الفصل الأول
البدايات
-
مصر القديمة.
-
الفينيقيون.
-
كريت والمينويون.
-
مسيني وطروادة.
-
طروادة وحرب طروادة.
-
العبرانيون.
***
البحر الأبيض المتوسط معجزةٌ. عند رؤيته على
الخريطة، ربما للمرة المليون نأخذه على عِلَّاته، أما عند النظر إليه
نظرةً موضوعية نكتشف فجأةً أن هناك شيئًا فذًّا … فريدًا، وكأن هذا
الكيانَ المائي قد صُمم عمدًا، وبتأنٍّ، وعلى نحوٍ لا نظير له على
الكرة الأرضية؛ ليكون مهدًا للثقافات. تحيط به اليابسةُ من كل الجوانب
تقريبًا، إلا أن مضايق جبل طارق تعصم ماءه من الركود. أعمدة هرقل
القديمة تلك، تحميه كذلك من عواصف الأطلنطي لتحافظَ على مياهه طازجةً
وغيرَ ملوَّثة — حتى السنواتِ الأخيرة على الأقل. الأبيض المتوسط يصل
بين ثلاثٍ من قارات العالم الست. مناخه، في معظم العام، من أجمل
المناخات التي يمكن أن تجدها في أي مكان.
لا عجب كبيرًا إذن أن يحتضن المتوسط ثلاثًا من أكثر حضارات العالم
إبهارًا، ويشهد ميلاد ثلاثة أديان كبرى وخروجها إلى حيِّز الوجود. ليس
ذلك فحسب، بل إنه وفَّر وسائل الاتصال الرئيسية. في العصور القديمة لم
يكن هناك طرق، وكانت وسيلة الانتقال الوحيدة المؤثرة عن طريق الماء، مع
ميزتها الإضافية وهي القدرة على نقل أحمال ثقيلة لا تستطيع أيُّ وسيلة
أخرى تحريكها. لعل فن الملاحة كان ما زال في بداياته، ولكن البحَّارة
الأوائل كان يمكنهم الإبحارُ من ميناء إلى آخرَ في معظم الحوض الشرقي
منه دون أن تغيب اليابسة عن أبصارهم، حتى في الحوض الغربي كان هناك
مجرًى مباشر تقريبًا يضمن الوصولَ إلى شاطئ صديق في غضون أيام
قليلة.
١ المؤكَّد أن حياة البحر كانت لها مخاطرها؛ رياح الميسترال
mistral التي تعوي باتجاه وادي الرون
Rhône لتضرب خليج ليون
Lyons بقسوةٍ أقربَ إلى الجنون، رياح
البورا
Bora في الأدرياتيكي التي تجعل
من الصعب السير في شوارع تريستا دون مساعدة، رياح الجريجالي
Gregale في البحر الأيوني، التي دمَّرت
أكثرَ من رحلة شتوية. كل تلك الرياح التي كانت نذيرًا بالهلاك بالنسبة
لغير المتمرسين. حتى رياح الملتيمي
meltemi المعتدِلة في بحر إيجه، التي
كثيرًا ما كانت نعمة بالنسبة للسفن الشراعية، كان يمكن أن تتحول فجأةً
إلى وحشٍ هائج يدفعها لترتطم بالصخور. صحيح أنه ليس هناك أعاصيرُ في
الأطلنطي ولا عواصف عاتية في الباسيفيكي، وأن الإبحار فيها كان سهلًا
في معظم الأوقات — مع قدْر من الحذر — إلا أنه لم يكن هناك ما يدعو
للمخاطرة؛ ولذا كان قُدَامى بحَّارة وملاحي المتوسط يجعلون رحلاتهم
قصيرة قدْر الإمكان.
كان إبحارهم بالقرب من الشاطئ الشمالي قدْر الإمكان. بالنسبة لمعظمنا
اليوم تبدو خريطة الأبيض المتوسط مألوفة، لدرجةِ أننا لم نَعُد ننظر
إليها بموضوعية. وبالرغم من ذلك، لو أننا كنا نراها للمرة الأولى،
لأصابتنا الدهشة لذلك التناقض بين المناطق الساحلية في الشمال والجنوب.
المناطق الشمالية عامرةٌ بالكثير من الظواهر بسبب شبه الجزر الإيطالية
والبلقانية التي تحيط بها ثلاثة بحار (التريني والأدرياتيكي والإيجي)،
ثم تلك البنية غير العادية للركن الشمالي الشرقي؛ حيث يؤدي الدردنيل
إلى بحر مرمرة الصغير الذي تقع مدينة إسطنبول على حافته الشرقية، مشرفة
على مدخل البوسفور ومن ثَم البحر الأسود. الساحل الجنوبي، على النقيض
من ذلك؛ فهو بلا ملامحَ محدَّدة تقريبًا مع قدْر من التضاريس التي تجعل
المرء يشعر دائمًا — حتى في المدن الرئيسية — بأن الصحراء ليست
بعيدة.
أحد أسئلة التاريخ القديم التي لم نجد لها إجابة هو: لماذا بعد
ألفياتٍ عديدة من السنين على وجود إنسان الكهف، كان أن ظهرت الومضات
الأولى للحضارة في مناطقَ متفرقة بعيدة عن بعضها، وفي الوقت نفسه
تقريبًا؟ بالنسبة للمناطق حول المتوسط كان هذا الوقت هو سنة ٣٠٠٠ق.م.
