبرة الحياة اليومية — لا يدخل في البدء ويغادر في النهاية عالمًا واضحَ المعالم ذا بنية كلية مترابطة محددة مكتملة. تشير الحريةُ إلى حقيقة أن الكائن الإنساني مسئولٌ عن إبداع عالمه الخاص وشكل حياته واختياراته وأفعاله. الكائن الإنسان «محكوم عليه بالحرية» على حد قول سارتر. ويرى رولو ماي (١٩٨١م) أن الحرية الحقة تُلزِم الإنسانَ أن يواجه التحديات التي يضعها قَدَرُه ولا يستسلم لها.
يحمل هذا التصور الوجودي للحرية متضمَّناتٍ مرعبةً. فإذا صَحَّ، كما يقول بعض الفلاسفة مثل هيدجر وسارتر، أننا نخلق ذواتنا الخاصة وعالمنا الخاص، فليس ثمة إذن أرضٌ تحتنا بل مجرد هاوية … فراغ … عدم.
من مواجهتنا للحرية ينشأ صراعٌ دينامي داخلي هام. صراع بين وعينا بالحرية واللاقاعدة من جهة، وبين حاجتنا العميقة للقاعدة وللبنية النظامية من جهة أخرى.
ويشمل مفهوم الحرية موضوعاتٍ كثيرةً ذاتَ تضميناتٍ واسعةٍ تمسُّ العلاج النفسي؛ أبرزها فكرة «المسئولية». يتفاوت الأفراد تفاوتًا كبيرًا في درجة المسئولية التي يرغبون في تحملها إزاء مواقفهم الحياتية، وفي الطرائق التي يصطنعونها للتنصل من المسئولية. فبعض الأفراد يضعون المسئولية على عاتق غيرهم من الناس، وعاتق الظروف والرؤساء والأزواج، وعندما يدخلون في الموقف العلاجي يُحَمِّلون المعالج النفسي مسئولية شفائهم. وبعض الأفراد يتنصلون من المسئولية بأن يعيشوا دور «الضحية البريئة» التي جَنَتْ عليها أحداثٌ خارجيةٌ ليس لهم بها يد (ويغفلون على الدوام أنهم هم الذين قاموا بالتمهيد لهذه الأحداث وتمريرها، وأنها جرت على إذنٍ مستورٍ منهم وإيعازٍ مُضْمَر). وبعض الأفراد ينسلخون من المسئولية كليًّا بأن يدخلوا في حالة اضطرابٍ عقلي عابر لا يُعَدُّون فيها أهلًا للمحاسبة على سلوكهم حتى أمام أنفسهم.
(٧) العزلة
- (١)
أنه يشكل الآخرين تشكيلًا.
- (٢)
أنه لا يستطيع أن يشرك الآخرين شراكةً كاملة في وعيه الخاص.
بذلك يكون الصراع الدينامي الثالث هو بين وعي المرء بعزلته الجوهرية وبين رغبته في أن يدرأها … أن يندمج … ينصهر … أن يكون جزءًا من كلٍّ أكبر.
العزلةُ صميمةٌ لا مهربَ منها. ولا يمكن لأي علاقة أن تنفي العزلة. غير أن الإنسان يمكن أن يشارك شخصًا آخر عزلته بطريقة تخفف شيئًا من ألم العزلة. فإذا سَلَّم الإنسانُ تسليمًا بوضعه الوجودي المعزول، واحتمله بشجاعة وعزم، عندئذٍ فقط يمكنه أن يتجه بحب نحو الآخرين. أما إن تملكه الرعب من مواجهة العزلة فلن يكون بمقدوره أن يتجه إلى الآخرين. كل ما يستطيع فعله آنذاك هو أن «يستعمل» الآخرين كدرعٍ تحميه من العزلة. في مثل هذه الحالة لن تكون العلاقات سوى إخفاقاتٍ مفككة وإجهاضات وصور مشوهة لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات الأصيلة.
وممارسة الجنس القهرية هي أيضًا استجابة شائعة للعزلة المخيفة. وقد يمنح التشرد الجنسي انفراجة قوية للفرد المنعزل، غير أنها انفراجة وقتية. وهي وقتية لأنها ليست علاقة، بل صورة كاريكاتورية لعلاقة. فالذي يمارس الجنس قهريًّا لا يتصل بالوجود الكلي للآخر، بل بالجزء الذي يفي بحاجته من ذلك الآخر. إنه لا يعرف الآخر. فهو لا يرى من الآخر ولا يُريه إلا تلك الجوانب التي تُيَسِّر أمرَ الإغواء والفعل الجنسي.
