الفصل الحادي عشر
نهاية العصور الوسطى
-
الأسر البابلي: ١٣٠٩م.
-
الكابوس النابولي: ١٣٤٥م.
-
مصير فرسان الهيكل: ١٣٠٧م.
-
فرسان سان جون: ١٣١٢م.
-
قوانين التنظيم.
-
مذبحة الإسكندرية: ١٣٦٥م.
-
اللاسامية في إسبانيا: ١٣٩١م.
-
الموت الأسود: ١٣٤٨م.
-
لويس الرابع في إيطاليا: ١٣٣٠م.
-
بترارك وبوكاشيو: ١٣٥٠م.
***
لم تكن حرب أجراس المساء الصقلية هي سبب سقوط الشرق
اللاتيني؛ إذ منذ صعود المماليك في ١٢٥٠م — وربما حتى منذ أن استولى
صلاح الدين على أورشليم في ١١٨٧م — كان ذلك مسألة وقت. إلا أنه كان
أمرًا يشغَل بال أمراء أوروبا، لدرجةِ أنهم لم يركزوا على محنة رفاقهم
المسيحيين في الشرق. وكما حدث، فإن الحرب كانت لتستمر أحد عشر عامًا
أخرى بعد تدمير عكا. في ١٣٠٢م، وبعد محاولةٍ فاشلة لوضع «شارل الفولوازي
Charles of Valois» شقيقِ
«فيليب الجميل
Philip the fair» على
عرش صقلية، كان البابا «بونيفاس الثامن
Boniface
VIII» مضطرًّا — وعلى مضض — أن يعترف ﺑ «فردريك» ابن
الملك «بيتر»، حاكمًا على الجزيرة ليلقَّب ﺑ «ملك تريناكريا
King of Trinacria»،
١ وهو لقبٌ عزيز؛ حيث كان «الأنجونيون
The Angevins» في نابولي ما زالوا يحتفظون بالتاج الصقلي.
إلا أنه حتى ذلك الحين، لم يكن انتصارهم كاملًا كما كان «الأراجونيون
The
Aragonese» يتمنَّون؛ بموجب
شروط الاتفاقية، كان على فردريك أن يتزوَّج «ليونورا
Leonora»، ابنةَ شارل الفالوازي، وبعد
موته تعود الجزيرة إلى بيت «آنجو
Anjou».
كان البابا بونيفاس قد انتُخب في ١٢٩٤م بعد تنحِّي — وهو التنحِّي
الوحيد في تاريخ البابوية — الناسكِ الورِع غير الكفء «قيليستين الخامس
Celestine V»، الذي كان مؤهله الوحيد
للبابوية هو أنه كان ذات مرة — في بلاط جريجوري العاشر — قد علَّق
رداءه على شعاع من أشعة الشمس! كان البابا الجديد نقيضه في كل شيء.
كانت المراسم الكبرى للكنيسة، بالنسبة له، موجودةً، فحسب، لتعزيز
أهدافه الدنيوية وإثراء أسرته، «آل
كايتاني The Caetani». كان يعامل الحكام الأجانب كخَدَم أكثر منهم
رعايا، وفي الوقت نفسه كان آل بيت «جيبيلين الكولوني Ghibelline of Colonna» المنافس،
الذي كان شديد الحقد عليهم ويخشى قوَّتهم، محرومين كنسيًّا وأراضيهم في
«باليسترينا Palestrina» مستولًى
عليها ومدمَّرة بدعوى حملة صليبية.
مثل هذا السلوك، أحطَّ بقدرِ البابوية، لدرجةِ أنه كان لا بد من أن
تمر عدة سنوات لكي تبرأ من ذلك الوضع المهين، كما جعل ذلك بونيفاس
مكروهًا ومذمومًا في أوروبا كلها. عندما فرَّ «آل كولونا» جميعًا إلى
فرنسا، أصبح «الفرنسيسكان
الروحانيون Spiritual Franciscans» (الفراتيشللي The Fraticelli)، هم الأعداءَ الرئيسيين في إيطاليا، الذين
ثاروا على الدنيوية المتزايدة لنظامهم، للعودة إلى مؤسِّسهم في الزهد
والتقشُّف. كانوا يكرهون بونيفاس، ليس بسبب ثرائه الفاحش فحسب، بل
وبسبب غطرسته، ولأنهم كانوا يعتبرونه مسئولًا — بحق — عن تنحي
«قيليستين» ثم سَجْنه وموته بعد ذلك.
كان عداء فيليب الجميل ما زال يشكِّل خطورة على بونيفاس، وكان
بونيفاس قد حرمَه كنسيًّا بعد أن منع الإكليروس الفرنسي من تلبية
استدعاء بابوي إلى روما. في ربيع ١٣٠٣م انتقم فيليب بأن دعا إلى مجلسٍ
تشاوريٍّ عامٍّ، كان يريد به أن يتم استدعاء البابا نفسه ومساءلته؛ وتم
بالفعل إرسال جيش قوامه ألف وستمائة جندي إلى إيطاليا، مع أمرٍ بالقبض
على بونيفاس وإحضاره إلى فرنسا، بالقوة، إذا لزم الأمر. وجدوه في موطنه
«أناجني Anagni»؛ حيث كان يضع اللمسات
النهائية لرسالة بابوية، تعفي رعايا فيليب من ولائهم، وأخذوه أسيرًا.
بعد ثلاثة أيام كان هناك ردُّ فعل شعبي لصالحه، أجبرهم على الانسحاب،
إلا أن مهمَّتهم لم تكن بلا طائل. كان ما فعلوه أشبه بضربة قاضية
لكرامة البابا. رافقه أصدقاؤه «الأورسين The
Orsini» ليعود إلى روما؛ حيث مات هناك بعد شهر.
كان بونيفاس وفيليب عدوَّين لدودَين، إلا أن مساعيَهما المشتركة هي
التي كسرت في النهاية معنوياتِ النظام البابوي، ودمَّرت البقية الباقية
من مكانته في روما. عندما تم انتخاب فرنسي آخرُ في ١٣٠٥م ليكون البابا
«كليمنت الخامس Clement V»، جعل تتويجه
في «ليون Lyons» ولحِقت به هناك
إدارته البابوية، وعلى مدى الاثنتين والسبعين سنة التالية، لم يكن هناك
بابا في روما. كانت تلك هي الفترة التي وصفها «بترارك Petrarch» ﺑ «الأسْر البابلي The Babylonian Captivity» … إلا
أن العبارة مضلِّلة. لم يكن الباباوات أسرَى بأي معنًى. كان كليمنت هو
الذي ذهب إلى ليون بمحض إرادته، ولم يكن لديه أي نية ليكون مِخْلب قِط
للملك الفرنسي. بعد أربع سنوات، وعلى إثر شجار مع فيليب، نقل بلاطه إلى
«أفينون Avignon»، وتحديدًا لأن
المدينة لم تكن فرنسية آنذاك، وإنما داخل مناطق النفوذ البروفنسية
الخاضعة لمملكة نابولي، وعليه فقد كان يمكن المحافظة على الاستقلال
البابوي بسهولةٍ أكبر. كذلك لم يحدُث أن خفَّف، هو أو أيٌّ من خلفائه
من قبضتهم على الشئون الإيطالية طوعًا، أو اعتبروا أفينون أكثرَ من مقر
مؤقت للإقامة إلى أن يحين الوقت للعودة في أمانٍ — وراحة — إلى
إيطاليا.
السبب هو أن روما كانت قد أصبحت بغيضةً وخطِرة في الوقت نفسه. لم يكن
هناك إمبراطور مقدَّس منذ فردريك الثاني (١٢٥٠م)، وكانت مدن لمبارديا
وتوسكانيا متروكة لتنمو على طريقتها بعيدًا عن الاعتداءات
الإمبراطورية. كانت نظم الحكم في معظمها استبدادية؛ حيث كانت أسرة أو
أخرى تمارس سيادتها المطلقة — «الفيسكونت The Visconti»، و«الديللاتور
Della-Torre» في ميلانو، «المونتيشي The Montecchi» (مونتاجيو
Montagues شكسبير)، و«السكاليجري The Scaligeri» فيما بعدُ في فيرونا،
و«الجونزاجا The Gonzaqa» في مانتوا —
هذا الكم من الدكتاتوريات المطلقة برغم حجمها الصغير، التي كانت
مفروضةً على صراع تقليدي ضروس وتواجه عِداء برجوازياتٍ ذات توجُّهات
تجارية، أسفر عن اضطرابات عميقة تخلَّلت كلَّ مناحي الحياة في الشمال
الإيطالي. أحيانًا، وهو ما لا يمكن إنكاره، كان ذلك يوفِّر حافزًا
للروح الجديدة، روح التساؤل الفني الذي كان إرهاصًا بعصر النهضة (وُلد
«جيوتو Giotto» في نفس العام الذي مات
فيه «مانفريد Manfred»)، إلا أن القصة
كانت ذات القصة … استبداد وسفك دماء.
من بين الجمهوريات البحرية الشمالية الكبرى، كانت جنوة وبيزا في حالة
قتال مستمر، انتهى بانتصار جنوة الحاسم بالقرب من «ميلوريا
Meloria» في ١٢٨٤م؛ ولم يكن هناك سوى
فينيسيا التي بقيت دون أن تمسَّها الفوضى القائمة — نسبيًّا — وذلك
بسبب عزلتها البحرية وأوليجاركيتها
٢ المنظمة، وبُعدها عن الصراع الحزبي، وذلك النظام الذي
يعتمد على المراجعة والتوازن، الذي جعل من حكمِ أكثر الجمهوريات هدوءًا
وصفاءً أعجوبةً ورعب أوروبا.
في هذا الجو المضطرب، كان هناك ملاذٌ آخر، آمنُ نسبيًّا، هو فلورنسا.