تقريبًا. صحيح أن «بيبلوس Byblos»
(جبيل الحديثة التي تبعد نحو خمسة عشر ميلًا شمالي بيروت) التي أعطت
اسمها للإنجيل (Bible) — الكلمة تعني
البردي — كانت مأهولةً في العصور الحجرية القديمة
(Palaeolithic Times)، ويعتقد كثيرون
أنها أقدمُ من ذلك؛ والحقيقة أنها ربما تكون أقدمَ مكان بقي مأهولًا في
العالم. ولكنْ بقايا أكواخ قليلة كلٌّ منها عبارة عن صخرة واحدة، وصنم
أو اثنان، من الصعب أن تعتبر حضارة؛ وهناك كما في أي مكان آخرَ لم
تحدُث أشياءُ كثيرة حتى قدوم العصر البرونزي (Bronze
Age) في مطلع الألفية الثالثة ق.م. وأخيرًا تبدأ
الأمور في التحرُّك. هناك بعض المقابر الضخمة (كلٌّ منها صخرة واحدة)
في مالطة، تعود إلى ذلك الوقت تقريبًا، وأخرى في صقلية وسردينيا، إلا
أننا لا نعرف شيئًا عمن بنوها. أما الثقافات الثلاث الكبرى التي ظهرت
آنذاك، فأصولها موجودة على مسافة أبعد ناحية الشرق: في مصر وفلسطين
وكريت.
لم يبقَ من عجائب الدنيا السبع المعروفة إلى اليوم سوى أقدمِها:
أهرام مصر؛ وهناك قدْر من الشك في احتمال بقائها خمسةَ آلاف سنة أخرى.
يُعتقدُ أن هرم سقارة المدرَّج (وهو أكثرها مهابةً وجلالًا) يعود إلى
العام ٢٦٨٦ق.م.، أما هرم الفرعون «خوفو Khufu» المعروف لهيرودوتس ولنا ﺑ
Cheops — وهو أكبر حجمًا وأكثر فخامةً
— فيعود إلى قرنٍ بعد ذلك. طول العمر هذا ينبغي ألا يدهشنا؛ فشكلها
وحده كافٍ ليضمن لها الخلود. لا يوجد أيُّ بناء آخر في العالم أقل
ثِقلًا عند القمة. حتى الزلازل لا يمكن أن تهزَّها. التحديق فيها يصيب
المرء بالذهول أمام عظمة الإنجاز وحجمه الضخم والطموح الذي كان وراءه:
ذلك أن إنسانًا، قبل نحو خمسة آلاف سنة، يقرِّر أن يبنيَ جبلًا وينجح
في ذلك. بعد خمس وعشرين سنة فحسب، بنى خفرع
(Chefren)، ابن خوفو، هرمًا آخرَ
متصلًا بقاعةٍ ضخمة من المرمر والجرانيت الأحمر، يصطف على امتداد
جدرانها ٢٣ تمثالًا له في وضع الجلوس. ثم كان أبو الهول. لعله صورة له،
إلا أن المؤكَّد أنه أول قطعة آثار منحوتة — فهو حفر في بروز صخري هائل
على سطح الأرض — عرفها الإنسان.
مصر التي بدأت باكرًا هكذا، كان تغيُّرها بطيئًا. خوفو وخفرع ينتميان
للأسرة الرابعة. بالنسبة للأسر الثلاث الأولى، لا نعرف شيئًا عنها سوى
أسماء بعض حكامها. الأخيرة، كانت الأسرة الحادية والثلاثون التي انتهت
في ٣٣٥ق.م. بغزو الفرس للبلاد: بعد ثلاث سنوات طردهم الإسكندر الأكبر،
الذي لم يتردَّد — كعهده دائمًا — وواصل زحفَه على بلاد الرافدين
والشرق الأقصى. بعد وفاته في ٣٢٣ق.م. انتقلت مصر إلى جنراله السابق
بطليموس (
Ptolemy)، الذي سوف تستمر
سلسلة نسبه (اليونانية أكثر منها مصرية) ثلاثة قرون أخرى. وهكذا من
البدايات الضبابية مع الأسرة الأولى إلى موت كليوباتره في ٣٠ق.م. تمتد
فترة طولها ثلاثة آلاف سنة؛ وعليه فالعين غير الخبيرة التي تحدق بسوء
نية في النقوش البارزة على جدران المعابد أو على الأعمدة التي لا نهاية
لها من الهيروغليفية، تجد صعوبةً بالغة في تمييز فن ألفية من فن تلك
التالية لها. بالرغم من ذلك تبقى بعض الأسماء العظيمة الأخرى في
الذاكرة؛ فالملكة حتشبسوت على سبيل المثال، التي كانت وصية على تحتمس
الثالث ابن زوجها وابن عمها، أكملت بناءَ معبد الكرنك وأقامت به
مسلتَين لتخليد اللحظة، وزيَّنت المعبد الجرانيتي الرائع، معبدَ الدير
البحري في طيبة الذي تظهر على جدرانه في هيئة رجل؛ وهناك تحتمس نفسه
الذي أمر عند موتها في ١٤٦٩ق.م. فيما يبدو أنه كان نوبةَ ضغينة
انتقامية، بتشويه كل رسم لها وتخريب كل نقش يحمل اسمها؛ إلا أنه هو
نفسه الذي وسَّع حدود مملكته إلى أعالي الفرات، وأثبت من خلال مواهبه
المتعدِّدة كقائد عسكري ومشرِّع وبنَّاء وراعٍ للفنون، أثبت أنه أحد
أعظم فراعنة مصر؛ وهناك أمنحتب الرابع المشهور ﺑ «إخناتون»
(١٣٦٧–١٣٥٠ق.م.)، الذي يمكن التعرُّف عليه في لمح البصر من وجهه الطويل
المدبَّب وانحناءة ظهره، وفخذيه الكبيرتين؛ والذي كان شخصًا متعصبًا من
الناحية الدينية؛ إذ حظر عبادةَ آمون إلهِ الشمس في طيبة، وكرَّس بدلًا
منه قرص الشمس آتون الذي تنتهي أشعته بأيدٍ صغيرة ممتدة لكي تبارك (أو
تلعن)؛ وهناك بالطبع ابنُ زوجته وخليفته الثاني الملك الصبي توت عنخ
آمون (١٣٤٧–١٣٣٩ق.م.) الذي ارتد إلى الدِّين القديم، والذي لولا اكتشاف
«هوارد كارتر
Howard Carter» لمقبرته
في ٥ نوفمبر ١٩٢٢م لظل مجهولًا، ولبقي تابوته الحجري تحت أكداس الكنز
الذهبي، مفخرة المتحف المصري إلى اليوم؛ وهناك رمسيس الثاني العظيم
(١٢٩٠–١٢٢٤ق.م.) المهووس بجنون العظمة، الذي أقام تماثيل لنفسه في كل
أنحاء مصر وبلاد النوبة، وربما كان هو فرعون الخروج، رغم أن العلماء ما
زالوا مختلفين بهذا الخصوص وأحسبهم سوف يستمرون هكذا لسنوات قادمة.
