الفصل الثامن عشر
كريت والبيلوبونيز
-
المعركة تبدأ: ١٦٤٥م.
-
الدوج فرانسيسكو إيريزو: ١٦٤٦م.
-
بدأ حصار كانديا: ١٦٤٧م.
-
المتطوعون الفرنسيون: ١٦٦٨م.
-
الحملة الفرنسية: ١٦٤٥م.
-
التوصُّل إلى سلام: ١٦٦٩م.
-
حملة فينيسيا اليونانية: ١٦٨٤–١٦٨٥م.
-
موروسيني في اليونان: ١٦٨٨م.
-
معركة خيوس: ١٦٩٥م.
-
اتفاقية كارلوفتز: ١٦٩٨م.
***
استمرَّ البحر الأبيض هادئًا، على نحوٍ غريب، على
مدى ربع قرن بعد الأحداث التي وصفناها في الفصل السابق. ربما كانت رياح
خفيفة تكدِّر سطحه من وقت لآخر، إلا أنه لم تكن هناك عواصفُ شديدة ولا
أحداث جلل، بحجمِ ما جرى في مالطة وقبرص وليبانتو. قد يبدو ذلك دالًّا،
في إطار التاريخ السابق للبحر، ولكن يبقى الأكثر إثارةً للدهشة، أن عام
المؤامرة الإسبانية نفسه (١٦١٨م) شهد كذلك بدايةَ حرب الثلاثين عامًا،
التي كانت تمزِّق معظمَ أوروبا الشمالية والشرقية.
بالرغم من ذلك كلِّه، كان السلام قد جاء في الوقت المناسب، من وجهةِ
نظر فينيسيا؛ ففي أكتوبر من العام نفسِه وقع حدث، بالرغم من أن فينيسيا
لم تتحمل جزءًا من مسئوليته، أدَّى إلى فقدانها أهمَّ ما كان قد تبقَّى
من مستعمراتها السابقة؛ جزيرة كريت. عاجلًا أو آجلًا، كان ينبغي أن
تعرف أن الحرب كانت حتمية؛ وكانت كريت جائزةً مغرية، ولم يكن الأتراك،
كخَصم طامع فيها، لينتظروا طويلًا. يظل مدعاةً للسخرية أن يأتيَ أول
هجوم تركي ردًّا على استفزازٍ واضح من قوة ثانوية كانت، بعد الجمهورية
نفسِها، قد خسرت أكثرَ من غيرها من جراء استسلام آخرِ وأهمِّ مركز
مسيحي متقدم في حوض المتوسط الشرقي.
بالرغم من أن فرسان سان جون كانوا يمتلكون ديرًا للرهبان
١ في فينيسيا — ورِثوه عن فرسان الهيكل بعد حلِّ تنظيمهم في
١٣١٢م — فإنهم والفينيسيون كانوا يكرهون بعضهم بعضًا بشدة على مدى
قرون. كان من المستحيل أن يكون الأمر غير ذلك. وحيث إن تنظيمهم كان
غنيًّا بما لديه من ممتلكات في أرجاء أوروبا المسيحية، فإن الفرسان
كانوا يزدرون الأعمالَ التجارية. وكرجال دِين مقيَّدين بقيم التقشف
والطهارة والطاعة الرهبانية، كانوا يستهجنون دنيويةَ الفينيسيين وعشقهم
لمباهج الحياة؛ وأخيرًا، كرجال سيف وأبناء للصليبيين، فإن هدفهم المعلن
— بصرف النظر عن علاج ورعاية المرضى — كان قتال غير المؤمنين أينما
وجدوهم، وأدانوا رغبةَ الفينيسيين الملحَّة في عقد سلام مع السلطان،
وكانوا يعتبرون ذلك التوجُّه خيانةً مخزية بالنسبة للقضية
المسيحية.
بحلول أربعينيات القرن السابع عشر، كان الفرسان قد أصبحوا مجرد
بقايا، وظلًّا ضعيفًا لما كانوا عليه في الأيام المجيدة السابقة قبل
ثمانين عامًا، عندما نجحوا في حماية جزيرتهم ضد الأسطول الهائل الذي
هاجمهم به سليمان المعظم. استمروا في إدارة مستشفاهم الشهير؛ حيث كانوا
يحافظون على مستوًى من التمريض والعلاج، متقدمًا عنه في أي مكان آخر؛
ولكن الروح الصليبية كانت قد بدأت تتلاشى، كما أن عملياتهم البحرية قد
أصبحت أقربَ إلى القرصنة منها إلى الحرب المقدسة. لم يقصروا عمليات
السلب والنهب على سفن المسلمين، كما أن هجماتهم غير المبررة تكرَّرت ضد
السفن التجارية الفينيسية وغيرها، وكان ذلك كثيرًا ما يتم بذرائعَ
وهمية.
باختصار، أصبح فرسان مالطة مصدرَ إزعاج للفينيسيين، وإن كان بدرجةٍ
أقل من «الأوسكوك Uskoks» في الأيام
السابقة. أسوأ ما في الأمر، أنهم كانوا ينتهجون أسلوبَ الأوسكوك القديم
في التحرُّش بالسفن التركية في الأدرياتيكي، وهو السلوك الذي كان
السلطان يعتبر فينيسيا مسئولةً عنه — مع ما يسبِّبه ذلك من أضرار بالغة
بالعلاقات الودية التي كان الفينيسيون يحاولون الإبقاء عليها، مهما
كلفهم ذلك، مع الباب العالي. أكثر من مرة بالفعل، كان الدوج يجد نفسَه
مضطرًّا لأن يرسل إلى الدير المحلي للتنظيم احتجاجاته الشديدة، كما فعل
في سبتمبر ١٦٤٤م، عندما هدَّد بمصادرة كل ممتلكات الفرسان في أراضي
الجمهورية إن لم يُحسِّنوا من سلوكهم؛ وكالعادة، لم يهتم
الفرسان.
وبينما كان أسطولٌ من ست سفنٍ تابعة للتنظيم يجول في بحر إيجه في شهر
أكتوبر، قام بالهجوم على غليون تركي فخم، كان يحمل عددًا من كبار
المسئولين الذين كانوا في طريقهم إلى مكة للحج، كان من بينهم قاضي قضاة
المدينة وكبير الأغوات في بلاط السلطان، ونحو ثلاثين امرأة من الحريم،
ونحو خمسين عبدًا يونانيًّا. ثم أبحر الأسطول إلى كريت بالغنيمة، ورسا
على شاطئ جنوبي بعيدًا عن الحراسة؛ حيث تم إنزال العبيد وعدد من
الخيول. سرعان ما جاء الحاكم المحلي الفينيسي، ولأنه لم يكن يريد أن
يبدو متورطًا، حتى بعد الحدث، فيما كان عملية قرصنة مخجلة، قام بطردهم.
بعد عدة محاولات في موانئ أخرى كثيرة على الجزيرة قوبلت كلُّها بالرفض،
ترك الفرسان السفينةَ التركية (التي كانت قد أصبحت غيرَ صالحة للإبحار)
بركَّابها وعادوا إلى مالطة.
كان على العرش العثماني في ذلك الوقت السلطان إبراهيم
٢ شبه المجنون. عندما جاءته الأخبار استشاط غضبًا وأمر بذبح
كل المسيحيين في إمبراطوريته. لحسن الحظ أنه تراجع عن ذلك فيما بعد،
إلا أن عملاء فينيسيا في القسطنطينية كانوا يرسلون تقاريرهم عن تجهيز
أسطول حربي ضخم على البوسفور، وسرعان ما اتضح أنه كان هناك تفكير في
عمليةٍ تأديبيةٍ على نطاق واسع. في البداية، كان هناك ظن بأن الأسطول
سيكون موجهًا ضد مالطة، وهو الافتراض الذي أكَّده إعلان رسمي في مارس
١٦٤٥م، ولكن رسائل «البايلو
Bailo»،
٣ الفينيسي في القسطنطينية حذَّرت بأن ذلك كله كان مجرد
خدعة. قال في تقريره إن السلطان كان مقتنعًا بأن الفينيسيين كانوا وراء
ما حدث، وإلا فلمَ اتجه المعتدون فورًا إلى كريت؟ لم يكن أعداؤه
الرئيسيون هم الفرسان وإنما فينيسيا نفسها، أما هدفه فلم يكن مالطة، بل
كريت.
سرعان ما اتضح أن البايلو الفينيسي كان محقًّا؛ ففي الثلاثين من
أبريل، عبَر الدردنيل أسطولٌ تركي من أربعمائة سفينة تحمل نحو خمسين
ألف جندي. اتجه الأسطول في البداية صوبَ مالطة كما سبق أن أعلن،
وتقدَّم متجاوزًا كريت، ليتوقف في نافارينو في أقصى الجنوب الغربي من
جزر البيلوبونيز للتزوُّد بإمداداتٍ ومؤنٍ إضافية. عند مغادرته في
الحادي والعشرين من يونيو، ظهر أنه كان قد غيَّر خطَّ سيره. بعد أربعة
أيام رسا الجيش الغازي على مسافة قريبة غربي «كانيا Canea» (خانيا Khania
الحديثة) ليتقدم نحو المدينة. لقد بدأت الجولة الأولى من
المعركة.
