العلاج النفسي
«إن نظرية الكوانتم قضت على النظرة إلى الكون على أنه يوجد «هناك» آمنًا، وأننا يمكن أن نلاحظ ما يجري فيه من خلف منظار دون أن يكون لنا دخل بما يجري هناك. إلا أننا بقدر الدرجة التي نقيس بها الكون فإن الكون يتغير. فنحن نغيره. ويتعين أن نلغي كلمة «ملاحِظ» ونستبدل بها كلمة «مشارِك». تخبرنا نظرية الكوانتم بأننا نتعامل مع كونٍ مشارك.»
«من الطبيعي أن يتحمل الإنسان مسئولية أحلامه السيئة. إن هذه الأحلام في كل الأحوال جزء منا. ومهما حاولتُ إنكار الجانب السلبي مما يصدر عن لا شعوري، ففي إمكاني أن أعرف أن هذا الذي أنكره ليس كائنًا فيَّ فحسب، بل إن فعله وتأثيره يصدر أحيانًا عني.»
(١) نظرية العلاج النفسي
ينطلق المعالجون الوجوديون من افتراضات أساسية تتعلق بمصادر الكرب الذي يعانيه المريض ويفهمونه فهمًا إنسانيًّا لا فهمًا سلوكيًّا أو ميكانيكيًّا. وبوسعهم أن يستخدموا العديد من التقنيات المستخدمة في المدارس الأخرى ما دامت تتسق مع افتراضاتهم الوجودية وتحقق مواجهةً إنسانية أصيلة بين المريض والمعالج.
تستخدم الغالبية العظمى من المعالجين المتمرسين — بغض النظر عن انتمائهم لمدرسة أيديولوجية معينة — كثيرًا من النظرات والتوجهات الوجودية. فما من معالج — على سبيل المثال — إلا ويدرك أن وعي المرء بمحدوديته وفنائه قد يحفز داخله نقلةً كبرى في منظور الرؤية. وما من معالج إلا ويدرك أن «العلاقة» هي التي تداوي وتشفي. وأن مأزق الاختيار يعذب المرضى. وأن المعالج يجب أن يحفز في المريض إرادة الفعل. وأن أغلب المرضى مبتلون بافتقار حياتهم إلى المعنى.
ولا يختلف المدخل الوجودي اختلافًا استراتيجيًّا كبيرًا عن بقية العلاجات الدينامية. فالمعالج الوجودي يفترض أن المريض يعاني من القلق، وأن هذا القلق ناشئٌ من صراعٍ وجودي ما، وأن هذا الصراع لا شعوري بدرجة ما، وأن المريض يتعامل مع القلق بعددٍ من ميكانيزمات الدفاع الواهنة غير التكيفية، والتي قد تتيح له انفراجة مؤقتة من القلق، لكيلا تلبث في النهاية أن تعوق قدرته على أن يحيا حياة مليئة مبدعة، وتتكشف عن أنها لم تمنحه إلا مزيدًا من القلق الثانوي. وعلى المعالج أن يساعد المريض على أن يشرع في برنامج استكشاف ذاتي يهدف إلى فهم الصراع الشعوري واللاشعوري، وأن يتعرف على ميكانيزمات الدفاع الفاشلة ويكتشف تأثيرها المدمر، وأن يخفف القلق الثانوي بأن يصحح طرائقه المعطِّلة في التعامل مع الذات ومع الآخرين، وأن يتبنى وسائل أخرى في مغالبة القلق الأوَّلي.
(٢) عملية العلاج النفسي
الموت، الحرية، العزلة، اللامعنى.
يجب على المعالج أن يقف على طرائق المريض في تجنب المسئولية، ويضع يده على شواهد تنصُّلِه ويبصِّره بها. وللمعالجين في ذلك فنيات متعددة. فمنهم من يقاطع المريض كلما اشتمَّ في حديثه رائحة التنصُّل. فإذا قال المريض: «لا أستطيع» أن أفعل كذا، بادره المعالج: قل إنك «لن تفعل» هذا الشيء. ويبقى المرء غافلًا عن دوره الإيجابي في موقفه ما بقي يعتقد في مقولة «لا أستطيع». مثل هؤلاء المعالجين يحثون مرضاهم على أن يتولوا «امتلاك» مشاعرهم الخاصة وأقوالهم وأفعالهم. حتى لو كان قول المريض: إنه فعل الشيء «لا شعوريًّا» فإن رد المعالج هو: «لاشعورُ من هذا؟!» والقاعدة هنا واضحة: كلما ألفيت المريض يندب حاله فتِّش عن المسئولية، وتقصَّ كيف خلق بنفسه هذه الحال التي هو فيها.