وأخيرًا وليس آخرًا، لا بد من ذكرٍ خاص لملكة إخناتون، نفرتيتي، التي
يؤكد تمثالها النصفي الذي تم اكتشافه في تل العمارنة — عاصمة زوجها —
أنها كانت واحدة من أكثر نساء العالم سحرًا وجمالًا.
٢ لا الإغريق ولا الرومان ولا — حتى — عظماء النحَّاتين في
عصر النهضة الإيطالي، استطاعوا تقديمَ نظيرٍ لهذا التمثال، ولو لم
تُنتج مصر القديمة عملًا فنيًّا آخرَ سواه، لكفى ذلك تلك الألفيات
الثلاث.
هناك سببٌ آخر لخلود مصر الغريب وهو جغرافيتها المدهشة؛ فهي تبدو لمن
ينظر إليها من الجو مثلما تبدو خريطتها تمامًا، امتداداتٍ واسعة من
اللون الأصفر، خطًّا أخضرَ يميل إلى الزرقة يتسلل رفيعًا من الجنوب،
وشريطًا ضيقًا من الخضرة على امتداد كلا الجانبين قبل أن يظهر الأصفر
مرةً أخرى. النيل بالنسبة لمصر مثل الشمس: ضرورة لاستمرار الحياة على
نحوٍ لم يحقِّقه أيُّ نهر آخر في الوجود، ضرورة مثل أنبوبة تنفُّس
لغواص في بحر عميق. في ظروفٍ كتلك، ليس هناك فرصة كبيرة للتغيُّر؛ خارج
القاهرة والإسكندرية ومدينة أو اثنتين من المدن الكبرى، تسير الحياة في
معظم أرجاء مصر كما كانت دائمًا. متعة كبيرة أن تستقل قطار النوم من
القاهرة إلى الأقصر وتستيقظ في الصباح الباكر لتجد نفسك تتحرَّك بمعدل
عشرة أميال في الساعة تقريبًا، على امتداد شاطئ النهر، بينما تتوالى
المناظر في إثر بعضها يغمرُها ضوء الشمس خلف النافذة، كأنها خارجة من
كتاب جغرافيا فيكتوري.
منذ الأزمنة الباكرة كان المصريون حالةً فريدة خاصة ومتجانسة. يبدو
أن معاصريهم الفينيقيين لم يحاولوا قط أن يخلقوا مثل تلك الحالة؛
وبالرغم من أنهم كانوا رحَّالة مجبرين على التَّرحال، كان موطنهم
فلسطين؛ وهناك ذِكر في العهد القديم
The Old
Testament لشعب صور وصيدا وبيبلوس وأرواد. (تقع
الأخيرة بالقرب من الساحل مقابل الشاطئ الجنوبي لقبرص تقريبًا). نشأت
هذه المجتمعات الأربعة كلُّها حوالي سنة ١٥٥٠ق.م.، وكانت كلها مرافئ؛
حيث كان الفينيقيون شعبًا بحريًّا. نقرأ في سِفْر الملوك الأول كيف أن
«حيرم» ملك صور أرسل الحرفيين والأخشابَ إلى الملك سليمان لبناء المعبد
في أورشليم، ولكنه ورعاياه كانوا يبقون على الشريط الساحلي الضيق بين
جبال لبنان والبحر. لقد أنشئوا وطوَّروا صناعةً محلية جديرة بالذكر،
وهي جمْع أصداف «المريق
Murex»، وهو
حيوان بحري رخوي يشبه الحلزون والأخطبوط، يفرز صبغًا أرجوانيًّا يساوي
أكثرَ من وزنه ذهبًا.
٣ إلا أن اهتمامهم الرئيسي كان دائمًا بتلك الأراضي ناحية
الغرب، التي كانوا يتعاملون معها باعتبارها تجمعاتٍ تجارية أكثرَ منها
أشباه دول.
عندما نتذكر الفينيقيين في أيامنا هذه، فنحن نتذكرهم باعتبارهم كانوا
— قبل كل شيء — ملاحين، أبحروا في كل أرجاء الأبيض المتوسط، وكثيرًا ما
كانوا يبحرون إلى ما وراءه. يخبرنا هيرودوتس بأنهم في حوالي سنة
٦٠٠ق.م.، وبأمرٍ من الفرعون «نيخو
Necho»، أبحروا مطوفين حول أفريقيا؛ ولو كان هيرودوتس
محقًّا في قوله (أو تقريبًا كذلك) لكان ذلك إنجازًا لم يتكرَّر على مدى
أكثر من ألفي عام (أما إذا كان مخطئًا، فكيف تسنَّى له أن يعرف، أو
يعتقد، أنه كان بالإمكان الطواف حولها؟). هناك بعض شكٍّ على أية حال في
أن يكون «حيرم» و«سليمان» قد شاركا في رحلات بحرية أحيانًا من
«إزيون-جيبر
Ezion-Geber» (بالقرب من
إيلات الحالية) إلى «أوفير
Ophir»
الأسطورية، التي كانت على الساحل السوداني أو الصومالي، رغم أن ذلك ليس
مؤكدًا. في مراحلَ أخرى كان التجار الفينيقيون قد أقاموا تجمعاتٍ
تجارية في «موزيا
Mozia» (في صقلية)
و«أيبيزا
Ibiza» (في جزر باليريا)
وعلى امتداد شواطئ شمال أفريقيا. بعد ذلك عبروا مضايقَ جبل طارق
لاستكشاف مرافئ الأطلنطي في إسبانيا ومراكش، والمؤكَّد أنه كان لهم
مخفر أمامي على قنة
٤ جبل «قادش
Cadiz»، تحميه
المستنقعات والأراضي السبخة المحيطة به؛ كما نعرف — حتى — أن شخصًا ما
يُدعى «هيميلكو
Himilco»، كان قد عبر
القنال الإنجليزي ورسا على الساحل الجنوبي لبريطانيا (ربما كورنوول
Cornwall) بحثًا عن القصدير. ظل
الفينيقيون قوةً ضاربة مهمة في الأبيض المتوسط حتى نهاية القرن الثامن
عشر ق.م.، عندما بزَّتهم — أولًا — قوة «آشور
Assyria»، ثم قوة الإغريق فيما بعد.