في ذلك الوقت، كانت أبرزَ مدينة-دولة إيطالية في الإبداع الفني، وكانت
ما تزال الأكثر تميزًا، من حيث إنها استطاعت أن تكون نظام الحكم الوحيد
— الذي شهده العالم — بواسطة الفنانين والحرفيين البارعين. هنا، كانت
الإدارة الناجحة في أيدي ستة من رؤساء النقابات الفنية يُدعَون ﺑ
«أسطوات الفنون
Priors of the Arts»،
وكانت سلطاتهم قوية. كانت فلورنسا تستطيع كذلك أن تستند إلى تراثٍ راسخ
هو تراث «الجيولف
Guelf»
٣ الذي ربما يكون قد حفظها من الضغائن والإحن التي ابتُليت
بها المدن الأخرى الأقل حظًّا؛ ولكن بالقرب من نهاية القرن حدث شقاق
بين الجيولف، وفي ١٣٠٢م — بعد أن تحالف البابا بونيفاس مع «السود»
الرجعيين — تم نفي قادة حزب «البِيض» الأكثر اعتدالًا.
كان من بينهم «دانتي
أليجييري Dante Alighieri» صاحب «الكوميديا الإلهية»، أعظم إنجاز
بالإيطالية؛ والذي يُعَد، بين أعمال أخرى كثيرة، تعليقًا لاذعًا
وعميقًا، يزعم فيه الشاعر أنه يلتقي شخصيات عصره الرئيسية في طريقه إلى
العالم الآخر، بينما هو في حقيقة الأمر يصدِر أحكامًا عليهم. عظمةُ
التصوير في هذا العمل مدهشة، وكذلك البراعة في التعبير بلغةٍ عامية
كانت في مرحلة التطور، وإن كانت الأفكار السياسية التي ينطوي عليها،
تبدو أكثرَ تذكرةً بالقرن الحادي عشر، أكثر مما هي بالقرن الرابع عشر.
هذه الأفكار التي يطوِّرها دانتي بشكلٍ أعمق في De
Monarchia، هي في جوهرها عودة إلى الحُلم القديم
بإمبراطورية مسيحية باتساع العالم، يحكمها إمبراطور وبابا في ترادف
متآلف.
لم تتضح عمليةُ هذه الأفكار إلا في سنة ١٣١٠م، عندما ذهب الكونت
«هنري
اللكسمبورجي
Henry of Luxemburg»، أهمُّ معبِّر عنها، إلى إيطاليا كإمبراطور
منتخَب. كشخص مثالي، حسن النية، تلقَّى هنري أولَ تتويج له في ميلانو
بنسخة طبْق الأصل من تاج لومبارديا الحديدي (كان التاج الأصلي
مرهونًا)، وكان ما زال يؤكد حياديتَه بين الجيولف البابويين
والجيبيليين الإمبراطوريين،
٤ ولكن أهالي مدن الجيولف في لومبارديا وتوسكانيا لم يتركوه
في شكٍّ من مشاعرهم نحو إمبراطوريةٍ عفا عليها الزمن؛ كما كان
«جيبيلينيًّا» قلبًا وقالبًا عندما جاء إلى روما، لدرجةِ أنه مُنع من
دخول كنيسة سان بيتر، وأُجبر على قبول تاج الإمبراطور في اللاتيران من
ممثلين للبابا.
في الوقت نفسه، كان «كليمنت الخامس Clement
V»، بضغط من الملك فيليب، قد انقلب عليه في أفيون، كما
فعل حفيد شارل الأنجوي، الذي كان يحكم في نابولي، باسم الملك
«روبرت الحكيم King Robert the Wise».
في ١٣١٣م، مات بالحمَّى، بعد أن أثبت عدم قيمة آمال دانتي بشكل
قاطع.
لم يكن دانتي يحب الملك روبرت، الذي كان يصفه دائمًا ﺑ «ملك الكلام re da sermone»، والحقيقة أن روبرت كان
لديه كلُّ مقومات الحاكم العظيم. كان عالمًا، جعله حبُّه الحقيقي
للآداب والفنون راعيًا سخيًّا للشعراء والكُتاب، وبخاصة بترارك الذي
كان صديقًا شخصيًّا له وكان معجبًا به، لدرجةِ أنه عبَّر عن أمله أن
يكون يومًا ما عاهلًا لإيطاليا كلها. كان يمكن، في ظروفٍ أكثرَ أمنًا
وسلامًا، أن ينقذ ريجنو من العفن التي كانت تبدو غارقة فيه، ومن أسفٍ
أن الفرصة لم تُتَح له. استنزفت الحروب المستمرة مع الأراجونيين
خِزانته، وحتى في الداخل كانت حياته صراعًا دائمًا مع البارونات
المتمردين الذين لم يتوقفوا عن إزعاجه.
مات روبرت في ١٣٤٣م لتخلفه حفيدته «جوانا Joanna»، زوجةُ أندرو أمير هنغاريا، وعلى مدى نصف القرن
التالي سيصبح تاريخ نابولي كابوسًا. (ليس من المتوقَّع أن يتابع القارئ
بقيةَ هذه الفقرة والفقرة التالية لها، الواردة لمجرد تصوير المستوى
الذي كانت السياسة قد انحدرت إليه في نابولي). في سنة ١٣٤٥م تم اغتيال
أندرو بتواطؤ من عمةِ والد زوجته «كاترينا الفولوازية Catherine of Valois»، ولكن
جوانا نفسها لم تكن فوق مستوى الشك. بعد ذلك طالب شقيقه لويس ملك
هنغاريا بالمملكة لنفسه بذريعة الثأر. طرد جوانا وزوجها الثاني، ثم قتل
شقيق زوجها أخذًا بالأحوط، ولكنه سرعان ما عاد إلى المجر واستدعى
البارونات المحليون جوانا، ثم قام ابن عمها «شارل الدورازي Charles of Durrazo» بغزو المملكة
وسَجْنها، وبعد وقت قصير كان أن قُتلت هي الأخرى. بعد موت شارل، تسبَّب
صراع على خلافته في حربٍ أهلية … وهكذا انزلقت المملكة مرةً أخرى إلى
الفوضى القديمة.
مع بداية القرن التالي، كان يبدو أن «لاديسلاس
Ladislas»، ابنَ شارل، قد حسم الصراع لصالحه. وبحلول
العام ١٤١٠م — وبفضل الانشقاق البابوي المستمر
٥ — كان قد احتلَّ روما نفسها ثلاث مرات، روما التي لم يكن
البابا الشرعي جريجوري الثاني عشر قادرًا على أن يحافظ عليها. في المرة
الأخيرة نهب المدينة وأحرقها. مرَّ موته في ١٤١٤م غيرَ مأسوف عليه، على
الأقل، إلى أن انحدرت أخته وخليفته «جوانا الثانية
Joanna II» بالمملكة إلى حضيض الحضيض.
في ١٤١٥م تزوَّجت «جيمس
البوربوني
James of
Bourbon» الذي وضعها في حالةٍ أقربِ ما تكون إلى
الاعتقال. قتل عشيقَها وسَجن «سفورزا
Sforza» قائدَ حرسِها؛ ولكن غطرسته جعلت البارونات
يتمردون عليه ويطردونه. بعد ذلك ستبدأ سلسلة من المؤامرات والمكائد
أكثرُ سوءًا بين جوانا وسفورزا وعشيقها الجديد «جيوفاني كاراكيولو
Jiovani Caracciolo» ووريثها
المتبنَّى «ألفونسو
الأراجوني
Alfonso of
Aragon» و«لويس الثالث الأنجوي
Louis III of
Anjou»، الذين كانوا يتآمرون ضد بعضهم
الآخر بكل الصور الممكنة؛ وبالرغم من أن جوانا ماتت في ١٤٣٥م، كان لا
بد من أن تمرَّ ثماني سنوات أخرى قبل أن ينتصر ألفونسو في النهاية،
ويحصل على الاعتراف البابوي به كملك على نابولي.
•••
كانت مملكة أورشليم قد تم تدميرها على يد جيوش المماليك، ولكن
التنظيمات العسكرية الثلاثة للفرسان بقيت وإنْ لفترات مختلفة. أحدثها
التنظيم الألماني، الفرسان التيوتون Teutonic
Kniqhts، انتقل بعد ١٢٩١م إلى فينيسيا ليبقى هناك
سنوات قليلة، ثم إلى مارينبورج على نهر «الفستولا Vistula» في ١٣٠٨م حيث سيخرجون من قصتنا، بينما واصل
فرسان الهيكل والإسبتارية القيامَ بدورهم في شئون البحر الأبيض، رغم أن
فرسان الهيكل لم يقوموا بذلك لفترة طويلة.
لنتناول فرسان الهيكل أولًا. من الصعب علينا في أيامنا هذه أن نفهم —
أو حتى نصدِّق — تأثيرهم في العصور الوسطى المتأخرة. كان ذلك التنظيم
قد أُنشئ في أوائل القرن الثاني عشر لحماية الحجَّاج الذين يفِدون إلى
الأماكن المقدسة بعد الحملة الصليبية الأولى، وفي غضون خمسين سنة كانوا
قد أصبحوا راسخين في كل ممالك العالم المسيحي تقريبًا، من الدانمرك إلى
إسبانيا، ومن أيرلنده إلى أرمينيا؛ وفي غضون قرن كان «جنود يسوع المسيح
الفقراء»، بالرغم من تعهُّدهم البنديكتي بالتقشُّف والطهارة والورع
والطاعة، كانوا يموِّلون نصف أوروبا، كانوا قد أصبحوا أكبرَ الصيارفة
ورجال المال في العالم. بحلول العام ١٢٢٥م، كان يُعتقد أنهم يملكون
تسعة آلاف قطعة أرض في كلٍّ من باريس ولندن، وكانت منازلهم تُستخدم
كقلاع لحفظ الكنوز الضخمة. من فرسان الهيكل الإنجليز، اقترض هنري
الثالث الأموال التي اشترى بها جزيرة «أوليرون Oleron» سنة ١٢٣٥م، ومن فرسان الهيكل الفرنسيين اقترض
فيليب الجميل مهْر ابنته إيزابيللا عند زواجها من إدوارد الثاني ملكِ
إنجلترا. كذلك دفعوا للويس التاسع الجزءَ الأكبر من الفدية، وأقرضوا
إدوارد الأول ما لا يقل عن خمسة وعشرين ألف جنيه توري
Livers Tournois، تنازلوا بعد ذلك عن
أربعة أخماسها.