•••
كانت كريت — أو «كانديا Candia»
(هيراكليون Heraklion)، كما كان يطلِق
عليها الفينيسيون مثل عاصمتها — كانت أول مستعمرة فينيسية فيما وراء
البحار منذ ١٢١١م، وبعد أن أصبحت نصيبها من الإمبراطورية البيزنطية بعد
الحملة الصليبية الرابعة. كانت حكومتها تعتمد على تلك في المدينة الأم،
ولكنها لم تكن تعمل بسهولة أو على نحوٍ جيد. كانت الأجزاء الخصبة من
الجزيرة قد ابتلعتها إقطاعيات الأسر الفينيسية العريقة، التي باعدت
ثرواتها الطائلة وأساليبها الملتوية بينها وبين السكان اليونانيين
المحليين، بالإضافة إلى أن تلك الأسر كانت مستاءة لعدم وجود أي سلطة
سياسية في يدها؛ حيث كان يتم إبعاد كبار المسئولين من فينيسيا، مركز
اتخاذ القرارات الرئيسية. في الظروف العادية، كان جباةُ الضرائب من
الإقطاعيين يكلَّفون بمهامِّ الدفاع على حساب أصحاب الأرض، كما كانت
تلك أيضًا مهمة الميليشيات المحلية من سكان المدن والمزارعين، ولكن كلا
الطرفين كان يتملص من التزاماته باستمرار. كان الفساد منتشرًا
والمستعمرة تمثِّل استنزافًا دائمًا للموارد الفينيسية.
لحظة أن أدركت الخطر المحدِق، أقرَّت حكومة الجمهورية برنامجًا
دفاعيًّا صارمًا للجزيرة، وأرسلت إلى «أندريا كورنر
Andrea Corner» — البروفيديتور العام
Proveditor General —
٤ حوالةً مالية بمائة ألف دوكاتية، وجيشًا قوامه ألفان
وخمسمائة مقاتل بينهم مهندسون عسكريون، وأسطولًا من ثلاثين جالية،
وجلياستين، إضافة إلى ما كان موجودًا بالفعل على الجزيرة. كما تم إبلاغ
كورنر كذلك بأنه كان يجري تجهيزُ أسطولٍ آخرَ سوف يُرسل إليه على وجه
السرعة. كان ذلك أفضلَ من لا شيء، ولكن موارد المفوَّض العام كانت ما
زالت غير كافية، والوقت المخصَّص له قصير، ولا بد أنه عندما أسرع إلى
رأس الشاطئ في ذلك اليوم من أيام منتصف فصل الصيف، كان يعرف أن فرصة
المستعمرة في البقاء ضئيلة.
كان الكثير يتوقَّف على سرعة وصول الأسطول الفينيسي الموعود، فلو أنه
وصل في غضون أسبوع أو اثنين لأمكن إنقاذُ كانيا. إلا أنه لم يصل. كان
لا بد من أن يصاب كورنر بالفزع، عندما علم بأنه كانت لديه أوامر
بالانتظار في «زانته
Zante»
(زاكينتوس
Zakynthos)، حتى يلحق به
أسطول مشترك من خمس وعشرين سفينة من توسكانيا ونابولي ومن قبل الفرسان
والبابا، كان المهم الآن هو عامل الزمن وليس القوة العددية. في الوقت
نفسه، كان الأتراك يحصِّنون أنفسَهم في خنادقهم بقوةٍ مع كل يوم يمر.
سقطت قلعة «سان تيودور
St Theodor»
الموجودةُ على الجزيرة في أيديهم، رغم أن ذلك لم يحدُث إلا عندما وجد
قائدها «بياجيو زوليان
Biagio Zolian»
أن المقاومة لم تكن مجدية، انتظر إلى أن تم اجتياحها ثم أشعل النار في
مستودع البارود ثم فجَّر نفسه ورجاله والأتراك المهاجمين والمبنى نفسه
… كل ذلك في انفجارٍ واحد هائل دوَّى في أرجاء كانديا. كانت كانديا
تضعُف بسرعة، الذخيرة والمئونة تنفد، الدفاعات نفسها يتم نسفها بواسطة
المهندسين العسكريين الأتراك؛ وفي الثاني والعشرين من أغسطس كان
الاستسلام. آملين، من خلال استعراض للقوة في التوقيت المناسب، وبغرض
التشجيع على المزيد من الاستسلام أثناء تقدُّمهم، كان الأتراك يقدِّمون
الوعودَ باحترام حياة وشرف وممتلكات السكان المحليين، كما سمحوا
للحامية بمغادرة المدينة بأعلامها مرفوعة، وبأن يخرج أفرادها آمنين إلى
«سودها
Soudha» خلف «أكروتيري
Akrotiri»
٥ في اتجاه الشرق.
الآن، وأكثر من أي وقت سبق، كان الحظ حليفَ الغزاة. في سودها، فقدَ
الأدميرال الفينيسي «أنطونيو
كابللو Antonio Cappello» صوابه فجأةً وهجر المدينة، ولم ينقذها من الأسرِ
سوى موقعها الطبيعي الممتاز وتحصيناتها التي كان قد تم تجديدها. بعد
ذلك، قام الأسطول المشترك، الذي كان قد وصل أخيرًا (في منتصف سبتمبر)
إلى المياه الكريتية، بمحاولتين لاستعادة كانيا بهجوم مفاجئ، إلا أنه
كان يرتد على أعقابه في المرتين بسبب العواصف الاستوائية. أخيرًا، أعلن
الجزء غير الفينيسي منه، بقيادة الأدميرال البابوي «نيكولو لودوفيسي Nicolo Ludovisi» أمير
«بيومبينو Piombino»، الذي كان قد
أبدى منذ البداية عدم ارتياحه للحملة كلها، أعلن عن نيته في العودة إلى
بلاده. لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يكون فيها حلفاء فينيسيا سببًا
في إلحاق الضرر بها. كان يمكن أن يكون وضعها أفضلَ بدونهم.
كانت حكومة فينيسيا، في الوقت نفسه، مستعدةً للحرب تمامًا، ولأنها لم
يكن لديها سببٌ يجعلها تعتقد أن السلطان إبراهيم كان ينوي أن يكرِّس
نفسه لمسرح عمليات واحد، قامت بإرسال حامية إضافية إلى كورفو، بل وشرعت
في تقوية دفاعات البحيرة الفينيسية. ولكن الأولوية المطلقة بالطبع،
كانت ﻟ «كريت». كانت الجاليهات وسفن النقل تبحر الآن في طريقها إلى
الجزيرة بشكلٍ يومي محمَّلة بالعتاد والمؤن من كل نوع. كان هناك احتياج
واحد، على أية حال بقي دون أن يتحقق، وهو وجود قائد أعلى. كانت هناك
حاجة لشخص يمكن أن تضعه مكانته وسُمعته فوق كل الأحقاد والخصومات التي
كانت خطرًا قائمًا باستمرار، وبخاصة عندما يكون الأمر متعلقًا
بالعلاقات بين كريت وفينيسيا. كان تعيين قائد على هذا المستوى موضوعَ
جدلٍ طويل في مجلس النواب، وعند التصويت النهائي برز اسم الدوج
«فرانسيسكو إيريزو Francesco Erizzo»
نفسه بأغلبية ساحقة.
كان صوت واحد فحسب هو الذي ارتفع معارضًا هذا الاقتراح. كان
«جيوفاني بيسارو Giovani Pesaro» —
الذي سيصل إلى عرش الدوقية فيما بعدُ — هو الذي يجادل قائلًا إن تكلفة
إرسال رأس الدولة مع مجلسه وطاقم سكرتاريته، أمرٌ لا يمكن تبريره في
وقت كانت الجمهورية محتاجة فيه إلى كل بنس لتمويل الحرب، وإن خطوة
كتلك، كان من شأنها أن تشجِّع السلطان بالمثل لكي ينزل إلى الميدان هو
شخصيًّا وبذلك يعظم المجهود الحربي التركي. كان هناك اعتبارٌ آخرُ جدير
بالتدبُّر؛ كان إيروزو أمامه شهران فقط قبل أن يبلغ الثمانين من العمر،
إلا أن أحدًا لم يستمع، وكان كل الاهتمام منصبًّا على الدوج العجوز
الذي أعلن، في كلمةٍ جعلت عينَ كلِّ مَن كان يستمع إليه تدمع، عن
استعداده للقيام بهذا الواجب الهائل الذي أُلقي على كتفه. لحسن حظ
فينيسيا أنه لم يفعل. كانت الاستعدادات وحدَها كثيرة عليه، وبعد ثلاثة
أسابيع فحسب، مات، وكان ذلك في الثالث من يناير ١٦٦٤م. تم دفنه في
كنيسة «سان مارتينو St Martino»، ولكن
قلبه، إقرارًا بفضله لقبوله التكليفَ الأخيرَ دون تردُّد، وضع تحت سطح
كنيسة سان مارك نفسها. وحيث إنه لم يكن هناك شخص آخر في فينيسيا كلها
بمثل تلك المنزلة، تم التخلي عن فكرة القائد العام، ولم يَعُد أحدٌ
يسمع بها بعد ذلك.
يبدو أن كل شيء كان يتوقَّف على احتواء الأتراك في كانيا، الميناء
الوحيد في كريت الذي كانوا قد استولوا عليه حتى ذلك الحين. فلو أمكن
محاصرتهم هناك إلى أن تبني فينيسيا قوَّتها العسكرية في القلاع على
امتداد الساحل، لما كان من الصعب طردُهم في آخر الأمر. تم الدفع ﺑ
«توماسو موروسيني Tommaso Morosini»
الأصغر، مع ثلاث وعشرين سفينة في محاولةٍ لإغلاق الدردنيل، وبذلك يمكن
حبسُ أسطول الدعم التركي في بحر مرمرة، وقد تمكَّن على الأقل من تأخيره
لفترة طويلة. هذا التعطيل أغضب السلطان بشدة، لدرجةِ أن أمر بقطع رأس
الأدميرال. إلا أن المنحوس الذي خلف الأدميرال، الذي حفزه الخوف من أن
يلقى مصيرًا مماثلًا، كما حفزته رياح مواتية من خلفه، شقَّ طريقه عبْر
التشكيل الخطي الفينيسي واندفع في بحر إيجه نحو كانديا؛ حيث كان القائد
العام الهرِم «جيوفاني كابللو» (٧٥ عامًا) شديد البطء وغير حاسم في
منعه من دخول الميناء. ارتدَّت السفن الفينيسية إلى «ريتيمو Rettimo» (ريثيمنون Rethymnon)، إلا أنها لم تكن لتبقى هناك فترة طويلة. بعد
صراع طويل، اضطُرت المدينة للاستسلام في الثالث عشر من نوفمبر.
