الفصل العاشر
نهاية الشرق اللاتيني
***
لا يوجد اختلاف بين اثنين من حكام أوروبا المعاصرين
أكثر مما هو بين الإمبراطور فردريك الثاني ولويس التاسع ملك فرنسا. كان
فردريك مثقفًا ومفكرًا حرًّا. لم يكن لديه احترام كبير للدين، والحقيقة
أنه أمضى شطرًا كبيرًا من حياته تحت الحِرْم الكنسي. صحيح أنه كان يبدي
بعض التشدُّد أحيانًا مع المهرطقين وبخاصة عندما كانوا يهددون سلام
وأمن الإمبراطورية، إلا أنه كان، في الوقت نفسه، قد شبَّ في بلاط
باليرمو بين العرب واليونانيين، وكان يكنُّ احترامًا شديدًا وفهمًا
عميقًا لكلٍّ من الإسلام والأرثوذوكسية الشرقية، ولم يكن يجد متعةً
ذهنية أكبرَ من مناقشة أدق القضايا اللاهوتية مع علماء من العقيدتين.
كرجل دولة، لم يكن له مبدأ معيَّن، ولكنه كان براجماتيًّا في الوقت
نفسه، وكان يعرف جيدًا أنه، إن كان له ولإمبراطوريته أن يظلا موجودين،
فإن الضمير النقي لن يكون صالحًا لذلك. في مظهره، لم يكن وسيمًا
مطلقًا، كان عريض المنكبين، قصيرًا، ممتلئ الجسم، شعر رأسه قليل يميل
إلى الحمرة. أما من الناحية الجسدية فكان صلبًا … مثل المسامير!
في الناحية الأخرى، كان لويس
التاسع قديسًا … وكان ذلك يبدو مناسبًا له. يصفه أحد الرهبان
المعاصرين، كان قد رآه قبل أن يغادر إلى الأراضي المقدسة فيقول: «رفيع
… نحيل … مهزول، طويل القامة، له سيماء ملائكية وشخصية سمحة.» أحيانًا
كانت تشوِّه وجهَه، تحت شعره الأشقر، علاماتُ غضب بسبب حمرة مرض جلدي
ظل يعاني منه طيلةَ حياته، وبالرغم من ذلك كان وجهه يشعُّ طيبة. أما
السير «ستيفن
رانسمان Steven Runciman» فيكتب قائلًا: قليلٌ من البشر كانوا فضلاء على
هذا المستوى، إلا أن الغريب أنه لم يكن هناك تظاهُر بالتقوى، كان لويس
على العكس مملوءًا بالحيوية، شجاعًا في القتال، صارمًا وحاسمًا عند
الضرورة. أمضى معظم حياته المتَّسمة بالوعي واليقظة في الصلاة، وغالبًا
منبطحًا على الأرض ناسيًا نفسه تمامًا لكي يعود مشدوهًا، ذاهلًا عن
مكانه، إلا أنه — كما كان هو نفسه يعترف — لم يكن لديه دموع «لكي يروي
جدب قلبه». ربما كان ذلك أحدَ أسباب كبح شهوات الجسد بالصوم بشكل
منتظم، والعناية الشخصية بالمرضى، وبخاصة أولئك الذين كانوا يعانون من
أمراض خطرة. بالنسبة للخطيئة فهو لا يمكن تصوُّر وجودها. كان عديم
الشفقة مع المهرطقين وغير المؤمنين، وما كان بالإمكان أن يستعيد
الأماكن المقدسة دون إراقة دماء، كما فعل فردريك على نحوٍ رائع.
وهو مصاب بشدة بالملاريا في أواخر العام ١٢٤٤م، أخذ الملك الذي كان
في الثلاثين من العمر آنذاك عهدًا على نفسه، وهو أنه في حال بقائه على
قيد الحياة ليقومن بقيادة حملة صليبية. كان عند كلمته دائمًا، وفور
شفائه بدأ استعداداته. استمرت الاستعدادات ثلاث سنوات، ولكن في الخامس
والعشرين من أغسطس ١٢٤٨م، ترك أمَّه «بلانش القشتالية
Blanch of Castile»
١ كوصية على العرش، وأبحر من ميناء «أيجيوس مورتس
Aigues Mortes» الذي كان قد شُيد
خصيصى لهذا الغرض، تصحبه زوجته «مارجريت البروفنسية
Margaret of Province»
٢ واثنان من أشقائه الثلاثة: «روبرت آرتوا
Robert of Artois»، و«شارل الأنجوي
Charles of Anjou»؛ وفي الثامن عشر
من سبتمبر رسوا في ليماسول في قبرص، المكان المحدَّد للقاء جيش الحملة؛
حيث عكف لويس على التخطيط لحملته. بالرغم من كارثة الحملة الخامسة، كان
هناك إجماعٌ على أن تكون مصر هي الهدف مرة أخرى؛ فهي الإقليم الأغنى
والأكثر تعرضًا للهجوم في إمبراطورية صلاح الدين. لسوء الحظ لم يكن
الوقت مناسبًا لبدء العمليات فورًا — لم يكن بالإمكان اجتياز الممرات
القريبة من النيل إلا في حالة هدوء الطقس — ومع قدوم الربيع ظهرت مشكلة
أخرى؛ نقصٌ حادٌّ في عدد السفن. كان لويس قد اعتمد على الجمهوريات
الإيطالية البحرية لتجهيز العدد اللازم منها، ولكن عندما جاءت اللحظة
كانت بيزا وجنوة في حالة حرب، وفي حاجة إلى كل السفن التي يمكن أن
تحصلا عليها، بينما رفض الفينيسيون تقديمَ أي شيء؛ لأنهم كانوا رافضين
للحملة كلها. كان في مايو ١٢٤٩م فقط، أن استطاع الملك تدبيرَ وسائل
الانتقال اللازمة، حتى آنذاك هبَّت عاصفة شديدة بعثرت الجزء الأول الذي
أبحر من الأسطول واضطرته للعودة — بصعوبة — إلى ليماسول.
تحسَّن الوضع بعد ذلك، وفجر
الخامس من يونيو، أمام مواجهة شديدة، رسا الصليبيون على الرمال غربي
مصر. كان القتال طويلًا وضاريًا، ولكن الانضباط الفائق للفرسان
الفرنسيين حقَّق الانتصار في ذلك اليوم، وعندما هبط الليل انسحب الجيش
المصري على جسر العوَّامات الدائم إلى دمياط. عند وصوله، صدر الأمر
بالإخلاء التام وأطاع المسلمون الأمر، أما مَن بقي من الأقباط
المسيحيين، فأبلغوا أن المقاومة كانت قد انتهت؛ فتقدَّم الصليبيون
منتصرين على الجسر — الذي كان قد بقي سليمًا على غير المتوقَّع — ثم
إلى داخل المدينة. كان ذلك كلُّه على عكسِ ما حدث في الحملة الخامسة
التي كانت قد حقَّقت نتائجَ مشابهة ولكن بعد حصار دام سبعة عشر شهرًا.
ومثلما حدث في ١٢١٩م، تم تحويل المسجد الجامع إلى كاتدرائية، واستقرت
التشكيلات العسكرية الرئيسية الثلاثة (فرسان الهيكل والإسبتارية
والفرسان التيوتون) في أماكن إيواء مريحة، كما خصَّص لكلٍّ من أبناء
جنوة وبيزا — ولأبناء فينيسيا كذلك (وهذا هو الأكثر مدعاةً للاستغراب)
— شارعًا وسوقًا. أصبحت دمياط، باختصار، العاصمةَ الفعلية للشرق
اللاتيني.