كان فرسان الهيكل أقوى ما يكونون في فرنسا، كانوا بالفعل دولةً داخل
الدولة، ومع تزايد نفوذهم كان لا بد من أن يتزايد قلق فيليب الجميل،
إلا أنه كان هناك سببٌ آخر — أكثر مهانةً — يجعله يتصدى لهم؛ كان في
حاجة ماسة للمال. كان قد جرَّد اليهود ورجال البنوك في لومبارديا من
ممتلكاتهم وطردهم، وتعامل مع فرسان الهيكل بالطريقة نفسها — وكان ذلك
يَعِد بأن تكون ثرواتهم وممتلكاتهم في مملكته لنفسه — لكي يحلَّ مشكلته
المالية مرةً وإلى الأبد. هذا التنظيم — كما كان يُعرف — سيكون عدوًّا
لدودًا، ولحسن حظه كان في يده سلاح يمكنه أن يتصدَّى به لذلك. على مدى
سنوات عدة، كانت هناك شائعات عن الطقوس السرية التي يمارسها الفرسان في
لقاءاتهم التي كانوا يعقدونها في منتصف الليل. كان كلُّ ما يحتاجه الآن
هو أن يقوم بتحقيق رسمي، ولن يكون من الصعب أن يجد شهودًا عليهم، لقاء
مكافآت مالية صغيرة، يقدِّمون له الدليل المطلوب. سيكون هذا الدليل
أكثرَ من كافٍ لتحقيق هدفه. فرسان الهيكل من عبدة الشيطان الذين ينكرون
المسيح ويمتهنون الصليب، كانوا يشجِّعون اللواط وليس السماح به فحسب.
الأطفال غير الشرعيين الذين يُولدون، يتم التخلص منهم بشوائهم
أحياء.
في يوم الجمعة، الثالث عشر من أكتوبر ١٣٠٧م تم القبض في باريس على
«جاك دي مولاي
Jacques de Moloy»
المعلم الأعظم (
The Grand Master) أو
الرئيس الأعلى للهيكل ومعه ستون من «الإخوة» القياديين.
٦ ولإجبارهم على الاعتراف، تم تعذيبهم بداية بواسطة سلطان
القصر، ثم سُلِّموا للمحققين الرسميين لتعذيبهم مرة أخرى. على مدى ستة
أسابيع تالية، خضع ما لا يقل عن ١٣٨ فارسًا للتحقيق، اعترف منهم ١٢٣ —
ولم يكن ذلك مفاجئًا ولا مثيرًا للدهشة — بمن فيهم مولاي نفسه، ببعض
الاتهامات الموجَّهة إليهم، على الأقل. في الوقت نفسه كتب فيليب إلى
زملائه الملوك يحثُّهم على التصرف مثله. إدوارد الثاني ملك إنجلترا،
الذي ربما كان يشعر بالأرض ضعيفةً تحت قدميه، كان أكثرَ ميلًا للمماحكة
وإثارة الاعتراضات التافهة مع والد زوجته، ولكن عندما جاءت تعليمات
حازمة من البابا كليمنت — الذي كان على استعداد لمساعدة الملك الفرنسي
بكلِّ ما يستطيع من وسائل — لم يَعُد مترددًا. تم اقتياد المعلم الأعظم
للتنظيم إلى السِّجن في التاسع من يناير ١٣٠٨م ليلحق به فرسانه بعد
ذلك.
كان لفرسان الهيكل — كذلك - أبطالهم. أثناء استجواب دي مولاي بواسطة
ثلاثة كاردينالات، كان البابا قد أوفدهم إلى باريس، سحب دي مولاي
اعترافه، وكشف صدره لتظهرَ آثار التعذيب الذي تعرَّض له، وفي أول
اجتماع لمجمع الكرادلة، هدَّد ما لا يقل عن عشرة من أعضائه بالاستقالة
احتجاجًا على سياسته، إلا أنه كان من المستحيل عكس اتجاه التيار. في
أغسطس، جدَّد المعلم الأعظم اعترافاته السابقة عند استجوابه مرة
أخرى.
بدأت المحاكمات العلنية للتنظيم في الحادي عشر من أبريل ١٣١٠م، مع
الإعلان بأن أية محاولة من أيٍّ من المتهمين للتراجع عن أي اعتراف سابق
ستعرِّضه للإعدام حرقًا بالشد على خازوق؛ وفي الثاني عشر من مايو لقي
أربعة وخمسون فارسًا المصيرَ نفسه، وفي الأسبوعين التاليين تبِعهم تسعة
آخرون. مضى الأمر على هذا النحو لمدة أربعة أعوام أخرى، كان الملك
والبابا أثناءها يتشاوران — وهو ما يؤكد الشكوك التي لم تتوقَّف — حول
كيفية التصرف في ثروة التنظيم الطائلة. في الوقت نفسه كان «جاك دي
مولاي» يذوي في سِجنه في انتظار تقرير مصيره، وفي الرابع عشر من مارس
١٣١٤م ستأتي به السلطات إلى المقصلة، أمام كاتدرائية نوتردام، ليكرر
اعترافاته للمرة الأخيرة.
كان هناك سببٌ يجعلهم يندمون على قرارهم. كرئيس أعلى للتنظيم، من
الصعب أن نقول إن جاك دي مولاي كان قد أبلى بلاء حسنًا على مدى السنوات
السبع السابقة. اعترف، سحب اعترافه، ثم اعترف مرةً أخرى؛ لم يُبدِ أيَّ
بطولة ولا حتى ظهرت عليه بعض صفات القيادة. ولكنه كان الآن شيخًا في
خريف العمر، كان في منتصف العَقد السابع وقدَمه في القبر. لم يكن لديه
ما يخسره. وهكذا، مدعومًا من صديقه «جيوفروي الشارناري Geoffroy de
Charnari»،
تكلَّم دون تردُّد وبوضوح: يعلم الله أنه هو وتنظيمه كانوا أبرياء من
التهم التي نُسبت إليهم. على الفور، قام القيِّمون على السِّجن
بترويعهما، وهُرع الرسل إلى فيليب. لم يؤخِّر الملك قراره. في ذلك
المساء نفسه، نُقِل الفارسان إلى جزيرةٍ صغيرة في السين؛ حيث كانت
الخوازيق معدَّة لإعدامهما حرقًا.
بعد ذلك، أُشيع أنه دعا الله قبل موته مباشرةً أن يقصف عمر البابا
والملك قبل انقضاء العام، وحدث أن مات البابا فعلًا قبل مرور أقل من
شهر، وقُتل الملك في حادثٍ في أواخر نوفمبر تقريبًا.
٧ واجه الرجلان عمليةَ الحرق بشجاعة، وماتا بشكلٍ نبيل، وبعد
أن حلَّ الليل جاء رهبان دير القديس أوغسطين من الشاطئ المقابل،
ليجمعوا عظامهما في وقار وتبجيل مثل عظام القديسين والشهداء.
•••
بالرغم من أن الإسبتارية (فرسان سان جون) لم يكن لهم أي دور في
اضطهاد فرسان الهيكل وإبادتهم — وربما يكون من الظلم حتى أن نقول إنهم
أبدَوا أي قدرٍ من الشماتة — لا شك أنهم كانوا أكبرَ المستفيدين من
نكبة إخوانهم. برسالة بابوية بتاريخ الثاني من مايو ١٣١٢م، قرَّر
البابا كليمنت أن تئول كلُّ ثروة فرسان الهيكل وممتلكاتهم — خارج مملكة
قشتالة وأراجون والبرتغال ومايوركا التي شملها بقراره — إلى تنظيم
الإسبتارية؛ وبالرغم من أن الملك فيليب حصل على معظم مكافأته
المقرَّرة، كان الإسبتارية هم الذين وجدوا أنفسهم فجأةً أغنى مما كانوا
يتوقعون.
كان تنظيم الإسبتارية في الأصل أقدمَ من تنظيم فرسان الهيكل. كان
شارلمان قد أنشأ نُزلًا (تكية) ظلَّ مستخدَمًا حتى سنة ١٠١٠م عندما
دمَّره الخليفة الحاكم، الذي كان متعصبًا معاديًا للمسيحيين. في سنة
١٠٢٣م تقريبًا اشترى جماعة من تجار أمالفي الموقعَ وأعادوا بناء
النُّزل تحت سلطة «البندكتيين The Benedictines». بعد ذلك نذروا المكان ﻟ «يوحنا المعمدان St John the Baptist»، وبعد الغزو
اللاتيني لأورشليم في ١٠٩٩م، جعله مديره «الأخ جيرار Brother Gerard» مركزًا لتنظيمه الديني
بهدفٍ وحيد، وهو رعاية وعلاج المرضى، إن أمكن. ثم جاء خليفته
«ريمون البيوي Remond of the Puy»
الذي قام بمراجعة قوانينه وحدَّد له هدفه الثاني؛ الحماية العسكرية
للحجاج المسيحيين. من ثلاثينيات القرن الثاني عشر، سيقوم فرسان الهيكل
والإسبتارية بدورٍ منتظم في حروب الصليب. كلاهما (فرسان الهيكل
والإسبتارية) كان تنظيمًا عسكريًّا. لم ينسَ الإسبتارية أنهم كانوا في
الأصل «إخوة ممرِّضين»، واجبهم هو تقديم المساعدة للمرضى؛ وعندما لا
يكونون في حالة قتال سيشغلون أنفسهم ببناء وتجهيز مستشفياتهم التي كان
مستوى العلاج الذي يقومون به فيها، الأرقى من نوعه في العصور
الوسطى.
بعد سقوط عكا والشرق الفرنجي، لجأ فرسان الإسبتارية إلى ليماسول،
ولكنهم لم يكونوا يريدون أن يكونوا تحت سيادة أو رعاية «بيت لوزينان Lusignan»، وفي ١٣٠٦م توصَّل
«فولك دي
فياريه Foulques de Villaret» معلِّمهم الأعظم، بإذن من البابا كليمنت، إلى
اتفاقٍ مع قرصان من جنوة يُدعى «فيجنولو دي فيجنولي Vignolo de Vignoli» للقيام بهجوم مشترك على جزيرة رودس
التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية البيزنطية. جغرافيًّا، كان ذلك
اختيارًا مثاليًّا. كانت على بُعد عشرة أميال من شاطئ آسيا الصغرى،
الطريق الذي يمر به كثير من السفن التجارية المتحركة بين موانئ غرب
أوروبا وموانئ الشرق اللاتيني. كانت مرتفعاته الجبلية التي تصل إلى نحو
أربعة آلاف قدم، توفِّر عدةَ نقاط ممتازة لمراقبة آسيا الصغرى وجزر
الدوديكانيز؛ حيث كان يمكن في الأيام التي تصفو فيها الرؤية، أن تشاهد
منها تخوم جبل «أيدا Ida Mount» في
كريت، الواقعة على بُعد أكثر من مائة ميل ناحية الجنوب الغربي. كانت
الأراضي غنية بالبساتين ومزارع الكروم بما يضمن توفير الكثير من الغذاء
والنبيذ، وكانت غابات الصنوبر الشاسعة تنتج كمياتٍ كبيرة من الأخشاب
لبناء السفن، بالإضافة إلى أن الناس هناك كانوا يعتزون بتراث ملاحي منذ
القِدم. كان عالَم الملاحة الرومانية في الشرق يضم الكثيرين من أهالي
رودس، وكذلك كل الأساطيل البيزنطية المتوالية. فإذا كان الفرسان سوف
يتشبَّثون بهذه الأراضي ليصبحوا رجال بحر، فسوف يجدون هنا أفضل من يقوم
بتعليمهم بناء السفن والملاحة وفنون الحرب.
