الفصل الثالث عشر
الملوك الكاثوليك والمغامرة الإيطالية
-
كريستوفر كولومبوس: ١٤٩٢م.
-
فاسكو دي جاما: ١٤٩٨م.
-
شارل الثامن يغزو إيطاليا: ١٤٩٤م.
-
شارل يصل إلى فورنوفو: ١٤٩٥م.
-
تولِّي لويس الثاني عشر العرش: ١٤٩٩م.
-
كاترينا كورنارو: ١٤٧٣م.
-
تخلِّي كاترينا: ١٤٨٩م.
-
رابطة كامبراي: ١٥٠٩م.
-
فينيسيا تقف وحيدة: ١٥٠٩م.
-
البابا جوليوس ينقلب على الفرنسيين: ١٥١٢م.
-
موت لويس وفرديناند: ١٥١٦م.
***
في الجانب الغربي من المتوسط، كانت المسيحية في
صعودٍ مرة أخرى. كانت حرب الاسترداد الإسبانية ماضيةً في طريقها ببطء،
ولكن السابع عشر من أكتوبر ١٤٦٩م كان يومًا مهمًّا بالنسبة لإسبانيا،
وربما الأهم في التاريخ الإسباني كله. هو اليوم الذي شهد زواج
«فرديناند الثاني
Ferdinand II»، ملكِ
أراجون، من ابنة عمِّه «إيزابيللا
Isabella» ملكةِ «قشتالة
Castile». لم يكن أيهما متوَّجًا ملِكًا آنذاك، كما لم
تسفر الزيجة عن إسبانيا متحدة، لم تكن المملكتان قد أصبحتا مملكةً
واحدة. «كان الملوك
الكاثوليك
Los Reyes Catholics»، بحسب اللقب الذي خلَعه عليهم «البورجيا»
(
Borgia) الإسباني، البابا
«ألكساندر الثالث
Alexander III»،
كانوا أقرانًا لبعضهم في بلدِ كلٍّ منهم الآخر؛ بالرغم من أن السيادة
ستكون لكلٍّ منهم في بلده. بالنسبة لأراجون وقشتالة، كانت قشتالة هي
الشريك الأعلى مقامًا، وفي شروط الزواج تعهَّد فرديناند بمراعاة
قوانينها وأعرافها، وبأن يقيم هناك (ولا يغادرها إلا بموافقة زوجته)،
وبأن يعترف بها دائمًا ملِكةً على قشتالة. أما هو فيحمل لقب الملك
شرفيًّا، وليس بحكم الحق الرسمي. وبالرغم من ذلك، عندما تولَّى عرش
أراجون في ١٤٧٩م، امتدت سلطته كذلك على «قطالونيا
Catalonia» و«فالينسيا
Valencia» و«الجزر الباليرية
Balearic
Islands»،
١ كما شملت بالطبع مدينةَ برشلونة العظيمة التي كانت قد
تطوَّرت — حيث إن سقوط القسطنطينية كان قد جعل مكانةَ كلٍّ من جنوة
وفينيسيا تتراجع — لتصبح ذات أهميةٍ تجارية لها مراكز وقنصليات منتشرة
حتى الإسكندرية، وربما إلى ما هو أبعد من ذلك.
وهكذا، منذ بداية حكمهما المشترك، كان فرديناند وإيزابيللا يحكمان
مساحةً من شبه جزيرة أيبيريا، أكبر منها وهي موحَّدة على مدى عدة
سنوات. إلى جانب ذلك، فإنهما بذلا جهدًا كبيرًا لإظهار متانة علاقتهما؛
إذ كانت كل الوثائق الرسمية تقريبًا تصدر باسميهما، كما أن الدعاية
التي لا نهاية لها — وعلى نحوٍ مُبالغ فيه — كانت تؤكد دائمًا الحبَّ
الذي يجمع بينهما. هكذا يبدو مشروعًا النظرُ إلى زواجهما باعتباره حجرَ
الأساس لإسبانيا الحديثة، كما أن الفتوحات الواسعة التي أضافاها
للمملكة في حياتهما ساعدت كثيرًا في تأكيد وحدة أراضيها.
كان أول هذه الفتوحات الانتصار على مملكة غرناطة الإسلامية، التي رغم
حجمها الصغير كانت نموذجًا لترفٍ حضاري لا مثيل له في إسبانيا، كما لا
يوجد كثير مثله في أي مكان آخر. بالرغم من الجذور العربية لثقافتها،
كان عدد سكانها العرب قليلًا؛ ذلك لأن الهجرة العربية كانت قليلة في
القرون الحديثة. كان أغلب سكان المدن من بربر شمال أفريقيا، أما في
الريف فكان الغالبية من الإسبان المحليين الذين كانت أسرُهم قد تحوَّلت
إلى الإسلام قبل وقت طويل. ومع مضي حرب الاسترداد في طريقها، تقلَّص
حجم المملكة؛ إذ سقطت قرطبة في ١٢٣٦م، وإشبيلية في ١٢٤٨م؛ وبحلول نهاية
القرن الخامس عشر لم يكن هناك سوى مدينتين مهمتين؛ قرطبة ذاتها
بتَعدادها البالغ نحو ستين ألف نسمة، وميناء «ملقة Malga» الذي كان يمرُّ عبْره الذهب والقوات والعتاد، الذي
كان يُجمع من أفريقيا والشرق الأدنى لمواصلة الحرب المقدسة ضد إسبانيا
المسيحية.
في الثامن من يناير ١٤٩٢م، بعد عشر سنوات من المقاومة، سلَّم آخر
حاكم مسلم، أبو عبد الله محمد الحادي عشر (المعروف للغربيين ﺑ
Boabdil) مملكتَه وذهب إلى فارس. (رغم
أن زوجته فاطمة وأولادها تم تعميدهم واستقروا في مدريد). كان استسلامه
بدايةَ أهم أربعة أشهر في التاريخ الإسباني؛ حيث اتساع ظاهرة الاضطهاد
الديني، الذي كان له أثرٌ كارثي على قوة وحيوية إسبانيا، وبدء أشهر
رحلات الاستكشاف في التاريخ.
لم يشهد التاريخ الأوروبي حكامًا كثيرين أضيقَ أفقًا وأكثرَ تعصبًا
من إيزابيللا. كانت قد طلبت هي وزوجها تصريحًا بابويًّا (فتوى) في
١٤٧٨م لإدخال محاكم التفتيش في قشتالة. في ذلك الوقت كانت في الأساس
(وهو أمر مثير للدهشة) موجَّهة ضد اليهود المتحولين — الذين يدُل لقبهم
الشائع: «المارانوز
Marranos»
(الخنازير) على أن تحوُّلهم لم يُفِدهم كثيرًا. بعد ثلاث سنوات، طُلب
من كل أولئك المارانوز المتهمين بالهرطقة الاختيار بين التخلي عن
معتقداتهم أو الإعدام على الخازوق. تم تنفيذ أول «فعل إيمان»
auto-da-fé٢ في ١٤٨١م، وكان هناك ست ضحايا، وعندما ماتت إيزابيللا في
١٥٠٤م كان عدد الضحايا قد بلغ أكثرَ من ألفين.
بعد أقلَّ من ثلاثة أشهر من استسلام غرناطة، أصبحت الملِكة تشعر
بالقوة التي تجعلها تتمادى في سياساتها. بتشجيع من «توركيمادا
Torquemada»، قاضي التحقيق العام (وكان
هو نفسه من أصول يهودية)، أصدرت مرسومًا في الثلاثين من مارس يقضي
بمصادرة أملاك مَن يبقَون دون تحوُّل إلى المسيحية من اليهود قبل آخر
يونيو وطردهم من المملكة، وتم طرد أكثر من مائة ألف يهودي، ونجم عن ذلك
شتاتٌ ضخم لليهود الشرقيين في شمال أوروبا والشرق الأدنى. استقبلتهم
دول عدة — وبخاصة هولندا — بتَرحاب، بل إن السلطان التركي بايزيد
الثاني أرسل أسطولًا من السفن لإنقاذهم.
٣
ثم جاء الدور على المسلمين. بحسب شروط استسلامهم كانت سلامتهم
الشخصية وحريتهم الدينية مكفولة، لم تحاول إيزابيللا أن تطردهم. ربما
لأنها لم تكن تريد أن ترى البلاد خاويةً من السكان، وزراعتها وتجارتها
كاسدة. بدل ذلك، وافقت على ما كان بالفعل «دولة داخل دولة»؛ مجتمع مسلم
له عقيدته وشريعته وعاداته وتقاليده التي لا مساس بها. وبالرغم من ذلك
لجأ كثير من المسلمين إلى المنفى الاختياري عبر المضايق، وخاصة في
«أوران Oran» (وهران) والجزائر؛ أما
بالنسبة للألوف من الآخرين، فلم تكن تنازلات الملكة تبدو صادقة، وهو ما
اتضح قبل مرور وقت طويل. هذه المرة تحركت إيزابيللا وهي أكثر حرصًا،
كانت تضيِّق الخناق تدريجيًّا؛ ولكن مع كل شهر يمر، كان المسلمون يجدون
أنفسهم يعامَلون معاملةَ المنبوذين. كانت ممارسة شعائرهم تزداد صعوبةً
وكذلك الضغوط عليهم لقبول التعميد المسيحي. نتج عن محاولات التحويل
الإجباري تلك ثوراتٌ خطيرة، وفي ١٥٠٢م أوضح مرسوم ملكي الخيار مرةً
أخرى على نحوٍ لا لبس فيه؛ التحوُّل أو الطرد أو الإعدام. على خلاف
اليهود، قبِل غالبية المسلمين الخيارَ الأول. وبحلول العام ١٥٠٣م،
نظريًّا على الأقل، لم يكن قد بقي أحدٌ في قشتالة، ولكن حيث إن قليلين
فقط هم الذين كانوا يعتقدون في صدق تحوُّلهم، كان «الموريسكوس Moriscos» (كما كان يطلَق على
المتحولين) وقودًا جديدًا لمحاكم التفتيش.
كانت الحرب مع غرناطة باهظة التكلفة، وعندما انتهت أصبحت هناك موارد
متوفرة، وذلك ما جعل رحلة الجنوي «كريستوفر كولومبوس Christopher
Columbus»
الطويلة ممكنةً، وهي التي انتهت باكتشاف الأمريكتين. وبالرغم من أن
كولومبوس كان عليه أن يدافع عن اقتراحاته أمام لجنتين منفصلتين؛ الأولى
مكوَّنة في معظمها من رجال الكنيسة واللاهوت، والثانية من فلاسفة
وفلكيين وكوزموجرافيين، فإنَّ سببَ التصريح النهائي له من قِبل الملوك
الكاثوليك لكي يستمر، لم يكن من الصعب اكتشافه؛ كان استيلاء الأتراك
على الحوض الشرقي للمتوسط قد أغلق طريقَ التجارة التقليدي إلى الشرق.