كان الفينيقيون قوةً حضارية كذلك، وتشهد على ذلك سلعُ الترف التي
جاءوا بها؛ فمن موطنهم الليفانتي (المشرقي) وكذلك من قبرص ومصر
والأناضول ووادي الرافدين، جاءوا بالعاج والأخشاب النادرة وأواني
الشراب المصنوعة من الذهب والفضة، وكئوس الزجاج والمرمر والأختام
والجُعل المصنوعة من الأحجار الكريمة وشبه الكريمة؛ إلا أن الهدية
الكبرى التي قدَّموها للأجيال التالية، لم تكن شيئًا له علاقة بالتجارة
أو الملاحة. المؤكَّد أنهم كانوا أول مَن وضع أبجدية. كانت
الهيروغليفية، بالأسلوب المصري، شيئًا جيدًا، إلا أنها كانت بطيئة في
الكتابة ومربِكة في القراءة غالبًا ولا تستطيع أن تعكس ظلال المعاني.
كانت خطوة متقدمة أن يتم اختراع نظام يمكن بواسطته تمثيلُ كلمة منطوقة
بمجموعة صغيرة من الحروف؛ ولا شكَّ كبيرًا في أن تلك الخطوة قامت بها،
بداية، مجموعةٌ من الشعوب الناطقة بالسامية على الشاطئ الشرقي للمتوسط.
أولُ نقش أبجدي واضح قابل للقراءة اكتُشف في بيبلوس، يعود إلى القرن
الحادي عشر ق.م. تقريبًا؛ ولكن الأشكال البدائية من الأبجدية —
المكوَّنة كلها من حروف غير صائتة — كانت مستخدمةً قبل ذلك بعدة قرون،
وإذا قلنا إن الاختراع الأصلي يعود إلى سنة ١٧٠٠ق.م. أو ١٥٠٠ق.م.، فلن
نكون بعيدين كثيرًا عن الصواب. بعد فترة قصيرة سوف يتم تطوير هذه
الأبجدية، ثم يتبنَّاها الإغريق، وبذلك يمكن اعتبارها سلفًا
للغتنا.
•••
عندما كان المصريون يبنون الأهرام، كانت هناك كذلك حركة نشطة في
كريت. كان الناس هناك يشتغلون بالنحاس والبرونز، والأهم من ذلك أنهم
كانوا يعملون بصناعة السكاكين البدائية من الزجاج البركاني الداكن
المعروف ﺑ «السبج
Obsidian» وهو زجاج
أقربُ شبهًا بالفحم وعندما يتشظى تصبح حوافُّه حادةً كالموسى. كان
السبج يُستورد من الأناضول، والاستيراد يعني التجارة؛ وقد وجد
الأركيولوجيون موادَّ أخرى (مثل العاج والكريستال الصخري والأحجار شبه
الكريمة) تعود إلى أزمنةٍ بعد ذلك بقليل. يبدو أن كريت كانت قد أصبحت
بحلول عام ٢٠٠٠ق.م. مفترقَ الطرق التجارية في الحوض الشرقي للمتوسط،
ونحن نعرف ذلك من مصادرَ ثقةٍ لا تقل عن أوديسيوس نفسه،
٥ وهو أن رياح بحر إيجه في فصلي الربيع والصيف كانت تساعد
على قطع المسافة من كريت إلى مصر في خمسة أيام على الأكثر، وأن القصرين
العظيمين على الجزيرة (في كنوسوس
Knossos وفايستوس
Phaestos) كانا تحت الإنشاء.
قلعة «وندسور
Windsor Castle» في
كريت هي قصر كنوسوس؛ حيث بدأت أعمال الحفر والاستكشاف الأولى على يد
سير «آرثر
إيفانز
Sir Arthur
Evans» في ١٨٩٩م. «إيفانز»، الذي كان ضئيل الحجم، داكن
البشرة، قوي الجسم، أعطى أجملَ سنوات عمره للقصر، وهو قصر شديد التميز
بالفعل: يغطي مساحةً كبيرة تصل إلى عشرة آلاف متر مربع وربما أكثر،
ترتفع أجزاءٌ منه إلى ثلاثة أو أربعة طوابق، أما شبكة أنابيب المياه
فتبدو أفضلَ من أي شيء آخر قد تكون عرفته أوروبا قبل القرن التاسع عشر.