بداية، كان لا بد من غزو الجزيرة. قاوم شعبها ببسالة، وبعد عامين من
القتال العنيف سقطت مدينة رودس نفسها، بميناءيها الرائعين، في أيدي
الفرسان. في الخامس عشر من أغسطس فتحت أبوابها، وبعد عام أصبحت المركز
الرسمي لقيادة التنظيم. على الفور، تم التوصل إلى اتفاق مع فيجنولو
كانت فحواه أنه في مقابل ثلث العائد، يحتفظ الفرسان بالجزيرة بكاملها
باستثناء قريتين صغيرتين إلى جانب الجزر المجاورة «كوس Kos» و«كاليمنوس Calymnos» وجزر أخرى عديدة من الدوديكانيز. كانت صفقة
ممتازة. بعد تسعة عشر عامًا أصبح لهم وطن دائم — على جزيرة أصبحت بموجب
مرسوم بابوي لاحق مِلكًا لهم بشكل نهائي. في ظل هذه الظروف المستجَدة،
لم يكونوا تنظيمًا للفرسان فحسب، بل أصبحوا دولة ذات سيادة. أخيرًا،
أصبح بإمكانهم استئنافُ حربهم ضد «الكفار»، بهدفها المعلن وهو «إسكات
أعداء المسيح»، وحتى وهم يقومون بذلك لم ينسَوا قط أنه كان لديهم واجب
آخر، ما زال أكثر إلحاحًا. كانت إحدى مهامهم الأولى بعد أن استقروا في
رودس، هي الشروع في بناء مستشفاهم الجديد، وكان أن أصبح أشهر مستشفًى
في العالم. الجناح الرئيسي الباقي إلى الآن، مثلما تركه التنظيم
تقريبًا قبل خمسة قرون، يتَّسع لما يقل عن خمسة وثمانين مريضًا، كلهم
تتم رعايتهم بواسطة الفرسان أنفسهم.
أنشئوا كذلك هيكلًا إداريًّا جديدًا، على رأسه «المعلِّم الأعظم The
Grand Master»، وتحته كان
التنظيم مقسمًا بناءً على ثماني لغات أو ألسن، هي لغات فرنسا وبروفنس
وأوفيرجن وإنجلترا وإيطاليا وألمانيا وأراجون وقشتالة، لكلٍّ منها درجة
كبيرة من الاستقلالية؛ ولربط هذه المجموعة المتعددة الأجناس واللغات،
تقرَّر أن يتحمل كل «لسان» مسئوليةَ القيام بمهمة واحدة. وهكذا كان
الأدميرال دائمًا إيطاليًّا، والقائد الأعلى بروفنساليًّا، والمارشال
أوفيرجينيًّا، والمساعد الأول ألمانيًّا؛ أما قائد القوات فكان
إنجليزيًّا ومسئولًا عن الدفاعات الساحلية للجزيرة. كان لزامًا على كل
فارس أن يرتديَ فوق ردائه أو عباءته الصليب الثُّماني، «لكي يشعر
باستمرار بأنه يحمل في قلبه صليبَ المسيح، مزينًا بفضائلَ ثمانية
ترعاه».
داخل اللغات، كان الفرسان مقسَّمين إلى ثلاث طبقات رئيسية؛ أولًا:
فرسان العدل، وكانوا يُجنَّدون من أبناء العائلات الأرستقراطية
الأوروبية، وعليهم أن يقدِّموا ما يثبت نبالة أصولهم. يأتي بعدهم في
المرتبة «الإخوة» الذين يقومون بالخدمة، وكانوا من درجةٍ اجتماعيةٍ
أقلَّ قليلًا، بعضهم قد يكونون جنودًا أو دبلوماسيين أو موظفين، وآخرون
يعملون بالمستشفى. المستوى الثالث كان من القساوسة الملحَقين للخدمة في
الكنائس وأماكن العبادة. كان على كل فارس أن يخدم لمدة عامين أولًا على
سبيل الاختبار، يقضي عامًا منهما على السفن الحربية، كما كان عليه أن
يؤديَ هذا القَسم:
إنك تتعهَّد وتقسِم أمام الرب وبسيدتنا وسيدنا القديس يوحنا
المعمدان أن تعيش وتموت على الطاعة، كما تتعهَّد أن تعيش بلا
ملكيةٍ خاصة بك. وهناك عهد آخر يقدِّمه التنظيم فقط؛ أن تكون عبدًا
لسادتنا المرضى.
ظل الكثيرون منهم في الخارج فترةً طويلة من حياتهم في مراكز القيادة
المحلية للتنظيم، ولكنهم جميعًا وبلا استثناء كان لا بد من أن يعودوا
إلى رودس فور استدعائهم.
مع مرور القرن الرابع عشر، لم يكن غريبًا إلى حدٍّ كبير أن يبدأ
الفرسان في التخلي عن بعض مُثُلهم الأولى. بالرغم من بقاء مستشفاهم
مزدهرًا واجتذابه مرضى من كل أنحاء الشرق الأوسط، فإن ثروتهم التي كانت
تتزايد باطراد — مصحوبة ربما بالمناخ الأقرب للكمال الذي كانوا يعيشون
فيه — أدَّت إلى تراخٍ تدريجي في عاداتهم الرهبانية التقشفية، إلا أنهم
لم يهملوا واجباتهم العسكرية قط. استمروا في ضبط أمن البحار الضيقة،
وكان قناصلهم في مصر وأورشليم يرعون مصالح الحجاج المسيحيين، كما
استمروا في ضغطهم على الأتراك، وبخاصة تعطيل تطوُّرهم كقوة بحرية من
الدرجة الأولى. تحالفوا في ١٣٤٨م مع فينيسيا وقبرص واستولوا على سميرنا
(أزمير)، ونجحوا في حمايتها من هجومٍ تركي مضاد بعد عشر سنوات، وفي
١٣٦٥م أسهموا في الجهد الأخير لإنقاذ الأراضي المقدسة من
«الكفار».
كان حليفهم وملهمهم في هذا الظرف «بيتر الأول Peter
I» ملِكَ قبرص، أول ملك منذ القديس لويس تلهب الروح
الصليبية مشاعرَه. كلهم وعدوه بالمساعدة؛ البابا أوربان الخامس في
أفينون، الإمبراطور شارل الرابع في براغ، جون الثاني في فرنسا، إدوارد
الثالث في إنجلترا، كما كانت هناك مشاركة بحرية من فينيسيا. تجمَّعت
الحملة في رودس في أغسطس ١٣٦٥م مع قوة بحرية — تقدَّر ﺑ ١٦٥ سفينة من
بينها ١٠٨ من قبرص — كانت أكبر قوة مشتركة منذ الحملة الثالثة. بعد
إقلاع الأسطول بكامله تم الإعلان أن الوجهة الأولى كانت الإسكندرية.
رست الحملة هناك في التاسع من أكتوبر، وبعد يومين، كانت المدينة في
أيديهم.
ما حدث بعد ذلك لا يمكن وصفه سوى أنه كان مذبحة، أسوأ من تلك التي
كان جنود الحملة الأولى قد ارتكبوها في أورشليم ١٠٩٩م، وتلك التي
ارتكبها الفرنجة في القسطنطينية في ١٢٠٤م. كان القتل بلا تمييز.
الجماعات المسيحية واليهودية المهمة … مثلها مثل الأغلبية المسلمة. كان
الهم واحدًا. الكنائس والمعابد كلها سواء … كلها أُحرقت. خمسة آلاف
أسير تم بيعهم عبيدًا. مذعورًا للوجهة التي أخذتها الأحداث، بذل الملك
بيتر قصارى جهده لإعادة الهدوء للمدينة والحفاظ على البقية الباقية
منها، ولكن الجيش كان مستمرًّا في السلب والنهب والتدمير قبل أن يصل
جيش مملوكي من القاهرة لينتقم. لم يكن هناك خيارٌ أمام الملك سوى أن
يأمر أسطوله بالعودة إلى قبرص. حتى آنذاك، كان يتمنى أن يعود إلى الشرق
في حملة ثانية، ولكن عندما وصل الأسطول إلى فاماجوستا كان الجيش قد
تشرذم وتفسَّخ، وكان الفرسان والجنود على السواء لا يفكرون في شيء سوى
العودة على وجه السرعة، كلٌّ إلى بلده بما غنم.
كانت تلك هي الحملة الأخيرة وأكثرها مدعاةً للعار؛ فقد عرقلت فكرةَ
التقدُّم في المتوسط في أفضلِ مرحلة من القرن الذي حدثت فيه. عندما
حدثت، كان الفرنجة والمماليك في حالة سلام لمدة خمسين عامًا أو يزيد.
كان الحجاج يسافرون بكل حرية إلى الأماكن المقدسة. كانت التجارة بين
الغرب والعالم الإسلامي مزدهرة. الآن … استيقظت كل العداءات والثارات
القديمة فجأةً؛ بدأت المجتمعات المسيحية المحلية مرةً أخرى تعاني من
الاضطهاد، ومرة أخرى أُغْلِقت كنيسة الذخائر المقدسة في وجه الحجاج.
أما بالنسبة للمماليك في مصر، فقد أصبحت قبرص المسيحية مرةً أخرى
عدوَّهم اللدود، وكان لا بد من أن يثأروا لأنفسهم.