لحسن الحظ، كان قد أصبح من المتَّفق عليه أن الأرض كروية، وأنه كان
بالإمكان الوصول إلى جزر الهند الشرقية بالإبحار في أيٍّ من الاتجاهين.
كان السؤال المهم المطلوب حسمُه الآن: أي الطريقين أقصر؟ كان
البرتغاليون قد تعلَّموا فنونَ الملاحة من الجنويين، والآن — مستلهمين
أميرَهم هنري الملاح — كانوا يضعون أموالهم على طريق الشرق ويتحسَّسون
طريقَهم على الساحل الأفريقي.
لم يكن هناك جديد بالنسبة لفكرة الإبحار حول أفريقيا؛ وإن كان لنا أن
نصدِّق «هيرودوتس
Herodotus»، فإن
الفينيقيين كانوا قد حقَّقوا ذلك نحو عام ٦٠٠ق.م.،
٤ كما أن جنوة كانت قد قامت بمحاولةٍ أخرى في ١٢١٩م عندما
أرسلت الأخوين «أوجولينو
Ugolino»
و«جيدو فيفالدي
Guido Vivaldi»
بسفينتين في محاولةٍ للوصول إلى الهند عن طريق المحيط. (فينيسيا لم
تحاول؛ حيث إن تقاربها الوثيق مع مصر المملوكية وسيطرتها الفعلية على
طريق الإبحار عبر البحر الأحمر، جعلا ذلك غير ضروري بالنسبة لها). لم
يكن الإخوة فيفالدي محظوظين، وجاء القرن الرابع عشر — وكان هناك تقدُّم
كبير في بناء السفن وفنون البحر والملاحة — وكانت القصة مختلفة. في
١٤٨٨م دار البرتغالي «بارتولوميو
دياز
Bartholomew Diaz» حول «رأس
العواصف
The Cape of Storms» (أُعيد تسميتها ﺑ «رأس رجاء الصالح
The Cape of Good Hope» بواسطة
جون الثاني ملكِ البرتغال)، بعد ذلك كان التأكد من أن الطريق إلى الهند
مسألةُ وقت.
كان من الطبيعي أن تجعل الخصومة القديمة بين إسبانيا والبرتغال،
الإسبانَ يفضِّلون البديلَ الثاني وهو الاتجاه غربًا، وعندما راح
كولومبوس يُقنِع فرديناند وإيزابيللا بمزاياه، كانا مهيأين لذلك إلى
حدٍّ بعيد. ولكن الهدف الرئيسي من رحلته، كان كما هي العادة دائمًا
بالنسبة للمستكشفين الإسبان، مكوَّنًا من شقين؛ الذهب والإنجيل. من جزر
الهند الشرقية (التي كان يعتقد أن جزءًا منها قد تم تنصيره على يد سان
توماس)، كان يعتقد أن بالإمكان بدء تجارة مربحة في سلع الشرق الخرافية
بمساعدة الخان الأعظم (وكان شخصية أسطورية ويعتقد أنه كان محبًّا
للمسيحية وإن لم يكن هو نفسه مسيحيًّا)، وكذلك نشر المسيحية في شبه
القارة المجهولة تلك. من هنا كان العرض الذي وجد طريقه إلى قلب الملكة
مباشرة. صحيح أن مملكتها كانت — نظريًّا — قد خلت من «وصمة الإسلام»،
ولكن التقدم العثماني في شرق ووسط البحر الأبيض كان ما زال قويًّا، ولم
تكن هناك أي مؤشرات على أنه سيهدأ. كان قد وصل إلى إيطاليا حيث كانت
جماعات الأتراك غير النظامية قد اجتاحت «فريولي Friuli» وتخرِّب الريف وتقترب من فينيسيا؛ حيث كان يمكن
رؤية اللهب المتصاعد من القرى المشتعلة، من أعلى برج كنيسة سان مارك.
في ١٤٨٠م، كان السلطان قد أطلق أسطولًا قوامه مائة سفينة على ميناء
«أوترانتو Otranto» في «كالابريا Calabria» وطوَّقه دون صعوبة. الآن كانت
نابولي مهدَّدة، حتى روما نفسها. كان لا بد إذن من أن يتصرف العالم
المسيحي بشكل حاسم، وكان ذلك واضحًا، ولكن كيف؟ كان البابا بيوس الثاني
قد حاول مرتين القيامَ بحملة صليبية أخرى ولكنه لم يجد استجابة، على
أية حال كان الجيش العثماني مكونًا من جنودٍ محترفين وعلى مستوًى عالٍ
من التدريب، ولن يقهر في مواجهة مباشرة.
ربما كان حلُّ المشكلة هنا؛ الاقتراب من الجيش التركي من جهة الشرق
والهجوم على مؤخرته، حيث يمكن أن يكون ضعيفًا وربما بلا حماية. لم
تتردد إيزابيللا. كانت كما تعتقد لا تموِّل تدشين طريق جديد ومهم
للتجارة فحسب، وإنما كانت تتخذ أول خطوة استكشافية ضرورية نحوَ ما قد
يكون آخر حملة صليبية ضد «الكفار». كان فرديناند متحمسًا كذلك؛ وفيما
بعد سوف يزعم كولومبوس أنه هو الذي رسم ابتسامةً على شفتَي الملك،
عندما قال إن أرباح هذه العملية كبيرة، وسوف تغطي نفقات غزو أورشليم.
ربما كانت تلك الابتسامة بالطبع ابتسامةً ساخرة، ولكن فرديناند لم يكن
قد نسي النبوءة القديمة عن ذلك «الأمير المنتظَر» الذي سيرفع رايته على
المدينة المقدسة ويحكم العالم. أعطى هو وإيزابيللا موافقتهما الرسمية
في السابع عشر من أبريل ١٤٩٢م، واضعين تحت تصرُّف كولومبوس المراكبَ
الشراعية الصغيرة الثلاث — كان أكبرها أطولَ من مائة قدم بقليل — التي
كانت قد غيَّرت ذلك العالم على نحوٍ غير مسبوق.
قصة كريستوفر كولومبوس ورحلته الملحمية ليست قصتنا، إلا أنها مهمة
بالنسبة لنا لِما لها من أثرٍ على مصائر المتوسط. قبل خمس سنوات، فحسب،
كانت قد أبحرت «نينا Nina»
و«بنتا Pinta» و«سانتا ماريا Santa
Maria»، وكان «دياز Diaz» قد أبحر حول «الرأس The Cape»؛ وبعد ذلك بست سنوات، أي في
العشرين من مايو ١٤٩٨م، كان مواطنه «فاسكو دا جاما Vasco
da Gama» قد رسا في
«كالكوتا Calicut» (كوجيكود Kozhikode) على ساحل مالابار في الهند. لم
تكن زيارةُ دا جاما ناجحةً تمامًا، لم يكن أحدٌ يريد البضائع الرديئة
التي عاد بها، ويبدو أنه كان قد استعدى مضيِّفه بسبب عجرفته وعدوانيته.
كذلك فإن رحلة العودة لم تنجُ من سوء الحظ. لم يلحق بالرياح الموسمية
التي كان يمكن أن تساعده، ومات ثلاثون من بحَّارته بالأسقربوط، ولا
نعرف حتى تاريخ عودته إلى لشبونة؛ ولكن المؤكد أنه عاد وسط تهليل صاخب.
لم يكتشف طريقًا بحريًّا يصل إلى الهند فحسب، بل أثبت كذلك أن السفن
البرتغالية كانت قادرة — فقط — على الذهاب إلى هناك والعودة.
كان لا بد من أن يمرَّ قرن وربما أكثر، قبل أن يُستخدم طريق رأس
الرجاء الصالح بانتظام، وعلى مدى القرن السادس عشر ستكون هناك حركة
مرور كبيرة عبر المتوسط. ولكن، من الآن فصاعدًا كانت الكتابة على
الحائط. حتى عندما كان الأتراك لا يسبِّبون مشاكل — وكانوا غالبًا ما
يفعلون — فإن كل الشحنات المتجهة إلى الشرق اللاتيني وما وراءه، وبعد
ذلك كانت إما أن تُنقل بالبر إلى البحر الأحمر المُبتلى بالقراصنة، أو
أن يُعهد بها لبعض قوافل الجمال البطيئة التي قد تقضي عامين وربما
ثلاثة أعوام قبل أن تبلغ مقصدها. الآن، كان التجار يستطيعون التطلع إلى
وقتٍ يمكنهم فيه الإبحار من لندن أو لشبونة، ويصلون إلى الهند أو
«كاتاي
Cathay» على نفس السفينة. في
الوقت نفسه، كان العالم الجديد — بفضل كولومبوس ومَن جاءوا بعده — يبدو
أكثرَ فائدة من القديم، يمتلك ثروة خرافية، كان نصيب الأسد منها يذهب
إلى إسبانيا وبشكل قانوني كذلك. في غضون سبعة أشهر فقط من أول هبوط ﻟ
«كولومبوس» على اليابسة، أصدر البابا ألكساندر أولَ مرسوم من مراسيمه
الخمسة لتسوية الادعاءات المتنافسة لكلٍّ من إسبانيا والبرتغال بخصوص
المناطق المكتشَفة حديثًا،
٥ وفي غضون خمسة وعشرين عامًا، كانت السفن الشراعية الضخمة
(الغليونات
Galleons) تعود بانتظامٍ
إلى مواطنها محمَّلة حتى حوافها بالغنائم. لا عجب إذن، أن تكون أعينُ
خلفاء فرديناند وإيزابيللا على الغرب وبإصرار، أما أورشليم فكان يمكن
أن تنتظر.
لم يكن واضحًا آنذاك أن هذا الفتح المفاجئ للمحيط من الجانبين، قد
وجَّه ضربةً لتجارة المتوسط قد تصيبها بالشلل. بالتدريج، بدأ الناس
يدركون، على الأقل من وجهة النظر التجارية، أن البحر الأبيض المتوسط قد
بات منطقةً مائية معزولة. كان المرور إلى شرق الأدرياتيكي صعبًا ويعتمد
على حسن الحظ، وكان المرور إلى غربه ما زال ضروريًّا بالنسبة لإيطاليا
ولا غنَى عنه؛ أما فرنسا فكانت في تلك الأيام تجد موانئها الشمالية على
القنال الإنجليزي أكثرَ فائدة من مرسيليا أو طولون؛ بينما كانت
إسبانيا، التي كانت تدخل آنذاك سنوات عظمتها، لديها الآن سَمكٌ آخرُ
أفضل للشي. سيكون على المتوسط أن ينتظر ثلاثمائة سنة أخرى، إلى أن يتم
شق قناة السويس، لكي يستعيد أهميتَه القديمة.