إلا أنه سرعان ما بدأت المشكلات في الظهور. كان فيضان النيل السنوي
وشيكًا. ولأن لويس كان يعي تجربةَ الحملة الخامسة، أصر على عدم التقدم
إلا بعد انحسار الماء، وهو ما يعني أن جيشه كان عليه أن يبقى خاملًا
أثناء قيظ الصيف كله. بدأت مؤن الطعام في النفاد وظهرت الديزنطاريا
والملاريا في المعسكر؛ ومثل أبيه من قبلُ عرض سلطان مصر الأيوبي — الذي
كان يموت من السل — من على فراش مرضه مبادلةَ دمياط بأورشليم، ولكن
العرض رُفض فورًا؛ رفض الملك لويس التعامل مع كافر بالمسيحية. وبعد
انحسار الفيضان في آخر أكتوبر أصدر الملك أوامره بالتقدم نحو
القاهرة.
لم يكد الجيش يقطع ثلثَ المسافة إلى العاصمة تقريبًا، حتى وجد نفسه
في مواجهة جيش المسلمين عند المنصورة، وهي مدينة كان السلطان قد
شيَّدها قبل سنوات قليلة في موقع انتصاره على الحملة الخامسة. ثم كانت
كارثة، وكانت الكارثة في جملتها غلطة الكونت «روبير أرتوا Robert of Artois». كان قد تحدَّى
تعليمات أخيه الصارمة بعدم القيام بالهجوم إلا عندما يتلقَّى الأمر
بذلك، وقام يتبعه فرسان الهيكل وفرقة صغيرة من إنجلترا، بالهجوم على
المعسكر المصري، ليفاجِئ مَن فيه ويذبح عددًا كبيرًا منهم ويجبِر مَن
بقي على الفرار. لو أنه كان قد توقَّف عند ذاك الحد، فلربما كانت قد
سارت الأمور على ما يرام، ولكن المعسكر كان يبعُد عن المنصورة نفسها
نحو ميلين تقريبًا، فاندفع بقوَّاته — مزهوًّا بالانتصار — ليدخل
المدينة. هذه المرة كان المصريون مستعدين له. كانت أبواب المدينة
مشرعة، ووجد روبير ومَن معه الطريقَ سالكة حتى أسوار القلعة. هنا فقط
ظهر المدافعون وانقضُّوا عليهم من الشوارع الجانبية، غلِّقت الأبواب،
وكانت مذبحة. روبير نفسه لقي حتفه مع معظم فرسانه، وكذلك كل الإنجليز
تقريبًا، أما فرسان الهيكل المائتان والتسعون فلم يتبقَّ منهم على قيد
الحياة سوى خمسة.
لم تضَع هذه الكارثة نهايةً حاسمة للحملة. في بداية أبريل ١٢٥٠م
فحسب، عندما كانت الديزنطاريا والتيفود يفتكان برجاله أكثرَ مما يحدِثه
المصريون بهم، كان أن قرَّر لويس العودة. الآن، كان هو الذي يعرض
مبادلةَ دمياط بأورشليم، ولكن السلطان توران شاه — وكان قد خلف أباه
أيوب قبل نحو ثلاثة أشهر — لم يكن مهتمًّا بالأمر. كانت رحلة العودة
كابوسًا لمن كان يستطيع أن يركب حصانًا أو يمشي على قدميه، أما سلوك
الملك نفسه فكان أكثرَ من رائع وخاصة أنه كان مريضًا، وبشدة. وأخيرًا
عندما وجد قائد حرسه الشخصي أنه لم يكن يستطيع السيرَ أكثر من ذلك،
أخذه إلى منزل قريب، ولكن سرعان ما اكتشف المصريون مكانه فأخذوه مقيدًا
إلى المنصورة حيث تماثل للشفاء ببطء. كان فرسانه وجنوده يستسلمون
جماعاتٍ ويتم اقتيادهم للأسر … ومن أسفٍ أنهم كانوا سيئي الحظ. عندما
وجد المصريون عددهم كبيرًا ومن الصعب حراستهم، قاموا بإعدام مَن لا
يستطيع المشي منهم، أما الباقون فقُطعت رءوسهم في غضون الأسبوع التالي
… بمعدل ثلاثين رأسًا في اليوم. لم يُبقوا على أحد سوى كبار البارونات،
ربما على أمل الحصول على فدية كبيرة.
وبالفعل، حصلوا على فدية. إلى جانبِ عودة دمياط نفسها، التي دُفعت
مقابل حرية الملك، تم الاتفاق على أن يتسلم المصريون مبلغ نصف مليون
«جنيه توري
Livre Tournois»
٣ مقابل الباقين. كانت صفقة صعبة، وما كانت لتتم لولا الملكة
مارجريت. في أواخر مراحل الحمل، كانت قد بقيت في دمياط حيث وضعت
مولودها بسلام — بمساعدة أحد الفرسان الذي قام بدور القابلة، وكان في
العقد التاسع من العمر — بعد ثلاثة أيام فقط من تلقيها خبر الاستسلام.
أطلقت على وليدها اسم «جون
تريستا
John
Tristan» (أي طفل الأحزان). ثم كانت ضربة مزدوجة؛ كان
الخبر بأن مخزون الغذاء كان قد بدأ في النفاد بسرعة، وأن أبناء بيزا
وأبناء جنوة كانوا قد بدءوا يغادرون المدينة. قامت مارجريت باستدعاء
قادتهم إلى جوار فراشها، لتتوسَّل إليهم أن يبقَوا، مشيرةً إلى أنها لن
تستطيع الإبقاءَ على دمياط بدونهم، وفي حال سقوطها لن يكون لديها ما
يمكن أن تفديَ به زوجها. لم يوافقوا على البقاء إلا بعد أن عرضت شراء
كلِّ ما تبقى في المدينة من غذاء، وجعلت نفسها مسئولة عن توزيعه. كانت
التكلفة باهظة، ولكن دمياط نجت إلى أن تم تدبير الفدية. في آخر الأمر
تم تسليمها في السادس من مايو ١٢٥٠م، ودفع فرسان الهيكل بقيةَ المبلغ
فيما بعدُ على مضض. بعد أسبوع، أقلع لويس ومَن كانوا يستطيعون المشي
إلى عكا. أما المرضى بشدة والجرحى ومَن لا يستطيعون السفر، فبقُوا في
دمياط على وعدٍ بتوفير رعاية جيدة لهم. بمجرد أن غادرت السفن الميناء،
تم إعدام الجميع.
خلقت الحملة الصليبية السادسة الفاشلة حالةً من الفوران في العالم
الإسلامي. كان معظم القوة الإسلامية المحارِبة من المماليك، مجموعة
كبيرة من الجند غالبيتهم من الجيورجيين أو الشراكسة الذين تم شراؤهم
عبيدًا وهم أطفال في القوقاز وتم تدريبهم كخيَّالة. كانت قوَّتهم
ونفوذهم تتزايد باطراد إبَّان حكم السلطان أيوب، وبعد وفاته في نوفمبر
١٢٤٩م حاول توران شاه أن يحجم قوَّتهم. كانت غلطة فادحة. في الثاني من
مايو ١٢٥٠م، كان يقيم مأدبةً لأمرائه، وما إن همَّ بمغادرة المكان حتى
اقتحمت القاعةَ مجموعةٌ من المماليك وهجمت عليه. أصيب بجروح بالغة،
ولكنه تمكَّن من الفرار وألقى بنفسه في النيل، ولكنَّ قائدًا مملوكيًّا
يُدعى بيبرس تبِعه ليجهز عليه، ومعه انتهت الأسرة الأيوبية.
الآن، أصبح المماليك هم الأعلى سلطةً. تزوَّج قائدهم عز الدين أيبك
من أرملة أيوب، ليسبغَ على وضعه الصفةَ الشرعية ويعلن نفسه سلطانًا.
