الفصل الحادي والعشرون
نابوليون الصغير
***
نابوليون بونابارت
١ كورسيكيُّ المولد، وبذلك فهو من أبناءِ البحر الأبيض
المتوسط. عندما وُلد في ١٧٦٩م كانت كورسيكا قد أصبحت فرنسية قبل أشهر
قليلة؛ وبصرف النظر عن لكنةٍ محليةٍ مميزة، كانت قد بقيت إيطاليةَ
اللغة والثقافة تمامًا. كان أبوه «كارلو ماريا
Carlo Maria» أحدَ ضباط باسكوال باولي المخلصين، ونشأ
الطفل كورسيكيًّا وطنيًّا متحمسًا، يكره الفرنسيين باعتبارهم مغتصبين
لبلاده. بالمقاييس الكورسيكية، كانت الأسرة غنيةً وعلى مستوًى راقٍ من
التعليم: كان لدى والده ميولٌ أدبية قوية رغم أن ذلك لم يمنعه من
اللجوء إلى التلال مع باولي للمشاركة في حربِ عصاباتٍ طويلةٍ ضد
الفرنسيين، وكان بعد انتصارهم النهائي فقط، أن قبِل بما هو حتمي. لم
يكن «آل بونابارت
The Bonapartes» من النبلاء — كانت
طبقة النبلاء الكورسيكية شيئًا مختلِفًا — ولكنهم كانوا مُلاك أراضٍ،
لديهم ضِياعٌ زراعية متناثرة، واستطاع كارلو ماريا — على نحوٍ ما — أن
يتمكَّن من تأهيلِ ابنه وهو في التاسعة، لتعليمٍ ابتدائي مجاني في
مدرسة عسكرية في «برين
Brienne»، كانت
تُدار بأسلوب الأديرة.
كان نابوليون محتقَرًا من أقرانه الذين كانوا يعتبرونه من أصولٍ
كورسيكية متواضعة، وبسببِ لكنتِه الفرنسية الثقيلة؛ ولذا لم يكن غريبًا
أن يصبحَ نكِدَ الطبع منطويًا على نفسه، وأن تنتابه أحيانًا نوباتٌ من
العنف. إلا أنه كان طالبًا متفوقًا يعمل بجِد، كما حقَّق له نبوغه في
الرياضيات مكانًا في «المدرسة
العسكرية
Ecole Militaire» الوطنية
٢ في باريس، في أكتوبر ١٧٨٤م. حتى هنا، لم يكن يخفي وطنيته
الكورسيكية، كان يضرب بقبضته أو بأي سلاح يقع في يده كلَّ مَن يسخر
منه، إلا أنه كان يعمل بجِد أكثرَ من أي وقتٍ مضى. في سبتمبر ١٧٨٥م،
تخرَّج ضابطًا وكان ما زال في السادسة عشرة. أُرسِل أولًا إلى مدرسة
تدريب المدفعية في «فالينس
Valence»،
ثم إلى «أوكسون
Auxonue» في
«بورجندي
Burgundy» في ١٧٨٨م؛ وكان
هنا أن سمِع الأخبار التي كانت لتغيِّر حياته. في الرابع عشر من يوليو
١٧٨٩م كان الباستيل قد سقط، وكانت فرنسا في حالة ثورة. بعد شهرٍ، أعلنت
كتيبتُه العِصيان.