•••
ظل البحر الأبيض المتوسط، كما كان دائمًا، ساحةَ قتال. في إيطاليا
كذلك كان العام ١٤٩٢م معلمًا مهمًّا. شهد ذلك العام موتَ كلٍّ من
«لورنزو دي ميديشي Lorenzo de Medici»
(لورنزو العظيم)، وحاكم فرنسا، وبعد ثلاثة أشهر شهد موتَ البابا إنوسنت
الثامن. لورنزو، الذي نتذكره أساسًا بسبب رعايته للفنون والآداب، كان
هو المسئول كذلك، إلى حدٍّ كبير، عن الحفاظ على التوازن بين الدول
الإيطالية، وكان توازنًا ضعيفًا دائمًا. فبالإبقاء على التحالف بين
فلورنسا وميلانو ونابولي، وفَّر بؤرةً للقوى الأصغر مثل مانتوا وفيرارا
وبعض الدول البابوية، كما لجمَ طموحات فلورنسا الخطرة. بموته وخلافة
ابنه الصغير «بييرو Piero»، ضاع هذا
النفوذ المعتدِل. رغم كل فساد البابا إنوسنت، ومحاباته لأهله وأقاربه،
كان قوةَ سلام. الإسباني «رودريجو
بورجيا Rodrigo Borgia»، الذي خلَفه ليكون البابا إلكساندر السادس، كان
كلُّ همه أن يحصل على كلِّ ما تقع عليه يده. مرةً أخرى أصبحت إيطاليا
معرَّضة للهجوم … ولم يكن ذلك الهجوم لينتظر طويلًا.
كانت نابولي هي «ذريعة
الحرب
The Casus belli». بالرغم من أنها كانت ما زالت تطالب ﺑ «صقلية»
كجزء من أملاكها، كان قد تم فصلها عن الجزيرة منذ «صلوات المساء الصقلية
The Sicilian Vespers» عندما
تم طردُ «آل أنجو
Anjou» من قِبل
«آل أراجون
Aragon»، وانسحبوا إلى
البر الرئيسي. في ١٤٣٥م كان خط النَّسب الأنجوي قد انقرض مع الملكة
جوانا الثانية، أما عرش البر الرئيسي في نابولي، الذي كانت قد تركته
لقريب لها من آل أنجو، فكان قد استولى عليه ألفونسو الأراجوني حاكمُ
الجزيرة. الآن كانت المملكتان في حكم المتحدتين وإن احتفظت كلتاهما
بهويتها الخاصة؛ وعند موت ألفونسو في ١٤٥٨م انفصلتا مرةً أخرى، أما
البر الرئيسي فقد آل إلى ابنه غير الشرعي فرديناند.
٦ ورِث فرديناند ما استمرَّ أن يكون عرشًا ينتمي إلى العصور
الوسطى في كل المجالات المهمة. كانت المبادئ الإقطاعية ما زالت سائدة،
ولم يكن أحدٌ قد سمِع بالحريات المحلية على النموذج الشمالي. كان الملك
الجشِع، القاسي، القادر في الوقت نفسه، كان مرهوبَ الجانب مكروهًا من
رعاياه، مثلما كان ابنه ألفونسو الذي خلَفه في يناير ١٤٩٤م. ولكن ذلك
الحفيد غير الشرعي لمغتصِب العرش، لم يكن لمطالبته بالعرش أيُّ أساس
قوي بإجماع الكل. كان وضع ألفونسو عرضةً لتحدٍّ كبيرٍ، وجاء هذا التحدي
في الحادي والعشرين من سبتمبر ١٤٩٤م، عندما قاد «شارل الثامن
Charles
VIII» ملكُ فرنسا، البالغُ
من العمر اثنين وعشرين عامًا، جيشًا قوامه نحو ألف مقاتل إلى إيطاليا،
مطالبًا بعرش نابولي، باعتباره من نسل شارل الأنجوي. كان شارل الثامن
ملكُ فرنسا هذا، يوصف بأنه «شابٌّ أحدَب فاسق مشكوك في سلامة قواه
العقلية»، وذلك على حد تعبير المؤرِّخ «إتش. إيه. إل. فيشر
H. A. L. Fisher». على الفور، اندلعت
مرةً أخرى الخصومةُ القديمة بين آل أنجو وآل أراجون.
لم يكن مظهر شارل هو ذلك المظهر المتوقَّع لمغامر عسكري شاب. في
تقرير للسفير الفينيسي في ذلك العام نقرأ: «سموه ضئيل الحجم، مشوَّه،
قبيح الملامح، له عينان قبيحتان قصيرتا النظر، وأنف أكبر من الطبيعي،
وشفتان غليظتان منفرجتان دائمًا، ويأتي بيديه بحركاتٍ تشنجية تجعل
منظرهما مقززًا، ويتكلم ببطء شديد.» كان العام ١٤٩٢م عامًا مهمًّا كذلك
بالنسبة له؛ لأنه كان العام الذي تحرَّر فيه من السيطرة الصارمة للوصية
السابقة: شقيقته الكبرى «آن دو
بوجو Anne de Beaujeu». المؤكَّد أنها ما كانت لتشجِّع على مغامرة من ذلك
النوع الذي كان شقيقها عازمًا عليه، والذي كان وزراؤه يبذلون كلَّ
جهدهم لإثنائه عنه، بينما كان هو يعتقد أن لديه ما يبرِّره. كان يقول
إنه لم تكن لديه أيُّ رغبة في غزو أراضي الآخرين، ولكنه كان يدَّعي أن
تلك الأراضي من حقه، ومن بينها — بلا شك — مملكة نابولي. وكان هناك
اعتبار آخر؛ على مدى القرون الثلاثة السابقة، كان لقب ملك أورشليم
مرتبطًا بتلك المملكة، وهو ما قد يحقِّق له المكانة الضرورية بمجرد أن
تتأكد ممتلكاته الإيطالية، لكي يقوم بقيادةِ حملة صليبية كان يحلُم
بها، وكانت قد تأخَّرت طويلًا.
عندما بدأت الحملة كانت مبشِّرة بالنجاح. شارل وابن عمه دوق أورليانز
وجيشه — خيَّالته من النبلاء وعلية القوم في فرنسا — حَمَلة الرماح
الألمان، الرماة الجاسكون،
٧ مدفعيته الخفيفة سريعة الطلقات كلهم عبَروا الألب دون
حوادث عن طريق ممرِّ مونت جينيفر، وكان قد تم نقل مدفعيته الثقيلة
بالبحر إلى جنوة. استقبلته ميلان بقيادة حاكمها اللامع القوي
«لودوفيكو سفورزا
Ludovico Sforza»
بحماسة، وكذلك «لوكا
Lucca»
و«بيزا
Pisa»؛ وفي فلورنسا استقبله
المبشِّر الدومينيكاني «جيرولامو سافونا رولا
Girolamo
Savonarola» باعتباره محرِّرًا، واستغل الملك
الفرصةَ لطرد «بييرو دي ميدشي
Pierode’
Medici» الذي لم تكن تبدو عليه أيُّ سمة من سمات رجل
الدولة مثل والده لورنزو. في الحادي والثلاثين من ديسمبر، فتحت روما
أبوابها، بينما انزوى البابا ألكساندر مرتعدًا في «كاستيل سانت أنجلو
Castel Sant Angelo»، قبل أن
يصلَ فجأةً إلى اتفاق. وأخيرًا في الثاني والعشرين من فبراير ١٤٩٥م،
دخل شارل نابولي، بينما استقبله شعبُها - الذي لم يكن يرى في بيت آل
أراجون سوى أنهم مستبدون أجانب — بحماسة شديدة. فرَّ خصومه الأراجون
إلى صقلية، وفي الثاني عشر من مايو، تم تتويج شارل ملكًا للمرة
الثانية.
لم يبقَ طويلًا في مملكته الجديدة؛ إذ كان نجاحه قد بدأ يتحوَّل إلى
مرارة. أهالي نابولي، الذين كانوا سعداء بتخلُّصهم من آل أراجون، سرعان
ما اكتشفوا أن لا فرق بين محتلٍّ أجنبي وآخر. كلهم سواء بسواء. انتشر
القلق والاضطرابات بين سكان الكثير من المدن الصغيرة، الذين اكتشفوا
أنه كان عليهم أن يتحملوا — دون سبب معقول يمكن فهْمه — حامياتٍ فرنسية
ساخطة وفاسقة غالبًا. خارج مملكة نابولي كذلك، كان الناس قد بدءوا
يشعرون بالقلق. حتى تلك الدول، الإيطالية والأجنبية التي كانت في
السابق قد اعتبرت تقدُّم شارل لا يمثل خطورة، حتى تلك الدول بدأت
تتساءل عن المدى الذي ينوي ذلك الفاتح الشاب الوصولَ إليه. قرَّر
فرديناند وإيزابيللا إرسالَ أسطول إلى صقلية؛ وقام الإمبراطور الروماني
المقدس المنتخَب مكسميليان،
٨ هو الآخر باستعداداته، مرعوبًا من فكرةِ أن تؤديَ نجاحات
شارل به إلى المطالبة بالتاج الإمبراطوري؛ البابا ألكساندر، الذي لم
يكن سعيدًا قط ﺑ «شارل»، أصبح أكثرَ توترًا؛ حتى لودوفيكو سفورزا، ملكُ
ميلان، الذي كان قد بات منزعجًا مثل الآخرين، أصبح قلقًا بسبب الوجود
المستمر لدوق أوليانز في «آستي
Asti»
القريبة، والذي كان يطالب ﺑ «ميلان» عن طريق جَدَّته الدوقة
«فالينتينا
فيسكونتي
Valentina
Visconti»، وكان يدرك أن تلك المطالبات ليست أقلَّ قوةً
من مطالبات شارل ﺑ «نابولي». كانت النتيجة هي تكوين ما سُمي ﺑ
«الرابطة
المقدسة
The
Holy League»، التي كانت مسالِمة في الظاهر، بيد أنه كان لها
في الحقيقة هدفٌ واحد، وهو أن يحمل الملك الجديد عصاه ويرحل.