من التقنيات المفيدة في العلاج أن يحفظ المعالج الشكوى الأصلية للمريض في ذهنه، ثم يقرنها في الأوقات المناسبة بتصرفاته في المشهد العلاجي. ولنأخذ مثالًا بذلك المريض الذي جاء يلتمس العلاج بسبب شعوره بالوحدة والعزلة، فكان يسهب أثناء الجلسات ويفيض في التعبير عن ازدرائه واحتقاره للآخرين. وكان متعنتًا في هذه الآراء يبدي مقاومةً كبيرةً تجاه مناقشتها، ناهيك بتغييرها. فماذا كان من المعالج؟ كان يبرز له شكواه الأولى ويقرنها بسلوكه الآني حتى تتبين له مسئوليته عن مأزقه الشخصي. وذلك بأن يُذَكِّره كلما أبدى احتقاره للآخرين: «وأنت تشكو الوحدة».
– ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟
– وما الذي يحول بينك وبين أن تفعل ما تريد أن تفعله؟
– لكني لا أعرف ما أريد أن أفعله. لو كنت أعرف ما كنت بحاجة إلى أن آتي إليك.
الواقع أن هؤلاء المرضى يعرفون ما يجب أن يفعلوه، وما يليق بهم أن يفعلوه، وما يتحتم عليهم أن يفعلوه. ولكنهم لا يخبُرُون في داخلهم ما «يريدون» أن يفعلوه. إنهم يعانون عجزًا شديدًا في الرغبة. وقد كان ماي يميل إلى الصراخ في مثل هؤلاء: «ألا يوجد أي شيء تريده على الإطلاق؟» (١٩٦٩م، ص١٦٥). وكثيرٌ من المعالجين يشاركونه هذا الميل. يعاني هؤلاء المرضى من مصاعب اجتماعية هائلة لأنهم ليس لهم آراء خاصة بهم، وليس لهم ميول ولا رغبات.
وكثيرًا ما يكون العجز عن الرغبة مجرد جزء من اضطراب أكبر هو العجز عن الشعور. ففي حالات كثيرة يكون الشطر الأكبر من المهمة العلاجية هو أن نساعد المرضى على إذابة الحواجز الوجدانية التي تعطل فيهم فعلَ الشعور، وهي مهمة علاجية تتسم بالبطء والكدح، وتتطلب من المعالج أن يكون صابرًا مثابرًا يستحث المريض بلا هوادة أن يشعر ويريد، ولا يمل من تكرار «ماذا تشعر؟» و«ماذا تريد؟»، مستكشفًا مرارًا وتكرارًا مصدر الانسداد الوجداني وطبيعته، والمشاعر المحتسبة من ورائه.
القرار هو الجسر الواصل بين الرغبة والفعل. فبعض المرضى يظلون عاجزين عن الفعل رغم وجود الرغبة؛ ذلك لأنهم عاجزون عن اتخاذ القرار. ومن أعم الأسباب التي تجعل اتخاذ القرار أمرًا عسيرًا هو أن كل «نعم» في الحياة تتضمن «لا». كل اختيار ينطوي على نبذ. «التخلي» إذن هو فعلٌ ملازمٌ للقرار كظله. فكل قرار يُتَّخَذ يستوجب التحلي عن خيارات أخرى؛ وهي كثيرًا ما تكون خياراتٍ لن تتاح بعد ذلك أبدًا.
يجب على المعالج أن يحض المرضى على أن يتخذوا القرارات، وأن يقدم لهم العون في ذلك. ومن التوجهات المفيدة في هذا الشأن أن يقوم المعالج بمساعدة المريض على أن يمحِّصَ الخيارات المتاحة، وأن يعي جيدًا أن مهمة وضع الخيارات والانتقاء منها تقع على عاتقه هو لا على عاتق المعالج.