ولأنه كان بطبيعته كارهًا ﻟ «النظام القديم
ancien regime»، ألقى نابوليون بنفسه في خِضم القضية
الثورية. فكَّر في أن يذهبَ إلى باريس مباشرةً، إلا أنه على ضوءِ
الفوضى العارمة في العاصمة، فضَّل العودةَ مؤقتًا إلى وطنه؛ حيث كان
واثقًا من قدرته على تشكيل الأحداث. كان أبوه قد مات في ١٧٨٤م وهو في
الثامنة والثلاثين فحسب؛ وبعد أن عاد إلى كورسيكا، وبالرغم من وجود
شقيقه الأكبر «جوزيف
Joseph»، جعل
نابوليون من نفسه ربَّ العائلة، مواصلًا اهتمامَه بالأسلوب الكورسيكي
بكلِّ ما يستطيع من سُبل. في وقتٍ قصير، كان نفوذه قد تجاوز حدودَ
العائلة. كان أول مَن صاغ ووقَّع رسالة ﻟ «الجمعية الوطنية
National Assembly» في باريس يطلب
اتخاذَ إجراءات ضد «الملكيِّين
Royalists»
٣ الذين كانوا ما زالوا مسئولين عن الجزيرة، وهي رسالةٌ يبدو
أنها كانت — إلى حدٍّ كبير — سببًا في قرار الجمعية الذي صدر بعد وقت
قصير، يعلن كورسيكا جزءًا من الدولة الفرنسية. بقي هناك طوال العام
١٧٩٠م في الوقت الذي تم فيه انتخابُ البلديات التي سادها الجمهوريون في
«أجاشيو
Ajaccio» وغيرها من المدن
الرئيسية؛ وعندما تأسَّس «نادي أجاشيو اليعقوبي
Ajaccio
Jacobian Club»
٤ في يناير ١٧٩١م، كان أحد الأعضاء المؤسِّسين. في شهر
أكتوبر، وبعد انتخاباتٍ غير نزيهة، أصبح قائدًا لميليشيا محلية مكوَّنة
من متطوعين. من أسف أنه اختلف هو وعائلته مع باولي العائد، الذي بينما
كان يناضل من أجل استقلال كورسيكا، كان هو حاكم الأمر الواقع للجزيرة
تحت الفرنسيين، ولم يكن ليستطيع الصبرَ الآن على المغامرين الثوريين
الذين كان يعتبر آل بونابارت منهم.
كان باولي محقًّا في موقفه من نابوليون، ووصلت الأمورُ إلى ذُروتها
عندما اقترح الضابط الشاب المغرور أن تَحلَّ كتيبة الميليشيا التي
يقودها محلَّ الحامية الفرنسية في قلعة أجاشيو. رفض باولي الفكرةَ
غاضبًا بشدة، بينما قام نابوليون — بمبادرة شخصية — بالهجوم على
القلعة. استمرَّ القتال ثلاثة أيام ومات فيه عددٌ كبير، ثم جاءت
تعزيزاتٌ فرنسية فاضطُر القائمون بالحصار إلى الانسحاب. أرسل باولي
تقريرًا إلى وزارة الحربية في باريس يفيد أن نابوليون كان قد تجاوز
إجازته المحدَّدة، وأنه إذا كان يريد الاستمرارَ في عمله العسكري، فلا
بد أن يعودَ لتفسيرِ ما حدَث. في آخر مايو ١٧٩٢م عاد إلى باريس.
كان استقباله في الوزارة أكثرَ دفئًا مما كان يتوقَّع. كانت السلطات
أكثرَ ميلًا إلى قبول الوثائق المزيفة المختلِفة التي جاء بها من
كورسيكا لتفسيرِ غيابه الطويل، ولم يكن أمامهم سوى خيارٍ واحد: فرنسا
في حالة حرب، وهي في حاجة إلى كل فرد. منذ قيام الثورة، كان عدد كبير
من الضباط الملكيِّين قد تركوا الجيشَ مستائين، وكانت قوةُ الجيش
الآخذة في الضَّعف — وبخاصة في وحدات الخيَّالة والمدفعية — مدعاةً
لقلق كبير. من الستة والخمسين ضابطًا (بمستوى نابوليون) لم يكن قد بقي
سوى ستة ضباط.
كان كذلك يُعتبر في حكم المفقود، ولكن إذا كان هذا الابن الضال قد
عاد، فلم يكن لدى السلطات النيةُ أن تفقده مرةً أخرى. تناسَوا حدَث
قلعة أجاشيو، وأعادوه للعمل، وتمَّت ترقيته إلى رتبة «كابتن Captain».