•••
عندما وصلت أخبار الرابطة إلى شارل في نابولي استشاط غضبًا، ولكنه لم
يهوِّن من شأن الخطر الذي كان يواجهه آنذاك. بعد أسبوع واحد من تتويجه،
ترك مملكتَه الجديدة إلى الأبد واتَّجه شمالًا، متخذًا الساحل الغربي
لشبه الجزيرة إلى «لاسبيزيا La Spezia»، ثم انعطف إلى اليمين على امتداد الطريق
الجبلي الذي سيوصله إلى السلسلة الشمالية من «الأبنين The
Appennines»، ثم ينحدر مرةً أخرى
إلى لومبارديا. حتى في منتصف الصيف، لا بد من أن يكون القيام بجرِّ
مدفعية ثقيلة فوق ممر جبلي، أشبهَ بكابوس ثقيل. كان الصعود شديدَ
الصعوبة، وكذلك كانت رحلة النزول، وربما كانت أسوأ. كان الأمر يحتاج
أحيانًا إلى ما يقرُب من مائة جندي ممن أصابهم الإرهاق الشديد، كل
اثنين منهم موثقَين معًا، يعملون على منع مدفع واحد من المدافع الثقيلة
من الاندفاع بسرعةٍ من أعلى جرف شديد الانحدار، وإن لم يتصرفوا بسرعة،
كان لا بد من أن يجرفَهم معه. وأخيرًا، في الخامس من يوليو، كان شارل
يستطيع أن يطل على مدينة «فورنوفو Fornovo» الصغيرة، التي كان ينتشر خلْفها نحو ثلاثين ألف
جندي من الرابطة، تحت قيادة «فرانسيسكو كونزاجا Franncesco Conzaga»، ماركيز مانتوا.
كان جيش جونزاجا متفوقًا في كل شيء. كان يفوق الجيش الفرنسي عددًا
بنسبة ثلاثة — وربما أربعة — إلى واحد، وكان مستقرًّا في مكانه، ولديه
ما يكفيه من المؤن، وكان لديه وقتٌ كافٍ لاختيار مواقعه والاستعداد
للمواجهة القادمة. على العكس من ذلك، كان الجيش الفرنسي منهكًا وجائعًا
وغيرَ راغب في القتال. ولكنهم قاتلوا. الملك نفسه قاتل بشجاعة مثل
الآخرين. كانت المعركة هي الأكثر دموية في تاريخ إيطاليا على مدى مائتي
عام. على أية حال، لم تستمر طويلًا، وبحسب رواية «فيليب دي كومين Philippe de Commines»، السفيرِ
الفرنسي في فينيسيا، الذي كان موجودًا، انتهى كل شيء في غضون ربع ساعة.
حاول كونزاجا أن يعتبر ذلك انتصارًا، لدرجةِ أنه عندما عاد إلى مانتوا،
بنى «كنيسة
انتصار Chiesetta de
Vittoria»، مزوَّدة بلوحةِ مذبح خاصة بواسطة «مانتجنا Mantegna»، رغم عدم موافقة كثيرين.
الفرنسيون اعترفوا بأنهم خسِروا قافلة تموينهم، ولكن خسائرهم كانت لا
تُذكر مقارنةً بخسائر الإيطاليين الذين فشلوا تمامًا في إيقافهم، كما
ظهر عندما واصل شارل ورجاله تقدُّمهم في تلك الليلة نفسها، ليصلوا إلى
«آستي Asti» دون عقباتٍ بعد أيام
قليلة.
وهناك، كانت أخبارٌ سيئة في انتظارهم. كانت حملةٌ بحرية فرنسية على
جنوة قد فشِلت، ونتج عنها أسرُ معظم الأسطول. كان لويس ملكُ أورليانز
محاصرًا في «نوفارا Novara» من قِبل
جيش ميلان، ولم يكن من المحتمَل أن يصمد طويلًا؛ وكان
فيرانتينو بن ألفونسو قد رسا في «كالابريا Calabria» حيث كان يتقدَّم بسرعة نحو نابولي، مدعومًا
بقواتٍ إسبانية من صقلية. في السابع من يوليو ١٤٩٥م أعاد احتلال
المدينة. فجأةً تبخَّرت كل انتصارات العام السابق الفرنسية. وفي شهر
أكتوبر، نجح شارل في التوصُّل إلى اتفاق مع سفورزا أنهى تأثير الرابطة؛
بعد أسبوع أو اثنين قاد جيشه عائدًا عبْر الألب، تاركًا أورليانز خلْفه
لكي تحافظ على وجودٍ فرنسي على قدرِ ما استطاع.
على العكس من ذلك، كان أن تركت مغامرة شارل الإيطالية أثرَها الدائم
في أوروبا الشمالية. عندما سرَّح جيشه من الخدمة في ليون في نوفمبر
١٤٩٥م، تشتَّت جنوده في القارة مع حكاياتٍ عن بلاد دافئة تغمرها الشمس،
يسكنها شعبٌ رفاهيته الثقافية أكثرُ مما هو معروف في المناخات الباردة
الكئيبة في الشمال، ولكنهم كانوا مفكَّكين لا يستطيعون الدفاع عن
أنفسهم ضد كل محتل عنيد. عندما انتشرت الرسالة، وعندما بدأ الرسامون
والنحاتون وعمال الجص والحفر على الخشب الذين عاد بهم شارل معه من
إيطاليا يحوِّلون قلعتَه القديمة في «أمبواز Amboise» إلى قصرٍ من قصور النهضة، أصبحت إيطاليا مرغوبةً
أكثر في عيون جيرانها الشماليين، مقدِّمة لهم دعوةً وتحديًا، لم يكونوا
بطيئين في تبنِّيها في السنوات التالية.
المرتزقة الذين كان قد تم تسريحهم حملوا معهم كذلك شيئًا آخر، كان
مهلِكًا أكثرَ من أيٍّ من أحلام الغزو. سفن كولومبوس الثلاث التي عادت
إلى إسبانيا من الكاريبي في ١٤٩٣م، جاءت معها بأول حالات الزهري التي
عرفها العالَم القديم؛ وعن طريق المرتزقة الإسبان الذين أرسلهم
فرديناند وإيزابيللا لمساعدة الملكِ ألفونسو، كان المرض قد انتشر بسرعة
في نابولي؛ حيث كان قد تفشَّى عند وصول شارل. بعد ثلاثة أشهر من
الاسترخاء والخلو من الهم (dolce far
nient)، كان لا بد أن يصاب رجاله بدورهم بالعدوى، وكل
الدلائل المتاحة كانت توحي بأنهم كانوا المسئولين عن جلبِ المرض إلى
شمال الألب. وبحلول عام ١٤٩٧م، كانت التقارير تفيد أن المرض كان قد وصل
إلى «أبردين Aberdeen». في ذلك العام
وصل فاسكو دا جاما إلى الهند؛ حيث سجل دخول المرض في ١٤٩٨م، وبعد سبع
سنوات كان قد انتقل إلى «كانتون Canton».
ولكن مهما كانت سرعة انتشار «المرض الفرنسي» morbo
gallico — كما أُطلق عليه — فإن الموت جاء شارل الثامن
على نحوٍ أكثرَ سرعة. في «أمبواز Amboise»، ليلة أحد السعف في العام ١٤٩٨م، وبينما هو في
طريقه لمشاهدة فعالية رياضية في ملعب القلعة ارتطم رأسه بعَرَقة باب
منخفضة، مضى في طريقه وشاهد المباراة، وفي طريق عودته إلى مقر إقامته
سقط على الأرض عند المكان الذي وقع فيه الحادث. رغم أن المكان كان
أقذرَ أركان القلعة و«مكانًا للتبول»، كما يقول «كومينيس Commines» بازدراء، كان من رأي مرافقيه
ألا يحركوه، وهناك أرقدوه على حشيةٍ خشنةٍ لمدة تسع ساعات … وقبل منتصف
الليل كان قد فارق الحياة.
وحيث إن ابن شارل الوحيد كان قد مات في طفولته، انتقل العرش إلى ابن
عمِّه دوق أورليانز، الذي سيُعرف باسم لويس الثاني عشر. بالنسبة لحكام
إيطاليا الذين كان لهم دراية واسعة ﺑ «لويس» في سنواته الحديثة، كانت
خلافته تعني شيئًا واحدًا فحسب: غزوًا جديدًا لشبه الجزيرة، وهذه المرة
ليس لتبرير مطالبة آل أنجو ﺑ «نابولي» فحسب، بل وتبرير مطالبة
الأوليانز ﺑ «ميلان». لم يدهشهم على الإطلاق أن يسمعوا أن الملك الجديد
كان قد اتخذ لنفسه لقبَ دوق ميلان عند تتويجه. كان تفوُّق الأسلحة
الفرنسية قد ظهر في فورنوفو، كما أن الجيش الذي كان لويس يجهِّزه كان
مبشرًا بأن يكون أكبرَ وأفضلَ تجهيزًا وتنظيمًا من جيش سلفه. كان
البابا ألكساندر يمكن أن يعترض، ولكن لويس تمكَّن من شرائه دون صعوبة،
بأن أعطى ابنه «سيزار Cesare» (الذي
كان قد سئم منصب الكاردينال وقرَّر أن يترك الكنيسة مفضلًا حياةَ
المغامرة العسكرية) دوقيةَ «فالينتنوا Duchy of
Valentinois» الغنية،
وساعده في الزواج من «شارلوت دالبرت Charlot
d’Albret» شقيقةِ ملك «نافار Navarre».
في منتصف أغسطس ١٤٩٩م كانت غزوته الثانية. في الثاني من سبتمبر هرب
الدوق لودوفيكو سفورزا بكنزه إلى «تيرول Tyrol»، وفي السادس من أكتوبر كان الدخول المهيب للملك
لويس إلى فرنسا، عاد سفورزا إلى المدينة — ولكن جيش الملك كان قويًّا
بكل تأكيد — وفي أبريل تم أسرُ الدوق ولم يستعِد حريته بعد ذلك. إلا أن
ذلك لم يكن كافيًا لكي يشعر لويس بالرضا. كانت نابولي تلوِّح له وكأنها
تناديه؛ وكان شارل ابن عمه فاز بالمدينة ثم فقدها، أما هو، فكان لا بد
من أن يكون أكثرَ حذرًا. في نوفمبر ١٥٠٠م، وقَّع مع فرديناند ملكِ
أراجون اتفاقيةَ غرناطة السرية، التي سيقوم بموجبها الحاكمان بغزو
نابولي مشارَكة. في مقابل تحالفه، أو على الأقل عدم تدخُّله، سيحصل
فرديناند على نصف المملكة بما في ذلك إقليما «أبوليا Apolia» و«كالابريا Calabria». أما لويس، فستكون نابولي نفسها و«جايتا Gaeta» و«أبروزي Abruzzi» من نصيبه. أعطى البابا موافقته في الوقت
المناسب، وفي مايو ١٥٠١م كان الجيش الفرنسي في طريقه، مدعومًا بأربعة
آلاف من المرتزقة السويسريين.