إلا أن الزواج لم يكن ناجحًا من البداية؛ في أبريل ١٢٥٧م قامت السلطانة
برشوة حرسه الخاص ليقتلوه في الحمَّام — وهو الفعل الذي كان لا بد أن
تندم عليه عندما ضربوها بالقباقيب حتى الموت بعد سبعة عشر يومًا. خلف
أيبك ابنه البالغُ من العمر خمسة عشر عامًا، وتم خلعه بدوره في ١٢٥٩م
ليحلَّ محلَّه صفي الدين قطز. كان مقدَّرًا لقطز كذلك أن يحكم أقلَّ من
عام، إلا أنه أثناء تلك الفترة القصيرة، كما سنرى بعد قليل، كان أن
حقَّق أحد أهم الانتصارات في تاريخ الإسلام، وهو الانتصار الذي أنقذ
العقيدةَ الإسلامية من الانطفاء شرقي المتوسط.
بحلول الربع الثالث من القرن الثالث عشر، لم يبدِ مسيحيو الشرق
اللاتيني دليلًا كافيًا يعبِّر عن الروح الصليبية التي كانت وراء ميلاد
مملكتهم؛ لم يَعُد الكثير منهم يفكِّر جديًّا في استعادة الأماكن
المقدَّسة، ولكنهم كانوا ما زالوا يسيطرون على كل الساحل الشرقي
للمتوسط تقريبًا، من غزة جنوبًا إلى أرمينيا الكيليكية شمالًا. بصرف
النظر عما يُطلق عليه مملكة أورشليم نفسها، وكانت عاصمتها الآن في عكا
بحكم الظروف، كانت هناك «معتمدية أنطاكية Principality of Antioch»، و«كونتية طرابلس County of Tripoli»، وكان يحمي
الثلاثة من الشرق سلسلة من القلاع الرائعة، ما زال الكثير منها موجودًا
إلى اليوم. على مسافةِ نحو ستين ميلًا من ساحل «قيليقية Cilicia»، كانت توجد مملكة قبرص المسيحية.
ربما كانت الحياة في تلك الأراضي جميلة جدًّا؛ حيث اعتدال الطقس وخصوبة
التربة، بينما كان ميناء عكا — وكان أفضل من أي ميناءٍ آخرَ على ساحل
فلسطين وسوريا — يضمن لها عائدًا تجاريًّا مستقرًّا. إلا أن كل شيء كان
يتوقَّف على العلاقات الطيبة بجيرانهم المسلمين، ولم يكن من السهل
تحقيقُ ذلك دائمًا. حتى لو كان المسيحيون مستعدين للتخلي عن أهدافهم
الصليبية، فإن المسلمين — بالتأكيد — كانوا يرفضون وجودَ أغراب وغير
مؤمنين (كفار) يحتلون ما كانوا يعتبرونه أراضيهم.
كانت هناك مشكلةٌ أخرى تمثِّلها الجمهوريات الإيطالية البحرية؛ إذ
بدون أساطيل فينيسيا وجنوة وبيزا، كان من المستحيل أن يستمر الاتصال
المنتظِم بالحوض الغربي للمتوسط، ولا التجارة القادمة من الشرق. إلا أن
الجمهوريات نفسها كانت متعجرفة وخائنة ولا يمكن الاعتماد عليها. كانت
تحجُب مساعداتها وقتَ الحاجة الماسة إليها، بل إنها أحيانًا كانت
تقدِّم للمسلمين ما يلزمهم من إمدادات عسكرية ضرورية. كذلك كانت
التشكيلات العسكرية شوكةً إضافية في خاصرة الحكومة؛ كان فرسان الهيكل،
وبخاصة الذين حقَّقوا ثرواتٍ طائلة من أنشطتهم المصرفية، كانوا عادةً
سعداءَ بتقديم القروض الضخمة لعملائهم من المسلمين. لذلك، ولأسباب أخرى
كثيرة، كان عددٌ قليل من المراقبين الموضوعيين هم الذين يتوقَّعون
للشرق اللاتيني الفرنجي عمرًا أطول؛ ولكن نهايته — وهذا أمرٌ مثير
للدهشة — تأخَّرت من جراء سلسلة من الأحداث لم تكن متوقَّعة، غيَّرت
غرب آسيا كله، وهي وصول «القبيلة الذهبية
The Golden
Horde»
٤ إلى ساحل المتوسط.
عندما مات «جنكيزخان
Genghis Khan»،
أولُ حكام المغول العظام في ١٢٢٧م، كان قد ترك لابنه إمبراطورية ممتدة
من بحر الصين إلى شواطئ نهر «الدنيبر
Dnieper». وعندما مات ابنه «أوجوداي
Ogodai» في ١٢٤١م، كانت تلك الإمبراطورية تضم معظم
روسيا الحديثة وهنغاريا وتمتد جنوبًا في فارس. بعد عامين فقط، في موقعة
«كوس داج
Köse Dağ»، أنزل جيش مغولي
بالأتراك السلاجقة
Seljuk Turks هزيمةً
ساحقة واضعًا بذلك نهايةً حاسمة لاستقلال دولة السلاجقة.
٥ كان حكَّام أوروبا يراقبون صعودَ هذا الشعب المرعب بدهشة
بالغة، لدرجةِ أن لويس التاسع أرسل سفيرًا إلى البلاط المغولي في
«كاراكورام
Karakorum»، وعندما وصل
إلى هناك في ١٢٥٤م، وجد رسلًا وسفراء من قِبَل كلٍّ من إمبراطور بيزنطة
اللاتيني، والخليفة العباسي في بغداد، والسلطان السلجوقي، وملك دلهي؛
كما وجد بعثات من العديد من الأمراء الروس (وبعد وقت قصير وصل مبعوثٌ
آخر من قِبل ملكِ أرمينيا).
أفاد سفير لويس التاسع في تقريره — وكان ذلك أمرًا لافتًا — أنه لم
يجد هناك أيُّ تمييز ديني على الإطلاق بين المغول؛ كان الخان الأعظم
«كوبلاي
Kublai» ابن جنكيز، يحضُر
الطقوس المسيحية والإسلامية والبوذية، بالرغم من أنه — نظريًّا — كان
«شامانيًّا
Shamanist».
٦ كان يؤمن بأن هناك «إلهًا واحدًا»، أما أسلوب عبادة هذا
الإله بالتحديد، فكانت مسألةً تخص المتعبِّد وحده؛ لأنها شأن
شخصي.
إلا أن التسامح الديني لم يكن يعني السلام. في يناير ١٢٥٦م قاد
«هولاكو
Hulagu»، شقيقُ كوبلاي، جيشًا
ضخمًا ضد فرقِ الحشاشين الذين كانت أعمالهم الإرهابية قد جعلت الأراضي
الفارسية التي احتلوها خارج السيطرة. بنهاية ١٢٥٧م لم يكن قد بقي على
قيد الحياة من أعضائها الذين كانوا يقدَّرون بالألوف، سوى نفر قليل.
بعد ذلك تفرَّغ هولاكو لفريسته التالية؛ المستعصم، الخليفة العباسي في
بغداد. سقطت المدينة في العاشر من فبراير ١٢٥٨م. تم إعدام الخليفة،
ولكن بعد أن كشف بنفسه ﻟ «هولاكو» عن مكان كنوزه المخبَّأة. قُتل كل
أهالي المدينة من المسلمين (نحو ثمانين ألف رجل وامرأة وطفل) باستثناء
بعض أجمل الفتيات والصبية الذين لجئوا للكنائس بمبادرة من «دوكوز خاتون
Dokuz Khatun»، زوجةِ هولاكو التي
كانت نسطورية
٧ ملتزمة؛ وتم منح البطريرك النسطوري أحد القصور الرسمية
القديمة لاستخدامه كنيسة وسكنًا خاصًّا له.