قام بزيارة ﻟ «كورسيكا» مرةً أخرى — لا يوجد أيُّ تفسير لحصوله على
تلك الكمية من الإجازات التي كانت تتجاوز الأشهر — ولكنها هذه المرة
كانت بزعم مرافقة أخته «ماريانا Marianna»، التي كانت عائدةً من مدرسةِ الراهبات الملكية
في «سان كير Saint-Cyr»، وكانت مجبرةً
على الإغلاق بسبب الظروف — أبحر من مرسيليا في العاشر من أكتوبر. لم
يكن هناك ترحيبٌ من باولي … وكان ذلك متوقَّعًا؛ إلا أن نابوليون
تجاهله تمامًا وعيَّن نفسه برتبة مقدِّم في كتيبة المتطوعين، وهي
الرتبة التي كان عليه أن يتخلى عنها عند عودته إلى الجيش في باريس. بعد
ذلك، انغمس بكل قوة في حملةٍ لانتخابات أخيه جوزيف نائبًا عن كورسيكا
في الجمعية الوطنية.
ولكنه كان يدرك أن كورسيكا كانت تتحوَّل باطرادٍ إلى منطقةٍ خلفية
معزولة. لم تَعُد الثورة فرنسيةً محضة: كانت قد بدأت تصبح شأنًا
أوروبيًّا. في أبريل ١٧٩٢م، وبالرغم من الحالة المزرية للأوضاع المالية
وتدهور أحوال القوات المسلَّحة والفوضى السائدة في أرجاء البلاد، أعلنت
فرنسا الحربَ على النمسا، وبعد شهرين على بروسيا وسردينيا. كان أحدُ
أسباب هذه الأعمال العدوانية — ويا للتناقض — اقتصاديًّا: كانت الوسيلة
الوحيدة لكي تدبِّر الجيوش الفرنسية احتياجاتها من الطعام وغيره، هي
الحصول على ذلك من البلاد التي تقوم بغزوها؛ وحتمًا كانت المثالية
الثورية تلعب دورَها بالرغم من ذلك: فكرة أن كل شعوب أوروبا سوف تثور
على حكامِها في ظل صدمة الحرب، وأن روحَ الثورة سوف تنتشر في العالم.
لحسن الحظ لم يحدُث ذلك، ولكنَّ النجاح الأولي للجيوش الفرنسية فاق —
بكل تأكيد — كلَّ ما كان يمكن توقُّعه. في سبتمبر تم صدُّ جيشٍ نمساوي
بروسي غازٍ في «فالمي Valmy»، في
أكتوبر اجتاح جيشٌ فرنسي «أراضي
الراين Rhinel
Land»، وبعد شهر أَلحق جيشٌ آخرُ الهزيمةَ بالنمساويين
في «جيمابز
Jemappes» واحتلَّ
بروكسل وجزءًا من هولندا، بينما قام جيشٌ رابع بضم سافوي. في فبراير
١٧٩٣م أعلنت الجمعية الوطنية الحربَ على إنجلترا … وبعد شهر على
إسبانيا. في الوقت نفسِه تم إعدامُ الملك لويس السادس عشر على المقصلة
في ساحة الكونكورد، أمام حشدٍ يهتف ويهلل، في الحادي والعشرين من
يناير.
•••
وسط كلِّ هذه الدراما العالمية المثيرة، كان أول دور ﻟ «نابوليون
بونابارت» تافهًا لدرجةٍ مضحكة. كان باسكوال باولي قد تلقَّى تعليماتٍ
من باريس بدعمِ غزو سردينيا، ولكنه كان يكره أن يقومَ بشيء من هذا
القبيل. كانت سردينيا جارةً لكورسيكا وحليفًا طبيعيًّا، وكان ملِكها
صديقًا دائمًا لأبناء كورسيكا وقضيَّتهم، كما كان سخيًّا معهم في
الماضي ويقدِّم لهم المؤنَ والمواد التموينية. إلا أن الأوامر كانت هي
الأوامر؛ فأعطى موافقته على مضضٍ لقيام كتيبة ميليشيا أجاشيو بحملةٍ
للاستيلاء على جزيرة «لا
مادلينا La Maddelena» الصغيرةِ المواجهة لكورسيكا من ناحية ساحل
سردينيا الشمالي، وحمايتها، كما أسرَّ لابن أخيه قائدِ الحملة
الكولونيل «كولونا سيزاري Colonna
Cesari» بأنه سيكون من الجيد أن تكون العملية كلُّها
شكلية ولا تسفر عن شيء.