أول أخبار التحالف التي وصلت إلى «فيديريكو Federico» ملكِ نابولي شقيقِ وخليفةِ «فيرانتينو Ferrantino»، الذي كان قد مات بعد عودته
إلى مدينته مباشرة، جاءت من روما، كانت على هيئة مرسوم بابوي بإزاحته
من منصبه وتقسيم مملكته حسب الشروط التي كان قد تم الاتفاق عليها في
غرناطة. آوى إلى جزيرة «إسكيا Ischia»، وبعد فترة قَبِل عرْض لويس باللجوء إلى فرنسا.
بعد يومين من رحيله، احتلت الحاميات الفرنسية قلاعَ نابولي، بينما
اتجهت قواتٌ أخرى شمالًا إلى أبروزي. في الوقت نفسه احتل القائد
الإسباني الشهير «جونزالو
القرطبي Gonzalo de Cordoba» حصةَ سيده في المملكة.
ولكن من أسفٍ أن اتفاقية غرناطة خلَّفت أسئلةً كثيرة دون إجابة. لم
تذكر أيَّ شيء عن إقليم «كابيتاناتا Capitanata» الواقعِ بين أبروزي وأبوليا، ولا عن
«الباسيليكاتا Basilicata» الواقعةِ
على مشط قدم إيطاليا بين أبوليا وكالابريا. قد يعتقد المرء أنه كان
بالإمكان تسويةُ تلك الأمور الخلافية بأساليبَ وديةٍ، ولكن ذلك لم
يحدث. وبحلول يوليو، كانت الحرب بين فرنسا وإسبانيا مشتعلة. استمر
القتال على نحوٍ متقطِّع قرابة عامين، وفي النهاية كان النصر حليف
الإسبان الذين سحقوا الجيشَ الفرنسي في ١٥٠٣م في «سيريجنولا Cerignola»، وفي السادس عشر من مايو دخل
«جونزالو Gonzalo» نابولي. في الأيام
الأخيرة من ديسمبر، هجم على الفرنسيين مرةً أخرى عند نهر «جارجليانو Garigliano»، وكانت المعركة هذه المرة
حاسمةً لكي تنهيَ الوجود الفرنسي في نابولي. استسلمت «جايتا Gaeta»، آخرُ حامية فرنسية في المملكة
للقوات الإسبانية في الأول من يناير ١٥٠٤م. منذ ذلك أصبح حكمُ آل
أراجون في أراضي المملكة الرئيسية، كما في صقلية وإسبانيا، دون
منافس.
عند هذه المرحلة من القصة يتحوَّل الضوء مؤقتًا إلى قبرص. قبل نحو
قرنين ونصف القرن، كان ريتشارد قلب الأسد، قد منح الجزيرة ﻟ
«جاي اللوزيناني
Guy of Lusignani»،
وبالرغم من أنها من وقتٍ لآخر كانت تقع تحت نفوذ أجنبي — وبخاصة النفوذ
الجنوي في ١٤٢٦م — فإن بيت آل لوزينان كان مستمرًّا في حكمها. في ١٤٦٠م
على أية حال، كان «جيمس
اللوزيناني
James
of Lusignan»، الابنُ غيرُ الشرعي للملك السابق جون
الثاني، قد استولى على العرش من أخته الملكةِ «شارلوت
Charlotte» وزوجِها «لويس ملكِ سافوي
Louis of Savoy»، مجبرهما على
اللجوء إلى قلعة «كيرينيا
Kyrenia»
لمدة ثلاث سنوات، قبل أن يتمكَّنا من الهرب إلى روما. بمجرد أن أصبح
ملكًا، كان جيمس في حاجةٍ لحلفاء، وعندما عاد إلى فينيسيا طلب رسميًّا
يد «كاترينا
Catherina» الابنةِ
الصغرى الجميلة ﻟ «ماركو
كورنارو
Marco Cornaro» (أو كورنر
Corner كما ينطقها الفينيسيون)، الذي
كان لأسرته ارتباطٌ طويل بالجزيرة. كان ماركو نفسه قد عاش هناك عدةَ
سنوات وأصبح صديقًا حميمًا ﻟ «جيمس»، الذي قام بعدة مهام دبلوماسية
دقيقة له، بينما سيصبح «أندريا
Andrea»، عمُّ كاترينا، بعد وقت قصير مدققًا لحسابات
المملكة. من ناحية الأم، كانت سلسلةُ نَسبها متميزة؛ حيث كان لها أن
تزهوَ بجَدٍّ لا يقل منزلةً عن «جون
كومنينوس
John Comnenus» إمبراطور «تريبيزوند
Trebizond».
٩
توقُّع ملكةٍ فينيسية لقبرص، كان أكثرَ ما يمكن أن تقاومه حكومة
«سيرينيسيما Serenissima»، وخشيةَ أن
يغيِّر جيمس رأيه، تم الترتيب لزواجٍ بالوكالة. في العاشر من يوليو
١٤٦٨م، وبكل الأبهة والفخامة التي تعرفها الجمهورية، جاءت كاترينا ذات
الأربعة عشر ربيعًا برفقة حاشيةٍ من أربعين عقيلة من النبلاء من
«بالازو كورنر Palazzo Corner» في سان
بولو إلى قصر الدوج، وهناك سلَّم الدوج «كريستوفرو مورا Cristofro
Mora» خاتمًا للسفير
القبرصي ليضعه في إصبع العروس نيابةً عن مليكه. أُعطيت لقب «ابنة سان
مارك» وهو تكريمٌ غير مسبوق، جعل رئيس أساقفة تورين يعلن ساخرًا بأنه
لم يكن يعرف أن سان مارك كان متزوجًا؛ وحتى لو كان، فلا بد من أن زوجته
كانت أكبرَ من أن يكون لها ابنةٌ في الرابعة عشرة. بعد أربع سنوات، في
العاشر من نوفمبر ١٤٧٢م، أبحرت كاترينا ترافقها أربع سفن إلى مملكتها
الجديدة.
في العام التالي، على أية حال، مات الملكُ جيمس فجأةً في سن الثالثة
والثلاثين تاركًا زوجته حاملًا. لم يكن هناك أساسٌ للشك في موته
مسمومًا، ولكن فينيسيا التي كانت تخشى حدوثَ انقلاب يطيح ﺑ «كاترينا»
وينصِّب «شارلوت»، لم تكن لتخاطر بتركِ الأمور للمصادفة. فورًا، أرسل
الجنرال «بيترو
موسينيجو Pietro Mocenigo» أسطولًا إلى قبرص، ظاهريًّا لحماية الملكة
الصغيرة، ولكن الحقيقة كانت حماية مصالح فينيسيا، مع أوامر بإزاحة كل
المشكوك في ولائهم من مواقع السلطة والنفوذ. كون قبرص دولةً مستقلة ذات
سيادة لم يكن مؤرقًا للجمهورية على الإطلاق، وكان لدى موسينيجو تعليمات
بأن يعمل من خلال الملكة بقدرِ الإمكان، ولكنه كان مفوَّضًا كذلك
باستخدام القوة عند الضرورة.
من أسفٍ أن الإجراءات التي اتخذها لم تسفر سوى عن زيادة الاستياء
الذي كان يشعر به نبلاء قبرص، بسبب تدخُّل الفينيسيين المستمر في
شئونهم؛ وسرعان ما تجسَّدت مؤامرة تحت قيادة رئيس أساقفة نيقوسيا،
فقبْل ثلاث ساعات من فجر اليوم الثالث عشر من نوفمبر ١٤٧٣م، شقَّت
جماعة صغيرة — تضم كبير الأساقفة نفسه — طريقَها نحو القصر في
فاماجوستا وقتلت ياورَ الملكة وطبيبها أمام عينيها. بعد ذلك قامت
بمطاردة عمِّها أندريا كورنر وابن عمِّها «ماركو بمبو Marco Bembo»، ليلقى كلاهما المصيرَ
نفسه، وأُلقيت جثتاهما في الخندق الجاف تحت نافذتها حيث بقيتا حتى أتت
كلاب المدينة عليها. في آخرِ الأمر أُجبِرَت كاترينا على الموافقة على
خطوبةِ الابن غير الشرعي لملكِ نابولي، وعلى أن تعترف بالأخير وريثًا
لعرش قبرص، رغم حقيقةِ أن جيمس كان قد أورثها المملكة، وكانت قد أنجبت
طفلًا من صلبها.
تمكَّن موسينيجو بسرعةٍ من أن يلقيَ القبض على المسئولين، وكان واحد
أو اثنان — منهما رئيس الأساقفة — قد هربا. تم إعدام زعماء الفتنة
الآخرين وسُجن الباقون. تم إبطال الترتيبات الجديدة للخلافة، وأرسل
مجلس النواب الفينيسي اثنين من نبلاء الأرستقراطية الموثوقين، بلقب
مستشار، لتولي إدارة شئون حكم الجزيرة باسم كاترينا. ظلت الملكة
البائسة على العرش ولكن دون صلاحيات. ابنها الرضيع جيمس الثالث، مات في
١٤٧٤م، بعد عام بالتحديد من مولده؛ ومنذ ذلك الحين كان عليها أن تواجه
مكائدَ سلفتها شارلوت من ناحية، ومكائد ألفونسو الشابِّ ملكِ نابولي من
ناحية أخرى، بينما كان نبلاء الجزيرة الذين كانوا يرونها دميةً فينيسية
أكثرَ منها ملكة، يحيكون المؤامرات ضدها باستمرار. بقاؤها، كما كانت
تعرف جيدًا، كان في أيدٍ فينيسية. في مرحلةٍ ما، كانت تشكو هي ووالدها
من أن حُماتها كانوا قد أصبحوا أقربَ إلى السجَّانين؛ إذ كان محظورًا
عليها مغادرة القصر. تم سَحبُ خَدَمِها، وكانت مجبرة على تناول وجباتها
وحيدةً على طاولة خشبية صغيرة. ابنة سان مارك، أو ليست ابنة سان مارك،
كان الآن واضحًا بالنسبة لها أنها لم تَعُد سوى عبء، سواء على رعاياها
أو على الجمهورية، وأنهم لن يترددوا في التخلص منها في الوقت
المناسب.