لن نكون منصفين إذا ألقينا باللوم على الإسبتارية لهذه الكارثة؛ إذ
إن حياتهم كانت مكرَّسة قبل كل شيء لإنقاذ الحياة وليس للقضاء عليها،
كان قَسَم الفقر يستبعد أيَّ شكل من أشكال السلب والنهب، كما أنهم
كانوا قد عاشوا طويلًا في الشرق وفهموا معنى ومبادئ التعايش؛ ولا شكَّ
كبيرًا في أن يكونوا قد صُدموا، مثل أي شخص آخر، لسلوك حلفائهم، ولا بد
من أن يكونوا قد بذلوا كلَّ ما في وُسعهم لممارسة تأثير معتدل. كان كل
ذنبهم هو الربط بينهم وبين ما حدث. بالرغم من ذلك، فمذبحة الإسكندرية
تشير إلى مرحلة الحضيض في تاريخهم، وتلطِّخ سجلَّهم ببقعة هي الأكثر
سوادًا. بالنسبة للباقين، فهم ككسالى وغير مؤثرين كشأنهم دائمًا، يظل
صحيحًا أنهم طوال فترة بقائهم في رودس التي استمرت ٢٣١ سنة، ومعظم فترة
احتلالهم لمالطة التي استمرت ٢٦٨ سنة بعدها، كانوا قوةً مفيدة في
أورشليم، وحاسمة — أحيانًا — في شئون المتوسط.
•••
يُعَد قصر الحمراء في غرناطة أحدَ المعالم الإسلامية الرائعة الباقية
في أوروبا، يخلُب ألبابَ كل زائريه جمالُ معماره وروعةُ نقوشه وسحرُ
الأضواء والظلال في ساحته وحدائقه. أقواسه المصمَّمة على شكل حدوة
الحصان، والخطوط العربية الملتفَّة كالدوامة، والقباب والأعمدة المدلاة
من السقوف المعقودة … كل ذلك يعبِّر عن روح الإسلام على أجملِ ما يكون.
ثم فجأة، تجد نفسك أمامَ شيء غير متوقَّع. في ثلاث قباب من «صالة
العدل» تجد نقوشًا غير عادية في السقف مرسومةً على الجلد، وهو ما قد
يُعتبر غريبًا وإن كان يجعلها متميزةً في مادتها. ترى في القبة الوسطى
عشرةَ رجال، يبدو عليهم من مظهرهم أنهم عربٌ في مجلس، وعلى كل جانب
مناظرُ صيد وقتال ولعب شطرنج ومطارحات غرامية كلها على الطراز المسيحي
الأوروبي في العصور الوسطى المتأخرة. الطراز ينتمي إلى القرن الرابع
عشر؛ ولذا لا بد من أن يكون معاصرًا للقصر نفسه الذي اكتمل بناؤه نحو
عام ١٣٥٠م، ولكن كيف تم تصوير ذلك؟ المعروف أن عقيدة الإسلام تحرِّم
الرسم الفني وبخاصة البشر.
٨ كان أمام غرناطة الإسلامية قرن ونصف القرن لكي نصل إليها.
ما يمكن استنتاجه هو أنه لا بد أن يكون حاكمٌ إسلامي قد كلَّف فنانًا
مسيحيًّا برسم تلك الصور، وهذا بدوره يدُل على أنه كان هناك تعايش
ووئام بين العقيدتين.
أحدُ أسباب ذلك، أن حروب الاسترداد كانت قد انتهت بحلول الربع الثالث
من القرن الثالث عشر؛ وكان الملك «بدرو الثالث Pedro
III»، ملكُ أراجون، مشغولًا بمغامراته الصقلية، بينما
كان معاصره «ألفونسو العاشر Alfonso X»
حكيم قشتالة، المثقف واسع الاطلاع، أكثر اهتمامًا بالتفاوض من أجل تاج
الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة وتدعيم مطلبه الأسري ﺑ «جاسكوني Gascony» أكثرَ من اهتمامه بقتالِ غير
المؤمنين. أما بالنسبة ﻟ «سانشو الرابع Sancho
IV» ابن ألفونسو، و«ألفونسو الحادي عشر
Alfonso XI» حفيد سانشو — الذي أدَّى
طول الفترة قبل أن يبلغ السنَّ القانونية إلى حرب أهلية وثلاث عشرة سنة
من الفوضى، إلى أن أعلن بلاط قشتالة عن بلوغه السنَّ القانونية في
١٣٥٢م — فقد كان عليهم أن يفعلوا الكثيرَ لصد غزوات بربر المغرب، وكانت
نجاحاتهم محلَّ ترحيب من حكام غرناطة المسلمين أكثرَ من التفجع
عليها.
بصعود بدرو الأول ابنِ ألفونسو الحادي عشر عرشَ قشتالة (كان أكثرَ
شهرة بلقبه «بدرو المؤذي» وهي تسمية مستحقة) في ١٣٥٠م، بدا الأمر في
لحظةٍ ما وكأن التعايش المسيحي-الإسلامي قد بات مهدَّدًا. ولكن بدرو
كان مهتمًّا في الفترة الأولى من حكمه بحياته الأسرية في المقام الأول؛
إذ قام بسَجن زوجته المنكودة «بلانش البوربونية Blanche of Bourbon»، التي يرجح أن يكون قد قتلها (رغم أن
ذلك لم يتم إلا بعد زواج على ضر)، وفيما بعد تم التحفظ عليه من قِبل
أعدائه في القصر. بعد إطلاق سراحه في ١٣٥٦م، ارتكب سلسلةً من أعمال
القتل قبل أن يواجَه في ١٣٦٠م بحربٍ أهلية بقيادة أخيه، غير الشقيق
وغير الشرعي، «إنريك
التراستاماري Enrique of
Trastamara».
في المحاولات المبذولة من كلا الطرفين للحصول على دعمٍ عالمي، انزلقت
قشتالة بسرعة في «حرب المائة
عام The Hundred Years War»؛ الإنجليز يدعمون بدرو — وبخاصة الأمير الأسود
إدوارد — والفرنسيون يدعمون إنريك. لم يستمر التحالف الإنجليزي طويلًا.
عاد إدوارد، الذي أثارت اشمئزازه خيانةُ بدرو ووحشيته، إلى إنجلترا
سريعًا، مصابًا بالمرض الذي سيقضي عليه بعد فترة قصيرة. أما بدرو الذي
بقي بمفرده، فانهزم أمام إنريك وحليفه الفارس الفرنسي الشهير
«برتران دي
جيسكلا Bertrand de Guesclin»، وفي الثالث والعشرين من مارس ١٣٦٩م قام إنريك
بطعن بدرو ليقتله في خيمة جيسكلا، ليصبح في الوقت نفسه إنريك الثاني
ملك قشتالة، وباعتباره خليفة ﻟ «بدرو»، كان لا بد من أن يكون ذلك
تغيرًا إلى الأفضل.
في ١٣٧١م، عُقدت إحدى صلات المصاهرة الإسبانية القليلة مع إنجلترا،
عندما تزوَّج «جون
الجونتي John of Gaunt» دوق لانكستر، الابنُ الأكبر الباقي من أبناء
إدوارد الثالث، من «كونستانس Constance»، ابنةِ بدرو غير الشرعية، غيابيًّا، ولقَّب
نفسه ﺑ «ملك قشتالة». كان ذلك قبل خمسة عشر عامًا من ذهابه إلى إسبانيا
مطالبًا بميراثه؛ وأخيرًا في السابع من يوليو ١٣٨٦م، أبحر من
«بليموث Plymouth» بصحبة زوجته
وابنتين وجيش قوامه نحو عشرين ألف جندي. بعد شهر، رسا في «كورونا Corunna»، وسرعان ما نصَّب نفسه سيدًا على
معظم «جاليسيا Galicia» في الجانب
الشمالي الغربي من البلاد. بعد ذلك شارك بقواته في ربيع ١٣٨٧م مع صهره
جون الأول ملك البرتغال (الذي كان متزوجًا آنذاك من ابنته «فيليبا Philippa») في عملية غزو مشتركة لقشتالة.
فشلت الحملة وانتشر المرض بسرعة في المعسكر وأصيب الملك نفسه وضاعت
مرةً أخرى الأراضي التي كان قد تم الاستيلاء عليها، وأُجبر الجيش على
الانسحاب عبر البرانس. وأخيرًا، وقَّع «جونت Gaunt» اتفاقيةً في ١٣٨٩م، تنازل فيها عن مطالبته بالعرش
مقابل مائتي ألف كراون ومعاش سنوي كبير وزواج ابنته «كاترينا Catherine» من ملكِ قشتالة المستقبلي
إنريك الثالث، وبذلك حصل بشكل عام على أكثرَ مما كان يستحق.
خلال تلك الفترة، كان مسلمو غرناطة يعيشون في سعادة وفي سلام نسبي،
إلا أننا — وبكل أسف — لا نستطيع أن نقول الشيء نفسه عن اليهود.
ماليًّا، كان إنريك يعتمد عليهم مثل كلِّ الآخرين، ولكنه أثار الأحقاد
عليهم أثناء الحرب الأهلية صراحةً، وبمرور الوقت زادت حدة مشاعر معاداة
السامية التي اشتعلت مثل نار الغابة في ١٣٩١م. بدأت في «سيفيل Seville» (إشبيلية) في السادس من يونيو.
فرَّ عدد كبير من اليهود للنجاة بحياتهم؛ ومثل المعابد تم تحويل كثيرين
آخرين عَنوة إلى المسيحية. انتشر اللهب بسرعة عبر الأندلس أولًا ثم إلى
بقية شبه الجزيرة، حتى إلى ما وراء البرانس لتصل النار إلى
«بيربجنان Perpignan». بعد فترة ساد
هدوء مؤقت، إلى أن وقَّع «فرديناند Ferdinand» و«إيزابيللا Isabella» المرسومَ المشئوم في ١٤٩٢م، بطرد كل اليهود
من الأراضي الإسبانية.
•••
في بداية اﻟ «ديكاميرون Decameron»
ﻟ «بوكاشيو»، يفرُّ عشرة شبان من فلورنسا بسبب الوباء. كان الجو الخانق
لما اصطُلح على تسميته ﺑ «الموت
الأسود The Black Death» يخيِّم على النصف الثاني من القرن الرابع عشر.