كان لسقوط ريتيمو أثر واحد مفيد، وهو أنه كان سببًا في طرد كابللو
عديم الفائدة، والمجيء ﺑ «باتيستا
جريماني Battista Grimani» الذي كان قائدًا محبوبًا ويصغره بأربعين عامًا،
فدبَّت بذلك حياةٌ جديدة في الأسطول. في وقتٍ باكر من ١٦٤٧م، وجد
توماسو موروسيني نفسَه فجأةً محاطًا بما لا يقل عن خمس وأربعين سفينة
تركية، فكانت فرصة للانتقام لفشله في العام السابق؛ وفي المعركة غير
المتكافئة التي اندلعت بعد ذلك، حارب هو وأطقمه ببطولة. حبسوا نيرانهم
حتى اقترب العدو منهم تمامًا ثم أطلقوها وابلًا عن كثَب، وقبل أن يمر
وقت طويل كان الفينيسيون واقعين في قبضة ثلاث من السفن التركية في وقت
واحد ليدور القتال متلاحمًا، إلى أن تمكَّن أحد الجنود الأتراك من
حَمَلة الهركوبة من التسلل خلف موروسيني، الذي كان وسط المعركة، ليفجر
رأسه. في نفس الوقت تقريبًا، سقط الأدميرال التركي مصابًا بجراح بليغة
إلا أن المعركة استمرت. وفجأةً شاهد الفينيسيون المُرهَقون ثلاث سفن
تركية أخرى تقترب في تشكيل قتال، رافعةً علمَ سان مارك على صواريها،
وعندما سمِع جريماني صوت إطلاق نار جاء يستطلع الأمر. دخلت هذه السفن
هي الأخرى المعركة، مجبرةً الأتراك على التقهقر. غرقت أربع سفن تركية
ولاذت الأخرى بالفِرار. أُعطِبت سفينة موروسيني، ولكنها كانت لا تزال
طافية، فتم قطرها لتعود إلى كانديا، بينما أُعيدت أشلاء قائدها لتُدفَن
في فينيسيا على نحوٍ يليق ببطل.
إلا أن بطولته، بالرغم من أنها كانت ملهمة، لم تحسِّن وضع فينيسيا
الرئيسي في كريت. من بين الحصون الأربعة الرئيسية على امتداد الساحل
الشمالي للجزيرة — كان الخامس بعيدًا ناحيةَ الشرق، فكان بالإمكان
تجاهله مؤقتًا — كان اثنان في أيدي العدو بالفعل، أما بالنسبة للآخرين
فقد كان حصن سودها محاصرًا من البحر منذ عام تقريبًا ويعاني من نقص في
المواد الغذائية، ومثل كانديا كان الطاعون متفشيًا به، الأمر الذي كان
محبِطًا للروح المعنوية ويجعل حمايته مستحيلة. أما بالنسبة للأتراك
خارج الأسوار، فكانوا بعيدين عن ذلك الوباء. في صيف ١٦٤٧م أحكموا
الحصارَ على كانديا التي كان مستقبل المستعمرة يتوقَّف عليها باعتبارها
العاصمة.
•••
كان أن استمرَّ حصار كانديا نحو اثنين وعشرين عامًا، كانت فينيسيا
تدافع فيها — منفردةً — عن المدينة الصغيرة (كان عدد سكانها يتراوح بين
١٠ و١٢ ألف نسمة) ضد القوة البريَّة البحرية المشتركة للإمبراطورية
العثمانية. في الماضي، كان لا يمكن تصوُّر مقاومة طويلة كتلك، ربما لأن
الاعتماد المتبادل بين الأتراك والفينيسيين في الأمور التجارية كان
يتطلَّب أن تكون الأعمال العِدائية بينهم قصيرةً وحادة. ولكن الآن،
ومعظم تجارة النقل في أيدي الإنجليز والهولنديين، لم تكن تلك
الاعتبارات ما زالت مطبَّقة، وكان السلطان يستطيع أن يتحمَّل الوقت.
أما قدرة فينيسيا على الصمود طويلًا، فلم تكن بسبب إصرار المدافعين
عنها داخل الأسوار — رغم أهمية ذلك — بقدرِ ما كانت بفضل أسطولها، الذي
كانت دورياته المستمرة في الحوض الشرقي من المتوسط تحبِط كلَّ محاولات
الأتراك لحصار كانديا من البحر، وتزيد من سيطرتها على بحر إيجه، لدرجةٍ
جعلت الأتراك يبذلون كلَّ جهدهم لتجنُّب مواجهةٍ بحرية مباشرة طوال
السنوات العشر الأخيرة من الحصار.
لا يعني ذلك أنه لم تكن هناك مواجهات من هذا النوع؛ فقصةُ الحرب
ملحمة وطنية بالمعنى الكامل للكلمة، هناك قصصٌ عن معاركَ لا حصر لها
كبيرة وصغيرة، متعمَّدة أو غير مقصودة، في مواقعَ متفرقة حول مدخل
الدردنيل؛ حيث كان الأسطول الفينيسي يتجمَّع كل ربيع على أملِ محاصرة
العدو في المضايق، أو عبْر أرخبيل بحر إيجه إلى مكلأ كانديا نفسه. إنها
قصة طويلة، غنية كذلك بحكايات بطولية: مثل حكاية «جياكومو ريفا Giacomo Riva» في ١٦٤٩م، الذي طارد
أسطولًا تركيًّا في ميناءٍ صغير على الساحل الأيوني ليمزقه إربًا،
وحكاية «لازارو
موسينيجو Lazzaro Mocenigo» في ١٦٥١م بالقرب من «باروس Paros»، الذي أبحر متحديًا أوامرَ قائده للهجوم على
أسطولٍ كامل للعدو، رغم إصابته بجراحٍ بليغة من سهامٍ عدة وطلقة بندقية
اخترقت ذراعه فأجبر الأسطول على الفرار؛ وحكاية «لورنزو مارسيللو Lorenzo Marcello»، الذي قاد
سفنَه إلى الدردنيل في ١٦٥٦م، ولكنه لم يبقَ على قيد الحياة ليشهد
واحدًا من أكمل وأعظم الانتصارات في الحرب كلِّها؛ وحكاية لازارو
موسينيجو (مرةً أخرى) في ١٦٥٧م، وكان قد أصبح قائدًا عامًّا، عندما قام
أسطوله المكوَّن من ١٢ سفينة بمطاردة أسطول العدو المكوَّن من ثلاث
وثلاثين سفينة في المضايق، مجتازًا بحرَ مرمرة خلفهم حتى أسوار
القسطنطينية نفسها.
إلا أنه بالرغم من الإنجازات العظيمة والشجاعة الفائقة، يبدو أنه لم
تكن هناك خطة شاملة؛ لأن دفاعًا أكثرَ تنظيمًا على طرق الاقتراب من
المدينة المنكوبة، كان ينبغي أن يكون أكثرَ نجاحًا في عزل المهاجمين عن
مصادر تعزيزاتهم وإمداداتهم. بالرغم من كل جهود الفينيسيين، استمرت
التعزيزات والإمدادات في الدخول، وحتى في لحظات الانتصار كان المدافعون
يعرفون جيدًا أن سقوط كانديا كان مسألة وقت.
شيء واحد فحسب كان هو الذي يمكن أن ينقذها؛ الدعمُ السخي والحماسي من
قِبل القوى الأوروبية. قد يرى البعض أن تاريخ التوسُّع العثماني في
أوروبا، يمكن إرجاعُه بأكمله إلى عجز الأمراء المسيحيين الدائم عن
الاتحاد دفاعًا عن قارتهم وعقيدتهم، إلا أن ذلك مسألة جدلية وقابلة
للنقاش؛ ولكن ما يمكن قوله هو أنهم لم يقوموا بذلك بإخلاص منذ الحملة
الصليبية الثالثة قبل نحو خمسة قرون، كما أنهم لم يكونوا يقومون بذلك
الآن. مرة تلو الأخرى، كانت فينيسيا تلجأ إليهم، مؤكدة دائمًا أن أمنَ
العالم المسيحي نفسه، وليس مستعمرة فينيسية صغيرة، هو الأهم، وأن ضياع
كريت كان يعني ضياع نصف البحر الأبيض المتوسط. ومرة تلو الأخرى كانوا،
كشأنهم دائمًا، يرفضون الاستماع. من ألمانيا، كان الإمبراطور يقول إنه
كان قد وقع حديثًا هدنةً لمدة عشرين عامًا مع الباب العالي؛ ومن
إسبانيا، لدهشة الجميع، كان صاحب السمو الملك، «الأكثر كاثوليكية»،
يرسل سفيرًا إلى القسطنطينية الكافرة؛ أما فرنسا المتسقة مع دورها
المزدوج فكانت تمرِّر إعاناتٍ صغيرة، سرًّا في بعض الأحيان، لفينيسيا.