فهِم الكولونيل الإشارة. أبحرت الكتيبة — التي كانت سيئةَ التجهيز —
في العشرين من فبراير، وفي الرابع والعشرين كانت قد اتخذت مواقعها
للاستيلاء على الجزيرة. كان الكابتن بونابارت أحدَ ضباط تلك الكتيبة.
كان منذ بداياته يتمتَّع باحترافيةٍ عالية — وكانت صفة نادرة بين
أقرانه — وكان كلُّه ثقة من أن لا مادلينا ستكون في أيديهم في غضون
ساعات قليلة؛ إلا أن سيزاري فسَّر تذمُّر عدد قليل من البحَّارة على
أنه بداية تمرُّد، وأمر بعودة الحملة فورًا إلى كورسيكا. اعترض
نابوليون بشدة، ولكنه فشِل في أن يفرض رأيه. وفي امتهانٍ أخيرٍ له،
أُجبِر على تعطيل اثنين من مدافعه مؤقتًا بوضع مسمارين كبيرين في
فوَّهتيهما وإعادتهما بالبحر؛ ثم وجَّه رسالةَ احتجاج غاضبة إلى باولي،
وأرسل نسخًا منها إلى وزير الحربية في باريس وإلى النائبِين
الكورسيكيِّين. في ذلك الوقت نفسِه تقريبًا، كان باولي هدفًا لهجومٍ
آخرَ، هذه المرة من «لوسيان
بونابارت Lucien
Bonaparte» شقيقِ نابوليون، وذلك في كلمةٍ ألقاها في
النادي اليعقوبي في طولون. أعلن لوسيان أن باولي كان خائنًا لفرنسا،
وأن هدفه الوحيد كان تسليم كورسيكا للبريطانيِّين. تركت كلماته تأثيرًا
كبيرًا في الجمعية الوطنية في باريس، الأمرُ الذي أدَّى إلى صدورِ أمرٍ
بالقبض على الجنرال فورًا وإرسال ثلاثة مفوَّضين للتحقيق في الاتهامات
المنسوبة إليه.
وجد المفوَّضون أن الجزيرة كانت معاديةً بشكل صحيح. كان باولي إلى
حدٍّ ما هو كورسيكا، وكان شعبه مستعدًّا للقتال من أجله ضد
البونابارتيِّين وضد الجمعية … وضد أي أحد. وما زاد الطين بِلة أن
لوسيان، بكل غباء، أرسل إلى أخيه رسالةً كان من ضِمن ما فيها: «لا بد
من إلقاء القبض على باولي وبوزو
Pozzo.
٥ إن مصيرنا يتقرَّر.» كانت شرطة باولي قد اكتشفت هذه
الرسالةَ قبل وصول المفوَّضين، ونتيجةً لذلك كان آل بونابارت قد أُدينو
ﺑ «اللعن والخزي الدائم»، وهي تهمةٌ تعادِل حُكم الإعدام بحسب ميثاق
الشرف الكورسيكي. كان البقاء على الجزيرة يعني المخاطرةَ بأن يكون
عُرضة للقتل، هذا بالإضافة إلى أن باولي كان قد بدأ عِصيانًا مسلحًا ضد
الفرنسيِّين، وكانت الجزيرة على شفا حربٍ أهلية. للحظة، طرأ على ذهن
نابوليون القيامُ بتمرُّد جمهوري مضادٍّ لصالحه بهدف الاستيلاء على
أجاشيو، وقلب الطاولة على أعدائه، إلا أن الوقت كان قد فات. كان من
الواضح أنه لم يَعُد له مستقبل في كورسيكا. بحلول منتصف يونيو، كان هو
وكل عائلته في الطريق إلى فرنسا.