بينما عمَّت الفرحة كلَّ المجتمعات المسيحية في آسيا، هزَّت أخبار
سقوط بغداد كلَّ العالم الإسلامي. كانت الخلافة العباسية قائمةً منذ
أكثر من خمسة قرون؛ أي منذ ٧٤٧م. كانت قوَّتها السياسية قد زالت قبل
وقت طويل، إلا أنها ظلَّت بؤرةَ الإسلام الأرثوذوكسي وقوَّته
الموحَّدة. بدونها، فقدت العقيدة تماسكها، وكانت بالفعل قد أصبحت عرضةً
للاستيلاء عليها وبإمكان أي قائد مسلم لديه طموح وتصميم أن يختطفها.
هولاكو لم يكن قائدًا مسلمًا على أية حال، وكانت عينه آنذاك على سوريا.
كانت «مايا فاراقين Mayyafaraqin»
أولَ مدينة تسقط، كما أُجبر قائدها المأسور على أن يأكل لحمه إلى أن
مات، وبعدها كانت حلب. أما أنطاكية فهي مَدينةٌ بِنَجاتِها لأميرها
«بوهيمند السادس Bohemund VI» الذي ذهب
إلى معسكر هولاكو ليبايعه. بعد ذلك كان دَور دمشق التي استسلمت دون
مقاومة. دخل الجيش المغولي بقيادة نائب هولاكو، وهو مسيحي نسطوري آخر
كان يُدعى «كيتبوكا Kitbuqa»، دخل
المدينة يوم الأول من مارس بوهيمند وحموه ملك أرمينيا؛ وبكلمات سير
ستيفن رانسيمان: «كان مواطنو عاصمة الخلافة القديمة يشاهدون، للمرة
الأولى منذ ستة قرون، ثلاثة حكام مسيحيين يجوبون شوارعهم
منتصرين.»
لا بد أن ذلك كان يبدو بمثابة ناقوس الإسلام في آسيا بالنسبة
لكثيرين، وما يؤكد ذلك أن الغزاة المغول — وكانوا معظمهم مسيحيين مثل
كيتبوكا — كانوا يؤثرون المجتمعات المسيحية صراحة. الآن، وبعد أن أصبحت
سوريا مُؤمَّنة، بدأت أنظارهم تتجه إلى فلسطين. متجنبين أورشليم،
تقدموا جنوبًا مكتسحين كلَّ ما في طريقهم إلى غزة تاركين عكا دون مساس،
ولكنها كانت محصورة بين قواتهم والبحر.
كانت سرعة الغزو ودرجة نجاحه مثيرةً للدهشة كذلك، ولكن خطوط اتصال
المغول كانت طويلة بدرجة مقلِقة. في وقتٍ ما من خريف ١٢٥٩م وصلت أخبار
إلى معسكر المغول تفيد أن الخان الأعظم كان قد قُتل أثناء قيامه بحملة
في الصين. كانت الخلافة — كالعادة — موضوعَ صراع، وسرعان ما بات واضحًا
ﻟ «هولاكو» أنه لكي يحافظ على وضعه، كان لا بد من أن يعود فورًا إلى
الشرق؛ وهكذا انطلق في أوائل ١٢٦٠م مع الجزء الرئيسي من جيشه ليبدأ
مسيرةَ أربعة آلاف ميل إلى كاروكورام، تاركًا «كيتبوكا» مع قوة صغيرة
لحكم الأراضي المفتوحة على أفضلِ نحوٍ يستطيعه.
قبل رحيله بوقت قصير، كان هولاكو قد أرسل مبعوثًا لسلطان مصر
المملوكي يطلب منه الاستسلام. لم يقبل السلطان سيف الدين قطز ذلك، وأمر
بإعدام مبعوث هولاكو، وشرع من فوره في تجهيز حملة عسكرية ضد سوريا. في
السادس والعشرين من يوليو، عبَر الجيش المملوكي بقيادة بيبرس الحدودَ
واستولى على غزة دون مقاومة وتوغَّل شمالًا في فلسطين؛ وفي يومٍ ما من
سبتمبر (لا أحد يعرف التاريخَ على وجه الدقة)، التقى الجيشان في
«عين جالوت Ain Jalud» (عيون جولياث The Pools of Goliath). كانت القيادة
العليا للسلطان قطز، أما الطليعة المتقدِّمة فكانت — كالعادة — تحت
قيادة بيبرس. فورًا، تم تطويق المغول الذين كانوا يقاتلون بضراوة،
ولكنهم كانوا أقلَّ عددًا. تم أسر «كيتبوكا» وحُمل مكبَّلًا إلى
السلطان الذي أمر بإعدامه على الفور.
كانت تلك بالفعل نهاية المعركة — التي لا يكاد يذكرها أحدٌ اليوم
تقريبًا، مع أنها قد تكون واحدةً من أكثر المعارك حسمًا في التاريخ؛
لأنها أنقذت الإسلام من أهم خطرٍ واجهه. كانت أعظم ثلاث مدن في العالم
الإسلامي، بغداد وحلب ودمشق، في يد المغول، ولو كان كيتبوكا قد انتصر
وطارد عدوَّه في مصر، لما كانت هناك دولة إسلامية جديرة باسمها في شرق
المغرب. من جانبٍ آخر، أعطى الانتصار الإسلامي السلطنة المملوكية في
مصر مكان الصدارة في الشرق الأدنى حتى صعود الإمبراطورية العثمانية،
كما أنه قرَّر مصير الشرق اللاتيني.
•••
في غضون أسبوع من موقعة عين جالوت كان قطز في دمشق، وفي غضون شهر
كانت القوات الإسلامية قد استعادت حلب. عندما قاد السلطان جيشه عائدًا
إلى مصر منتصرًا، كان يبدو وكأنه تغلَّب على الجميع. إلا أنه كان يفقد
الثقة سريعًا في بيبرس، رجل القيادة الثاني شديد الذكاء، وعندما طلب
الأخير أن يكون حاكمًا على حلب — وهو المنصب الذي كان يمكن أن يوفِّر
له قوةً تجعله يسيطر على كل سوريا — رفض قطز طلبه فورًا، وكان ذلك
إبخاسًا بحق الرجل. في الثالث والعشرين من أكتوبر ١٢٦٠م قرَّر أن يخرج
للصيد في الدلتا مصطحبًا معه كبارَ أمرائه، وبمجرد أن أصبحوا على مسافة
آمنة من المعسكر، اقترب بيبرس في صمت وطعنه بسيفه من الخلف. بالرغم من
أن يديه كانتا الآن ملوثتين بدماءٍ سلطانية، لم يجرؤ أحدٌ على مناقشة
أحقية بيبرس في الخلافة، وكان أن حكم على مدى سبعة عشر عامًا تالية.
كان عملاقًا من الناحية الجسدية، وكان غدارًا شديد القسوة فظًّا غليظ
القلب … إلا أنه كان الأكثر مقدرةً بين كل الحكام المماليك.
لم تَضَع عين جالوت نهايةً كاملة لقوة المغول في المنطقة. عاد هولاكو
إلى سوريا بأسرعِ ما يستطيع، وشنَّ مقاومة قوية في الشمال الشرقي،
ولكنه مات في ١٢٦٥م تاركًا بيبرس حرًّا ليستأنف حملته ضد المسيحيين.
كانوا هم أيضًا قد ظلوا قوةً يُعمل لها حساب؛ كان «هتهوم الثاني
Hethoum II» ملكُ أرمينيا، و«بوهيمند
السادس Bohemnud VI» أميرُ أنطاكية
وكونت طرابلس، كانا عدوَّين خطرين. ولكن بيبرس واصل الضغط بقوة. هاجم
عكا نفسها أربع مرات وكان يرتد مدحورًا، إلا أنه في ١٢٦٧م استولى على
«قيسارية Caesarea» و«طورون Toron»، وخرَّب «قيليقية Cilicia»، موجهًا للمملكة الأرمينية ما كان في النهاية
بمثابة الضربة القاضية. شهد العام التالي سقوط «يافا Jaffa» — والأسوأ منه — أنطاكية أحد المراكز
البطريركية الأصلية، وأول معتمدية مسيحية في الشرق اللاتيني، وأكثر
المدن الفرنجية ثراءً وازدهارًا. لم يبدِ الغزاة أيَّ درجة من الرحمة.