كانت تمرِّر الإعانات بيدٍ، وتمدُّ يدها الأخرى في صداقة للسلطان.
إنجلترا، التي لم يكن متوقعًا منها الكثير؛ حيث لم تكن قد أصبحت قوةً
في البحر الأبيض، كانت مسرفة في وعودها … ولا شيء أكثر من ذلك.
الباباوات المتوالون، الذين كانوا يرون نكبةَ فينيسيا وسيلةً مفيدة
لتحقيق مزايا لأنفسهم، كانوا يعرضون المساعدةَ مقابل تنازلات فحسب:
إنوسنت العاشر مقابل السيطرة على الأسقفيات الفينيسية، وخليفته
ألكساندر السابع مقابل إعادة السماح بدخول الجزويت الذين كان محظورًا
عليهم دخول أراضي الجمهورية منذ بول الخامس بموجب أمرٍ كان قد أصدره في
١٦٠٦م.
ما لا يمكن إنكاره، هو أنه بمرور السنوات، وبعد أن أصبحت قصة مقاومة
كانديا حديثَ كل أوروبا، كان الدعم الأجنبي على شكل أفراد وأموال وسفن
ما زال يأتي، ولكنه كان قليلًا جدًّا … ويصل متأخرًا جدًّا. مثال على
ذلك تلك القوة التي أُرسلت من فرنسا في ١٦٦٠م، تحت قيادة الأمير
«ألميريجو ديستي Almerigo d’Este»،
المكوَّنة من أربعة آلاف مقاتل، لم تصل في الربيع، عندما كان يمكن أن
يكون ذلك توقيتًا مناسبًا، وإنما وصلت في أواخر أغسطس، أول هجوم لها ضد
العدو على أراضٍ لم تحاول أن تستطلعها، انتهى بالذعر والفرار، وبعد
أسبوع أو أسبوعين، بعد أن ضربت الديزنطاريا أفرادها، كان لا بد من
إرسالها بكاملها إلى جزرٍ أكثرَ راحة حتى تستعيد قوَّتها، بعد ذلك عاد
مَن بقوا منها على قيد الحياة — لم يكن من بينهم الأمير، بكل أسف — إلى
أوطانهم دون أن يحققوا شيئًا.
كثيرة وجديرة بالتذكُّر كانت بطولات القادة الفينيسيين في البحر،
لدرجةٍ تنسينا بسهولة الدفاعَ البطولي عن كانديا بواسطة الحامية
نفسِها، التي كان مقدرًا لها أن تواجه اثنين وعشرين عامًا من الاستنزاف
— في كل الأعمال العسكرية المخيِّبة للآمال — وأن تعاني خيبةَ أمل
مستمرة في وعودٍ كاذبة بالمساعدة ممن كانوا يدَّعون أنهم حلفاء
فينيسيا. مثل هذه القوات، كما كان يتضح دائمًا، كانت إمَّا تحرص على
حياتها فقط، أو أن تحقق أمجادًا شخصية، وبذلك كانت تغامر بحياتها وحياة
الآخرين نتيجةَ النقص الشديد في القوة البشرية.
تكرَّرت هذه الظاهرة الأخيرة كثيرًا في المراحل الأخيرة من الحصار.
في ذلك الوقت، كان اسم كانديا يتردَّد في كل أوروبا؛ ومن بين الفرنسيين
على وجه الخصوص، كانت جماعات من سلالة النبلاء قد بدأت تتدفَّق على
الجزيرة في محاولةٍ لإثبات شجاعتهم في ساحة قتال مجيدة كتلك. كان أبرز
تلك التدفقات ما حدث في ١٦٦٨م، عندما اقتنع لويس الرابع عشر أخيرًا
بالحصار وبدأ اهتمامه الشخصي به. حتى ذلك الحين لم يكن قد دخل الحرب،
ولا — حتى — قطع العلاقات الدبلوماسية مع السلطان. كان التجار
الفرنسيون في الشرق اللاتيني قد أفادوا كثيرًا من الرحيل المفاجئ لبعض
منافسيهم الفينيسيين، وكان نجاحهم كفيلًا بأن يجعل الملك يحلُم بأي
قطيعة واضحة. لقد تخلَّى حتى عن مبادئه لدرجةِ أن سمح لفينيسيا بجمع
قوَّات من الأراضي الخاضعة له، تحت قيادة «ماركيز سانت — أندريه مونت
برن Marquis of Sainte-André Montbrun»
القائد العام لجيوشه، وكانت النتيجة قوة متطوعين قوامها خمسمائة مقاتل،
أبعد ما تكون عن قوة احترافية. تحت قيادة مونت برن، كان هناك أولًا
«دوق دي لا
فوياد Duc de la
Feuillade»، الذي رغم أنه لم يكن ثريًّا، كان مصرًّا على أن
يتحمل شخصيًّا نصيبَ الأسد من التكلفة، ثم كان هناك دوقان آخران، دوق
«شاتو تييري Château Thierri»، ودوق
«كاديروس Caderousse»، و«ماركيز أوباسو Aubusson»، وكونتا «فيمور Villemor»، و«تافان Tavanes»، وأمير «نيوشاتيل
Neuchâtel» (الذي لم يكن قد تجاوز
السابعة عشرة)، وعدد كبير آخر من شباب النبلاء من كبريات العائلات
الفرنسية.
عند وصولهم إلى كريت في أوائل ديسمبر، عهد القائد العام الجديد
«فرانسيسكو
موروسيني Francesco Morosini» للنبلاء الفرنسيين بالدفاع عن أحدِ الأسوار
الخارجية على الجانب المواجه لليابسة من المدينة. رفضوا؛ قالوا إنهم لم
يقطعوا تلك الرحلةَ المضنية إلى كريت لكي يطلب منهم أن يزحفوا في الطين
حتى موقع خارجي — وينتظرون هناك صامتين إلى أن يقرِّر الأتراك الهجوم،
واقترحوا بدل ذلك القيامَ بهجوم شامل «يجبر العدو على رفع الحصار».
موروسيني، بتعقُّل شديد، لم يوافق على ذلك. كان قد قام بالفعل بعشرات
الإغارات ولم يسفِر أيٌّ منها عن أي نتيجة. كان مَن بقي من رجاله (أقل
من خمسة آلاف آنذاك) يكفون بالكاد للدفاع عن الثغرات التي كان الجنود
الأتراك يفتحونها في الأسوار، إلا أن أحدًا لم يستمع لرأيه. وكما وصف
مؤرخ فرنسي الوضع:
كان المسيو فوياد يسعى وراء العمل الجسور والمجد الشخصي فحسب، لم
يكن يضيره كثيرًا مقتل سبعمائة أو ثمانمائة من رجال الجمهورية، ما
دام سوف يحظى عند عودته إلى فرنسا بشرف القيام بعملٍ جسور على
جزيرة كريت؛ وبمجرد وجوده خارج موقعه، فإن ضياعها بسبب نقص الرجال
الذين يدافعون عنها لن يسبِّب له الكثير من الحزن.
٦
وعندما وجد أن القائد العام لن يتزحزح عن موقفه، أعلن لافوياد،
شاكيًا بصوتٍ عالٍ، من الجبن الفينيسي، عن نيته القيامَ بهجوم انفرادي
على مسئوليته، وهو ما فعله في السادس عشر من ديسمبر، عندما قام مسلحًا
بسوطٍ — رمزيًّا — على رأس قوة، يقال إن عددها كان قد انخفض من خمسمائة
(عددها الأصلي) إلى مائتين وثلاثين جنديًّا. كان الأتراك يقاومون
بشراسة، إلا أن الفرنسيين برغم تهوُّرهم وطيشهم أبدَوا شجاعة خارقة
وطردوهم ليتراجعوا نحو مائتي ياردة، وكان عددهم نحو ثمانمائة في
البداية، وبالرغم من وصول كتيبة جديدة من جنود الإنكشارية، أجبرهم
الفرنسيون في آخرِ الأمر على الانسحاب. قُتل كونتا فيمور وتافين ونحو
أربعين آخرين، وجُرح أكثرُ من ستين جِراحًا خطِرة، كان من بينهم ماركيز
أوباسو، وكان آخر الناجين فوياد نفسه الذي كان مصابًا بثلاثة جروح
نافذة.
كان ذلك رائعًا، ولكنه لم يكن ليساعد كريت أو فينيسيا. بعد أن انقضت
لحظةُ المجد، لم يكن مَن بقي من الأبطال قادرًا على ترك الجزيرة بسرعة.
غادروها في غضونِ أسبوع بالرغم من أن الكثير منهم — حتى الذين هربوا
دون أن يصيبهم أذًى — لم يرَ فرنسا بعد ذلك. كانوا قد حملوا بكتير
الطاعون معهم.
بعد أن رسا الناجون في «طولون
Toulon»، سرعان ما أبحرت قوةٌ أخرى (أكبر حجمًا، وأكثر
احترافًا، وأفضل تجهيزًا) من فرنسا، متجهة صوب كانديا. أخيرًا، كان
السفير الفينيسي — جيوفاني موروسيني، أحدُ أقارب القائد العام — قد
استطاع أن يقنع لويس الرابع عشر بأن يضطلع بمسئولياته الأكثر مسيحيةً
على نحوٍ أكثرَ جِدية، وفي ربيع ١٦٦٩م كان إسهامه المهم جاهزًا: ستة
آلاف جندي، ثلاثة آلاف حصان، خمسة
عشر مدفعًا … كانت كلها محمولةً على أسطولٍ من سبع وعشرين سفينةَ نقلٍ
تحرسها خمس عشرة سفينة حربية. إلا أن لويس، حتى ذلك الحين، كان يحاول
أن يخفي إخلاله بعهده عن أصدقائه الأتراك، فلم يبحر الأسطول تحت راية
زهرة السوسن،
٧ وإنما تحت راية البابوية التي تحمل المفاتيح
المتصالبة.