-
ماذا لو تركت وظيفتي ولم أتمكن من الحصول على وظيفة أخرى؟
-
ماذا لو تركت أطفالي بمفردهم فأصابهم مكروه؟
من المفيد في أغلب الأحيان أن نطلب من المريض أن يتأمل السيناريو الكامل لكل «ماذا لو» على التوالي، وأن يتخيل حدوثها ويتتبع في مخيلته كل عواقبها الممكنة، ويجرب عندئذٍ المشاعرَ المتولدة ويحللها.
والقاعدة العامة بصدد اتخاذ القرار هي أن مهمة المعالج ليست خَلقَ القرار بل «تخليصه». فهو لا يصنع للمريض قراره نيابةً عنه، بل يزيل العوائق التي تعوق المريض عن اتخاذ القرار. ليس بمقدور المعالج أن ينقر للمريض زر القرار أو ينفث فيه روح العزيمة، ولكن بمقدوره أن يؤثر في العوامل التي تتحكم في إرادته. وما من أحد وُلِدَ بعجزٍ خِلقي عن أن يقرر، فالقدرة على صنع القرار كامنة في المريض ولكن دونها عوائق. وما إن يساعده المعالج على إزالة هذه العوائق حتى ينتقل تلقائيًّا إلى وضع أكثر استقلاليةً، بنفس الطريقة التي تنمو بها الجوزة إلى شجرة بلوط على، حد قول كارن هورني (١٩٥٠م).
القرار حتم لا مفر منه.
والمرء في كل لحظة يصنع قرارات حتى دون أن يفضي إلى نفسه بذلك.
هذه حقيقة على المعالج أن يعين مرضاه على استيعابها، وأن يساعدهم على تبين الطريقة التي يصنعون بها قراراتهم. فكثير من المرضى يتخذون قراراتهم بطريقة سلبية، بأن يتركوا لغيرهم أن يقرر بالنيابة عنهم. مثال ذلك أن ينهي الشخص علاقةً غير مُرْضية بأن يتصرف لا شعوريًّا بطريقة تحمل الآخر على اتخاذ قرار الهجر. في مثل هذه الحالات تكون المحصلة النهائية (وهي انحلال العلاقة) قد أُنجِزت. غير أن هذه الطريقة قد توقع المريض في مضاعفات سلبية كثيرة، ولا يجني من ورائها إلا تدعيم إحساسه بالعجز وقلة الحيلة، ويظل يشعر أنه كائنٌ تحدث له الأشياء وتتقاذفُه الظروف، بدلًا من أن يحس أنه واضعُ دستور حياته وصانع مواقفها. من ذلك يتبين لنا أن «الأسلوب» الذي يتخذ به المرء قرارًا ما قد لا يقل أهميةً عن «محتوى» ذلك القرار. ويبقى أن القرار الإيجابي المُبادئَ هو الذي يعزز قبول المرء لذاته واعتداده بقدرته وملكاته.
(٣) آليات العلاج النفسي
خير وسيلة نفهم بها آليات المدخل الوجودي هي أن نتأمل الفعالية العلاجية الكامنة في بعض الهموم النهائية.
(٣-١) الموت والعلاج النفسي
يلعب مفهوم الموت دورًا هامًّا في العلاج النفسي. وذلك بطريقتين مختلفتين:
- الأولى: حين يقع للإنسان وعيٌ زائدٌ بفنائه وتناهيه، ناجمٌ عن مواجهةٍ شخصية مع الموت، فقد يُحدثُ له ذلك تحولًا حاسمًا في منظور رؤيته للحياة ويؤدي به إلى تغير الشخصية.
- الثانية: الموت مصدر أولي للقلق. ولهذا المفهوم متضمنات هامة وعديدة تتصل بالعلاج.
(٣-٢) الموت بوصفه موقفًا حدِّيًّا
ولعل مواجهة المرء لموته الشخصي هي أشد المواقف الحدية وأبلغها شأنًا. فمثل هذه المواجهة لها من القوة ما يحدث تحولًا جسيمًا في الطريقة التي يعيش بها المرء في العالم. وهناك أمثلة لا تُحصَى على هذا المبدأ، سواء من الأدب الرفيع أو من الممارسة الإكلينيكية مع مرضى المراحل المتأخرة (يالوم، ١٩٨١م، ص١٦٠).