تم توزيع الكنوز المكدَّسة على القوات، كما قُتل معظم الأعيان ورجال
الكنيسة، ولم تقُم للمدينة قائمةٌ بعد ذلك، وفي كل أرجاء عالم المسيحية
الشرقية كان الأثر النفسي كارثيًّا.
تبِع سقوطَ أنطاكية هدنةٌ كانت فرصة للطرفين، فيما نعتقد، في كلٍّ من
أوروبا وآسيا، وسيكون لها تداعياتها في الشرق اللاتيني؛ إعدام كونرادين
على سبيل المثال، الذي كان يعني انقراضَ الخط الشرعي للبيت الملكي في
أورشليم، ثم — الأكثر إزعاجًا — تقارير عن قدومٍ وشيكٍ للويس ملكِ
فرنسا بحملته الثانية والأخيرة.
•••
كان قد مرَّ الآن نحو عشرين عامًا منذ مجيء لويس إلى عكا بعد الكارثة
التي حلَّت به في دمياط. عاد ليجد في انتظاره مناشدةً عاجلة من أمه،
الملكةِ «ريجنت
بلانش Regent Blanche»، تتوسَّل إليه أن يعود فورًا إلى فرنسا، ولكن
ضميره لم يكن ليسمح له بذلك؛ إذ إن قبوله كان يصل في نظره إلى درجة
الاعتراف بالهزيمة. لم يكن شيء من أفكاره المثالية قد تحقَّق حتى الآن،
وما حدث هو أنها لم تكن قد دمَّرت جيشه فحسب، بل وكذلك كل القوى
المقاتلة في الشرق اللاتيني. قبل أن يعود إلى بلاده كان يشعر بأن الوضع
كان في حاجة إلى إصلاح، وإلى جانب ذلك … ألم يكن بعض جنوده ما زالوا
سجناء في مصر؟ كان من الواضح أنه لا بد من أن يبقى في الشرق لبعض الوقت
من أجلهم كذلك.
وهكذا بقي أربع سنوات أخرى. منذ وصوله إلى الشرق اللاتيني وهو يتعلم
الكثير. لم يَعُد يستطيع أن يحتقر غير المؤمنين بالمسيحية، ولو كان له
أن يستعيد وضعه لعاملهم كأنداد، وبفضل الانقسام الجديد في العالم
الإسلامي — حيث كانت فلسطين وسوريا قد بقيتا مواليتين بشدة للأيوبيين —
كان يمكنه أن يفعل ذلك بنجاح كبير. كان قد تعامل مع الأيوبيين
والمماليك، وتعامل مع الحشاشين لفترة قصيرة قبل اندحارهم النهائي على
يد هولاكو، وبالطبع كان قد تعامل مع المغول. من الناحية العملية كان
يعرف جيدًا أنه لم يكن من حقِّه التفاوض بالمرة لأن المملكة الصليبية
كانت قد أصبحت مِلكًا ﻟ «كونراد» ابنِ فردريك منذ ١٢٥٠م، ولكن كونراد
كان بعيدًا في ألمانيا، والمرجَّح أن يبقى هناك؛ أما في الشرق اللاتيني
فكان لويس مقبولًا كملكٍ أمر واقع. بفضله، تم إطلاقُ سراح سجناءَ
فرنجةٍ ممن بقُوا في مصر، كما أن المماليك وعدُوه بأن يعيدوا للمسيحيين
مملكةَ أورشليم القديمة كلها حتى نهر الأردن، بمجرد احتلالهم سوريا
وفلسطين.
ولكن مسألة مواجهة عسكرية أخرى لم تكن واردة، وعندما قامت حرب أهلية
في بلاده بعد وفاة الملكة بلانش في نوفمبر ١٢٥٢م، أدرك لويس أنه لم يكن
يستطيع تأجيلَ رحيله أكثرَ من ذلك. في الرابع والعشرين من أبريل ١٢٥٤م
أبحر من عكا ورسا في أول يوليو في «هيرس
Hyères» على الساحل الجنوبي لفرنسا.
كان حزينًا خائبَ الأمل. كان من بين كل الصليبيين هو الأكثر استقامةً
وشرفًا … والأكثر تقوى بمراحل، ولكن تدخُّله في الشرق اللاتيني كان
بمثابةِ كارثة أدَّت إلى فقدان ألوف الأبرياء الذين كانت نسبةٌ كبيرة
منهم من رعاياه. كان، كذلك مرتبكًا مذهولًا. كانت الهزائم والعثرات
الماضية التي واجهها الصليبيون تُعزى لحياتهم اللاهية المليئة
بالخطايا، وبالرغم من أنه كان يصلي بالساعات ويعيش حياةً أخلاقية
مستقيمة، لم يكن أسعد حظًّا منهم. هل — يا تُرى — كانت فكرة الحملات
الصليبية برُمَّتها غير مقبولة عند الرب؟
لم يستطِع أن يجعل نفسه يصدِّق ذلك، وظل يحلُم بمحاولة أخرى، برحلة
واحدة وأخيرة إلى الأراضي المقدَّسة تتوِّج بالنجاح وتمحو وصمةَ الفشل
من ضميره. لمدة ست عشرة سنة كانت تشغَله المشكلات الداخلية لفرنسا،
ولكن في ١٢٧٠م ظن أنه وجد فرصته. وبالرغم من أنه كان قد بلغ السادسة
والخمسين من العمر ومعتل الصحة، راح يستعدُّ للذهاب إلى فلسطين. لم يكن
واضحًا له ما يريد أن يفعله عندما وصل إلى هناك؛ فاستعادة الأماكن
المقدَّسة في مثل ذلك الوقت كانت تتطلب أكثرَ من معجزة. ولكن … أيًّا
كانت نواياه، فقد كانت في الحقيقة محلَّ استخفاف من شقيقه «شارل الأنجوي Charles Anjou» ملكِ صقلية.
كانت الهزيمة التي ألحقها شارل ﺑ «مانفريد» وإعدامه كونرادين —
مخلِّصًا بذلك إيطاليا إلى الأبد من بيت آل هوهنشتوفن — كانت قد أيقظت
فيه طموحًا أوسع. كانت تلك الطموحات تشمل الآن السيطرة على كل إيطاليا،
وتقليص وضع البابا ليصبح مجرد دُمية، وإعادة غزو القسطنطينية التي كانت
قد عادت مرةً أخرى إلى أيدٍ يونانية أعادتها إلى العقيدة اللاتينية،
وفي النهاية إقامة إمبراطورية مسيحية تمتد بطول وعرض المتوسط. كانت
فكرته الأولى إذن أن يُقنع لويس بالزحف على بيزنطة، ولكن الملك رفض أن
يفكِّر في الهجوم على شركائه المتدينين، سواء أكانوا مهرطقين أو لا؛
وهكذا حاول شارل مرةً أخرى، مشيرًا إلى أن أمير تونس كان يقال إنه
ميَّال للمسيحية وربما يكون مستعدًّا للتحول، ولو كان ذلك كذلك بالفعل،
فإن العقيدة الصحيحة يمكن أن تنتشر في كل الساحل الشمالي الأفريقي،
وحتى إن لم يحدث فيجب أن يكون موطئ قدم دائم على ذلك الساحل في
الحسبان.
من سخريات التاريخ أن الورع نادرًا ما يكون مصحوبًا بالذكاء. من
المستحيل أن نفهم لماذا صدَّق الملك لويس شقيقه للحظة، بالرغم من نصائح
معظم أصدقائه ومستشاريه. صدَّقه … وبصحبة الثلاثة الباقين من أبنائه
ركِب هو وجيشه إلى «أيجوس-مورتس
Aigues-Mortes» في أشدِّ فصول العام
حرارةً مبحرين إلى تونس في الأول من يناير.