كان الوباء قد ظهر أولًا في القسطنطينية في ربيع ١٣٤٧م، والمؤكَّد أن
السفن الهاربة من مستوطنة «كافا Caffa» التجارية في جنوة، هي التي كانت قد حملته (الآن
فيودوسيا Feodosiya في القرم)، وكانت
آنذاك تحت حصار المغول. كانت المدينة قد عانت أوبئةً كثيرة على مر
القرون، إلا أن ذلك كان الأكثر ضراوةً والأوسع انتشارًا. كان البكتير
القاتل المسبِّب للمرض — كما نعرف الآن — قد انتقل من البراغيث التي
بدورها (رغم عدم حصرية ذلك) كانت الفئران التي امتلأت بها السفن
القادمة من الشرق تحملها. الغريب أن تلك الفئران نفسها كانت قادمًا
جديدًا نسبيًّا على أوروبا، وصلت الأعداد الأولى منها ربما مع سفن
الصليبيين العائدة من فلسطين، ولكنها كانت سريعةَ التكاثر؛ وبحلول
منتصف القرن كان يوجد ما يكفي مثلها لنشر المرض في أرجاء القارة
الأوروبية. لسنا في حاجة بالضرورة لأن نصدِّق مؤرِّخ مدينة
«إيستي Este» الإيطالية المجهول، الذي
يزعم أن الوباء أدَّى إلى وفاة ثمانية أتساع عدد السكان، وربما كان ذلك
يبدو للبيزنطيين البرهان الأخير على ما ظلوا يشكون فيه لفترة طويلة،
وهو أن السيدة العذراء راعيتهم، وحاميتهم كانت قد تخلَّت عنهم بعد أكثر
من ألف عام.
البحر الأبيض المتوسط، على نحوٍ خاص، كان قد عرف الموت الأسود مبكرًا
في ١٣٤٧م، عندما وصلت ١٢ سفينة من مسيني إلى جنوة. الاحتمال الأكبر
أنها كانت قد جاءت من كافا، والمؤكد أن أسطولًا جنويًّا آخرَ كان قد
نقل العدوى من هناك إلى جنوة وفينيسيا وصقلية في يناير ١٣٤٨م. ومن هذه
المناطق انتشر الوباء شمالًا إلى كورسيكا، وجنوبًا إلى تونس وشمال
أفريقيا، وغربًا إلى الجزر الباليرية، ثم إلى برشلونة وفالينسيا على
الساحل الإسباني، ثم حتمًا إلى الشمال الإيطالي عبر المضايق، لينتشر
بسرعة في شبه الجزيرة.
من بين كل المدن الإيطالية كانت فلورنسا هي الأكثر معاناة. التقديرات
المعاصرة لا يُعتد بها، ولكن هناك دلائل كثيرة تبيِّن أن ما بين خمسين
وستين ألفًا من إجمالي سكانها الذين كانوا يقدَّرون بخمسة وتسعين ألف
نسمة، قد لقُوا حتفهم في غضون ستة أشهر من بداية ظهور الوباء. بوكاشيو
نفسه يزوِّدنا — في هذا السياق — بصورةٍ وصفية لا تُنسى: الفِرار
العشوائي لكل السكان من المدن والبلدات المختلفة تاركين وراءهم بيوتهم
وممتلكاتهم، الطريقة التي كانوا يتركون بها المرضى والأطفال يَلقون
حتفهم دون أن يجرؤ أحدٌ على الاقتراب منهم، عمليات الدفن الجماعي في
حُفرٍ يتم تجهيزها على عجل، الماشية الطليقة التي تركها أصحابها هائمةً
في المناطق الريفية. يقال إن ستمائة مواطن كانوا يموتون يوميًّا في
فينيسيا عندما كان الوباء في ذروته، وفي «أورفيتو Orvieto» كان أمرًا متوقعًا أن يموت أحد الوالدين أو أحد
الأبناء في كل أسرة مكوَّنة من أربعة أفراد. في «سيينا Siena»؛ حيث قُدَّر عدد الموتى بخمسين
ألفًا؛ أي ثلثا عدد السكان. كانوا يقومون ببناء الكاتدرائية التي ستكون
واحدةً من أعظم الكاتدرائيات في العالم المسيحي. كل العمال ماتوا.
توقَّفت عملية البناء، وبالرغم من استئناف العمل قُرب نهاية القرن، لم
يكتمل إلى يومنا هذا ما كان مخطَّطًا. أما بالنسبة لإيطاليا ككل، فإذا
قلنا إنها فقدت ثلث، أو أكثر قليلًا من ثلث سكانها فلن نكون بعيدين عن
الصواب كثيرًا. في فرنسا، كانت القصة نفسها. بدأ الوباء، كما يعتقد، في
مرسيليا. بعد أسابيع قليلة كان قد وصل إلى البرانس، وبحلول أغسطس ١٣٤٨م
كان قد انتشر في «بوردو Bordeaux». في
الشرق، ضرب أفينون البابوية في شهر مارس ليقضي على الأقل على نصف
السكان، بمن في ذلك كلُّ فرد من المجتمع الإنجليزي في «أوستن فريارز Austin Friars» في المدينة. البابا
كليمنت السادس نفسه أوى إلى مسكنه الخاص حيث لم يكن يستقبل أحدًا، وكان
يقضي نهاره وليله «يحمص» نفسه بين مدفأتين (نجحت الطريقة ولم يمُت
البابا). في الوقت نفسه كان البكتير قد انتشر في «وادي الرون Rhone
Valley» كله حتى ليون، وبحلول
يونيو كان يشق طريقه نحو باريس نفسها.
أثناء انتشاره، كان الأكثر تقوَى من الأهالي ينسحبون للصلاة وخاصة في
مدن الشمال الرئيسية، وعلى أية حال كان رد الفعل السائد على الموت
الوشيك أشبه ببهجة محمومة مجنونة. ولمَ لا؟ إذا كان الرب قد تخلى عن
شعبه، فلماذا يطيعون وصاياه؟ إذا كانت حياتهم سوف تنتهي بهذه القسوة
وبهذه السرعة، فلتكن الأيام الأخيرة من العمر مكرَّسة للملذات والمُتَع
الحسية … سواء في ذلك مُتَع المائدة أو الزجاجة أو الفِراش … أو
الثلاثة وذلك أفضل! في باريس؛ حيث لم يكن أحد يستخفُّ بمثل تلك
المباهج، كان هناك شبه انهيار أخلاقي على المستويين العام والخاص. بطول
وعرض المتوسط كانت القصة هي ذات القصة. في قبرص؛ حيث كانت بداية الوباء
قد تصادفت مع زلزال شديد تبِعته موجة بحرية قوية، كانت مذبحة رهيبة قام
بها مُلَّاك الأراضي ضد عبيدهم العرب، خشيةَ أن يستغل العبيد ظروفَ
الفوضى العامة للتمرُّد عليهم. على ساحل دالماشيا، كان أمام مواطني
«سالونا Salona» (سبليت Split) خطرٌ مختلف كان عليهم مواجهته؛ كانت
أعداد هائلة من الذئاب الضارية قد نزلت من الجبال على المدينة لتهاجم
المرضى والناجين على السواء. كان الهلاك كبيرًا وشديدًا لدرجةِ أن
الشوارع كانت تظل مكدَّسة بالجثث بالأسابيع قبل أن يتم دفنها.
في إسبانيا، بعد أن كان الوباء قد انتشر أولًا في المدن الساحلية،
كان يتحرَّك بطيئًا، ولكن بقوة، ليجتاح مملكة أراجون. مَلِكها بدرو
الرابع الذي نجا شخصيًّا فقدَ إحدى بناته أولًا، ثم ابنة عمٍّ له، وفي
أكتوبر فقدَ زوجته الثانية «إليانور البرتغالية
Eleanor of Portugal». انتقل الوباء بعد ذلك، إلى الأراضي
الإسلامية ثم إلى جيش قشتالة الذي كان يقوم آنذاك بحملة استرداد في
الجنوب بقيادة الملك ألفونسو الحادي عشر شخصيًّا. في ١٣٤٤م كان قد
استولى على «الجيسيراز
Algeciras»
٩ ويقف الآن أمام جبل طارق. على خلاف المدافعين عن الصخرة،
كانت قوات الحصار بعيدةً عن خطر الوباء طوال فصل الصيف، إلا أن المرض
بدأ في الانتشار في صفوفهم مع بداية مارس ١٣٥٠م. كان جنرالات ألفونسو
يتوسَّلون إليه أن ينسحب إلى عزلةٍ تقيه المرض إلا أنه رفض أن يترك
رجاله. مات يوم «الجمعة الحزينة
Good
Friday»
١٠ الموافق للسادس والعشرين من مارس، ليكون الملكَ الحاكم
الوحيد الذي قضى بالطاعون أو «الموت الأسود». جوانا، ابنةُ إدوارد
الثالث ملكِ إنجلترا، ماتت في بوردو، وهي في طريقها للزفاف إلى
«بدرو المؤذي
Pedro the Cruel»، ابنِ
ألفونسو. لم تنجُ منطقة قشتالة ذاتها من الوباء، إلا أن إصابتها كانت
خفيفة، وذلك بفضل (كما كان يعتقد آنذاك) رغبةِ الطبقات الإقطاعية في
نقلِ ممتلكاتهم للكنيسة. عندما انقضت فترةُ الطوارئ، اتضح أنهم كانوا
قد فعلوا ذلك، وعلى هذا النطاق، لكي يخلُّوا بالتوازن الاقتصادي
للبلاد؛ وفي ١٣٥١م اضطُر الملكُ بدرو الأول إلى إصدار أوامره للسلطات
الإكليركية بإعادةِ ما كانوا قد حصلوا عليه.
أحدث الطاعون أو الموت الأسود خسائرَ في الأرواح أكثرَ من أي حرب
معروفة، أو أي وباء آخر، في التاريخ. كان تأثيره كبيرًا على التجارة
العالمية ولكنه كان قصيرًا، أما الذي استمر لفترة أطولَ فكان تقلُّص
الرقعة الزراعية، وذلك بسبب موت أعداد كبيرة من العمال الزراعيين. اضطر
ذلك ملاكَ الأراضي لزيادة الأجور، وهو ما أدَّى بدوره إلى إضعاف البنية
الطبقية الصارمة التي كانت موجودةً في المجتمع؛ حيث بدأت الأيدي
العاملة — لأول مرة — التنقُّل بحثًا عن عمل أو أجر أعلى.