وصلت القوة الرئيسية للجيش، وكانت تحت القيادة المشتركة لدوقي
«دي بوفور de Beaufort» و«دي نواي de Noailles»، وصلت إلى كانديا في التاسع
عشر من يونيو. روَّعهم ما رأوه. كتب أحد الضباط يقول:
كانت المدينة في حالةٍ يُرثى لها: الشوارع مغطاةٌ بالطلقات
والقذائف وشظايا الألغام والقنابل. لم يكن هناك كنيسة واحدة، أو أي
مبنًى آخر، لم تخرِّب القذائف جدرانه أو حوَّلته إلى أنقاض. منازل
الناس لم تكن أكثرَ من زرائب بائسة. كانت الروائح الكريهة تتصاعد
من كل مكان، والجثث والجرحى والمصابون عند كل منعطف.
على الفور، بدأت قصة لافوياد تكرِّر نفسها، كان القادمون الجدد
متلهفين على القتال، لدرجةِ أن رفضوا أن ينتظروا وصولَ باقي الجيش،
بدءوا هجومَهم الخاص فجرَ الخامس والعشرين من يونيو. كانت البداية
سيئة، اتضح أن الجزء الأول من القوات التي فتحوا النارَ عليها كان
وحدةً ألمانية وصلت مؤخرًا لدعمهم. وبعد استعادة النظام هاجموا مرابضَ
المدافع التركية ونجحوا في البداية. ثم فجأة، أشعلت قذيفةٌ تركية طائشة
براميل البارود في إحدى البطاريات التي كانوا قد تركوها على عجل. كانت
مهارة جنود التلغيم الأتراك معروفة، وكانت العمليات التي يقومون بها من
ملامح الحصار، كما كانت معظم الأضرار التي لحِقت بدفاعات المدينة نتيجة
للتفجيرات التي تتم تحت الأرض. فجأة، انتشرت الشائعات بين صفوف
الفرنسيين بأن كل الأراضي التي يقفون عليها كانت ملغومة، وأن البطارية
لم تكن سوى حفرة انفجار مموهة، وأن صوت الانفجار الذي سمِعوه قبل قليل
كان الأول في سلسلة انفجاراتٍ مماثلة سوف تنسفهم جميعًا وتحوِّلهم إلى
فتات! مع الشائعات كان الذعر، فبدءوا يفرون خائفين يدهس بعضهم بعضًا.
عندما شاهد الأتراك ذلك الفرارَ المفاجئ الذي عجزوا عن تفسيره، أعادوا
تنظيمَ صفوفهم وقاموا بهجوم مضاد. مات خمسمائة فرنسي، وفي غضون دقائقَ
معدودة كانت رءوسهم معروضةً أمام الوزير الأول «أحمد»، وسط كل مظاهر
الاحتفال بالنصر. كان من بينها رأسا دون دي بوفور وأحدُ الرهبان، الذي
كان قد صحِب الجيش لجمع الصدقات.
لم يكن فقدان خمسمائة رجل من بين ستة آلاف بالخسارة الهينة؛ وبعد
أربعة أيام وصلت بقيةُ جيش الملك لويس، وبدأ موروسيني التخطيطَ لهجوم
جديد على كانديا من الغرب، إلا أن روح حلفائه الجدد كانت كسيرة. في
الرابع والعشرين من يوليو، اقتربت سفينة حربية فرنسية مزودة بسبعين
مدفعًا من بطارية شاطئ تركية، فتم تفجيرها في الماء. بعد أيام قليلة
كان نواي يبلِغ القائدَ العام، بكل لا مبالاة، بأنه كان يعيد الجيش إلى
السفن ويستعدون للرجوع إلى بلادهم. لم تُجْدِ الاحتجاجات ولا التوسلات
ولا التهديدات ولا مناشدات الباقين على قيد الحياة. حتى التنديد بذلك
من على منابر الكنائس لم يؤدِّ إلى تغيُّر الموقف، وفي الحادي والعشرين
من أغسطس أقلع الأسطول الفرنسي. وسط حالة اليأس التي عمَّت بعد ذلك،
أبحرت كذلك القوات الإضافية الصغيرة التي كانت موفدةً من قِبل البابا
والإمبراطورية، حتى فرسان مالطة أيضًا أبحروا في اتجاه الغرب. بقي
موروسيني وحاميته وحدَهم، وأصدر الوزير الأول أمرًا بالهجوم
الشامل.
كانت هناك محاولات لصده، إلا أن القائد العام كان يعرف أنه لا بد من
أن يلقى هزيمةً في آخرِ الأمر. كان عدد حاميته قد تقلَّص إلى ثلاثة
آلاف وستمائة رجل، ولن تكون هناك تعزيزاتٌ إضافية ذلك العام. كانت
الدفاعات مدمرة، وكان يعرف جيدًا أن لا أمل في صمود كانديا لموسم شتاء
آخر. من ناحية أخرى، فإن الاستسلام الآن بدلًا من الانتظار إلى أن تسقط
المدينة عَنوة، ربما يمكِّنه من الحصول على شروطٍ أفضل، وربما غير
مهينة. كان واضحًا أنه لا يملك أيَّ صلاحيات للتفاوض باسم الجمهورية،
ولكنه كان يعي أنه، على الأقل في ثلاث مناسبات سابقة (في ١٦٤٧م و١٦٥٧م
و١٦٦٢م) كانت مسألة التفاوض موضوعًا للبحث في مجلس الشيوخ، وكانت في كل
مرة تجد قدرًا من الدعم. على أية حال، كان الخيار صعبًا.
تمَّت الموافقة على المعاهدة في السادس من سبتمبر ١٦٦٩م. بدا الوزير
الأول، وكان يكن إعجابًا شخصيًا ﺑ «موروسيني»، كريمًا. سيغادر
الفينيسيون المدينةَ بكل حرية ودون تحرُّش من أحد، في غضون اثني عشر
يومًا، ويمكن تمديدُ هذا الشرط — كما حدث — في حال سوء الأحوال الجوية.
كل المدفعية التي كانت موجودةً من قبل بدء الحصار لا بد من تركها في
مواقعها، أما الباقي فيمكن أن يحملوه معهم. سيبقى الأتراك كحكام، ولكن
فينيسيا يمكن أن تحتفظ بجزر «جرامفوزا Gramvousa» في الطرف الشمالي الغربي من كريت، وقلعة
«سبينالوجنا Spinalogna» وبمدينة
«سيتيا Sitia» في أقصى الشرق، التي لم
تكن قد استسلمت.
وهكذا في السادس والعشرين من سبتمبر، بعد ٤٦٥ سنة من الاحتلال، و٢٢
سنة من الحصار، تم إنزال راية سان مارك من فوقِ ما كان قد تبقى من قلعة
كانديا، وعاد آخرُ ممثلي الجمهورية الرسميين إلى مدينتهم الأم. ومعهم
ذهب كلُّ السكان المدنيين الذين كانوا في المدينة، فلا أحدَ منهم كان
يرغب في البقاء تحت حكم سادتهم الجدد. كان ذلك بالنسبة لفينيسيا نهايةَ
مرحلة. احتفظت بمراكزها الثلاثة المتقدمة، وبقيت هناك نقطة أو نقطتان
صغيرتان جدًّا على خريطة بحر إيجه؛ حيث ما زال الأسد ذو الجناحين يحكم،
رغم أن زئيره كان قد توقَّف وزمجرته لم تَعُد مسموعة؛ ولكن كريت كانت
آخر ممتلكاتها الرئيسية خارج البحر الأدرياتيكي. بضياعها انتهى وجودها
المؤثِّر في الحوض الشرقي من المتوسط، وليس قوَّتها فحسب.
لقد ماتت في عظمةٍ ومهابة على الأقل. لم يحارب الفينيسيون هكذا في
تاريخهم لفترة أطول، ولا على نحوٍ بطولي برًّا أو بحرًا. لم يسبق أن
واجهوا أعداءً أكثرَ قوة وإصرارًا. كانت التكلفة المالية باهظة … وأكثر
من باهظة في الأرواح. فوق ذلك، على مدى ربع القرن تقريبًا، كانوا
يحاربون وحدَهم. كانت مساعدات حلفائهم في المناسبات النادرة ضنينة،
وعلى مضض، وغير كافية أو نفعية إذا جاءت؛ وأحيانًا — عندما كانت تسبِّب
تأخيرًا طويلًا أو تُسحب فجأةً دون سابق إنذار — كانت شديدةَ الضرر على
القضية المشتركة. حتى في السنتين أو الثلاث الأخيرة، عندما تحوَّلت
سياسة الاستنزاف السابقة إلى تدميرٍ محموم وسفك دماء، كانت التدخلات
الأجنبية تضعِف الروح المعنوية وتثبط الهمة. إلا أن ضعف الروح المعنوية
وتثبيط الهمة لم يكونا سببَ استسلام فرانسيسكو موروسيني؛ كان السبب هو
إدراكه المفاجئ أن فقدان كانديا كان حتميًّا، وأن الخيار الوحيد أمامه
كان بين الرحيل بشروطٍ مشرفة الآن، أو المذبحة الكاملة والدمار بعد وقت
قصير. ربما كان من المتوقَّع أن يجد نفسه في موقفٍ صعب عند عودته إلى
فينيسيا. لقد اتُّهم، ليس بتجاوز سلطاته المشروعة وتعامله مع العدو كما
حدث فحسب، وإنما بالجبن والخيانة كذلك … بل وبالاختلاس والفساد. لحسن
حظه أن كان هناك مَن سارع للدفاع عنه، وعندما عُرض الأمر على المجلس
الأعلى جاء التصويت لصالحه. لقد خرج من المسألة خروجَ الشعرة من العجين
… مصممًا، حتى، على أن ينتقم.