وقد سجل يالوم عددًا من حالات التغير الشخصي الكبير الذي كان يحدث لمرضى السرطان وهم يواجهون موتهم الخاص (يالوم، ١٩٨١م، ص١٦١). كان بعضهم يصرح أنه تعلَّم ببساطة أن «الوجود لا يمكن أن يُسَوَّف»، وأنهم لم يعودوا يرجئون الحياةَ إلى زمنٍ لاحقٍ في المستقبل. لقد أدرك هؤلاء المرضى أن المرء لا يمكنه أن يعيش بحق إلا في الحاضر. وهذا بالتحديد هو ما يغيب عن المريض العصابي؛ فهو إما مسكونٌ بهواجس الماضي، أو مرعوبٌ بتوقعات المستقبل.
إن مواجهة المرء لأحد المواقف الحدية لتَحثُّه على أن يُحصي النِّعَمَ التي بين يديه، وأن يفتح عينيه من جديد على كل ما هو طبيعي من حوله؛ حقائق الحياة الأولية … تبدُّل المواسم … الرؤية والاستماع واللمس والحب. كم من خبرات غالية في الحياة تُفَوِّتُها علينا همومُنا التافهة وانشغالنا بما لا نملك وخوفنا على وضعنا وهيبتنا.
يتفجع كثيرٌ من مرضى المراحل المتأخرة عندما يعاينون نموًّا شخصيًّا نابعًا من مواجهتهم للموت، ولسان حالهم يقول: «كم هي مأساة أن نكون بحاجةٍ إلى أن ننتظر كل هذا العمر، وأن ينهش السرطان جسدنا كيما نتعلم هذه الحقائق البسيطة».
تلك رسالةٌ فوق العادة موجهة إلى المعالجين. بوسع المعالج أن يستمد منها فعاليةً كبيرةً ليساعد المرضى اليوميين (الذين لا يعانون مرضًا جسميًّا) على أن يزيدوا وعيهم بالموت قبل الأوان المعتاد. وقد استخدم بعض المعالجين — سعيًا إلى هذا الهدف — تمارينَ منظمة كي يواجهوا الفردَ بموته الشخصي. ويسجل التراث السيكولوجي كثيرًا من ورش العمل الخاصة بوعي الموت (يالوم، ١٩٨١م، ص١٧٤). وبعض قادة العلاج الجمعي يبدءون خبرةً جماعية مختصرة بأن يطلبوا من الأعضاء أن يكتبوا نقش ضريحهم الخاص أو نعيهم الخاص. أو يقدمون تخيلات موجهة يتخيل فيها أعضاء الجماعة موتهم الخاص وجنازتهم. وقد قدم معمل التدريب القومي خبرة «جماعة دورة الحياة»، وفيها يقضي المشاركون وقتًا وهم يعيشون ويتحدثون ويلبسون على طريقة المسنين. ويقوم هؤلاء بزيارة مقبرة محلية، ويقومون أيضًا بتخيل احتضارهم وتخيل موتهم وجنازتهم.
على أن كثيرًا من المعالجين لا يعتقدون في ضرورة هذه المواجهات المصطنعة بالموت ولا ينصحون بها. بل يحاولون في المقابل أن يساعدوا مرضاهم على أن يعاينوا مظاهرَ الفناء والموت الداخلة في نسيج الحياة اليومية ذاتها.
هناك دلائل واضحة على قلق الموت في كل علاج نفسي لو التفت إليها المعالج والمريض كما ينبغي. فما من مريض إلا ويعاني من ضرب من الفقدان … فقدان الوالدين، الأصدقاء، الرفاق. الأحلام أيضًا يراودها قلق الموت؛ فكل كابوس هو حلمٌ بقلق الموت لم يتم حَبكُه. كل ما يحيط بنا يذكر بالموت؛ عظامنا ما تلبث أن تصرَّ وتصرِف كالبوابة العتيقة، بقع الشيخوخة تنبَثُّ في جلدنا، نذهب إلى حفلات قُدامى الخريجين فيروعنا كيف كبر الجميع وشاخوا، أطفالنا يكبرون، دورة الحياة تطوقنا.
تختلف نغمة الحزن اختلافًا كبيرًا بحسب علاقتنا بالفقيد ودرجة قرابتنا له. فوفاة أحد الوالدين تواجهنا بهشاشتنا وقلة منعتنا؛ إذا كان والدانا لم ينقذا نفسيهما فمن ذا الذي ينقذنا؟ كأننا بوفاة الوالدين قد خُلِّيَ بيننا وبين القبر، وصرنا نحن أنفسنا الحاجزَ المتبقي بين أولادنا وبين الموت.