في مجال الفنون، وبخاصة في التصوير والنحت، كان هناك انشغالٌ أكبر
بالموت عن ذي قبل، أما بالنسبة للجوانب الروحية، فقد اهتزَّ إيمان كثير
من المسيحيين بسبب عدم الجدوى الواضح للصلاة، وعجز الكنيسة أمام
الوباء.
بعد ١٣٥٠م، لن تكون أوروبا كما كانت.
•••
عندما ذهب الإمبراطور الروماني المنتخَب لويس الرابع من بافاريا إلى
إيطاليا لتتويجه في ١٣٢٧م، كان ذلك بتوجُّه مختلِف تمامًا عن توجُّه
سلفه «هنري اللكسمبورجي
Henry of
Luxemburg».
١١ هذه المرة لم يكن هناك أيُّ تعلُّق بالمُثُل العليا، ولا
ادعاء نزاهة أو تجرُّد، ولا إيماءة نحو أفينون. ذهب لويس بدعوة من
الجيبيليين في إيطاليا، مصطحبًا معه «مارسيليوس البادوي
Marsilius of Padua» أشدَّ
المعادين لأتباع البابا في زمنه. قبل عامين فحسب، كان رئيس الجامعة
(السوربون) السابقُ هذا قد نشر عمله الذي يحمل عنوان:
«
Defensor Pacis» الذي كان يجادل فيه
بأن البنيةَ الكاملة للسيادة البابوية والقانونَ الكنسي كانا مخالفَين
لمبادئ المسيحية الأساسية. لم يكن من المرجَّح أن تزيد هذه الرفقة من
شعبية لويس في أفينون، وقبل وصوله إلى روما بوقت طويل كان قد جلب على
نفسه حكمًا مزدوجًا من البابا جون الثاني والعشرين بحرمه كنسيًّا
وعزله؛ إلا أن المكانة البابوية آنذاك كانت قد هبطت في إيطاليا، وربما
أكثر من المكانة الإمبراطورية، ومر المرسوم البابوي دون التفات أو
اهتمام. عندما تم تتويج لويس من قِبل «سكيارا كولونا
Scarra Colonna» ممثلًا لشعب روما
في كنيسة سان بيتر في يناير ١٣٢٨م، وبعد ثلاثة أشهر أعلن رسميًّا أن
البابا كان مهرطقًا وعزله، وبدا الأمر أنه كان يريد أن يعيد السيطرة
الإمبراطورية؛ إلا أنه عندما تقدَّم جنوبًا في الأراضي النابولية، اتضح
له أن روبرت ملكَ نابولي، حفيدَ شارل الأنجوي، كان عدوًّا أكثرَ خطرًا.
كان روبرت ندًّا له من الناحية العسكرية، وعندما عاد لويس إلى روما وجد
أن حركة البندول كانت قد انعكست. أدرك كذلك أنه لا يستطيع أن يأمُل في
إقامة نظام مستقر في إيطاليا، إلى أن يتأكد من ألمانيا؛ حيث كان الوضع
يتدهور بسرعة. في ١٣٣٠م، كان قد ذهب إلى ما هو أبعد من الألب، وكان قد
استوعب الدرس؛ إيطاليا كبُرت على الاستعمار، إن لم تكن جاهزةً لوحدةٍ
من صنْعِها.
كان الفارق ما زال هائلًا بين الشمال والجنوب، وكان عميقًا لدرجة أنه
يمكن الشعور به اليوم. كان يمكن أن تتباهى نابولي، تحت حكم روبرت
وخليفته الطائشة «جوانا الأولى Joanna
I»، ببلاط مستنير مثقَّف، وباثنتين من أفضل الجامعات
الإيطالية؛ مؤسسة فردريك الثاني في نابولي نفسها، ومدرسة الطب ذات
الشهرة العالية في «ساليرنو Salerno»
التي كان عمرها يزيد عن الخمسة قرون. خارج هذه المراكز، كان يسيطر على
الأراضي، كما كان الوضع أيام النورمان، جماعةٌ من البارونات الجامحين
الذين كان يعوزهم الشعور بالمسئولية. كانت صقلية تحت حكم آل أراجون
أقلَّ إرهاقًا بسبب الإقطاع، وأكثرَ تماسكًا من الناحية الاقتصادية،
ولكنها كانت مشبعة بجو الركود والجمود نفسه.
في الشمال، لم يكن بالإمكان إلا أن تشعر بالحيوية المفرطة. مع تقدُّم
القرن الرابع عشر، والدول-المدن الأصغر منجذبةٌ إلى مدار تلك الأكبر
منها، كانت مناطق النفوذ قد بدأت في الظهور؛ فينيسيا التي كانت أغنى
وأروع مما كانت، بدأت تتفوق على جنوة التي كانت قد أصبحت أكبرَ منافس
بحري لها، ولأول مرة نجدها تضم أجزاءً مهمة من الأراضي الإيطالية
الرئيسية («بادوا Padua»،
و«فيسنزا Vicenza»، و«تريفيزو Treviso»، و«فيرونا Verona»)، بينما كان نفوذها ما زال ممتدًّا إلى ما وراء
الأدرياتيكي، كواحدة من القوى العظمى الأوروبية؛ ميلانو تحت حكم
«آل فيسكونتي Visconti»، كانت تفيض
مثل مدٍّ هائل على «لومبارديا Lombardy»، و«بيدمونت Piedmont»، وفي النهاية تغمر — حتى — «بولونيا Bolognia» مركزَ القوة البابوية في الشمال
الإيطالي، و«فلورنسا
الجيوتو Florence of Gitto»، و«أوركاجنا Orcagna»، و«أندريا بيزانو Andrea
Pisano»، كان حكمها الجمهوري القوي يستطيع أن
يحبط أيَّ محاولة قد يقوم بها أيُّ مستبد محتمل، كما كان تجارها الكبار
ورجال الأعمال والبنوك يطوِّرون أساليبَ تدبير الموارد المالية الدولية
إلى مستويات من الكفاءة والتقدُّم لم يكن يحلُم بها أحد. كانت إحدى
ميزات القانون الروماني، أن جعل الفائدة أمرًا محترمًا، وكانت الطريق
الآن مفتوحة أمام نمو اقتصادي كامل، وأمام اعتمادات طويلة المدى صنعت
الثروة والأبهة التي ما زالت مبهرة على مدى القرون.
في وسط شبه الجزيرة كله، وفيما وراء السيطرة المؤثِّرة للمالك الغائب
في أفينون، كانت الولايات البابوية مذعنةً بدورها لنموذج الاستبداد
السائد. ربما كان «آل إيستي Este» في
«فراري Ferrare»، و«آل بيبولي Pepoli» في بولونيا، و«آل مالاتستا Malatesta» في «ريمني Rimini» وأمثالهم، ربما كانوا يعتبرون
أنفسهم ممثلين أو وكلاء عن البابا، ويعترفون بسلطة سان بيتر، إلا أن
سلطة كلٍّ منهم في داخل مدينته ظلَّت مطلَقة. في روما وحدَها فحسب،
بالرغم من محاولات «آل
كولونا Colonna»، ومنافسيهم «آل
أورسيني Orsini»، كان الشعور الجمهوري العام قويًّا لكي يظل
متماسكًا، إلا أن روما كانت قد أصبحت آنذاك أكثرَ الأماكن تعاسةً في
إيطاليا، مهجورة من الباباوات، انخفض عدد سكانها بسبب الملاريا
والمجاعة والصراع الطائفي، ليصل إلى عشرين ألف نسمة، كانت عاصمة
المسيحية الغربية قد انحدرت إلى مستوًى لم تعرفه من قبل. أكثر من أي
مدينة أخرى، كانت روما الآن في حاجة إلى قائد يبلور أحلامها ويعيد لها
اعتدادها بنفسها، وفي ذروة لحظات يأسها المظلمة وجدت واحدًا.
كان «كولا دي رينزو
Cola di Rienzo»
ابن غسالة رومانية، كان شخصًا حالمًا، متعصبًا، استعراضيًّا،
ودهماويًّا عبقريًّا. في ١٣٤٤م، وكان في الحادية والثلاثين، شنَّ حملة
على أرستقراطية روما، ملهبًا الخيال العام باستثارة واستعادة أمجاد
الماضي وتنبؤاته بعودةٍ مجيدة لها. كان نجاحه كبيرًا، لدرجةِ أنه بعد
ثلاث سنوات، أنعم عليه في الكابيتول بلقب «تربيون»
١٢ وبسلطات دكتاتورية لا حدود لها؛ وبعد الدعوة لبرلمان
«قومي» منح المواطنية
Citizenship
الرومانية لكل مدن إيطاليا وأعلن عن خطط لانتخاب إمبراطور إيطالي. ولكن
الدعوة لوحدة إيطالية، كان مصيرها الفشل، سواء أكان المعبِّر عن ذلك
أميرًا ألمانيًّا أو دهمويًّا رومانيًّا. بنهاية العام ١٣٤٧م، كان
الدهماء الرومان أنفسهم، وليس المدن الأخرى، قد انقلبوا على كولا
وطردوه منفيًّا. بعد سبع سنوات تمكَّن من العودة، ولكن السحر القديم
كان قد ذهب عنه وتصدَّى له الدهماء المتقلبون كعادتهم. ظهر بشكل عبثي
في شرفة الكابيتول مرتديًا درعًا لامعة، وهو يلوِّح بعلم روما …
فارتفعت أصوات الدهماء بالسخرية منه. تنكَّر كشحاذ وحاول الهرب، إلا أن
الأساور الذهب التي كانت تتلألأ تحت الأسمال فضحته. بعد دقائق قليلة،
كان جسده معلقًا من قدميه في ميدان عام. مصير غريب يشبه ذلك الذي حدث
في منتصف القرن العشرين لأقرب مقلِّديه وأكثرهم نجاحًا.