•••
وقبل أن يتحرَّك البندول، كان أن حدَث ذلك. بعد عشرين عامًا فحسب،
ثار الرعايا البروتستانت المجريون للإمبراطور «ليوبولد الأول Leopold I» على ما كانوا يعتبرونه
اضطهادًا كاثوليكيًّا من جانب الهابسبورج، وبناءً على ذلك استنجدوا
بالسلطان. لم يكن محمد الرابع يحلُم بأكثر من ذلك، وفي ربيع ١٦٨٣م
انطلق إلى «أدرنة Edirne»؛ حيث كان في
انتظاره هناك جيشٌ جرار. كان الجيش يضم كتائبَ كاملة من المدفعية
والمهندسين وعددًا من الوحدات غير النظامية المكوَّنة أساسًا من تتار
القرم. عندما وصلوا إلى بلجراد، سلَّم السلطان زمامَ القيادة لوزيره
الأول «كارا مصطفى Kara Mustafa »
(مصطفى الأسود)؛ وانطلق آخرُ جيش عثماني كبير ضد أوروبا المسيحية
متجهًا صوب فيينا.
كانت تلك هي ثاني محاولة تركية
ضد العاصمة الإمبراطورية. كان سليمان المعظَّم قد أقام معسكره أمام
أسوار فيينا في سبتمبر ١٥٢٩م ولكنه أخفق؛ وبعد أقل من ثلاثة أسابيع كان
مجبرًا على الانسحاب نتيجةَ المقاومة القوية غير المتوقَّعة، ونقص
المؤن، وقبل كل شيء بسبب حلول فصل الشتاء. أما كارا مصطفى فكانت لديه
ميزةُ الوصول الباكر في الفصل المناسب: كنا في الثالث عشر من يوليو،
عندما رتَّب جيشه واتخذت قواته مواقعَها أمام المدينة. من ناحية أخرى
لم يكن لديه مدفعية ثقيلة — حيث إن نقلها هذه المسافة الطويلة كان
مستحيلًا — وكان مضطرًّا للاعتماد إلى حدٍّ كبير على مهندسي وجنود رص
الألغام تحت الحصون والدفاعات على أملِ تفجيرها من أسفل. كان ذلك
تخصصًا تركيًّا ثبَت نجاحه دائمًا. كان لا بد من أن تسقط فيينا لولا
وصول جيش بولندي في الوقت المناسب، بقيادة الملك «جون سوبيسكي King John Sobieski». فجأةً، وجد
الأتراك أنفسهم محصورين في تقاطع نيران مهلكة، بين حامية يائسة وقوة
إنقاذ تحت قيادة ماهرة، فكان أن هربوا وسط حالة من الفوضى والارتباك
بعد معركةٍ استمرت يومًا كاملًا. كان سليمان في المرة الأولى — على
الأقل — قد انسحب بشكلٍ منظَّم محافظًا على جيشه متماسكًا، أما وضع
كارا مصطفى فكان كارثيًّا. في ذلك اليوم الواحد ضاعت إلى الأبد سمعةُ
الإمبراطورية العثمانية كقوة لا تُقهر. لن تشكِّل خطرًا على العالم
المسيحي مرةً أخرى.
فيينا بعيدة عن البحر الأبيض المتوسط بأكثرَ من مائتي ميل، وما كان
حصارها الفاشل ليجد مكانًا في هذا الكتاب، إلا لأنه شجَّع البابا
والإمبراطور وسوبيسكي على الزحف على الأتراك المحطَّمين. فينيسيا التي
كانت ما زالت حسيرةً على ضياع كريت، كانت المناشدات ما زالت تنهمر
عليها لكي تنضم إلى عصبةِ هجوم جديدة، تستخدم قوَّتها البحرية
بالاشتراك مع قواتهم الأرضية لطرد السلطان من أوروبا إلى الأبد؛ ذلك
الطرد الذي ستكون أكثر الجمهوريات هدوءًا وصفاءً هي أكثر المستفيدين
منه.
لم تردَّ فينيسيا بسرعة. على مدى عَقد كامل كانت تحاول جاهدةً أن
تفيق من آثار حرب كريت، فهل كانت مستعدة الآن لكي تغامرَ مرة أخرى بكل
شيء، وتدخل في مواجهة جديدة؟ من ناحية أخرى، كان الوضع قد تغيَّر دون
شك منذ هزيمة الأتراك في فيينا. المرحلة التالية من الحرب كان لا بد من
أن تكون في البحر، في جزءٍ منها على الأقل، أفلا تتطلب منها مصالحها —
ناهيك عن سُمعتِها — أن تنتهج سياسةً أكثر فعالية؟ كان الأتراك في حالة
ضعف ومعنوياتهم في الحضيض؛ وزيرهم الأول، كارا مصطفى المكروه، كان قد
تم إعدامه بأوامرَ من السلطان بمجرد عودته إلى القسطنطينية، أما الجيش
فكان ممزقًا. ألم يكن ذلك هو الوقت المناسب للهجوم، ليس بهدف الثأر ﻟ
«كريت» فحسب، بل لاستعادتها، وربما لاستعادة مستعمراتها السابقة كذلك؟
بعد جدال طويل، تم إخطار السفير الإمبراطوري في التاسع عشر من ينار
١٦٨٤م، بأن فينيسيا كانت ستنضم للعصبة.
كان قائدها العام آنذاك — مرةً أخرى — هو فرنسيسكو موروسيني. بالرغم
من تسليمه التام والنهائي ﻟ «كانديا»، كان ما زال وهو في الرابعة
والستين أكثرَ قادة فينيسيا مقدرةً وكفاءة، تولَّى قيادة أسطوله
المكوَّن من ثمانٍ وستين سفينة حربية — بالإضافة إلى عدد من السفن
الاحتياطية المساعِدة من البابا وفرسان مالطة ودوق توسكانيا الأعظم —
تولَّى قيادة الأسطول بكل حماسة وعزيمة. بمجرد خروجه من الميناء اتجه
صوب هدفه الأول مباشرة؛ جزيرة «ليوكاس Leucas» واستولى عليها في السادس من أغسطس بعد حصار ستة
عشر يومًا. بعد الغزوات السريعة كان يمكن أن يكون لها أهميةٌ
استراتيجيةٌ أبعد؛ من موقعها بين كورفو و«كيفالونيا Cephalonia»، كانت ليوكاس تتحكَّم في
مدخل كلٍّ من البحر الأدرياتيكي وخليج كورنتة، كما كانت توفِّر رأسَ
جسر، عبَرت عليه بعد أسابيعَ قليلة قوةٌ برية صغيرة إلى البر الرئيسي
وأجبرت قلعةَ بريفيزا على الاستسلام. في الوقت نفسه، وفي منطقة في أقصى
شمال الساحل، ثار الأهالي المسيحيون في «البوسنة Bosnia» و«الهرسك Herzegovina» ضد الحكام الأتراك، وانتقلت الثورة إلى ألبانيا
و«إيبيريوس Epirus». ثم في منطقةٍ
قصوى من الشمال — مرةً أخرى — كانت جيوش الإمبراطور وجون سوبيسكي تواصل
تقدُّمها في المجر؛ وبحلول فصل الشتاء كان لدى فينيسيا وحلفائها من
الأسباب ما يجعلهم يفخرون بنجاحهم.
مع مقدِم ربيع ١٦٨٥م، أبحر موروسيني ضد «كورونه Corone»، الميناء الفينيسي القديم — كان الأتراك قد
استولوا عليه في ١٥٠٠ — وقام بإنزال نحو تسعة آلاف وخمسمائة رجل من
القوات الإمبراطورية والبابوية والتوسكانية، بالإضافة إلى نحو ثلاثمائة
من فينيسيا ومائة وعشرين من فرسان سان جون. في هذه المرة، قاومت
الحامية العثمانية باستماتة، ولم تظهر الراية البيضاء على القلعة إلا
في أغسطس، ثم عند مناقشة شروط الاستسلام، فتح مدفع تركي النارَ ليقتل
عددًا كبيرًا من الفينيسيين. توقَّفت المفاوضات على الفور، واندفع جنود
الحلفاء غاضبين في المدينة، وكانت مذبحة. بعد ذلك، توالى سقوط سلسلة
كاملة من القلاع؛ وفي غضون شهرين أو ثلاثة، كان كثير من جزر
البيلوبونيز الجنوبية قد أصبح تحت سيطرة الحلفاء، ووصل جنرال سويدي هو
«الكونت أوتو وليم فون كونيجزمارك Count Otto William
Königsmark» — بعد أن كانت الجمهورية قد استأجرته
مقابل راتب قدره ثمانية عشر ألف دوكاتية — ليكون قائدًا عامًّا للقوات
البرية.
في أوائل ١٦٨٦م، التقى موروسيني وكونيجزمارك في ليوكاس في مجلس حرب.