هل تم أي تلمُّس للحقائق قبل الرحيل عن صدقِ ادعاء شارل؟ هل كان هناك
أي دليل — ولو ضعيفًا أو عرضيًّا — على أن يكون قد طرأ للأمير أن يتخلى
عن دين آبائه؟ ولو كان … فهل كان لويس يتصور أن الهجوم المسلح هو أفضل
الطرق للقيام بذلك؟ الحقيقة أن الجيش عندما رسا في الثامن عشر من
يوليو، اتضح على الفور أن ذلك كان أبعدَ ما يكون عن ذهن الأمير، الذي
كان يحشد رجاله ويقوي دفاعات مدينته ويستعدُّ للقتال.
من حسن حظِّه أنه لم يكن في حاجة لبذل أي جهد. صيفُ شمالِ أفريقيا
قام باللازم. بمجرد أن أقام جيش الصليبيين معسكرَه بدأ المرض ينتشر في
صفوف الجنود … وبدأ الموت يحصدهم. في غضون أسبوع كان المرض قد أصبح
عصيًّا على السيطرة، وكان لويس من أوائل الضحايا. في الأيام القليلة
الأولى كان يقاوم ويحاول التقدُّم ليستمع للقداس، ولكن بعد أن أصبح ذلك
مستحيلًا قبل مرور وقت طويل، كانت حركة ضعيفة من شفتيه هي كلَّ ما يوحي
بأنه كان ما زال قادرًا على متابعة الطقوس. عندما وصل شارل الأنجوي
بجيشه في الخامس والعشرين من أغسطس، أخبروه بأن أخاه كان قد قضى قبل
ساعات قليلة. كان فيليب ابنهُ الأكبر، ووريثُ الملك، طريحَ الفراش
مريضًا بشدة، إلا أنه تماثل للشفاء وبرأ من مرضه، وكان أنْ حكم تحت اسم
فيليب (الشجاع) خمس عشرة سنة بعد ذلك؛ أما «جون تريستا John Tristan»، الابنُ الأصغر ﻟ
«لويس»، الذي كان في الحادية والعشرين (كان قد وُلد في دمياط أثناء
الحملة السابقة) فلم يكن محظوظًا هكذا.
حارب شارل عدةَ أسابيع أخرى، وفي النهاية توصَّل إلى تفاهم مع
الأمير، وافق على أن يعود إلى إيطاليا مع ما تبقى من جيشه مقابل تعويض
معتبر. أنقذ شارل شرفه … ولا شيء آخر. كان المسمار الأخير قد دُق في
نعش الصليبيين؛ حيث — بصرف النظر عما تشير إليه دائرة المعارف
البريطانية ﺑ «نهاية مختلفة مفكَّكة» — كانت نهاية «سان لويس» هي
الأخيرة. الصراع الكبير الذي استمر قُرابة القرنين بين الصليب والهلال
انتهى أخيرًا … وكان النصر للهلال.
كان لا بد من أن يمرَّ بعض الوقت قبل أن يتقبل أمراء أوروبا هذه
الحقيقة. أحد الذين فشلوا في ذلك، كان الأمير «إدوارد
Edward» ابنَ ووريث هنري الثالث ملكِ
إنجلترا. كان هنري نفسه قد سبق أن حمل الصليب، ولكن الحروب الأهلية
كانت قد أصابت حكمه ولم تترك له فرصة لكي ينجز وعده. إدوارد الذي كان
في الثانية والثلاثين لم يكن لديه مثل هذا العائق، كما أن أخبار سقوط
أنطاكية جعلته يقرِّر الذهاب مع نحو ألفٍ من رجاله مكان أبيه. لم تكن
المراحل الأولى من رحلته سعيدة. كان ينوي في الأصل أن يلحق ﺑ «لويس» في
أيجوس-مورتس، وما إن وصل إلى هناك حتى وجد أن الملك قد غادر، وعندما
تبِعه إلى تونس علم بوفاة لويس. في مايو ١٢٧١م وصل إلى عكا أخيرًا؛ حيث
أصابه رعب شديد. كانت الحالة المعنوية متردية في كل مكان. كان الود
تامًّا بين السلطان وبين أهالي جنوة وفينيسيا، الذين كانوا يتاجرون في
كل شيء، ويحققون أرباحًا طائلة، من الأسلحة إلى العبيد. لم يكن أحد
لديه رغبة في القتال. بتحالفه مع المغول، سجَّل إدوارد انتصارات ضئيلة
ضد الحاميات المملوكية، ولكن المؤكد أنه لم يكن مؤرقًا لبيبرس. كان من
ناحية أخرى مصدرَ إزعاج لا بد من التخلص منه، ولذلك رتَّب السلطان لكي
يقوم أحد الحشاشين المسيحيين بدخول غرفته ويطعنه بخنجر مسموم، فأصابه
بجرح غائر في ذراعه سرعان ما تعفَّن، إلا أنه نجا من الموت بفضل
جِراحةٍ بدائية مؤلمة،
٨ بعدها أقلع من عكا في ١٢٧٢م وعاد إلى إنجلترا ليصبح الملك
إدوارد الأول.
بعد خمس سنوات، إن كان لنا أن نصدِّق الشائعات الملحَّة، تورَّط
بيبرس في محاولة اغتيال أخرى فشلت كذلك على نحوٍ كارثي. يقال إنه قدَّم
وعاء من الكوميس
٩ المسمَّم لأحد الأعداء، ولكنه شرب منه في غفلة. لم يعِش
ليرى نهاية الشرق اللاتيني؛ حيث كان ما زال هناك كثيرون من الفرنجة في
معظم المدن الرئيسية. في مدة حكمه التي استمرت سبعة عشر عامًا، كان قد
أزال معظم المناطق المسيحية حول الساحل. كانت أيام مَن تبقى من الفرنجة
معدودة، وكانوا يعرفون ذلك جيدًا.
•••
في منتصف المسافة تقريبًا عبر المتوسط، وقع حدث، يوم إثنين عيد الفصح
١٢٨٢م، لم يكن متوقعًا بالمرة، وكان له أثرٌ هائل على المتوسط كله.
يُعرف هذا الحدث — بأسلوب شاعري — ﺑ «حرب نواقيس المساء
الصقلية».
لو أن شارل الأنجوي كان ليؤسس مشروعه العظيم، فالمؤكَّد أنه سيكون في
حاجة إلى بابا مناسب يساعده في تحقيق هدفه. عند موت كليمنت الرابع في
١٢٦٨م، كان قد استخدم نفوذه في المجمع البابوي ليظل العرش البابوي
خاليًا لمدة ثلاث سنوات (وهي مدة تغطي الفترة التي كان موجودًا فيها في
الخارج في حملةِ أخيه)، لم تكد تنتهي فترة الفراغ حتى قامت السلطات في
«فيتيربو
Viterbo» بإزالة سقف القصر
الذي كان يجتمع في الكرادلة لانتخاب البابا. وقع اختيارهم المتسرِّع
على «جريجوري العاشر
Gregory X» الذي
اتضح أنه لم يكن مفيدًا، فأحبط محاولات شارل لكي يتم انتخاب فيليب
الثالث ملكِ فرنسا، ابنِ أخيه، ليكون الإمبراطور الروماني المقدَّس،
والتحالف مع بيزنطة لدرجة التوصل في مجمع ليون في ١٢٧٤م إلى عقدِ اتحاد
مؤقت بين الكنيستين الشرقية والغربية. ولكن في ١٢٨١م، ومع انتخابِ
فرنسي آخرَ هو «مارتين الرابع
Martin
IV»، كان أن حقَّق شارل مبتغاه. وحيث إنه كان حاكمًا
على بروفنس وعلى الجزء الأكبر من إيطاليا وملكًا اسميًّا على
أورشليم،
١٠ وأقوى — وأخطر — رجل في أوروبا، كان بمقدوره الآن أن
يحقِّق أعظم طموحاته بالزحف على القسطنطينية، التي كان «البابا مارتين
Pope
Martin» قد أعلن
إمبراطورَها «مايكل الثامن بالايولوجوس
Michael VIII
Palaeologus» منشقًّا. لم يكن قد مرَّ أكثر من عشرين
عامًا على استرداد اليونانيين عاصمتَهم من الفرنجة؛ ومع بداية ١٢٨٢م،
كانت فرصة احتفاظهم بها تبدو ضئيلة.