(٨) اللامعنى
رابع الهموم النهائية هو اللامعنى. فإذا كان كل شخص مائتًا لا محالة، وكان كل شخص يشيِّد عالمه الخاص، وكل شخص وحيدًا في عالم غير مكترث، فماذا عسى أن يكون للحياة من معنى؟ لماذا نعيش؟ كيف نعيش في مقبل الأيام؟ إذا لم يكن هناك تشكيلٌ مسبقٌ لحياة وتكوينٌ مُقَدَّرٌ سلفًا، فعلينا إذن أن نؤسس المعنى الخاص لحياتنا. ويصبح السؤال الجوهري عندئذٍ هو: «هل يمكن لمعنًى حياتي يخلقه الفرد أن يكون من القوة والرسوخ بحيث ينهضُ بحياة ذلك الفرد ويحملها؟»
يبدو أن الإنسان كائنٌ مرتَهَنٌ للمعنى … يسعى بطبيعته إلى المعنى ويحتاجه. فإذا نظرنا إلى أنفسنا نجد أن من صميم التنظيم النيوروسيكولوجي لإدراكنا أن يقوم بإضفاء شكلٍ على المثيرات العشوائية للتو واللحظة. فنحن ننظمها آليًّا إلى أمامية (صورة) وخلفية. وعندما تواجهنا دائرةٌ ناقصة فنحن ندركها آليًّا كدائرةٍ مكتملة. وحين نكون بإزاء موقف غامض أو مجموعة من المثيرات التي تتحدى التشكيل، يعترينا الضيقُ الذي لا يبرحنا حتى ننتظم ذلك الموقف في شكلٍ مميز. وما يقال بشأن المثيرات العشوائية يقال بشأن المواقف الوجودية؛ فماذا تظن بإنسان أُلقِيَ به في عالم لا شكل له، إلا أن يظل مضطربًا لائبًا يبحث عن شكل … عن تفسير … عن معنى للوجود.
ثمة سببٌ آخر يجعل إيجاد معنًى للحياة ضرورةً للإنسان لا غنى عنها؛ فالمعنى هو مخطط وإطار نستمد منه نظامًا هرميًّا للقِيم. والقيم تمدنا ببرنامج عملٍ نسلك في الحياة وفقًا له. القيم لا تخبرنا فقط لماذا نعيش، بل وكيف نعيش.
ينشأ الصراع الداخلي الرابع إذن من هذه المعضلة: كيف يتأتى لكائنٍ يلزمه المعنى أن يعثر على معنى في كونٍ خِلْوٍ من المعنى؟
(٩) مفاهيم متنوعة
يضع كلٌّ من التحليل النفسي والنظام الوجودي القلقَ في القلب من البنية الدينامية. فالقلق هو وقود السيكوباثولوجيا؛ فالعمليات النفسية الشعورية واللاشعورية (ميكانيزمات الدفاع) إنما تتولد لكي تتعامل مع القلق. هذه العمليات هي التي تشكل السيكوباثولوجيا؛ فهي توفر الأمان، ولكنها أيضًا تحدُّ من النمو.
ومن الفوارق الهامة بين النظامين أن التسلسل الفرويدي يبدأ ﺑ «دافع»، بينما يبدأ النظام الوجودي ﺑ «وعي». ذلك أن الإطار المرجعي الوجودي ينظر إلى الفرد في الأساس باعتباره خائفًا موجوعًا أكثر منه مدفوعًا.
يرى المعالج الوجودي أن القلق ينبع من مواجهة الموت واللاقاعدة (الحرية) والعزلة واللامعنى، وأن الفرد يستخدم صنفين من ميكانيزمات الدفاع لمغالبة القلق: الصنف الأول، وهو الذي وصفه بدقة كلٌّ من فرويد وأنَّا فرويد وهاري ستاك سوليفان، يحمي الفرد ضد القلق بغض النظر عن مصدره. أما الصنف الثاني فيشمل دفاعات محددة تساعد الفرد على مغالبة أنواع بعينها من المخاوف الوجودية الأساسية.
(١٠) المنزلة الخاصة٦
يطوي كل فردٍ منا جوانحه على اعتقاد قوي عميق بأنه يتمتع بحصانة شخصية ومَنَعة وخلود. ورغم أننا ندرك على مستوى عقلي عبث هذا الاعتقاد وحماقته، إلا أننا على مستوى لا شعوري عميق نعتقد أن القوانين المعتادة للبيولوجيا لا تنطبق علينا.