كانت هناك أربعة أهداف للاختيار من بينها: خيوس وإيوبيا وكريت وبقية
البيلوبونيز؛ ويبدو أن الاختيار وقع على بقية البيلوبونيز نتيجةَ إصرار
كونيجزمارك. وفي حملات الصيفين التاليين، قبلت قوات العصبة استسلامَ
مودون ونافارينو وآراجوس ونوبليا وليبانتو وباتراس وكورنتة. في الوقت
نفسه كان موروسيني قد أبحر بأسطوله نحو «أتيكا
Attica» وبدأ يحاصر أثينا؛ وهنا ستقع المأساة الكبرى
الثانية في التاريخ، التي ستُعلَّق مسئوليتها — بكل أسف — في رقبة
فينيسيا. لقد روينا القصةَ البائسة للحملة الرابعة في الفصل السابع،
والآن لا بد من أن نسجل هنا — بكل أسف أيضًا — ما حدث في السادس
والعشرين من سبتمبر ١٦٨٧م. في الساعة السابعة تقريبًا، أطلق ملازم
ألماني مدفع هاون، كان موروسيني قد وضعه على تل «موسيون
Mouseion» مقابل «الأكروبولوس» الذي كان
الأتراك، في لعنةٍ أكبرَ من لعنات القدَر، يستخدمونه كمخزن للبارود.
كانت الطلقة مباشرة، فأدَّى الانفجار الناجم إلى تدمير «المَقْدِس
Cella»
٨ وإفريزها تمامًا، بالإضافة إلى ثمانية أعمدة من الجانب
الشمالي وستة من الجنوبي بالجزء القائم عليها من السطح. لم يكن ذلك —
حتى — آخرَ ما حدث من دمار؛ إذ بعد الاستيلاء على المدينة، حاول
موروسيني — الذي لم يكن قد نسي الاستيلاءَ على الأحصنة البرونزية
الأربعة من مضمار القسطنطينية في ١٢٠٥م — إزالة الأحصنة والمركبة ذات
العجل التي كانت جزءًا من القوصرة
٩ الغربية للمعبد، وأثناء المحاولة سقطت المجموعة كلها
وتحطَّمت تمامًا، إلا أن الغازي الذي كان كله إصرارًا، كان عليه أن
يرضيَ نفسه بتذكاراتٍ أكثرَ تواضعًا: الأسدين الجانبيَّين من الأربعة
الواقفين عند مدخل ترسانة فيينا.
ليس من المرجَّح أن تكون دموعٌ كثيرة قد أُريقت في فينيسيا حزنًا على
مصير البارثينون. كان أهالي أثينا مشغولين بالاحتفال. كان قد مرَّ على
آخرِ انتصارٍ كبير لهم في ليبانتو أكثرُ من مائة عام، والأهم أن
الانتصارات التي كان يحقِّقها موروسيني الآن — والتي لم يكن لها مثيل
منذ القرن الخامس عشر — كانت تبشِّر بانقشاع تلك السحابة العثمانية
السوداء التي خيَّمت عليهم طويلًا، وربما بعودة تلك الأيام البعيدة،
أيام الاستعمار التجاري. لم يكن مستغربًا أن يفرحوا كذلك بانتخاب
فرانسيسكو موروسيني من أول تصويت، خليفة للدوج «ماركانتونيو جستنيان Marcantonio Justinian»،
عندما مات في مارس ١٦٨٨م.
إلا أنه حتى آنذاك، لم يكن ليمكنه أن يعودَ إلى فينيسيا مباشرةً على
هذا النحو المهين. انتصار واحد آخر، وإن كان متواضعًا، سيكون كافيًا
لرد شرفه ويُمكِّن رعاياه من تحيته كبطل بعد كل ذلك، ويمكن أن تكون
قلعة «مالفاسيا Malvasia»
(مونمفاسيا Monemvasia) في الجزء
الجنوبي الشرقي من البيلوبونيز، أحدَ الحصون البرية القليلة التي تُركت
للأتراك، يمكن أن تكون صالحةً تمامًا لهذا الغرض. إلا أنه كانت هناك
مشكلة. لم يكن بالإمكان الوصولُ إلى هذه القلعة التي تعلو صخرةً حصينة
إلا عن طريق ممرٍّ ضيق، عرض معظمه أقلُّ من ياردة واحدة، لا يمكن أن
يفيد منه جيش يقوم بالحصار. كان الأمل الوحيد هو القصف، فأمر موروسيني
ببناء مربضين للمدفعية، ولكن حتى قبل اكتمال البناء، داهمه المرض.
تاركًا القيادة ﻟ «جيرولاموكورنر»، أبحر عائدًا إلى بلاده في يناير
١٦٩٠م مريضًا وحزينًا، فلم يكن حتى قادرًا على الفرحِ بحفاوة
استقباله.
أثبت كورنر أنه كان جديرًا بوراثة المنصب، كما اتضح أنه كان أكثرَ
حظًّا. استولى على مالفاسيا وارتفعت رايةُ سان مارك على الأسوار للمرة
الأولى في مائة وخمسين عامًا، ثم عندما علِم أن أسطولًا عثمانيًّا كان
في طريقه إلى الأرخبيل، أبحرَ مرةً أخرى شمالًا لكي يقابله ويفرِّق
شمله بالقرب من «مايتيلين Mytilene»
(ليسبوس Lespos) ملحقًا به أضرارًا
جسيمة. بعد عودته مرةً أخرى إلى الأدرياتيكي، شنَّ هجومًا عنيفًا على
«فالونا Valona» فاستولى عليها ودمَّر
دفاعاتها. كان ما زال هناك، عندما دهمته الحمى ليموت بعد يوم أو يومين،
أما خليفته فأثبت أنه كان قصبةً مكسورة.
مع توقُّف الحرب التركية التي كانت قد بدأت بدايةً رائعةً ثم انتهت
إلى توقُّف شائن، كان الفينيسيون يتطلعون مرةً أخرى إلى الدوج ليكون
قائدًا فاعلًا. موروسيني، الذي كان الآن في الرابعة والسبعين لم يكن قد
استعاد صحته تمامًا، إلا أنه عندما دُعي لاستئناف القيادة لم يتردَّد.
أبحرَ من فينيسيا، وسط كلِّ مظاهر العظمة والأبهة، في الخامس والعشرين
من مايو ١٦٩٣م — ولكن حملته الأخيرة كانت خيبةَ أمل كبيرة أخرى. كان
الأتراك قد استغلوا فصلي الشتاء والربيع لتقوية دفاعات كلٍّ من إيوبيا
وكانيا في كريت، كما أن رياحًا معاكسة أعاقت محاولةً أخرى ﻟ «موروسيني»
في الدردنيل. قام بتعزيز دفاعات كورنتة ونقطة حصينة أو اثنتين في
البيلوبونيز، وقام بمطاردة قلةٍ من القراصنة الجزائريين، وأخيرًا،
لكيلا يعود خالي الوفاض تمامًا، قام باحتلال «سالاميس Salamis» و«هيدرا Hydra» و«سبتساي Spetsai»، قبل أن يدخل ميناء نوبليا ليبقى هناك في
الشتاء. في ذلك الوقت، كان من الواضح أن كلَّ جهوده قد استُنفدت. كان
يعاني آلامًا مبرِّحة طوال شهر ديسمبر نتيجةَ الحصى الصفراوية واختلال
وظائف الكبد، وفي السادس من يناير ١٦٩٤م مات؛ وحتى سقوط الجمهورية لم
يحدث أن خرج أيُّ دوج آخر للحرب مرةً أخرى.
•••
يبقى هناك فصلٌ واحد في تاريخ محاولة فينيسيا المأساوية لاستعادة
السيطرة على البحر الأبيض. كانت جزيرة «خيوس Chios»، أحد الأهداف المحتملة التي فكَّر فيها موروسيني
والكونت فون كونيجزمارك في ١٦٨٦م. كانت خيوس تباهي بأغلبيةٍ مسيحية من
السكان، سواء من الكاثوليك أو الأرثوذوكس، وكان لكل طائفة أسقفها، كما
كان تَعداد الحامية التركية يقدَّر بنحو ألفي نسمة على الأكثر. لم يكن
«أنطونيو زن Antonio Zen»، القائد
العام الفينيسي الذي أنزل تسعة آلاف رجل على الجزيرة في السابع من
سبتمبر ١٦٩٤م، لم يكن يتوقَّع أيَّ صعاب.
لم يواجه أيَّ مشكلة في البداية. بدأ القصف فورًا، تم الاستيلاء على
الميناء وعلى ثلاث سفن تركية تصادَف أن كانت راسية فيه. حدث ذلك كلُّه
دون قتال واستسلمت الحامية في الخامس عشر، مع ضمانٍ بخروج آمن إلى البر
الرئيسي. كانت الروح المعنوية للفينيسيين مرتفعة، وارتفعت أكثرَ بعد أن
وصلت أخبار إلى خيوس، عن أسطول تركي من نحو خمسين سفينة كان يقترب
بسرعة. على مدى سنوات، كان الأتراك يبذلون كلَّ ما في وُسعهم لتجنُّب
مواجهات بحرية، وكان ضباطُ زن لا يكنون إعجابًا كبيرًا لمهارتهم
البحرية ولا لشجاعتهم. لسوء الحظ، عندما كان القائد العام على وشْك
اجتياز المضايق التي تفصل خيوس عن البر الرئيسي ويخرج إلى البحر
المفتوح، خمدت الرياح. في الهدوء التام الذي ساد، لم يكن بالإمكان حدوث
أي مواجهة، وعندما هبَّت نسمة خفيفة في اليوم العشرين أُصيب الأتراك
بالفزع. مدركين الخطر الوشيك، اتجهوا صوبَ بلادهم ليصلوا إلى ميناء
سميرنا قبل أن يَلحق بهم الفينيسيون. زن، الذي كان ما زال مستعدًّا
للقتال، رسا بسفنه في المكلأ خارج الميناء، ولكنه لم يكد يفعل ذلك، حتى
جاء القناصل المحليون الذين يمثِّلون القوى الأوروبية خارجَ العصبة —
إنجلترا وفرنسا وهولندا — إلى سفينة القيادة، وراحوا يتوسَّلون إليه
ألا يخاطر بحياة المسيحيين وممتلكاتهم في المدينة بالقيام بأي هجوم غير
ضروري، مُدعمين توسُّلاتهم — كما قيل — بمبلغ كبير من المال. ولأنه كان
يعرف أن مئونته كانت قد أوشكت على النفاد، وافق زن، وعاد إلى
خيوس.