كان شعب باليرمو هو الذي أنقذهم. كان الفرنسيون مكروهين في كل ريجنو،
سواء بسبب إجحاف نظامهم الضريبي أو غطرسة سلوكهم، وذات مساء (في
الثلاثين من مارس) عندما راح جندي فرنسي يزعج امرأةً صقلية بالقرب من
كنيسة «سانتو سبيريتو Santo Spirito»
أثناء ما كانت الأجراس تدق لصلاة المساء، زاد غضب أبناء وطنها. انقضَّ
زوج المرأة على الجندي الفرنسي وقتله، وتبِع ذلك أعمال شغْب تطورت إلى
مذبحة. بمجيء الصباح كان ما يقرُب من ألفي فرنسي قد لقُوا مصرعهم. بعد
ذلك دخلت باليرمو وبعدها مسيني في حالة من الفوضى العارمة والاضطرابات.
كان التوقيت مناسبًا، وفي المراحل النهائية كانت الاضطرابات يقودها
نبيل من سالرنو يُدعى «جون
البروكيدي John of Procida»، كان صديقًا ﻟ «فردريك الثاني» و«مانفريد».
كان جون قد أمضى فترةً في بلاط «بيتر الثالث Peter
III»، ملكِ أراجون، زوجِ كونستانس ابنةِ مانفريد،
وأثناء وجوده هناك كان يشجِّع بيتر على تجديد دعواه بأحقيته في عرش
صقلية. الآن كانت الفرصة المثالية لذلك. وصل بيتر إلى باليرمو في شهر
سبتمبر، وفي الشهر التالي كان قد استولى على مسيني؛ حيث كانت الوقفة
الأخيرة للفرنسيين.
بالنسبة ﻟ «شارل الأنجوي» وبلاطه في نابولي، كان فقدان صقلية بمثابةِ
كارثة. رفض، بالطبع، الاعترافَ بالهزيمة حتى إنه تمادى في تحدِّيه وعرض
القيام بمبارزة فردية مع بيتر تحدِّد مصير صقلية، على أن يكون ذلك تحت
حمايةٍ إنجليزية في «بوردو Bordeaux»
التي تقع على بُعد مسيرةِ أسابيع قليلة. المثير للدهشة أن بيتر قبِل
التحدي، رغم أنه في المفاوضات التالية اتفقا على أن يصحب كلُّ ملك مائة
فارس يقاتل بجواره؛ حيث إن شارل كان في الخامسة والخمسين — وهي سنٌّ
كبيرة بمقاييس ذلك الزمان — وبيتر كان في الأربعين. تحدَّد يوم
الثلاثاء الأول من يونيو لتنفيذ المواجهة، ولسوء الحظ … وربما لحسنه،
لم تحدَّد الساعة. وصل الملك بيتر ورجاله مبكِّرين في الصباح ولم يجدوا
أيَّ أثرٍ ﻟ «شارل»، وعندما أعلن الناطقون باسمه عن حضوره، ترك بيتر
الميدان وأعلن، عندما عاد، عن انتصاره لأن خَصمه الجبان لم يظهر. وصل
شارل بعد عدة ساعات وفعل الشيءَ نفسه. لم يلتقِ الاثنان. كانت التكلفة
باهظةً بالنسبة للطرفين، سواء من ناحية الوقت أو المال، ولكن الشرف ظل
محفوظًا لكليهما.
وهكذا انقسمت ريجنو شقَّين. شارل يحكم (تحت لقب شارل الأول) في
نابولي، وبيتر في صقلية، وكلاهما كلُّه إصرار على طرد الآخر وتوحيد
البلاد. لكن سُمعة شارل كانت قد ضاعت. كانت إمبراطوريته المتوسطية تبدو
مبنيةً على الرمال. لم تَعُد قوة عالمية. لم تَعُد الحملة على بيزنطة
واردة. خذله أتباعه في الشرق اللاتيني؛ فرسان الهيكل والفينيسيون. قام
على الفور باستدعاء نائبه من عكا وترك ضابطًا صغيرًا مكانه. بعد ثلاث
سنوات — في السابع من يناير ١٢٨٥م — مات في «فوجيا Foggia». سيطر على المتوسط لمدة عشرين عامًا، كان
يتملَّكه طموحٌ لا يشبَع وطاقةٌ كبيرة لم تتركه يستريح. كان تقيًّا
فعلًا، ولكن تقواه لم تعلِّمه التواضع. كان يعتبر نفسه الأداةَ التي
اختارها الرب. لم تَعُد عليه تقواه بأي شعور إنساني أو رحمة، كان قيامه
بإعدام كونرادين ابنِ السادسة عشرة صدمةً لكل أوروبا، وبقيت هذه
الفَعلة محسوبة عليه طوال حياته. ربما كان محلَّ إعجاب أحيانًا، ولكنه
لم يحظَ بحب أحد قط.
استمرت حرب أجراس المساء الصقلية — التي كان شارل مسئولًا عنها إلى
حدٍّ بعيد — في القرن التالي. لم يكن فيليب الثالث (الشجاع) ملكُ فرنسا
وابنُه وخليفتُه فيليب الرابع (الجميل) من بعده، لم يكونا هما فقط مَن
استعاد الجزر المغتصَبة لأسباب تتعلق بشرف العائلة، كانت هناك كذلك
حقيقة أخرى، وهي أن صقلية وريجنوا كانتا قد مُنحتا لشارل بواسطة
البابا؛ ولذا كان النظام البابوي يضع كرامته في الحسبان. كان البابا
مارتين الرابع قد أعلن لتوه القيامَ بحملة ضد الأراجونيين، أما الملك
فيليب فكان قد بدأ — من جانبه — يحشد جيشًا. إلا أن المطلوب كان أكثر
من هاتين القوتين لترويع بيت آل أراجون وحليفهم المخلِص؛ جمهورية جنوة.
كانت البعثات الموفدة من كلا الطرفين تذرَع أوروبا جَيئةً وذهابًا إلى
أن أصبحت كل دول المتوسط متورطة — بدرجة أو أخرى — في القصة.
كان الاستثناء الوحيد الجدير بالملاحظة بالطبع هم مماليك مصر. لم
يكونوا مهتمين كثيرًا بصقلية، كانت عيونهم على أراضي الشرق اللاتيني
وتدمير الولايات الصليبية. تلك الولايات كان يمكن إنقاذها — ولو مؤقتًا
— لو أن الدول المسيحية الغربية كانت قد نسيت شواغلها الأخرى وتقدَّمت
للدفاع عن شركائهم في الدين ولكنها لم تفعل. انطلق أول إنذار بالخطر،
والغريب أنه جاء من المغول؛ في ١٢٨٧م أرسل الخان الأعظم — آرجون حفيد
هولاكو — مبعوثًا مسيحيًّا إلى الغرب كان يُدعى «رابان سوما
Rabban
Sauma»، زار القسطنطينية
أولًا وبعدها نابولي وجنوة وباريس وبوردو؛ حيث كان إدوارد الأول ملكُ
إنجلترا مقيمًا في عاصمة أراضيه الرئيسية.