منذ ١٤٦٢م كانت قبرص خاضعةً لسلطان مصر الذي كانت تدفع له جزيةً
سنوية قيمتها ثمانية آلاف دوكاتية؛
١٠ وكان يمكن أن يؤديَ ضمُّها المباشر إلى تعقيدات دبلوماسية
قد لا تقدِر عليها فينيسيا، ولكن ما حدث هو أن سلطان مصر أرسل إلى
كاترينا يحذِّرها، بأن السلطان العثماني بايزيد كان يجهِّز لحملةٍ
كبيرة ضده، وكان من المرجَّح أن يقوم بمحاولة على قبرص في طريقه. هذا
التطور الذي كان يحمل أفقَ تحالفٍ بين مصر وفينيسيا ضد عدوٍّ مشترك،
ربما يكون قد شجَّع مجلس النواب على القيام بعملٍ حاسم. ما ساعد على
ذلك بالتأكيد، كان اكتشاف مؤامرةٍ أخرى في صيف ١٤٨٨م، كانت هذه المرة
بهدف تأمين زواج كاترينا وألفونسو ملكِ نابولي. كان ذلك احتمالًا لا
يمكن أن يطرأ على بالِ أحد. في أكتوبر ١٤٨٨م تم اتخاذ القرار. يتم دمج
قبرص رسميًّا في الإمبراطورية الفينيسية وتعود ملكتُها — في حفاوة
رسمية إن أمكن، وبالقوة إذا لزم الأمر — إلى مسقط رأسها.
مع توقُّع قدرٍ من التردُّد من جانب كاترينا — حيث إن الزواج من
ألفونسو ربما كان يبدو لها بديلًا مرغوبًا عن وضعها الحالي — تحدَّث
مجلسٌ فينيسي من عشرة أعضاء مع شقيقها «جيورجيو Giorgio» لكي يقنعَها بأنَّ تنازلًا طوعيًّا عن العرش
سيكون في صالح كل الأطراف. قبرص، وكانت ما زالت معرَّضة للخطر، ستكون
في حمَّى من الجشع التركي، بينما ستحصل هي شخصيًّا على الشرف والمجد
بأن تقدِّم هذه الهدية لوطنها الأم. في مقابل ذلك، سيتم استقبالها
بحفاوة رسمية، وتحصل على إقطاعةٍ غنية ودخلٍ سنوي كبير يمكِّنها من
العيش في هدوء ورغد كملكةٍ كما تتمنى. أُسرتُها كذلك سوف تحصل على
السلطة والمكانة، بينما سيكون رفضها كارثةً عليهم وخرابًا شديدًا لهم
جميعًا.
احتجَّت كاترينا بقوة، إلا أنها رضخت في آخرِ الأمر. في أوائل صيف
١٤٨٩م في فاماجوستا، كلَّفت القائد الأعلى بأن يرفع رايةَ سان مارك في
كل ركن من المدينة، وفي الأسبوع الأول من يونيو وصلت إلى فينيسيا. أبحر
الدوج في بارجته الرسمية إلى الليدو لتحيتها بصحبةِ بعض النبيلات من
علية القوم. لسوء الحظ هبَّت عاصفة واضطُرت البارجة للقيام بمحاولاتٍ
لتفاديها فكان أن تأخَّرت بضع ساعات، وعندما تمكَّنت كاترينا من النزول
إلى اليابسة لم يكن ضيوف البارجة في أحسنِ حالاتهم؛ ولكنهم استطاعوا أن
يقوموا بواجبهم الرسمي، بينما كانت الأبواق تدوي وأجراس الكنائس تدق
وشعب فينيسيا — الذي لم يكن مهتمًّا أصلًا ﺑ «كاترينا» ولكنه محبٌّ
للاحتفال — يهتف كما كان متوقعًا.
فيما بعد، تنازلت الملكةُ عن العرش في طقسٍ أقيم خصيصَى لذلك في
كنيسة سان مارك؛ حيث تخلَّت عن مملكتها لفينيسيا. في شهر أكتوبر، وضعت
يدها على مدينة «أسولو Asolo»،
الواقعةِ على رابية صغيرة؛ حيث ستبقى على مدى العشرين سنة التالية وسطَ
بلاط مثقَّف — إن لم يكن مضجِرًا — مستمتعةً بحياةٍ كلها موسيقى ورقص
و«كلام مثقفين»، حياة كانت تستحق أن تعيشها بعد بلايا ومحنٍ كثيرة. في
١٥٠٩م، بعد أن شعرت بالخطر أمام جيش الإمبراطور «مكسميليان Maximilian»، كانت مضطرة للعودة إلى
مدينتها الأم، وهناك قضت نحبَها في يوليو ١٥١٠م. كانت في الخامسة
والستين.
•••
في فبراير ١٥٠٨م، دخل الإمبراطور مكسميليان أراضي فينيسيا على رأس
جيش جرَّار، ظاهريًّا، كأنه ذاهب إلى روما لتتويجه إمبراطورًا. كان قد
أعطى الإمبراطورية إنذارًا مسبقًا بما كان ينتويه في العام السابق،
طالبًا سلوكًا آمنًا ومؤنًا لجيشه على طول الطريق، ولكن العملاء
الفينيسيين في بلاطه ومن حوله لم يتركوا سادتهم في شكٍّ من أن هدفه
الأول كان طرد الفرنسيين من جنوة وميلان، وطردهم هم أنفسهم من فيرونا
وفيسنزا؛ وبذلك كان يعيد المزاعم الإمبراطورية القديمة في ملكية المدن
الأربع كلها. آنذاك ردَّ الدوج بأدبٍ أن سموه كان مرحبًا به وأنه سيلقى
كلَّ ما يليق به من تقدير واحترام، إن هو جاء «دون جلبة الحرب وقعقعة
السلاح»، أما إذا كان سيأتي مصحوبًا بقوة عسكرية، فإن التزامات
الجمهورية بموجب الاتفاقية وسياساتها الحيادية، تجعل تلبيةَ طلبه
مستحيلة.
غاضبًا بسبب هذا الرد، زحف مكسميليان على فيسنزا ليقابَلَ بمقاومة
أقوى بكثيرٍ مما كان يتوقع. بمساعدة فرنسية، لم يردَّه الفينيسيون على
أعقابه فحسب، بل إنهم احتلوا ثلاث مدن إمبراطورية مهمة على رأس
الأدرياتيكي: «جوريزيا Gorizia»
و«تريستا Triesta» و«فيوم Fume» (الآن ميناء ريجيكا الكرواتي). بحلول
شهر أبريل، وبانقضاء فترة عَقد جيشه وكانت ستة أشهر، ولأنه لم يكن يملك
من المال ما يكفي لتمديد فترة العقد، اضطُر الإمبراطور لقبول هدنة
ثلاثة أشهر، وسمح لفينيسيا بالاحتفاظ بالأراضي التي استولت عليها. كان
ذلك بالنسبة له درسًا مفيدًا، من ناحيةٍ أخرى كان ذلك بالنسبة للبابا
جوليوس الثاني، الذي كان يكره فينيسيا وحادبًا على تدميرها، كان ذلك
ضربًا من الغطرسة التي لا تُغتفر، وعندما رفضت الجمهورية في غضون أشهر
قليلة، أن تسلِّم اللاجئين البولونيين، وعيَّنت أسقفها، بدلًا من
المعيَّن من قِبل البابا، في المنصب الشاغر في فيسنزا، قرَّر أن يتصرف.
تم إيفاد عدد كبير من الرسل من روما إلى الإمبراطور، وإلى فرنسا
وإسبانيا، وإلى ميلان وهنغاريا وهولندا، كانوا كلهم يحملون الرسالةَ
ذاتها: دعوة لحملة مشتركة ضد الجمهورية وفصلها عن إمبراطوريتها. سوف
يستعيد مكسميليان كل الأراضي وراء نهر «مينسيو Mincio»، التي كانت تابعةً لبيت «آل هابسبورج The House of
Habsburg» والتي
تتضمَّن فيرونا وفيسنزا وبادوا و«تريفيزو Treviso» و«إستريا Istria» و«فريولي Friuli»؛ وتحصُل فرنسا على «برماجو Bermago» و«بريشيا Brescia» و«كريما Crema»
و«كريمونا Cremona»، وكل الأراضي
والمدن والقلاع الواقعة شرق نهر «آدا Adda»، وشمالًا حتى التقائه بنهر «بو Po». في الشمال، ستعود «تراني Trani» و«برنديزي Brindisi» و«أوترانو Otrano» إلى آل أراجون، أما هنغاريا فسوف تستعيد
دالماشيا، وتذهب قبرص إلى سافوي، كما تستعيد كلٌّ من فيرارا ومانتوا
أراضيها السابقة. باختصار، كلٌّ سيحصُل على شيءٍ ما، باستثناء فينيسيا
التي سيتم تجريدها من كل شيء.
كان البابا نفسه ينتوي استعادةَ «كيرفيا Cervia» و«ريميني Rimini» و«فاينزا Faenza»، ولكن هدفه البعيد كان يتخطى أيَّ سؤال بخصوص
الحدود الإقليمية. كانت إيطاليا، كما كان يراها آنذاك، مقسمةً إلى
ثلاثة أجزاء. في الشمال، كانت هناك ميلان الفرنسية، وفي الجنوب نابولي
الإسبانية، وبين الاثنتين كان هناك متَّسع لدولة ثالثة — واحدة فقط —
قوية ومزدهرة، هذه الدولة كان لا بد من أن تكون — حسب تصميمه —
البابوية. يمكن أن تبقى فينيسيا كمدينة، ولكن لا بد من تدميرها
كإمبراطورية.
لم يكن الأمراء في أوروبا مهتمين بتلك القصة كلِّها، كانوا يعرفون
جيدًا أن فينيسيا لها حق قانوني في المناطق التي يخطِّطون للاستيلاء
عليها، حقٌّ تتضمنه الاتفاقيات التي وقَّعتها فرنسا وإسبانيا،
ومكسميليان نفسه مؤخرًا. ورغم أي محاولات قد يقومون بها ليكون عملهم
ضربةً بالإنابة عن الشرعية التي يمكن أن تضع أيَّ معتدٍ جشع أمام
العدالة، كانوا كلهم مدركين أن سلوكهم كان مستهجنًا أكثرَ من أي سلوك ﻟ
«فينيسيا». إلا أن الإغراء كان عظيمًا والمكاسب الموعودة كبيرة.