المشكلة أن علم الآثار كان ما زال في بداياته في أيام «إيفانز»، فأطلق
الرجل العِنان لخياله الفني، إلى درجةٍ تترك زائر اليوم للمكان في حالة
دهشة بالغة. لو تخيَّلنا الملك «مينوس
Menos» يدخل القصر اليوم فلن يتعرَّف بسهولة على بعض ما
تبقَّى به من معمار وأثاث — العرش الجصي مثلًا (الذي ما زال مسموحًا
بالجلوس عليه)، وتلك الأعمدة الغريبة الشكل في باحة القصر — ولكن هل
سيمكنه التعرُّف على محاولات سير آرثر لإعادة إنتاج ديكوراته الداخلية:
الألوان القرمزية المتوهِّجة، الألوان الصفراء الأشبه بلون الزبد،
ملامح الفن الحديث التي لا تخطئها عين، أو ما هو أكثر مدعاةً للانبهار:
الجداريات؟ إلا أن هناك سؤالًا لا بد من أن نطرحه. هل الملك مينوس
شخصية حقيقية؟ بحسب «هومر
Homer»، كان
مينوس ابن «زيوس
Zeus» و«أوروبا
Europa»، ولكن «ديدوريوس سيكولوس
Didorus Siculus»، الذي كان يكتب
بالأجريجنتو
Agrigento في القرن الأول
ق.م.، يعطيه نَسبًا أقلَّ قدرًا، ويروي كيف أنه في صراع على ملك كريت،
كان يصلي ﻟ «بوسيدون
Poseidon»
٦ ليرسل له ثورًا من البحر يضحِّي به. استجاب الإله، إلا أن
الثورَ كان جميلًا لدرجةِ أن مينوس فضَّل ألا يضحيَ به، واستبقاه
لنفسه. انتقامًا منه، جعل بوسيدون زوجةَ مينوس «باسيفاي
Pasiphae» تقع في حب الحيوان. أسفر الزواج
غير الطبيعي بينهما عن المينوتور
Minotaur (نصف إنسان ونصف ثور) الذي
حبسه الملك في متاهةٍ من تصميم «ديدالوس
Daedalus». لا شيء من ذلك كله، بإقرار الجميع، يوحي
بشخصياتٍ تاريخية؛ إلا أن «ثيوسيديديس
Thucydides»، من ناحية أخرى، وهو المؤرِّخ الثقة، يُرجع
الفضل ﻟ «مينوس» باعتباره أولَ مَن أنشأ بحريةً عظيمة في المتوسط،
وأخضع جزر «السيكلاديس
Cyclades»،
ونظَّف البحر إلى حدٍّ كبير، من القراصنة وعيَّن حكامًا على بعض جزر
بحر إيجه. أما بالنسبة للمتاهة، فليس هناك أفضلُ منها وصفًا لقصر
كنوسوس؛ فزائره الذي لا يرافقه مرشد لا بد من أن يحسُد «ثيسيوس
Theseus» الذي وجد أمامه خيط «أريادن
Ariadne» ليُخرجه إلى الحرية بعد أن ترك
المينوتور ميتًا وراءه. وأخيرًا هناك الثور؛ فهو يمكن رؤيته أو على
الأقل هناك ما يدُل عليه في كل مكان من القصر؛ وهناك لوحة جصية رائعة —
لعلها تبدو أصليةً أكثر من معظم الأشياء الأخرى — يظهر فيها حيوانٌ في
حالة هجوم، وبطل رياضي صغير يتشقلب فوق قرنيه. المعروف أن الثور يلعب
دورًا رئيسيًّا في عقيدة المينويين.
٧
هذه الحضارة غير العادية — الموهوبة المثقفة شديدة الثراء — حكمت
إمبراطوريةً كانت تغطي معظم جزر إيجه، ومارست حتى سنة ١٤٠٠ق.م. تقريبًا
نفوذًا قويًّا على كل الحوض الشرقي من المتوسط، وخلَّفت آثارًا وصلت
إلى ترانسلفانيا والدانوب إلى جانب سردينيا وجزر أيوليا
Aeolian Islands القريبة من الساحل
الشمالي الشرقي لصقلية. لا بد أنه كان جميلًا أن تكون من أبناء تلك
الحضارة. ما تركه المينويون وراءهم يعطي انطباعًا جيدًا عن ذلك الشعب
المسالِم السعيد الخِلْو من الهم، الذي كان يشعر بالأمان لدرجةِ أن
مدنه كانت بلا أسوار؛ كما أن اختراع عجلة صنْع الفخار جعلهم يتفننون في
صنع أواني الشرب والأباريق وجِرار التخزين بأشكالٍ بالغة الدقة والجمال
ويزينونها بتصميمات وأشكال تجريدية لطيور وأسماك وزهور. كانت ملابسهم
كذلك متطورة — وغريبة أحيانًا — بها مساحاتٍ عارية كبيرة من أعلى
ومزينة بتخريم وتثقيب مبهر. كانوا يتمتعون كذلك بدرجة من الرفاهية غير
مسبوقة في التاريخ، لم يوجد لها مثيل حتى في أيام المجون والخلاعة إبان
الإمبراطورية الرومانية. كانت حياتهم سهلة ومناخهم مبهجًا. كانوا
يرتابون في كلِّ ما هو عسكري. كانوا يصنعون الحُب وليس الحرب.
وكما كان يحدث دائمًا عاجلًا أو آجلًا … كانت الكارثة! ما حدث بالضبط
ليس واضحًا. يقال إنه كانت هناك عملية غزو من عدوٍّ حاقد، وفي مثل تلك
الحال كان لا بد من أن يكون هذا العدو هو مسيني
Mycenae؛
٨ وهناك تفسير آخر مرجَّح (وإن كان لا يستبعد فكرةَ الغزو)،
وهو ذلك الفوران البركاني الهائل الذي حدث نحو ١٤٧٠ق.م. على
«سانتوريني
Santorini» (ثيرا
Thira الحديثة) على نحو ستين ميلًا
شمالًا. في نفس الوقت كانت موجةٌ عنيفة من الزلازل قد ضربت كنوسوس،
واجتاحت موجةٌ عاتية الساحلَ الشمالي من كريت لتغرق كل المرافئ على
امتداده. يضاف إلى ذلك أن ثوران البركان أرسل سحابةً رهيبة من الرماد
البركاني مثل ذلك الذي سيدفن «بومبي
Pompeii» بعد ثلاثة عشر قرنًا (يقال إن الرماد وصل إلى
الأناضول والمنطقة الموجودة فيها إسرائيل الآن)، وبعد أن أصبحت المدينة
مهجورة وبلا أي دفاعات كان يمكن أن تصبح فريسةً سهلة للغزاة الأجانب.
انتهت الحضارة المينوية.