«كنت أعيش في المنزل القديم، المنزل الذي أَهِلَ بالعائلة لثلاثة أجيال متتالية. كان هناك مَسخٌ فرانكنشتيني يطاردني في أرجاء المنزل. كنت خائفًا مرتاعًا. كان المنزل متداعيًا خَرِبًا، قرميدُهُ متفتت، وسقفه يرشح بالماء. الماء المرتشح غمر أمي (كانت والدة المريض قد توفيت قبل ستة أشهر). تعاركت مع المسخ. كان لديَّ عددٌ من الأسلحة، اخترت أحدها وهو مقوس النصل ذو مقبض، يشبه المنجل. شرطتُ المسخَ بهذا السلاح ورميتُ به من السطح فهوى على الرصيف ممدًا بلا حراك. لكنه ما لبث أن نهض مرة ثانية وعاد يطاردني خلال المنزل.»
كان أول تداعيات هذا الحلم في ذهن المريض: «أعرف أنني قد شارفت النهاية». من ذلك يتبين بوضوح أن موت زوجته الوشيك قد ذكَّره أن حياته هي أيضًا فانية متناهية، وكذلك جسده (الذي يُرمز له في الحلم بالمنزل المتداعي). وقد كان المريض في طفولته يراوده كثيرًا هذا المسخ الذي عاد إليه في هذا الكابوس.
وتُعد الأحداث الحياتية الكبرى، من قبيل تَهدُّدِ المهنة أو المرض الشديد أو التقاعد أو تكريس علاقة أو فسخ علاقة، كلها مواقف حدية هامة، وكلها تتيح فرصًا لزيادة وعينا بالموت. إنها تجارب مؤلمة في أغلب الأحيان بحيث تحمل المعالجين على التركيز الكلي على إزالة الألم. غير أنهم إذ يفعلون ذلك يفوِّتون فرصًا ثمينة للعمل العلاجي العميق لا تسنح إلا في مثل هذه اللحظات.
(٣-٣) الموت كمصدر أولي للقلق
الخوف من الموت هو مصدرٌ أولي للقلق ومنبعٌ أُمٌّ. فهو يبدأ في مرحلة مبكرة من الحياة، ويلعب دورًا كبيرًا في تشكيل بنية الشخصية. ويظل طوال العمر يولِّد القلق الذي يؤدي بدوره إلى الألم الظاهر وإلى تكوين الدفاعات النفسية الباطنة. غير أننا يجب أن نعلم أن قلق الموت، رغم شموليته واتساع آثاره، يقبع في المستويات الأعمق من وجودنا، وأنه يُكبت بشدة، ونادرًا ما نجربه بمعناه الكامل، وقلما يظهر بوضوح في الصورة الإكلينيكية. ومن ثم فهو قلَّما يصبح موضوعًا صريحًا في جلسات العلاج، وبخاصة العلاج القصير الأمد. إلا أننا لا نعدم من المرضى من هو مغمور بهذا الصنف من القلق بشكل صريح منذ بداية العلاج. فهناك كثير من المواقف الحياتية التي تدهم المريض بقلق الموت بحيث لا يجد المعالج بُدًّا من تناوله. أما في سياق العلاج المكثف الطويل الأمد فإن قلق الموت يتبدى دائمًا بشكلٍ سافرٍ ويفرض نفسه على العمل العلاجي.
القلق في الإطار الوجودي وثيقُ الصلة بالحياة ولصيقٌ بالوجود، بحيث ينأى بمفهومه عن مفهوم القلق في أي إطارٍ مرجعي آخر. فالطريف أن المعالج الوجودي لا يعمد إلى استئصال القلق! (اللهم إلا الدرجات الزائدة المعطِّلة منه). فالحياة لا يمكن أن تُعاش بلا قلق (ولا الموت يمكن أن يواجَه بلا قلق). إن مهمة المعالج، كما يذكرنا مايو (١٩٧٧م، ص٣٧٤)، هي أن يخفض القلق إلى مستويات محتملة، لكيلا يلبث أن يوظفه ويستخدمه استخدامًا بَنَّاءً كمرشد ودليل ووسيلة يزيد بها وعي المريض وحيويته.