قبِلوا. وهكذا كان أن تمَّ توقيعُ ما اتضح أنه شهادة وفاة الإمبراطورية
الفينيسية. كان ذلك في العاشر من ديسمبر ١٥٠٨م في «كامبراي Cambrai» في هولنده. كانت فينيسيا تواجه
الآن عددًا كبيرًا من القوى الأوروبية أكثرَ ضراوةً مما واجهته أيُّ
دولة إيطالية في التاريخ. لم يكن لها حلفاء، وفي السابع والعشرين من
أبريل ١٥٠٩م، أصدر البابا حكمًا بالحِرْم الكنسي والعزْل، على كل
الأراضي الفينيسية.
ولكن القادم كان أسوأ. في التاسع من مايو، وبالقرب من قرية
«أجناديللو Agnadello»، لقي الجيش
الفينيسي هزيمةً كارثية على يد الملك لويس. ضاع معظم أراضي البر
الرئيسي، وما تبقَّى منها كان بلا حول ولا قوة. معظم الأهداف التي
وافقت عليها «عصبة
كامبراي The League of
Cambrai» تحقَّقت بضربةٍ واحدة. ولولا المياه الضحلة
المحيطة بها، لكانت فرصة فينيسيا في البقاء ضئيلةً جدًّا. قبل قرن من
الزمان، كان يمكن أن تستمر بدون اليابسة (terra
firma)، ولكن الزمن كان قد تغيَّر. لم تتعافَ تجارتها
مع الشرق اللاتيني على إثر سقوط القسطنطينية في ١٤٥٣م. لم تَعُد سيدة
الحوض الشرقي من المتوسط، تقلَّصت إمبراطوريتها الكولونيالية لتصبح
موطئ أقدام قليلة وضعيفة في عالَم عثماني واسع. إذا أغلق الأتراك
موانئهم أمامها، فلن تعود قادرةً على الاعتماد على الأسواق الشرقية
البعيدة لإنقاذها، وكان البرتغاليون حريصين على ذلك. باختصار، لم تَعُد
قادرةً على الحياة اعتمادًا على البحر وحدَه. في تلك الأيام أصبح
الفينيسيون ينظرون غربًا أكثرَ منهم شرقًا، إلى سهول لومبارديا وفينيتو
الخصبة، إلى الصناعات المزدهرة في بادوا وفيسنزا وفيرونا وبرشيا، وإلى
شبكة الطرق البريَّة والمائية التي تصلهم بالمدن التجارية الغنية في
أوروبا. كان على البر الرئيسي الآن أن استثمروا ثروتهم وعقدوا آمالهم،
وكان ممثلو مكسميليان المدعومون يستقبلون استسلامَ مدينة بعد الأخرى:
فيرونا، فيسنزا، بادوا، «روفيرتيو Rovereto» و«ريفا Riva»
و«سيتاديللا
Cittadella» إلى أن
ارتدَّ الفينيسيون إلى «ميستر Mistre». وهكذا ضاع كل لومبارديا وفينيتو.
أو هكذا كان يبدو الأمر على الأقل. ولكن بحلول شهر يوليو، كانت
الأمور قد بدأت في التحسُّن. كان كثير من الدول التي استسلمت راضين
بكونهم تحت الحكم الفينيسي، وبدءوا يشعرون بالاستياء من القبضة الثقيلة
والقاسية للسادة الجدد. بعد أقل من شهرين من الهزيمة بالقرب من
أجناديللو، جاءت التقارير الأولية عن انتفاضاتٍ عفوية لصالح فينيسيا؛
وبعد اثنين وأربعين يومًا، عادت بادوا مدينةً إمبراطورية تحت الجناح
الحامي لأسد سان مارك، وحذا حذوَها كثيرٌ من المدن الأصغر حجمًا في
المنطقة. في الوقت نفسه، استولى قائد مرتزقة
(Condottiere)، يُدعى «لوسيو مالفيزو Lucio Malvezzo»، كان يعمل لحساب
فينيسيا مؤقتًا، على «ليجنانو Legnano»، وهي مدينة رئيسية على نهر «أديج Adige»، ومنها كان يهدِّد فيرونا وفيسنزا …
وبالرغم من ذلك، ربما لم يكن الأمر قد بات ميئوسًا منه.
حتى ذلك الحين، لم يرفع الإمبراطور إصبعًا باسم الرابطة بعد أن كان
قد أعطاها اسمه. لم يرسل جيشًا، ولم يعلن الحربَ صراحةً حتى التاسع
والعشرين من مايو؛ أي بعد ثلاثة أسابيع من أجناديللو. ما حفزه على
التحرُّك، على أية حال، كان أخبار استرداد بادوا. وبحلول أغسطس بدأ
جيش، مترهل غير متجانس، زحْفَه على المدينة ليلحقَ به في مراحلَ مختلفة
من رحلته قوةٌ مكوَّنة من بضعة ألوف من الفرنسيين، ومجموعة من الإسبان
ومجموعات أصغر من مانتوا وفيرارا ومن قِبل البابا. مكسميليان نفسه
قرَّر في ذات الوقت أن ينشئ مركزَ قيادة مؤقتًا في أسولو، في قصر ملكة
قبرص، التي كانت قد فرَّت إلى فينيسيا عند سماع الأخبار الأولى
لاقترابه.
مرَّ شهر كامل قبل جمع الجيش الإمبراطوري وتجهيزه، وخلال تلك الفترة
كان قد أصبح لدى أهالي بادوا وقتٌ يكفي لتقوية دفاعاتهم وتخزين كميات
كبيرة من الغذاء والماء والذخيرة. وعندما بدأ الحصار جِديًّا في الخامس
عشر من سبتمبر كانوا يستطيعون الدفاعَ عن أنفسهم. أسبوعان كاملان
والمدفعية الألمانية والفرنسية الثقيلة تدق الأسوارَ الشمالية
وتحوِّلها إلى أنقاض، وبالرغم من ذلك فشلت كلُّ محاولات الهجوم. في
النهاية تخلى الإمبراطور عن المحاولة، وقام بترتيبات سريعة لتركِ جزءٍ
من جيشه في إيطاليا تحت قيادة دوق «أنالت Anhalt»، لاحتلال المدنِ الأخرى الأقلِّ قوة وعزيمة،
وليكون قوةَ طوارئ إذا لزم الأمر، وقام هو بقيادة جيشه الذي كان يجرُّ
أذياله عبر الألب عائدًا من حيث جاء.
كان الفينيسيون في حالةِ سعادة غامرة. كانت استعادة بادوا، في حد
ذاتها، انتصارًا، أما الاحتفاظ بها بنجاح ضد جيشٍ قوامه أربعون ألف
مقاتل فكان انتصارًا أكبر. كان المزيد من الانتصارات في الطريق. في
نوفمبر قامت أنالت بتسليم فسينزا دون مقاومة تُذكر، وفي الأسابيع
التالية أعلن المزيدُ من المدن — طواعيةً — تبعيتَهم لفينيسيا. عندما
سمع البابا جوليوس باسترداد بادوا انتابه غضبٌ شديد، وعندما علم بعد
حصار مكسميليان أن فيرونا هي الأخرى كان من المرجَّح أن تنشق، وأن
ماركيز مانتوا وقع أسيرًا في أيدى الفينيسيين، عندما سمع ذلك، يقال إنه
ألقى بقبَّعته وسبَّ سان بيتر. إلا أنه استمر على عناده، وبدأ
الفينيسيون يدركون أن الموقف لم يتغيَّر كثيرًا برغم انتصاراتهم
الأخيرة. كانت العصبة
١١ ما زالت قوية، والجيش الإمبراطوري ما زال سليمًا. كان
الفرنسيون في ميلان يشحذون سيوفهم، وفي الوقت نفسه كانت فينيسيا تقف
وحيدة؛ جيشها مهزوم، وخزانتها خاوية، ومعظم دخلها من البر الرئيسي
مقطوع، ودون أي حليف. عندما طلبت مساعدةَ إنجلترا، أبدى الملك الجديد
تعاطفه، ولكنه لم يقدِّم أي مساعدة مادية. وأخيرًا، وفي حالة من حالات
اليأس كان أن ابتعلت كبرياءها ولجأت — حتى — إلى السلطان، ولكنها لم
تتلقَّ أيَّ رد.
بنهاية العام، كان قد بلغ السيل الزُّبى، فكان لا بد من قبول شروط
البابا جوليوس للسلام. كانت شروطًا بالغةَ القسوة. لا بد من أن تتوقَّف
الجمهورية عن تعيين الأساقفة والإكليروس. لا بد من أن تعوِّض البابا عن
كل النفقات لاستعادة مناطقه، وعن كل العائدات التي خسِرها. لا بد من أن
يكون الأدرياتيكي مفتوحًا من الآن أمام الجميع، وخاليًا من الضرائب
الجمركية التي كانت فينيسيا تحصِّلها عن السفن الأجنبية؛ وفي حال الحرب
ضد الأتراك لا بد من أن تقدِّم الجمهورية خمس عشرة سفينة (جالية Gally) على الأقل على نفقتها. في الرابع
والعشرين من فبراير ١٥١٠م، وفي احتفالٍ طويلٍ، ومذلٍّ، أمام بوابة
كنيسة سان بيتر الرئيسية، تم تركيع خمسة مبعوثين فينيسيين لمدة ساعة
كاملة حتى الانتهاء من قراءة بنود الاتفاق كاملة، وبعد ذلك كان من
المفترض أن يُجلد كلٌّ منهم اثنتي عشرة جلدة رمزية بواسطة الإثني عشر
كاردينالًا الحاضرين (من باب الرحمة، تم إلغاء هذا الإجراء). وبعد أن
قبَّلوا قدَم البابا وتلقَّوا الغفران فُتحت الأبواب الكبرى وتقدَّم
الجمع في شكل رسمي نحو المذبح العالي للصلاة قبل الذهاب إلى القداس في
كنيسة «سيستين Cistine Chapel»، ذهبوا
كلهم ما عدا البابا الذي — كما يروي أحد الفينيسيين — «لم يكن له جَلَد
على مثل تلك الطقوس الطويلة».
•••
لم يستقبل أعضاءُ العصبة أخبارَ تصالح البابا جوليوس مع فينيسيا
استقبالًا حسنًا. الفرنسيون، بخاصة، بذلوا كلَّ ما في وُسعهم لإثنائه
عن اتخاذ مثل تلك الخطوة، وأثناء طقس الغفران كان سفيرهم، مع زملائه من
الإمبراطوريين الإسبان الذين كانوا في روما في ذلك الوقت، كانوا
مستائين للغاية؛ ولو أنه كان يعرف ما كان ينذِر به ذلك الطقس لأصابه
الذعر أكثرَ من الرفض. حساب البابا مع فينيسيا كان قد تم تسويته، والآن
كان دَور فرنسا.