إلا أن المعركة البحرية الكبيرة التي كان معظم القادة الفينيسيين
ينتظرونها بلهفة، لم تكن لتتأخر طويلًا؛ فالسلطان الذي كان غاضبًا
لضياع أهم جزيرة لديه، أصدر أوامره باستعادتها فورًا، وفي وقتٍ باكر من
فبراير ١٦٩٥م، خرج أسطول عثماني جديد، مكونًا من عشرين من أثقل سفنه
الرئيسية (كانت تسمَّى السفينة السلطانة)، تدعمها أربع وعشرون جالية.
فورًا، أبحر أنطونيو زن ليقابله بأسطولٍ مثله تقريبًا — كان مكونًا من
عددٍ معقول من السفن وفَّرها فرسان مالطة — في صباح اليوم التاسع وقعت
المعركة بالقرب من الطرف الشمالي للمضايق. كان القتال طويلًا وضاريًا،
تجلَّت فيه مظاهرُ الشجاعة والبسالة من جانب الفينيسيين، وربما من جانب
الأتراك كذلك، رغم أنه لم يرِد ذكرٌ لذلك في التقارير الفينيسية، ولكن
بعد أن انفصل الأسطولان عند الغروب، بالرغم من الخسائر الكبيرة في كلا
الجانبين (كان هناك ٤٦٥ قتيلًا و٦٠٣ جرحى من الفينيسيين) لم تكن
النتيجة حاسمة أو مؤكدة.
لم تكن تلك سوى المرحلة الأولى. رسا الأسطولان بالقرب من خيوس،
كلاهما خارج مرمى نيران مدفعية الآخر، وبقيا على مدى عشرة أيام كاملة،
كلاهما يراقب الآخرَ ويترصَّده. وفي التاسع عشر من فبراير، تُظاهِرهم
رياحٌ شمالية قوية، هجم الأتراك مرةً أخرى على خصومهم. أثناء القتال
زادت الرياح وزاد اضطراب البحر إلى أن أصبحت المناورة عن قرب مستحيلة.
حاول الفينيسيون باستماتة تعديلَ أوضاعهم لكي يكونوا مع اتجاه الرياح
ولكنهم كانوا مجبرين على دخول القناة الضيقة المؤدية للميناء. في مثل
تلك الظروف الجوية، كان دخول الميناء مستحيلًا، فبقيت السفن في المكلأ
لتكون عرضةً لهجوم الأتراك مرارًا وتكرارًا. كانت كارثة. كانت خسائر
الفينيسيين فادحة، أما خسائر الأتراك فكانت قليلة نسبيًّا. عقد القائد
العام مجلسَ حرب، ولكن يبدو أن النتيجة كانت قد تقرَّرت. لم يكن قد بقي
هناك ما يكفي من الرجال لحراسة القلعة، والدفاعات في حالةٍ يُرثى لها،
والخزانة خاوية، والمؤن قاربت على النفاد. وقبل توقُّع أيِّ مساعدة،
هجم الأتراك مجددًا لتكون النتائج أكثرَ كارثية.
هكذا كان الاستيلاء على جزيرةِ خيوس وفقدانها في غضون أقلَّ من ستة
أشهر. ليلة العشرين من فبراير، تم تحميل كلِّ ما يمكن حمله من عتاد
الحرب على السفن، وتدمير أو تفكيك ما كان قد تبقَّى من الدفاعات
والاستحكامات. وصباح اليوم الحادي والعشرين أبحر الأسطول مغادرًا
الميناء، ولتفادي انتقام الأتراك خرجت معه معظم الأسر الكاثوليكية
الكبيرة في الجزيرة، الذين مُنحوا إقطاعياتٍ جديدة في البيلوبونيز
تعويضًا عما تركوه وراءهم. حتى وهي ترحل، كان سوء الحظ يرافق فينيسيا.
بمجرد أن كانت آخر سفينة قد وصلت عند حاجز الأمواج، ارتطمت واحدةٌ من
أهم سفن زن الباقية (Abbondanza
Richezza) المحمَّلة بالأسلحة والذخيرة بصخرةٍ لم تكن
ظاهرة. فشلت كل جهود إنقاذها، فكان لا بد من تركها وعليها معظمُ
حمولتها.
بالنسبة لأهالي فينيسيا الذين كانوا قد احتفلوا مؤخرًا باستعادة
خيوس، كان خبرُ فقدانها مدعاةً للغضب أكثرَ منه للأسى. طلب مجلس النواب
إجراءَ تحقيق فوري، تم أثناءه إحضارُ البائس زن، وعدد كبير من ضباط
الأسطول مكبَّلين بالسلاسل. مات زن في السجن ولم يكن التحقيق قد انتهى.
لم يُعلَن عن نتائجه.
•••
لم ينهزم الأتراك، ولكن الذي لا شك فيه أنهم أصيبوا بأضرارٍ بليغة،
وبدَوا مرحِّبين بفرصةٍ للتفاوض على السلام. من جانبه، كان الإمبراطور
ليوبولد متلهفًا على ذلك، ويتمنَّى أن يقدِموا على تلك الخطوة؛ لأنه
كان يدرك أن هناك كارثةً جديدة في الطريق — ليس على حدوده الشرقية هذه
المرة وإنما في الغرب؛ حيث كان شارل الثاني ملِك إسبانيا شبه المجنون
(لم يكن له أولاد) يقترب من الموت. كان هناك متنافسان رئيسيان على عرشه
— ليوبولد نفسه، ولويس الرابع عشر ملك فرنسا، وكلاهما حفيدُ فيليب
الثاني وصِهر فيليب الرابع — وكان المفهوم أن ليوبولد كان يريد أن
يتفرَّغ للصراع القادم. ولأن إنجلترا وهولندا المذعورتين كانتا تخشيان
أن تتَّحد فرنسا وإسبانيا تحت قيادة لويس، عرضتا التوسط لدى السلطان؛
أما بولندا وفينيسيا، على افتراض أنهما سوف تحتفظان بالأراضي التي
قامتا بغزوها، فكانتا سعيدتين بترك السلاح بعد خمسة عشر عامًا من
الحرب. تمَّت الترتيبات بسرعة، وفي الثالث عشر من نوفمبر ١٦٩٨م، التقت
كلُّ القوى المعنية في «كارلوفيتز Karlowitz» في المجر (الآن مدينة «سريمسكي كارلوفيشي Sremski Karlovici»
الصربية).
لم تمضِ المفاوضاتُ بسهولة كما كان متوقعًا؛ حيث أشار ممثلو السلطان
إلى أن سيدهم الذي لم يستسلم لا يجد سببًا يجعل المطلوب منه أن يتخلى
عن كل الأراضي الموجودة الآن في أيدٍ مسيحية. كان في ذهنه ممتلكاته في
البحر الأبيض بشكلٍ خاص. فينيسيا يمكن أن تأخذ البيلوبونيز، ولن تكون
تلك مشكلةً بالنسبة له، كما يمكنها الاحتفاظ ﺑ «ليوكاس» من جهة، وببحر
إيجه من جهة أخرى، وبعدد من القلاع على ساحل دالماشيا. أما هو فكان
مصرًّا على الاحتفاظ ﺑ «أثينا» و«أتيكا» وكل الأراضي اليونانية شمال
خليج كورنتة. اعترض ممثل فينيسيا بشدة، ولكن أحدًا لم يدعم موقفه بقوة.
الإمبراطور، بعد أن أصبح متأكدًا من المجر وترانسلفانيا، كان متلهفًا
على العودة إلى وطنه بأسرعِ ما يمكن، وأفهم الفينيسيين أنهم إذا
صمَّموا على إثارة قلاقل، فإنه لن يتردَّد في توقيع سلام منفرد. ظلَّت
الإمبراطورية تجادل فترةً من الزمن، وعند توقيع الاتفاقية في السادس
والعشرين من يناير ١٦٩٩م لم تكن بين الموقِّعين. إلا أن الحكمة انتصرت
في آخرِ الأمر على المكابرة، وفي النهاية وضع الدوج ختمَه في السابع من
فبراير.
كان أمرًا طيبًا أن يفعل ذلك؛ حيث إن اتفاقية كارلوفيتز كانت الوسيلة
الدبلوماسية قبل غيرها، التي تسجِّل اضمحلال القوة العثمانية، وكان ﻟ
«فينيسيا» التي واجهت تلك القوةَ مباشرةً أكثرَ مما فعلت أيُّ دولة
مسيحية أخرى، كان لها الحق أكثر من غيرها في أن تكون جزءًا منها. من
ناحية أخرى، فإن تخليها الاضطراري عن جزءٍ مهم من فتوحاتها لم يكن مجرد
لطمة لاحترامها لنفسها، بل إن ذلك جعل من الصعب عليها بالقدْر نفسه أن
تدافع عن الجزء الباقي. لم يكن هناك الآن شيء يمنع الأتراك من غزو
البيلوبونيز من أتيكا، ولا — في الحقيقة — من أي مكان على امتداد
الشاطئ الشمالي لخليج كورنتة، وهو ما سوف يثبتونه قبل مرور وقت
طويل.
هوامش