ثمة حقيقة هامة يجب أن نحفظها جيدًا؛ فرغم أن قلق الموت قد لا يكون داخلًا في الحوار العلاجي بشكل صريح، فإن وجود نظريةٍ في القلق مبنية على الوعي بالموت، قد تمد المعالج بإطار مرجعي أو نظام تفسيري يعزز تأثيره ويرفع كفاءته بدرجة كبيرة. فكل من المعالج والمريض يريد أن يسلك الأحداث في تسلسلٍ مترابط. وما إن يتسنى ذلك حتى يغمر المعالجَ شعورٌ بالتحكم والتمكن يسمح له بتنظيم المادة الإكلينيكية. إن ثقة المعالج بنفسه وشعوره بالتمكن سيعزز — ولا شك — ثقة المريض في العملية العلاجية، وهو شرط ضروري للعلاج. زد على ذلك أن النظام الاعتقادي للمعالج كثيرًا ما يساعد على إبقاء المريض والمعالج لصيقين ملتئمين فيما تنمو وتزدهر الأداة الحقيقية للتغيير، ألا وهي العلاقة العلاجية.
إن النظام الاعتقادي للمعالج يمده بنسق معين يتيح له أن يعرف ماذا يريد أن يستكشف بحيث لا يصبح المريض مرتبكًا مشوشًا. وهو إن كان لا ينتهي إلى تفسيرات صريحة كاملة للجذور اللاشعورية لمشكلة المريض، إلا أنه قد يبث، بحذق وتوقيت مناسب، تعليقات تمس المكنون اللاشعوري للمريض، وتجعله يشعر بأن هناك من يفهمه.
(٣-٤) العزلة الوجودية والعلاج النفسي
يكتشف المرضى في العلاج النفسي أن العلاقات الشخصية قد تخفف وطأةَ العزلة ولكنها لا يمكن أن تمحوها. ويتعلم المرضى الذين يمارسون النمو في العلاج النفسي مردودَ الألفة وحدودها أيضًا! أي ما لا يمكن أن يأخذوه من الآخرين.
إنها لخطوة كبرى في العلاج النفسي أن نحث المرضى أن يتجهوا مباشرةً إلى العزلة الوجودية ولا يراوغوها. وأن ينغمدوا ببسالةٍ في مشاعر الوحدة والتيه. إن الذين يفتقرون في حياتهم إلى خبرات الألفة الحقةِ والعلاقة الأصيلة هم العاجزون بخاصة عن تحمل العزلة. وقد أثبت أوتو ويل أن المراهقين الذين يَنشَئون في أُسرٍ تعهدتهم بالحب والمساندة يكونون أقدر على تركها وتحمل البعد والوحدة إذا ما أَزِفَ وقتُ الانفصال عنها في مقتبل الشباب. بينما يجد الذين نشئوا في أُسَرٍ معذبةٍ مفككة صعوبةً كبيرة في ترك الأسرة. ربما يبتدر إلى توقعنا أن هؤلاء المعذَّبين أجدر بهم أن يهللوا ويبتهجوا إذ يستشرفون مرحلة التحرر والانعتاق من مثل هذه الأُسَر. ولكن العكس هو ما يحدث. فكلما ساءت الأسرة واضطربت تعذَّرَ على الأبناء تركها. لكأن هؤلاء الأبناء لم تُحسِن الأسرةُ تجهيزهم للانفصال، ومن ثَم فهم يتشبثون بها كدريئةٍ تقيهم ألم العزلة والقلق.
يجد كثيرٌ من المرضى صعوبة هائلة في قضاء الوقت بمفردهم. وهم بالتالي ينظمون برنامج حياتهم بحيث يُقصون أي وقت للوحدة. ومن المشاكل الجسيمة التي تتبع ذلك أنهم يستميتون في التماس ضروب معينة من العلاقات. إنهم بطريقة أو بأخرى لا يرتبطون بالشخص الآخر بعلاقة أصيلة ولا يُكِنُّونَ له حبًّا حقيقيًّا، بل يستعملون الآخرين لكي يتجنبوا بعض الألم المصاحب للعزلة. وعلى المعالج أن يجد طريقة يساعد بها المريض على مواجهة الوحدة بتدرج مناسب، وفي ظل نظام من الدعم والمساندة ملائم لذلك المريض. وينصح بعض المعالجين مرضاهم في مرحلةٍ متقدمةٍ من العلاج بأن يُلزِموا أنفسهم بفترات من الوحدة، أو يصفون لهم جرعات زمنية من العزلة يفرضونها على أنفسهم فرضًا، ويرصدون أثناءها أفكارهم ومشاعرهم ويسجلونها.