•••
لا نعرف على وجه الدقة كيف أصبحت حضارةُ مسيني الإغريقية الوريثَ
والخليفة لحضارة كريت. كان هناك أناسٌ يعيشون في ذلك الحصن الجبلي
الصغير منذ الألفية السادسة ق.م.، إلا أنهم لم يكونوا يتميزون بشيءٍ
ما. ثم جيلًا وراء جيل، أصبحوا في سنة ١٥٠٠ق.م. تقريبًا أكثرَ ثراءً
وتقدمًا؛ مقابرهم العمودية على الأكروبولوس كانت مليئة بالحلي والمتاع
المصنوع من الذهب. الغريب في الأمر أن لا شيء من ذلك كلِّه يبدو عليه
تأثير الحضارة المينوية، هل حدث مثلًا أن كان المسينيون يعملون كمرتزقة
لفراعنة الأسرة الثامنة عشرة، وعادوا حاملين معهم الاعتقادَ المصري في
الحياة بعد الموت، وعادةَ ملءِ مقابرهم بالحياة الأخرى وظاهرة أقنعة
الموت الذهبية؟ إن أحد هذه الأقنعة هو الذي جعل «هينرش شليمان
Heinrich Schliemann»، أثناء قيامه
بالتنقيب في مسيني يبرِق لملك بروسيا: «لقد حدَّقت في وجه أجاممنون
Agamemnon.
٩ كم سيكون جميلًا أن نتصوَّر أنهم فعلوا ذلك، إلا أننا — من
أسف — لن نعرف».
بعد ذلك، وعلى نحوٍ سريع — وقبل ثوران البركان — سادت الأفكار
المينوية فجأة، وفي كل أنحاء مسيني: الفئوس المزدوجة وقرون التكريس
وسائر العلامات المميزة ﻟ «كنوسوس»، فهل كان ذلك نتيجةَ زيجة سلالية
مهمة أم أكثر من زيجة؟ ربما؛ حيث من الصعب التفكير في أي تفسيرٍ آخر.
على أية حال مرَّت مسيني بتربية سريعة، وعندما كان المينويون يعانون من
كسوفهم الغامض، كان خلفاؤهم جاهزين. في حوالي سنة ١٤٠٠ق.م. كان نفوذهم
الثقافي قد انتشر في جزر البيلوبونيز The
Peloponnese مع علاقاتٍ تجارية قد امتدت إلى ما هو
أبعد من ذلك. في إيطاليا، التي يبدو أنهم كانوا قد وصلوا إليها قرب
نهاية القرن الخامس عشر ق.م.، كانت هناك مستوطنات مسينية على امتداد
الساحل الجنوبي للأدرياتيكي، وخليج تارانتو
Taranto، وحتى إلى
سردينيا وإسكيا
Ischia وخليج نابولي. في مسيني نفسها،
الجدران الهائلة الحجم المحيطة بالأكروبولوس وبوابة الأسد الشهيرة في
الجانب الشمالي الغربي تعود إلى سنة ١٣٠٠ق.م.، كما كان هناك ذهب وبرونز
بكميات كبيرة، وكانت هناك براعةٌ حرفية متقدمة لإنتاج المرْكبات
الحربية القديمة المهيبة التي اشتهرت بها المدينة طويلًا. كانت مسيني
آنذاك في أوج قوَّتها. كانت مستعدة لحرب طروادة.
تقع طروادة في الركن الشمالي الغربي من آسيا الصغرى. المدينة اليوم،
أو ما بقي منها، تبدو مستوطنةً صغيرة جدًّا، والحقيقة أن الحرب نفسها،
التي يقال اليوم عادةً إنها وقعت في منتصف القرن الثالث عشر ق.م. … هذه
الحرب ربما لم تكن ذات أهمية تاريخية كبيرة. إلا أنها، من الناحية
الثقافية كانت واحدةً من أهم الحروب؛ فهي التي وفَّرت موضوعَ أكبرِ
الملاحم الشعرية في العالم. إليادة
Iliad «هومر»، التي كُتبت في القرن
الثامن ق.م. تروي قصةَ حصار طروادة الذي استمر عشر سنوات، أما الأوديسا
Odyssey التي جاءت بعدها، فهي تتتبع
جولات أوديسيوس Odysseus بطل الحرب،
قبل أن يعود إلى مملكته إيثاكا في النهاية. هنا كانت بداية الشعر —
وربما التاريخ كذلك — كما نعرفه اليوم.
القصة معروفة لنا جميعًا. باريس، ابن بريام
Priam ملكِ طروادة يخطف هيلين
Helen زوجةَ مينيلاوس
Menelaus ملكِ إسبرطة، التي كانت في
الوقت نفسه فقسَ بيضةٍ وضعتها ليدا
Leda بعد مغامرتها مع زيوس
Zeus متنكرة كبجعة — أجمل امرأة في
العالم. ثأرًا لذلك، سوف تعلِن رابطةٌ من المدن الإغريقية الحربَ على
طروادة وترسل ضدها أسطولًا ضخمًا، يحمل جيشًا قويًّا تحت قيادة
أجاممنون شقيقِ مينيلاوس. سوف يستمر حصار المدينة عشر سنوات، وفي
النهاية يستولون عليها بواسطة الحصان الخشبي. الحصان وجمال هيلين
«الوجه الذي أطلق ألف سفينة»، وربما هيلين نفسها يمكن نسبتهم إلى
الأسطورة، ولكن الإليادة كلها فكرةٌ رمزية، خرافة. عندما ذهب هينريش
شليمان إلى موقع طروادة لأول مرة في ١٨٦٨م كانت هناك آراءٌ كثيرة بأن
المدينة لم يكن لها وجود أصلًا، ومعظم مَن كانوا يصدِّقون كانوا
يفضِّلون موقعًا مختلفًا تمامًا، وهو مكان يسمَّى بونار باشي
Bunarbashi؛ كان شليمان أول مَن حدَّد
هيزارلك
Hisarlike، الواقعة على بُعد
ستة أميال شمالًا تقريبًا، واعتبرها المكانَ الصحيح بموجبِ ما جاء في
الإليادة من دلائلَ جغرافية. أحد الأسباب التي جعلته يرفض بونار باشي،
هو أنها كانت تقع على بُعد مسيرة ثلاث ساعات من الساحل: هومير يقول،
تحديدًا، إن اليونانيين كانوا يستطيعون الذهابَ والعودة عدةَ مرات في
اليوم الواحد بين سفنهم والمدينة المحاصَرة. وهناك سبب آخر وهو شدة
انحدار الميل:
تركت دليلي مع الحصان على القمة، وهبطت على الجرف الذي كان
مائلًا في أوله بزاوية حوالي ٤٥ درجة، ثم بزاوية حوالي ٦٥ درجة،
لدرجةِ أني كنت مضطرًّا للنزول على يدي ورجلي. استغرقني الوقت نحو
خمس عشرة دقيقة، وخرجت مقتنعًا بأنه لم يكن بإمكان أي كائن حي
النزول على منحدرٍ يصل ميله إلى ٦٥ درجة، ولا حتى الماعز، وأن
هومير، وهو الدقيق دائمًا في طبوغرافيته لم يكن بإمكانه أن يقنعنا
بأن هيكتور وأخيل هبطا هذا المنحدر المستحيل ثلاث مرات.