بكل المقاييس الموضوعية كان ذلك التغيُّر المفاجئ والكامل في موقف
البابا جديرًا بالازدراء. بتشجيعه الفرنسيين على حمل السلاح ضد
فينيسيا، كان جوليوس الآن يرفض أن يسمح لهم بالمزايا والفوائد التي كان
هو شخصيًّا قد وعدهم بها، وبذلك كان ينقلب عليهم بكل العنف والحقد
اللذين أبداهما تجاه الفينيسيين من قبل. وعلى عكسِ ما كان من قبل،
المهندس الرئيسي لإفقار فينيسيا وامتهانها، أصبح الآن مخلِّصها. لم
يتقدَّم كبطل قوي كانت تنتظره طويلًا فحسب، بل أخذ زمام المبادرة. سوف
تنسحب الجمهورية الآن من وسط المسرح، ومن هنا ستكون الحرب أساسًا بين
البابا والملك لويس — مع دوق فيرارا، الحليف الإيطالي الرئيسي للويس.
كانت ملاحات الدوق في «كوماكيو Comaccio» في حالة تنافُس مباشر مع أعمال البابا التجارية
في «كيرفيا Cervia»، بالإضافة إلى
ذلك، فهو باعتباره زوجَ «لوكريشيا
بورجيا Lucerzia Borgia»، كان صِهر البابا ألكساندر السادس، وكان ذلك
سببًا أكثرَ من كافٍ لإدانته.
كالعادة، كان البابا يحارب أعداءه بكلِّ ما في يديه من وسائل؛
العسكرية والدبلوماسية والروحانية. أول تصرُّف عسكري له ضد الفرنسيين —
محاولة في يوليو ١٥١٠م لطردهم من جنوة — انتهت بالفشل؛ إلا أنه،
دبلوماسيًّا، وجَّه ضربة قوية بعد أسابيعَ قليلة عندما اعترف ﺑ
«فرديناند الأراجوني» ملِكًا على نابولي متجاهلًا ادعاءات لويس
الأنجوية. بعد ذلك بوقت قصير، في رسالة بابوية شديدة اللهجة استنزل
اللعنةَ على دوق فيرارا وحرمه كنسيًّا. في ذلك الوقت كان يقترب من
السبعين؛ وفي شهر أكتوبر، وهو مصاب بحمَّى شديدة في بولونيا، نجا
بصعوبة من أسرِ الفرنسيين الذين استولوا على المدينة بعد ذلك بأشهر
قليلة.
١٢ ثم كانت نوبةُ مرض أخرى في صيف ١٥١١م، جعلت حياته أمرًا
ميئوسًا منه. إلا أن الطاقة التي واصل بها سياسته الانتقامية الحاقدة
لم تنطفئ؛ وفي الخريف كان قد استعاد قدرًا من صحته ليعلن عن عصبة مقدسة
جديدة. هذه المرة كانت موجهة ضد فرنسا.
ولكن الملك لويس كان يلعب الآن بورقة جديدة، هي ابن أخته
«جاستون دو فوا Gaston de Foix» دوق
«نيمورس Nemourss»، الذي كان قد أظهر
كفاءةً كقائد عسكري بارع في زمنه وهو في الثانية والعشرين من عمره. في
فبراير ١٥١٢م، قام نيمورس بحملة مدمِّرة على القوات البابوية
والإسبانية، انتهت يوم أحد الفصح في رافينا بأكثرِ المعارك دمويةً منذ
غزو شارل الثامن قبل نحو عشرين عامًا. بعد انتهائها كان هناك نحو عشرة
آلاف قتيل من الإسبان والإيطاليين على أرض الميدان، إلا أنها كانت
انتصارًا رهيبًا. فقدت قواتُ المشاة الفرنسية وحدها نحو أربعين ألف
جندي. معظم القادة شاركوا في القتال بمن في ذلك نيمورس نفسه، ولو أنه
عاش فلربما كان استطاع أن يلملمَ بقايا جيشه ويزحف على روما ونابولي،
مجبرًا البابا على الموافقة على شروطٍ بعينها، وإعادة الملك لويس إلى
عرش نابولي، ولتغيَّر تاريخ إيطاليا تمامًا.
في ذلك الوقت، كان الأبطال الثلاثة الرئيسيون في حرب عصبة كامبراي قد
مرُّوا بتغيُّرين رئيسيين في نمط حلفائهم. أولًا: تحالفت فرنسا والنظام
البابوي ضد فينيسيا، بعد ذلك اصطفَّت فينيسيا والنظام البابوي ضد
الفرنسيين، وكان قد بقي فقط أن تتحد فينيسيا وفرنسا ضد النظام البابوي،
وهو ما حدث بالفعل بموجب اتفاقية «بلوا Blois» في مارس ١٥١٣م. بعد أن أكَّدت فينيسيا وضعها على
البر الرئيسي، كانت مصرةً على ألا يزيحها البابا والإمبراطور جانبًا؛
وحيث إن الفرنسيين كانوا قد أصبحوا لا يشكِّلون أيَّ خطر عليها، فقد
كانوا بمثابة حلفاء محتملين. ولكن الحقيقة أن الوضع تغيَّر حتى قبل
التوقيع على الاتفاقية؛ ففي الحادي والعشرين من فبراير ١٥١٣م، مات
جوليوس الثاني — كان في السبعين من عمره — في روما. وفي واحدٍ من أكثر
أفعال الإفساد والتخريب الرسمي للممتلكات العامة، كان قد أكمل هدم
كنيسة سان بيتر. لم يكن المبنى الجديد الذي صمَّمه «برامانتيه Bramante» قد ظهر، وكان ما تبقَّى من
المبنى القديم عبارة عن مصلًّى صغير اجتمع فيه الكرادلة لانتخاب خليفة
له. كانت مداولاتهم بطيئة على حراس الخلوة، الذين في محاولة جهيدة
للإسراع بالمهمة كانوا يخفضون خدمةَ تقديم الطعام ليجعلوها في البداية
مقصورةً على طبق واحد في الوجبة، وفيما بعد مقصورة على وجبة نباتية.
حتى مع هذا الإجراء لم يعلنوا عن اختيارهم إلا بعد أسبوع كامل؛ كان
الكاردينال جيوفاني دي ميديشي الذي اتخذ اسمَ ليو العاشر.
«لقد أعطانا الرب البابوية،
فلننعم بها». سواء أكان البابا الجديد قد نطق بهذه العبارة المعيبة
المنسوبة إليه أو لم يكن، فإن القليل من الإيطاليين في ذلك الوقت كان
لا بد من أن يُبدوا دهشتَهم. كان ليو في السابعة والثلاثين. كان فاحش
الثراء وقويًّا جدًّا، كانت عائلته قد أُعيدت إلى فرنسا في ١٥١٢م بعد
نفي دام ثمانية عشر عامًا، وكان يبدي ولعًا بالأبهة أكثرَ من أبيه
«لورنزو Lorenzo». كان كذلك على خلاف
جوليوس، رجل سلام، وكان معروفًا بين الإدارة البابوية ﺑ «صاحب السمو
الحرص»، وكان اختياره مقبولًا بحق. من ناحية أخرى، كان شديدَ الواقعية
لكي يصدِّق أن الملك لويس سيكون على طريق الحرب مرة أخرى، وبسرعة، كما
كان مصرًّا على حماية المصالح البابوية حيثما كان ذلك ضروريًّا.
ولكن مغامرات لويس في إيطاليا
كانت قد انتهت. بعد أن انضم الإمبراطور مكسميليان للعصبة المقدَّسة
أعلن الآن أن كل الرعايا الإمبراطوريين الذين يحاربون مع الجيش الفرنسي
لا بد من أن يعودوا فورًا إلى بلادهم وإلا عوقبوا بالموت، بينما كان
الفرنسيون أنفسهم مستدعين إلى بلادهم للتعامل مع الإنجليز — وكانوا هم
أيضًا أعضاءً في العصبة — الذين قاموا بغزو فرنسا، وكانوا قد أسَرُوا
«تورناي Tournai» بالفعل. لم يكن هناك
جنود لكي يواصلوا النضالَ الإيطالي، هذا بالإضافة إلى أن الملك لم يكن
قد بقي لديه رغبة في الاستمرار. مرهقًا، وفي الثانية والخمسين مع ضعفِ
شيخوخة مبكرة، كان قد تزوَّج في الخريف السابق من الأميرة الإنجليزية
ماري، شقيقة الملك هنري الثامن. كانت في الخامسة عشرة، فاتنة، ولديها
طاقة — مثل شقيقها — لا تنفد. بذل لويس قصارى جهده معها، ولكن الجهد
كان كثيرًا عليه، فلم يتحمل أكثرَ من ثلاثة أشهر، وقضى نحْبَه في باريس
في الأول من يناير ١٥١٥م. كان قد أصبح يلقَّب في فرنسا ﺑ «والد
البلاد»، وفي إيطاليا لم يحقِّق شيئًا.
بعد عام واحد، في الثالث والعشرين من يناير ١٥١٦م، لحِق به فرديناند
ملكُ أراجون. من بين كل الملوك المتورطين في هذه القصة المتشابكة
المتداخلة، خرج وحدَه ليكون الفائز الوحيد. كان قد عقد مع لويس اتفاقية
غرناطة السرية لتقرير مصير نابولي؛ وبحسب شروطها فاز بأكثر من نصف
مساحتها، إلى جانب أبوليا وكالابريا وهي مناطق ذات قيمة. بعد ذلك بوقت
قصير، كانت المملكة كلها له، وستبقى تحت السيادة الإسبانية على مدى
القرنين التاليين. بعد موت زوجته إيزابيللا في ١٥٠٤م، كان يحكم كذلك
كلًّا من قشتالة (كوصي على ابنته المجنونة جوانا) وأراجون، إلى جانب
«نافار Navarre» و«روسيللون Roussillon» ومملكة غرناطة السابقة،
ناهيك عن المناطق غيرِ المحدَّدة في العالم الجديد. ترك وراءه إسبانيا،
التي رغم أنها كانت ما زالت غير متحدة، كانت غنية بلا حدود وأقوى منها
في أي وقت سابق، وعلى عتبة عصرها الذهبي.
هوامش