التحق بعد عودته بالجيش مرةً أخرى، وعندما وجد نفسه في نيس في مطلع
سبتمبر اتصل بصديقه القديم، رفيقه الكورسيكي «جان كريستوف
ساليسيتي
Jean Christophe Saliceti». كان ساليسيتي أحدَ اثنين هما «ممثِّلا الشعب»
مع جيش الثورة في إيطاليا؛ في ذلك الوقت كان يحاصر طولون التي كانت
القوات البريطانية والإسبانية قد احتلَّتها قبل نحو أسبوعين. تصادف ذلك
مع كون قائد المدفعية كان قد أُصيب بجراحٍ شديدة قبل بضعة أيام، وكان
من الضروري إيجادُ بديل له، ووجد ساليسيتي في الكابتن بونابارت الرجلَ
المناسب. لم يكن بونابارت يتمنَّى ما هو أفضلُ من ذلك. تدريجيًّا، كانت
وطنيته الكورسيكية قد بدأت تدخل عالَم النسيان. من الآن فصاعدًا، سيصبح
فرنسيًّا … فرنسيًّا بالفعل كما لم يحدُث من قبل.
كانت حالة الجيش التي وجده عليها أمام طولون كفيلةً بجعل أي ضابط
محترف يبكي حسرة. كان معظم الملكيِّين القدامى قد هاجروا ليحل محلَّهم
متطوعون جمهوريون بلا خبرة، وكانت المدفعية عبارةً عن عدد صغير من
المدافع والهاونات القديمة غير الصالحة، ولم تكن هناك ذخيرة لمعظمها.
من الناحية الإيجابية لم يكن هناك سوى نابوليون نفسِه، أحدِ قلة من
المحترفين بين ضباط الجيش الإيطالي كلِّه. صحيح أنه كان مجرَّد كابتن
(نقيب) إلا أنه كان يحظى بدعم ساليسيتي … وكانت عبقريته كفيلة بالباقي.
كان من بين أول إجراءاته أن أرسل يطلب مدافعَ ثقيلةً من نيس ومرسيليا
(التي قدَّمت كذلك خمسة آلاف كيس رمل)، كما طلب معدَّات أخرى من قلاع
«مارتيجيوس Martigues» و«أنتيب Antibes» و«موناكو Monaco»، وطلب الأخشاب من «لي كيوتات Le Ciotat» لبناء أرصفةٍ ملائمة، وأنشأ ترسانةً حقيقية،
وورشةَ إصلاحٍ زوَّدها بالحدَّادين والنجَّارين. إلا أنه سرعان ما وجد
نفسه، من البداية، في خلافٍ مع قائده الجنرال «كارتو Carteaux» الذي كان معقولًا من الناحية
السياسية، وأحمقَ من الناحية العسكرية؛ إذ كان كل همِّه أن يطلِق على
المدينة أكبرَ كمية من النيران. أما نابوليون، فعندما وجد أن مفتاح
مقاومتها المستمرة كان هو الأسطول البريطاني بقيادة «الأدميرال لورد هود Admiral Lord Hood»، الذي كان
موجودًا بالقرب من الساحل؛ فقد صمَّم بكل قوة على الاستيلاء على شبه
الجزيرة الصغيرة «لوكير Le Caire»،
التي يمكنه أن يطلق منها قذائفَ مدافعه الملتهبة على سفن هود. وأخيرًا،
بمساعدة ساليسيتي، استطاع أن يحصل على موافقة كارتو — المتردِّد دائمًا
— على القيام بذلك.