أما في هيزارلك فكان الوضع مختلفًا تمامًا:
المنحدرات التي على المرء أن يعبرها حول المدينة سهلة، لدرجة أنه
يمكن النزول عليها بسرعة ودون مخاطرة بالسقوط، وبالجري حول المدينة
ثلاث مرات يكون هيكتور وأخيل قد قطعا خمسة عشر كيلومترًا.
لسوء الحظ، فإن هومير يقول — بوضوح تام — في الإليادة إنه كان هناك
نبعَا ماء في طروادة، أحدهما ساخن والآخر بارد. أما في هيزارلك فلم يكن
هناك شيء من ذلك. من ناحيةٍ أخرى كان الوضع في بونار باشي أكثرَ
اختلافًا: وجد شليمان ما لا يقل عن أربعة وثلاثين نبعًا — كانت درجات
حرارتها كلها متساوية تقريبًا بحسب الترمومتر الذي كان يحمله — وفيما
بعد، اكتشف أنه كانت هناك ستة أخرى كان قد غفل عنها. تغلَّب شليمان على
هذه الصعوبة بأن افترض أن المجاري المائية تحت الأرض كانت قد تغيَّرت
بفعل الزلازل التي ضربت المنطقة، والمحتمل أن يكون ذلك قد حدث
بالفعل.
توجد كذلك دلائلُ تاريخية على حرب طروادة أو على شيء قريب الشبه بها.
السجلات التي تركها الحيثيون
Hittites١٠ الذين عاشوا في الأناضول تشير إلى حملةٍ عسكرية مسينية
كبيرة على آسيا الصغرى في القرن الثالث عشر ق.م.؛ يضاف إلى ذلك أن
المدينة التي اكتُشفت في الطبقة الأركيولوجية السادسة من الطبقات التسع
المكتشفة في موقع هيزارلك — التي يوجد إجماعٌ الآن أنها تنتمي إلى
طروادة هومير — كانت تحمل دلائلَ كثيرة على النهاية العنيفة التي آلت
إليها. سوف نقتنع بذلك، وليس لأن شليمان بالطبع كان مقتنعًا به. قام
شليمان بالحفر نزولًا إلى الطبقة الثانية ليجد أمامه في اليوم قبل
الأخير كميةً كبيرة من الذهب، ثم أعلن بعدها للعالم أنه قد اكتشف
مجوهرات هيلين طروادة، بل إنه حتى التقط صورةً لزوجته اليونانية
الجميلة وهي تتقلَّدها. الآن، نعرف أن هذا الكنز كان يعود إلى فترةٍ
سابقة تقدَّر تقريبًا بألف عام قبل الملك بريام. مسكين السيد شليمان:
لم يعرف قط أنه كان مخطئًا.
١١
لم تعرف القرون الثلاثة أو الأربعة التالية لحرب طروادة حضارةً بارزة
من النوع الذي نتناوله هنا. كانت فترة تحوُّل وانتقال حفلت بغزوات من
قِبل القبائل الدورية
١٢ Dorian Tribes من الشمال،
وارتحالات سكانية وتنقُّلات تضمَّنت إقامة مستوطنات يونانية جديدة في
آسيا الصغرى. لم تستقر الأمور مرةً أخرى إلا في سنة ٨٠٠ق.م. تقريبًا،
عندما اتَّحدت الأراضي المتاخمة لبحر إيجه بلغةٍ واحدة وثقافة واحدة.
حتى ذلك الحين كان لا يمكن أن تجد مدينةً واحدة أو بلدة واحدة قد بزَّت
غيرها أو تقدَّمت أكثرَ منها بين تلك المجتمعات الإقطاعية الكثيرة
المعزولة عن بعضها، التي صنعت العالَم اليوناني. ولكن التجارة عادت
وعاد الاتصال، والأهم من ذلك كلِّه أنه تم إحياء الأبجدية وتحسينها
بإدخال الحروف الصائتة. هكذا إذن كان المسرح معدًّا لبدايات الأدب،
وجاء ظهور هومير في موعده عام ٧٥٠ق.م. ولو أن هومير كان قد وُلد قبل
ذلك لما كانت ملحمتاه. ربما ما كانت اللغة لتكون جاهزةً له، ولربما كان
هو نفسه قد بقي أميًّا. (يجادل كثير من الباحثين بأنه كان بالفعل
أميًّا؛ فالعملان يحملان سمات الأدب الإنشائي الشفاهي، وكلتاهما لا
تخلو من عدم ترابط واتساق، وكثيرًا ما يبدو فيهما الشاعر متناقضًا مع
نفسه).
١٣ وحتى لو أنها كُتبت هكذا في الأصل، فنحن نعرف بكل تأكيد
أنها دوِّنت لأول مرة لتصبح طبعةً حقيقية، تحت حكم «بيزيستراتوس
Peisistratus» حوالي ٥٤٠ق.م.
أيًّا كانت طريقة كتابتها فإن هومير كان ينشد عن عصرٍ ذهبي، عصرِ
آلهة وأبطال لا يوجد شيء مشترك بينهم وبين عالَم أيامه الرتيب؛ إلا أن
ذلك العصر بالنسبة له، مهما كان مختلفًا، ما كان ليبدو بعيدًا جدًّا.
كان الشاعر يكتب بعد نحو خمسمائة عام من الأحداث التي يصفها — فترة
أقصر من تلك التي تفصلنا عن «حروب الورد
Wars of the Roses»، ولو أنه كان أيونيًّا
Ionian، كما هو متَّفق عليه،
١٤ فإن طروادة نفسها لم تكن بعيدة جدًّا.