إلا أن كولا بعمله الذي لمع وانطفأ كالشهاب، استطاع أن ينقيَ عقول
أبناء وطنه من مخلَّفات العصور الوسطى المعوقة، وأن يعطيَهم وعيًا
جديدًا بماضيهم الكلاسيكي. ما أنجزه في المجال السياسي كان له ما
يماثله في عالم الأدب على يد صديقه ومؤيده «فرانشيسكو بترارك
Francesco
Petrarch». في
١٣٤١م، بعد عشرين عامًا فحسب من موت «دانتي
Dante»، تم تتويج بترارك شاعرًا رسميًّا للكابيتول، ولكن
هذه السنوات العشرين كانت تنطوي على كل الفوارق بين سكولاستية
١٣ العصور الوسطى المتأخرة وهيومانية
١٤ عصرِ النهضة (
Renaissance)
لم يكن لدى بترارك شيء من رؤية دانتي الواسعة، ولكن عبقريته الأكثر
حساسية قادت الطريق نحو رؤية طازجة غير مشوشة، قائمة إلى حدٍّ ما على
شعراء التروبادور في صقلية وبروفنس، ولكنها كانت تستلهم بعمق شعراء
اللاتين القدامى.
•••
المفهوم الجديد للماضي الكلاسيكي باعتباره معْلمًا على الطريق نحو
المستقبل، أدَّى إلى إحياء مماثل للاهتمام بأدب اليونان القديمة الذي
غفلوا عنه طويلًا في الغرب، وتم إهماله حتى في الإمبراطورية البيزنطية.
كان ذلك أساسًا إنجازَ جيوفاني بوكاشيو تلميذِ بترارك، الأكثر موهبة،
الذي استضاف في منزله لمدة ثلاث سنوات يونانيًّا هرمًا ذا عادات شخصية
مقززة، ليُعِدَّ واحدة من أول — وأسوأ — الترجمات لأعمال هوميروس إلى
اللاتينية، إلا أننا لا نتذكر بوكاشيو اليوم بسبب دراساته الكلاسيكية؛
فعمله ديكاميرون عملٌ شبابي نسبيًّا، ولكنه حقَّق للنثر الإيطالي بهذا
الإنجاز ما حقَّقه دانتي وبترارك للشعر؛ فقد بَسَّطه وجعله أكثرَ سلاسة
وحوَّله إلى أداة أدبية جديدة. الأسلوب الذي طوَّره مفعم بالحيوية …
لاذع … وأعطى دي كاميرون شهرةً أوروبية وأعاد إحياء تقليد سردي يمكن
تتبُّعه لدى «تشوسر Chaucer» وشكسبير
إلى «لافونتين La Fontaine» ومن
بعده.
بالنسبة للباباوات في أفينون، كان لا بد من أن يكون تأثير كولا دي
رينزو ونجاح اﻟ «ديكاميرون» ناقوس خطر. إذا لم يتم تأكيد السلطة
البابوية في إيطاليا، فستضيع إلى الأبد. تصادفت عودة كولا إلى روما مع
تعيين الكاردينال «جيل
ألبورنوز Gil Albornoz» ممثلًا بابويًّا لدى إيطاليا، مع مهمة محدَّدة
وهي إعادة كنائس الدولة إلى الحظيرة البابوية. هذا الإسباني، المرعب،
المقتدِر، نجح لدرجةِ أن البابا «أوربان الخامس Pope
Urban V» استطاع في ١٣٦٧م أن يعيد ترسيخَ وضْعه في
اللاتيران. لقي ترحيبًا قويًّا من الناس في روما، وسرعان ما أصبح أول
وآخر بابا يستقبل زائرين من أباطرة الشرق والغرب. ولكنه كان شيخًا
هرمًا سرعان ما شعر بالحنين إلى موطنه، وفي ١٣٧٠م بالرغم من تحذيرات
«سان بريدجت
السويدي St Bridget of Sweden» من أن عودته إلى بروفنس قد تكون قاتلة، كانت
إغراءات أفينون قوية بالنسبة له، وكان سان بريدجت محقًّا؛ ففي غضون
أسابيع قليلة، مات.
كان أوربان قد كشف بوضوح مؤلم سبب الغياب الطويل للبابوية عن موطنها
الشرعي. كل باباوات أفينون ومعظم كبار مساعديهم كانوا فرنسيين — ولم
يكونوا يحبون التَّرحال غالبًا — وكانت أطلال روما غير الملائمة للصحة
وذات الرائحة الكريهة لا تمثل إغراءً بالنسبة لهم. لو استيقظ الضمير
البابوي بعد سبعين سنة ستكون أزمة خطيرة في إيطاليا. لم تكن الأزمة
بعيدة. خَلَفَ ألبورنوز في ولايات الكنيسة مجموعةٌ من الممثلين
البابويين الفرنسيين الجشعين، الذين لم يُخفوا رغبتهم في الحصول على
كلِّ ما يمكنهم الحصول عليه، وسرعان ما دفعوا المدنَ البائسة إلى حالة
تمرد. لم يترددوا في الاستفادة مما كان يسمَّى بالشركات الحرة — عصابات
من المرتزقة الأجانب الذين كانوا لا يجدون عملًا، كانوا يجولون المناطق
الزراعية ويعيشون على الابتزاز وقطْع الطرق وحماية الناس مقابل أموالٍ
يدفعونها لهم. في ١٣٧٥م أرسل ممثل البابا في بولونيا واحدةً من أسوأ
تلك الشركات، لصاحبها «سير جون
هوكوود Sir John Hawkwood»، لتخريب المحاصيل في فلورنسا. بالنسبة للمدن
الإيطالية، كان يبدو أن المظالم البابوية لا يمكن أن تستمر أكثرَ من
ذلك. اجتاحت «توسكاني Toscany»
و«أمبريا Umbria» والولايات البابوية
موجةٌ محمومة من مقاومة الإكليروس، وبنهاية العام كان ما لا يقل عن
ثمانين مدينة قد طردت بعثاتها البابوية.
هناك في أفينون، تصرَّف جريجوري الحادي عشر بسرعة وحزم. وُضعت
فلورنسا، التي كانت قد تزعمت الانتفاضة، تحت الحِرْم الكنسي، كما صدرت
الأوامر لكل الأمراء المسيحيين في أوروبا بالاستيلاء على بضائع فلورنسا
أينما كانت، وأن يبيعوا جميع تجار فلورنسا المحليين كعبيد. كانت
إجراءات مخيفة، ولكن لم يكن لها أيُّ تأثير. كان جريجوري يرى أمله
الوحيد في العودة الفورية إلى روما. عجَّل بذلك توسلات «سانت كاترينا السيناوية St
Catherine of Siena»
— التي واصلت من حيث كان قد انتهى سان بريدجت — فاستقل السفينة مع
معاونيه الذين كانوا مترددين في أواخر ١٣٧٦م، وفي السابع عشر من يناير
١٣٧٧م كان أن دخل المدينة رسميًّا. كانت عودة حزينة إلى الوطن؛ في
فلورنسا كانت قواته تقوم بانتقامٍ بشع، بينما كان وضعه غيرَ آمن بأي
حال في روما. كان يفكر بالفعل في العودة إلى أفينون، عندما مات في
العام التالي، وكان ذلك لحسن حظ روما. لم يكن أهالي روما يعاملون
باباواتهم بحب واحترام دائمًا، ولكنهم كانوا مصرين على تركهم يذهبون
ثانية. كانوا يهتفون طوال اجتماع الكرادلة السري لانتخاب البابا: «نريد
رومانيًّا أو على الأقل إيطاليًّا Romano lo volemo, o
almeno italiano.» البابا الجديد أوربان السادس قدَّم
كلَّ ما يدل على أنه كان مشوَّش التفكير بالفعل؛ فقد قام بتعذيب أربعة
كاردينالات، على الأقل، لدرجة الموت … ولكنه كان على الأقل
إيطاليًّا.
كانت فترة باباوات أفينون هي نهاية العصور الوسطى. عندما غادر كليمنت
الخامس إيطاليا، كان النظام القديم يحتضر، ولكن القليل كان قد ظهر ليحل
محلَّه. ورغم أن العرش الإمبراطوري كان شاغرًا مؤقتًا، كان الناس ما
زالوا يتذكرون فردريك العظيم ويبكون مانفريد وكونرادين. كانت المكانة
البابوية قد تدهورت. كانت الفلسفة السكولاستية قد وصلت ذروتها وغايتها
المنطقية مع «سان توماس
الإكويني St Thomas Aquinas» (توما الإكويني). كان ما تبقى هو أن يقوم دانتي
في «الكوميديا الإلهية» بتلخيص إنجازات وإخفاقات وحكمة وجهالة ومُثُل
وآمال ومخاوف إيطاليا العصور الوسطى.
عاد جريجوري الحادي عشر إلى بلاده، رغم أنها كانت قد تغيَّرت من بعض
الأوجه؛ ما كانت لتعود كما كانت قط. كانت الوحدة أمرًا بعيدًا كما كانت
دائمًا؛ كان الجيولف والجيبيليون ما زالوا يتبادلون العنفَ برغم نسيان
خلافاتهم الأصلية، وكان نزيف الدم ما زال مستمرًّا … فياضًا ومجانيًّا.
كانت سبعون عامًا بدون بابا أو إمبراطور مؤثِّر قد أزالت الاستقطابات
القديمة، وفي ١٣٤٧–١٣٤٨م كان يبدو أن الموت الأسود قد أسدل ستارًا آخرَ
على الماضي ليعرِّض الحاضر — بلا رحمة — لرياح التغيير. لم تكن الروح
العلمانية المتسائلة التي تنتشر الآن عبر البلاد جديدة في حد ذاتها.
كانت جذورها تعود إلى روجر ملكِ صقلية وحكمائه من اليونانيين والعرب،
وإلى فردريك وصقوره، وإلى مانفريد وشعراء التروبادور، وإلى أرنولد ملكِ
«برشيا Brescia» والسكولاستيين، وإلى
أطباء ومحامي ساليرنو وبولونيا؛ ولكن القرن الرابع عشر أعطى تلك الروح
زخْمًا جديدًا — في المجال السياسي مع كولا دي رينزو وأباطرة الشمال،
وفي المجال الثقافي مع بترارك والإنسانيين، وفي المجال اللاهوتي مع
مارسيليوس البادوي — وفي الوقت نفسه فإن المعوِّقات البابوية التي
طويلًا ما وقفت في طريق تقدُّمها اختفت فجأة. كانت النهضة قد انطلقت في
مدارها.
هوامش