فشِلت المحاولةُ الأولى للاستيلاء على لوكير؛ حيث كان كارتو — الغاضب
لتخطيه — قد وافق على أن يقوم أربعمائة فرد فقط بالمهمة. وبفضل نفوذ
الماجور بونابارت (كان قد رُقِّي مؤخرًا) تم طرد الجنرال العجوز، الذي
لا رجاءَ منه، من الخدمة في شهر أكتوبر ليخلفه الجنرال «جاك فرانسوا
دوجومييه Jacques Francois Dugommier»، الذي كان قد التحق بالجيش في سنِّ الثالثة
عشرة. كان دوجومييه ضابطًا محترفًا، وسرعان ما فطِن لعبقرية مرءوسة
ودعمه بقوة، وكانت النتيجة القيامَ بهجوم واسع على «قلعة مالجريف Fort Mulgrave»، التي كان
البريطانيون قد شيَّدوها مؤخرًا على أعلى نقطةٍ في لوكير. حدَث ذلك في
السابع عشر من ديسمبر أثناء مطرٍ غزير، إلا أن الهجوم نجح تمامًا؛ وفي
الصباح الباكر أخلَت الحامية البريطانية القلعةَ، بينما رفعت سفن هود
مراسيها بسرعة وولَّت الأدبار في البحر. في اليوم التالي، التاسع عشر
من ديسمبر ١٧٩٣م، كانت طولون قد عادت فرنسية.
لم يكن لدى أحدٍ شكٌّ بخصوص صاحب الفضل في ذلك. نابوليون بونابارت
الذي قُتل حصانه تحته، وجُرح بطعنةِ حربة في فخذه، ثبَت أنه كان
محقًّا. كان دوجومييه قد بعث بالفعل بتوصيةٍ عاجلة — ونبوئية — إلى
وزير الحربية في باريس:
Rècompensez, avancez ce jeune home,
car, silon ètait ingrant envers, luI il S, avancerait de lui-
mème.٦
بعد ثلاثة أيام من استعادة «طولون» تم تعيينه «بريجاديرا Brigadier»، ولم يكن قد تجاوز الرابعة
والعشرين.
فشِلت حملة كورسيكا في مارس ١٧٩٥م، وكانت قد تأخَّرت طويلًا. كان
الأسطول البريطاني يقف بالقربِ من الجزيرة مستعدًّا، وكان من الصعب على
ناقلات الجند والمعدَّات العسكرية الفرنسية أن ترسوَ. مرة أخرى، في
لحظةٍ ما، كان يبدو أن الحظ قد تخلَّى عن نابوليون. عاد إلى باريس في
إجازةٍ مَرضية رسمية، وراح ينتظر فرصتَه التالية، التي جاءت في الخامس
من أكتوبر — الثالث عشر من «فيندميير
Vendèmiair» بالتقويم الجمهوري الجديد
— عندما أمرَه «بول
باراس Paul Barras»، قائدُ «جيش الداخل Army of
the Interior» بإخماد
تمرُّد ملَكي كان متوقعًا. لم يتردَّد، كانت الانتفاضات الكورسيكية ما
زالت في ذاكرته. لن يكون هناك تفاوضٌ، وفَضَّل أن يضع ثقتَه في
المدفعية الثقيلة. انفجر قتالٌ ضارٍ في «تويلرييه Tuileries» مع خسائرَ فادحةٍ في الطرفين، إلا أن النتيجةَ
النهائية لم تكن محلَّ شكٍّ. عندما تأسَّست «حكومة الإدارة The Directory»، بعد أسبوع أو
أسبوعين، تم تعيينُ باراسي ليكون أولَ أعضائها الخمسة، كما عُيِّن
بونابارت قائدًا لجيش الداخل. وفي مارس ١٧٩٦م، عندما قرَّرت حكومة
الإدارة أن تشنَّ حملة جديدة على النمسا عبْر إيطاليا، كان ذلك الشاب
الكورسيكي المهيب الذي يجيد لغتين إيطاليتين، هو الاختيارَ الواضح
لقيادتها.