نعرف كذلك شاعرًا مهمًّا آخرَ يبدو أنه كان معاصرًا لهومير تقريبًا.
يخبرنا «هزيود
Hesiod» أن عائلته كانت
من سلالة يونانية برغم أن والده كان قد استقرَّ في «بويتيا
Boetia» فترةً قصيرة قبل أن يُولد. لعل أهم
أعماله هو «مولد الآلهة
Theogony». في
هذا العمل يروي الأحداث التي أدَّت إلى ميلاد وسلسلة نَسب زيوس: إخصاء
«أورانيوس
Oranus» بواسطة
«كرونوس
Cronus»، وانقلاب آلهة
الأولمب على كرونوس. والتيتان
The Titans.
١٥ ترك هزيود عدةَ قصائد أخرى طويلة (موجودة إما كاملة أو
أجزاء منها)، لعل من أهمها «أعمال
وأيام
Works and Days»، وهي عملٌ مختلف عن «مولد الآلهة». عمل أقرب إلى
الوعظ منه إلى أي شيء آخرَ، كتبه قسٌّ إنجليزي في أواخر القرن السابع
عشر يتغنَّى بفضائل الأمانة في أداء العمل ويستنكر الكسلَ والإهمال،
كما يحتوي على نصائحَ عملية في موضوعاتٍ مختلفة مثل الزراعة واتباع
الدين والسلوك القويم. المثير للدهشة أن هزيود ليس مقروءًا اليومَ على
نطاق واسع، رغم أهمية قصائده. اللافت أن يكتب ذلك في ذلك الوقت، إلا
أنه لم يكن لديه شيء من دافعية هومير … لا شيء من حيويته … لا شيء من
خياله الجسور.
ربما تكون قد حدثت واحدةٌ من أهم الهجرات في التاريخ بعد نحو عشر أو
خمس عشرة سنة من حرب طروادة: هجرة العبرانيين بقيادة موسى الذي خرج
بشعبه من مصر إلى أرض كنعان المعروفة لنا ﺑ «فلسطين». أما إذا كانت
المسافة، القصيرة نسبيًّا، التي قطعوها — نحو ٤٠٠ ميل على الأكثر — قد
استغرقت أربعين سنة بالفعل كما يخبرنا الكتاب المقدس، فذلك أمرٌ مشكوك
فيه. المؤكَّد أكثر من ذلك، أن وجودهم لم يكن مقبولًا من الفلسطينيين
والآخرين الذين كانوا يسكنون ما يعتبره شعبُ إسرائيل أرضَهم الموعودة
Promised Land. كانت قبائلهم الاثنتا
عشرة الأصلية، مضطرةً من ثَم للاتحاد واختيار ملوكٍ يعيشون تحت عروشهم
حياةً قومية أكثرَ استقرارًا. كان «شاءول Saul» الذي حكم من ١٠٢٥ق.م. إلى ١٠١٠ق.م.، أولَ أولئك
الملوك؛ ولكن تحت خليفته داود وابنه سليمان كان أن وصلت المملكة إلى
ذروتها. كان داود هو الذي أباد الفلسطينيين وأخضع كلَّ القبائل
المجاورة واختار مدينةَ أورشليم الواقعة على التل عاصمةً له. هنا سيبني
سليمان قصرًا رائعًا، وأول هيكل — أكثر روعةً — ويطوِّر مرفأ
«إزيون–جيبر Ezion-Geber» على البحر
الأحمر، صانعًا بذلك صلةً مباشرة بين المملكة وأفريقيا.
إلا أن ذلك لم يستمر. انشقَّت المملكة بعد موته إلى مملكة إسرائيل في
الشمال، ومملكة يهوذا Judah في الجنوب.
النزاع والخلاف المستمر بين الخَصمين المتنافسين أضعفهما وجعل منهما
فريسةً سهلة لأعدائهم؛ ففي حوالي منتصف القرن الثامن ق.م. غزاهم
الآشوريون، وفي سنة ٧٢٢ق.م. دُمرت إسرائيل تمامًا. أما يهوذا، فبقيت
تحت حكم ملِكها «حزقيا Hezekiah»
منيعةً مؤقتًا … لمدة عشرين سنة فحسب. في أواخر القرن سيهجم الملك
الآشوري «سنحاريب Sennacherib» على
أسوار أورشليم «هجوم الذئب على قطيع خراف»، بكلمات بيرون
Byron، ويطلب استسلام المدينة. بتشجيع
من النبي «أشعيا Isaiah»، تحدَّاه حزقيا. تقول السجلات الآشورية إن
سنحاريب كان مضطرًّا آنذاك للعودة مسرعًا إلى بلاده بسبب بعض المشكلات
المحلية، ومن ناحيةٍ أخرى فإن أشعيا يزعم — ويؤيده في ذلك إلى حدٍّ ما
هيرودوتس — أن وباءً معجِزًا أصاب جيشَ الغزاة. المهم أن أورشليم
نجت.
إلا أن النجاة لم تكن لفترة طويلة؛ إذ بعد قرن تقريبًا، في ٥٦٨ق.م.،
سيقوم «نبوخذ نصر Nebuchadnezzar»
بتدمير المدينة تمامًا وسمْل عينَي الملك «صدقيا Zedekiah» بعد إجباره أولًا على أن يشهدَ موت أبنائه، وبعد
ذلك سيحمله مع عشرة آلاف من كبار أعوانه بمن فيهم النبي «حزقيال Ezekiel» إلى الأسرِ في بابل. في سنة
٥٣٨ق.م. فحسب، بعد أن يستوليَ «قورش الكبير Cyrus the Great» على بابل، سيسمح للمنفيين، أو اليهود كما
نطلِق عليهم الآن بالعودة، ليقيموا دولةً عبرية جديدة ويستعيدوا
الهيكلَ ويعيدوا الطقوس القديمة كما هي في أسفارهم، وتنتهي متاعبهم
مؤقتًا.
هوامش