لم يصف أحدٌ قَط هذا الاعتقاد العبثي العميقَ بالقوة التي وصفه بها تولستوي، الذي يقول على لسان إيفان إليش:
إن القياس المنطقي الذي تعلمه قديمًا:
كان يبدو له دائمًا قياسًا صحيحًا بالنسبة لكايوس … ولكنه بالتأكيد غير صحيح حالما انسحب الأمرُ عليه. فكون كايوس — الإنسان على وجه التجريد — فانيًا، هو قولٌ صحيح تمامًا. ولكنه ليس كايوس. لا، ولا هو إنسانٌ مجرد. إنما هو كائن متميز تمامًا عن كل ما عداه. ومختلف عن كل الآخرين قلبًا وقالبًا … إنه فانيا الصغير بصحبة ماما وبابا وميتيا وفولوديا ولُعَبِهِ وسائقِه ومربيته، ماذا يدري كايوس عن رائحة الكرة الجلدية المخططة التي كان فانيا مغرمًا بها دائمًا؟ … هل قَبَّلَ كايوس يد أمه كما قبلتها؟ وهل كان يَحُفُّهُ حريرُ ردائها كما كان يحفني؟ … هل كان يغضب ويشغب في المدرسة عندما لا تروقه الفطائر؟ … هل أحب كايوس مثلما أحببت؟ … وهل بوسعه أن يرأس جلسةً كما رأست؟ إن كايوس فانٍ حقًّا … وإن حقًّا عليه أن يموت. أما أنا: فانيا الصغير … إيفان إليش، بكل أفكاري وعواطفي، فشيءٌ مختلفٌ تمامًا. إن من المستبعد أنني ينبغي أن أموت … إن ذلك يكون شيئًا مرعبًا غاية الرعب.
هناك عددٌ من المتلازمات (الزُّملات) المرضية المرتبطة بهذا الميكانيزم الدفاعي، يصاب الفرد بواحدة منها في حالة غياب هذا الميكانيزم أو ضعفه. فيكون مثلًا ذا شخصية نرجسية، أو مدمنًا للعمل القهري مستغرقًا في البحث عن المجد، أو يكون بارانويًا معظمًا لذاته. وتقع الواقعة في حياة مثل هؤلاء الأفراد وتحل بهم الأزمة عندما تنحطِم منظومتهم الاعتقادية ويداهمهم إحساسٌ بالعادية وانعدام الحصانة. وكثيرًا ما يلتمسون العلاج عندما يَكِلُّ ميكانيزم «المنزلة الخاصة» ولا يعود قادرًا على صد القلق، مثلما يحدث إبانَ المرض الشديد أو حال تعثُّر ما كان يبدو لهم دائمًا تقدمًا أبديًّا.
(١١) الاعتقاد في وجود منقذ نهائي
الميكانيزم الدفاعي الثاني الذي يحجب عنا وعي الموت هو اعتقادنا في وجود خادمٍ شخصيٍّ جبار يحرسنا إلى الأبد ويحمي هَناءتَنا، والذي قد يتركنا نقترب من حافة الهاوية، ولكنه متأهبٌ دائمًا لانتشالنا في اللحظة الأخيرة. ويؤدي تضخم هذا الميكانيزم إلى بنية شخصية تتصف بالسلبية والاعتمادية والخنوع والتذلل.
وكثيرًا ما يكرس مثلُ هؤلاء الأفراد حياتهم للعثور على منقذ نهائي واسترضائه. ويعيشون من أجل «الآخر المسيطر» على حد قول سيلفانو أريتي (١٩٧٧م، ص٨٦٤)؛ تلك أيديولوجيةٌ حياتيةٌ تستبقُ وتمهدُ الطريق للإصابة بالاكتتاب المرضي. وهم ربما ينعمون بتكيف حياتي عالٍ ما بقوا مستدفئين بحضرة ذلك الآخر المسيطر. لكنهم سرعان ما ينهارون ويغشاهم كربٌ عظيمٌ بمجرد أن يفقدوه.
ومن الفوارق الكبرى بين المدخل الدينامي الوجودي وبين المداخل الدينامية الأخرى فارقٌ يتعلق بالتوجه الزماني. فالمعالج الوجودي يمارس عمله «بصيغة المضارع». أعني في الزمن الحاضر. فمن واجبنا أن نفهم الفرد ونساعده أن يفهم نفسه من خلال قطاعٍ عرضي ﻟ «هنا والآن» وليس من خلال قطاعٍ طولي تاريخي. لقد كان فرويد يستعمل كلمة «عميق» كمرادفٍ لكلمة «مبكر»، وعلى ذلك يكون الصراع الأعمق عنده هو الصراع الأقدم في حياة الفرد. ذلك أن ديناميات فرويد نشوئيةُ التوجهِ مبنيةٌ على مراحل النمو، بحيث إن «الجوهري» و«الأساسي» في سياقه يجب أن يُفْهَما من منظور التتابع الزمني. فكلاهما يرادف «الأول» أو «الأسبق زمنيًّا». بذلك تكون المصادر الأساسية للقلق عند فرويد هي المِحَن المبكرة: الانفصال والخصاء.
أما كلمة «عميق» في المنظور الوجودي فتعني الهموم الأكثر جوهرية والتي تواجه الفرد في الوقت الحالي. ولا ينبغي من وجهة النظر الوجودية أن يأخذ الماضي (أي فكرةُ المرء عن ماضيه) من الأهمية إلا بقدر ما يشكل جزءًا من الوجود الحالي للفرد، وبقدر ما يسهم في تشكيل طريقته الحالية في مواجهة الهموم النهائية. فالمشهد الآني المباشر هو الذي يعني المعالج الوجودي أكثر مما عداه، وفهمُه للشخصية يعني فهمَه لأعماق الخبرات المباشرة للفرد.