قبل مغادرته بوقتٍ قصير، وفي احتفالٍ مدني في الثامن من مارس ١٧٩٦م،
تزوَّج نابوليون بونابارت من إحدى «أرامل المقصلة» الكثيرات:
«جوزفين دو
بوهارنيه Josephine de Beauharnais»، التي كانت عشيقةً سابقة لصديقه باراس (كلاهما
كذب عن عمره؛ حيث قدَّم نابوليون الذي كان في السادسة والعشرين، شهادةَ
ميلاد شقيقه الأكبر جوزيف). بعد يومين، ودَّع عروسه وانطلق قاصدًا نيس
لتولي منصبه الجديد. كانت تلك بدايةَ حملةٍ طويلة ستكون واحدة من أعظمِ
حملاته، أما المهمة فكانت اجتياحَ الشمال الإيطالي ثم التقدُّم عبْر اﻟ
«تيرول Tyrol» في النمسا، لكي تقابل
في النهاية جيشَ الراين وتنقل الحرب إلى «بافاريا Bavaria». بدأت الحملة بتقدُّم في «بيدمونت Piedmont». لا أحد — ربما باستثناء
بونابارت نفسه — كان يمكن أن يتصوَّر سرعةَ وحجم النجاح: كل يوم
تقريبًا، كان يأتي بأخبار انتصارات جديدة، وفي آخرِ أبريل كانت بيدمونت
قد ضُمت إلى فرنسا، وشارل إيمانويل الرابع قد تخلى عن العرش وأوى إلى
سردينيا التي كانت قد بقيت تحت سلطته. في الثامن من مايو، عبَر
الفرنسيون نهر اﻟ «بو Po»، وبعد يومين
استولوا على الجسر الضيِّق على نهر «آدا Adda» عند «لودي Lodi»،
وفي الخامس عشر من الشهر نفسِه، دخل بونابارت ميلان رسميًّا.
كان جيشه — بالطبع — يعيش اعتمادًا على الأراضي التي تم غزوها،
يستولي على ما يريد من مؤن ويصادر الأغذيةَ وأماكن الإيواء المطلوبة،
ولكن ذلك لم يكن كافيًا بالنسبة لحكومة الإدارة. كانت تعليماتهم تقضي
بفرض جباية سواء على الولايات الإيطالية أو الكنسية، ليس لإعالة القوات
فحسب، وإنما لإرسالها إلى باريس كذلك. كان نابوليون ينفِّذ تلك
التعليمات حرفيًّا. كان دون «بارما Parma» — المحايد — على سبيل المثال، مجبرًا على تسليم
مليوني كتاب فرنسي، وعشرين من أفضل صوره التي يختارها القائدُ العام
بنفسه؛ كما لم يستطِع سوى عدد قليل من المدن الرئيسية الإفلاتَ من
تسليم مقتنياتها من رسوم «رافائيل
Raphael» و«تيتيان Titian» و«ليوناردو Leonardo». وجد كثيرٌ من هذه الأشياء طريقَه إلى اللوفر
وغيره من المتاحف الفرنسية؛ حيث ما تزال موجودة إلى اليوم.
باحتلال ميلان، كانت لومبارديا كلُّها قد أصبحت في يد الفرنسيِّين
باستثناء مانتوا Mantua. ولكنَّ
النمساويِّين كانوا ما زالوا يقاتلون بإصرار، لدرجةِ أن نجِدَ بونابارت
يعترف، في الثالث عشر من نوفمبر، لحكومة الإدارة — في لهجة بين الإرهاق
واليأس — بمخاوفِه من أن تضيع إيطاليا كلُّها في غضون وقت قصير. لم
ترتفع روحه المعنوية مرةً أخرى سوى في أوائل العام ١٧٩٧م. في الرابع
عشر من يناير حارب النمساويِّين في «ريفولي
Rivoli»، وهي قريةٌ تقع شمالي فيرونا بنحو أربعة عشر
ميلًا، بين نهر «أديج Adige» وبحيرة
«جاردا
Garda» فقد ٢٢٠٠ جندي ولكن
جيشه قتل ٣٣٠٠ جندي للعدو وأسرَ ٧٠٠٠ آخرين. في اليوم التالي أسرَ
قائده الجنرال «جوبير Joubert»، الذي
كان يطارد النمساويين الفارين، ستة آلاف آخرين، في الوقت نفسه كان