(٣-٥) اللامعنى والعلاج النفسي
يجب أن يرهف المعالج حِسَّهُ لالتقاط البؤرة الإجمالية والوجهة العامة لحياة المريض. هل هذا المريض يتجاوز نفسه ويتناول باهتمامه أشياء تتخطى ذاته؟ يروي يالوم (١٩٨١م) أنه كان يعالج كثيرًا من الشبان المنغمسين في أسلوب حياة العزاب بكاليفورنيا، والذي يتميز إلى حد كبير بالحسية والصخب الجنسي والسعي إلى الوضع المرموق والأهداف المادية. يذكر يالوم أن علاجه قلما كان يفيد ما لم يتمكن من إقناع المريض أن يركز على شيء ما يتجاوز هذه الأهداف.
بمجرد أن ينجح المعالج في أن يزيد حساسية مرضاه لهذه المسائل، يستطيع أن يعينهم على أن يركزوا على قيم تتجاوز أنفسهم. يستطيع مثلًا أن يبدأ في سؤال المريض عن أنظمته الاعتقادية، ويتقصى بعمق مسألة حبه لشخص آخر، ويستعلم عن آماله وأهدافه البعيدة المدى، ويستكشف اهتماماته ومساعيه الإبداعية.
يقول فيكتور فرانكل، وهو خير من عرف للمعنى أهميته في السيكوباثولوجيا المعاصرة: «السعادة تأتي ولا يؤتَى بها.»
يجب أن يجد المعالجون طريقة تنمي في مرضاهم شيئًا من الشغف بالآخرين والاهتمام بهم. ولعل العلاج الجمعي أنسب وسطٍ يمكن أن تتم فيه هذه المحاولة. ولنضرب مثلًا بالمرضى النرجسيين المنغمسين بذاتهم. إن الأسلوب الذي به يأخذون دون أن يُعطوا يصبح ساطعَ الوضوح في العلاج الجمعي. في مثل هذه الحالات يَجْمُل بالمعالج أن يزيد ميلَ الفرد وقدرته على أن يشارك الآخرين وجداناتهم بأن يطلب من المرضى من حين لآخر أن يحدِسوا بما يشعر به الآخرون إبان التقلبات المختلفة في مسيرة الجماعة.
ويبقى الحل الأمثل لمشكلة اللامعنى هو المشاركة. فالمشاركة المخلصة في أي نشاط من أنشطة الحياة التي لا تُحصَى يعزز احتمال أن يسلك الفرد أحداث حياته في شكل متسقٍ ما. أن تجد بيتًا، أن تهتم بأفراد آخرين، أن تهتم ببعض الأفكار والمشروعات، أن تبحث، أن تبدع، أن تبني. لكل هذه الأشياء ولغيرها من صور المشاركة جزاءٌ مضاعَف. فهي تُثرِي حياة الفرد داخليًّا، وتُذهِب عنه الضيق والكرب الناجم عما يمطره به الوجود من معطيات خام متشظية لا ينتظمها شكلٌ ولا يأتلفها معنى.
يجب أن يتناول المعالج مسألة المشاركة بنفس التوجه الموقفي الذي يستخدمه بشأن الرغبة. فليس بمقدور المعالج أن يخلق المشاركة أو يبث في المريض روح المشاركة، ولا هذا بالشيء الضروري. فالحق أن الرغبة في المشاركة في الحياة هي دائمًا كامنة بالمريض، وما على المعالج إلا أن يزيل من دونها العوائق، فيشرع في استكشاف ماذا يمنع المريض من أن يحب شخصًا آخر؟ لماذا لا يجد رضًا وإشباعًا في علاقته مع الآخرين؟ لماذا لا يجد إشباعًا في عمله؟ ماذا يصده عن أن يبحث عن عمل على مقاس مواهبه واهتماماته؟ أو أن يجد بعض الجوانب السارة في عمله الحالي؟ لماذا أهمل السعي الإبداعي والكدح الديني والأهداف المتجاوزة لذاته؟