١١ عاد عن طريق روما. كان يُستقبل في كل مكان كملك. في باريس،
رافقه فيليب الرابع شخصيًّا في جولة في كنيسة القديسين ليريَه —
مزهوًّا — التذكارات المقدسة التي كان جَده سان لويس قد اشتراها من
الإمبراطور البيزنطي؛ وفي بوردو دعاه إدوارد، الذي كان هو نفسه أحد
الصليبيين القدامى، لحضور قداس مع بلاطه؛ وفي روما تناول من يد نيكولاس
الرابع، البابا الذي كان قد تم انتخابه حديثًا. في كل مكان، كان يؤكد
الضرورة الملحَّة للقيام بحملةٍ لاستعادة الأماكن المقدسة وإنقاذ الشرق
اللاتيني، وفي كل مكان كانوا يستمعون إليه بتعاطف شديد، ولكنه لم يحظَ
في أي مرة بتعهُّد قاطع أو تاريخ محدَّد. كانت الروح الصليبية القديمة
قد ذهبت، ولن تعود.
كان الخان الأعظم يجد ذلك عصيًّا على التصديق. في مطلع صيف ١٢٨٩م
أوفد مبعوثًا آخرَ إلى أوروبا من أبناء جنوة كان يُدعى «بسكاريل Buscarel»، حاملًا رسائل للبابا وللملوك
الفرنسيين والإنجليز (لعل تأثيرها كان ضعيفًا؛ إذ إنها كانت مكتوبةً
بالمنغولية، ولكن بسكاريل كان يستطيع القيام بالترجمة). في هذه المرة
تمادى «آرجون Arghun» لدرجةِ أنه
اقترح عقدَ تحالف. كتب يقول إنه كان شخصيًّا ينوي القيام بجيشٍ قوامه
نحو ٢٠–٣٠ ألف فارس يصل إلى دمشق في منتصف فبراير ١٢٩١م، فإذا كان
الملكان مستعدَّين لإرسال جيوش من قِبَلهما وتمَّت استعادة الأماكن
المقدسة فإنه سيكون سعيدًا بتسليمها. من أسفٍ أن هذه الدعوة لم تكن
أكثرَ نجاحًا من سابقتها. قام الخان الأعظم بمحاولةٍ أخرى ولكنها فشلت
كذلك، وعندما عاد مبعوثوه كان قد قضى نحْبه.
في ذلك الوقت، وكأن ذلك كان قد جاء ليؤكِّد أسوأ مخاوف أراجون، كان
السلطان المملوكي قلاوون قد حرَّك جيشه بكامله إلى سوريا. كانت ذريعته
هي أن يمنع أبناء جنوة من الاستيلاء على كونتية طرابلس كما كانوا
يهددون، رغم وجود بعض الشكوك في أن يكون هدفه البعيد المدى أكثرَ
لؤمًا. بالقرب من نهاية مارس ١٢٨٩م، اقترب بقواته من أسوار طرابلس، وفي
السادس والعشرين من أبريل اندفعوا داخل المدينة. قتلوا كلَّ مَن وجدوه
في طريقهم من المسيحيين … أخذوا كل امرأة وطفل عبيدًا، أحرقوا كل مبنًى
ليستحيل رمادًا. الآن، كان الغرب قد بدأ يتنبَّه. بفضل حثِّ وتحفيز
البابا نيكولاس تحرَّك الفينيسيون — الذين كانوا سعداء برؤية طرابلس
تضيع من أيدي أبناء جنوة، وإن كانوا بدءوا يشعرون بالقلق خوفًا على
مصالحهم في عكا — فأرسلوا اثنتين وعشرين سفينة حربية، ثم لحِقت بها خمس
أخرى، أرسلها جيمس ملكُ أراجون. لسوء الحظ أيضًا، كان يصحب هذا الأسطول
جماعة من رعاع الفلاحين والمغامرين الذين قدِموا من الشمال الإيطالي،
كلٌّ يسعى للحصول على ما يستطيع، ومنذ اليوم الأول لوصولهم إلى عكا،
كانوا سكارى لا يقدِّرون المسئولية؛ وفي يوم شديد القيظ من أيام أغسطس
١٢٩٠م أحدثوا حالةً من الفوضى والشغْب وراحوا يعربدون في الشوارع
ويقتلون كلَّ مَن يصادفونه من المسلمين في طريقهم.
بعد سقوط طرابلس، قَبِل قلاوون بهدنةٍ مع المسيحيين، ولو كان كل شيء
قد مضى على ما يرام، لنعِموا ببضع سنوات من الاستقلال؛ إلا أنه بعد
مذبحة عكا لم يَعُد للهدنة قائمة، ولم يكن هناك مجال للشك في ذهن
السلطان؛ لا بد من القضاء على الفرنجة. في السادس من مارس ١٢٩١م، وتحت
قيادة ابنه وخليفته الأشرف خليل انطلق الجيش الكبير مرةً أخرى. كان
حجمه يقدَّر بستين ألفًا من الخيَّالة ومائة وستين ألفًا من المشاة. قد
يكون في ذلك بعض مبالغة، ولكن لا شكَّ كبيرًا في أن مسيحيي عكا كان لا
بد أن يجدوا أنفسهم في مواجهة قوةٍ تفوقهم عددًا بمراحل؛ إذ كان
تَعدادهم الكلي أقل من أربعين ألف نسمة وثمانمائة فارس وأربعة آلاف
جندي مشاة، منهم مَن هو من أبناء فينيسيا، ومَن هو من أبناء جنوة، ومَن
ينتمون للتشكيلات العسكرية الثلاثة.
بدأ الحصار يوم السادس من أبريل. قاتل المدافعون ببسالة وقام فرسان
الهيكل والإسبتارية بالكثير من الإغارات الفاشلة. من أسفٍ أنهم كانوا
ما زالوا يسيطرون على البحر؛ ولذلك لم يكن ينقصهم الغذاء ولكن كان
ينقصهم السلاح، وقبل كل شيء كانت تنقصهم القوة البشرية اللازمة لحماية
السور الممتد لمسافةٍ تفوق الميل.
ارتفعت الروح المعنوية كثيرًا عندما وصل هنري الثاني ملكُ أورشليم
(كان في العشرين من العمر ومصابًا بالصرع) من قبرص في الرابع من مايو
برفقة أربعين سفينة ومائة فارس وألفين من جنود المشاة، ولكن برغم أهمية
ذلك، لم يكن ذلك العدد ليمثِّل أيَّ فرق. بعد أسبوعين فحسب، أصدر
السلطان أمره بالهجوم الشامل.
القصة الكاملة لسقوط عكا مرعبة.
١٢ لم يكن هناك استسلام، ولم يكن السلطان على أية حال ليقبل
ذلك. كلُّ ما كان على الناس أن يفعلوه هو أن يموتوا وهم يقاتلون أو وهم
يحاولون الهرب بالبحر. قليل منهم، كان من بينهم الملك هنري وشقيقه
أمالريك، هم الذين نجحوا في العودة إلى قبرص، وانتهى الأمر بعدد من
النساء والأطفال في الحريم أو عبيدًا في الأسواق … ولكن الأغلبية
هلكوا. في الوقت نفسه تم تدمير عكا نفسها … وبشكل منظَّم، كما لقيت
المستوطنات الفرنجية المتبقية — صور وصيدا وطرطوس وبيروت وعدد من
القلاع — المصيرَ نفسه. كانت النهاية.
استمرَّ الشرق اللاتيني الصليبي أكثرَ من مائة واثنين وتسعين عامًا.
كانت قصته، منذ بدايته كنموذج لعدم التسامح والطموح الإقليمي، قصة سقوط
مادي وأخلاقي وعجز مستمر. لم يذرف الدمع في أوروبا على زواله، أو أسفًا
على رؤيته يضيع سوى قلة.
هوامش