«أندريه ماسينا André Masséna»، زميل
جوبير، قد زحف جنوبًا طوال الليل فطوَّق وأسرَ طابورًا نمساويًّا آخر
ليصبح معزولًا خارج مانتوا. منذ ذلك اليوم، أصبحت مانتوا معزولةً
تمامًا، دون أملٍ في أيِّ إنقاذ أو نجدة، وفي الثامن من فبراير استسلمت
حاميتها التي كانت تتضوَّر جوعًا، وتم أسرُ ستة عشر ألف جنديٍّ
والاستيلاء على ألف وخمسمائة مدفع أخرى. وأخيرًا كان الطريق قد أصبح
مفتوحًا لغزو النمسا. صحيحٌ أنها كانت تقع عبْر أراضي فينيسيا
المحايدة، ولكن ذلك لم يكن مهمًّا. لم يكن النمساويون يضعون مثل تلك
الأمور في الاعتبار؛ فقد كانوا يعبرون الأراضي الفينيسية باستمرار دون
عوائق. ولكن، إذا كانت فينيسيا لم تحتجَّ — وكانت أهواؤها الملَكية
معروفة — فالمؤكَّد أن نابوليون كان لا بد من أن يحتجَّ، مستغلًّا كلَّ
فرصةٍ لتوعُّد، وربما تهديد، السلطات الفينيسية المحلية. ما لم يكونوا
يعرفونه، هو أن غضبه في مثل تلك الظروف لم يكن سوى ادعاء أو تظاهر، وأن
معظم تهديداته كانت فارغة. لم يكن هدفه الرئيسي في تعاملاته مع
الفينيسيِّين في ذلك الوقت هو استغلال مساعدتها ولا حتى إقناعها
باتخاذِ خطٍّ أكثرَ حيادية، كان هدفه، بالأحرى، إرهابها، أن يجعلها
تشعر بالذنب وعدم الكفاءة، أن يجرح كبرياءها وثقتها بنفسها، بحيث تنخفض
مقاومتها المعنوية إلى نفس مستوى مقاومتها المادية.
بالقرب من أواخر مارس ١٧٩٧م، قاد نابوليون جيشَه صوب الشمال إلى
«تيرول Tyrol» عبْر «ممر بركسن Brixen Pass»، ومن هناك اتخذ طريقه إلى
فيينا تاركًا خلفه حامياتٍ صغيرة في «بيرجامو Bergamo» و«بريشيا Brescia»، وقوةً أكبرَ قليلًا في فيرونا. يبدو أنه كان
يضمِر أمرًا: أن يخلق حالةً ثورية بين الفينيسيِّين، وأن يدعم
انتفاضاتٍ ضد فينيسيا أينما كان ذلك ممكنًا. كان الخطر — بالطبع — أن
تنقلبَ هذه الانتفاضات ضد الفرنسيِّين أنفسهم، وهو ما حدَث بالفعل؛ ففي
يوم السابع عشر من أبريل، وكان يوم إثنين الفِصْح، خرج الناس في فيرونا
في عِصيان مدني بالرغم من قوة الحامية. عُرِف ذلك العِصيان الذي سقط
فيه عددٌ كبير من العسكريين والمدنيين الفرنسيين ﺑ «الفِصْح الفيروني
Paques Véronaises». وقعَت أحداث
مماثلة — وإن أقل حجمًا — في بيرجامو وبريشيا، رغم أنها كانت موجَّهة
ضد فينيسيا. إذا كان ذلك كلُّه من تدبير المحرِّضين و«عناصر الإثارة agents provcateurs» — كما يُعتقد —
فإن نابوليون كان يرى أن الخسائر تستحق العناءَ المبذول في سبليها؛ إذ
إنها كانت تقدِّم له ذريعةً إضافية للهجوم على جمهورية فينيسيا، التي
كان قد عقدَ العزم الآن على محوها من الوجود.
عندما وصلت أخبارُ هذه الانتفاضات وغيرها إلى فينيسيا، كانت هناك
حالةٌ أقربُ إلى الذعر. كل اليابسة Terra
firma، غربي نهر «مينسيو Mincio»، قد ضاعت بالفعل، وكان لا بد من حماية الحدود
الجديدة بأي ثَمن، وكانت الميليشيات المسلَّحة المكوَّنة من المزارعين
المحليِّين هي الأمل الوحيد. تم إبلاغ القائد الفرنسي المحلي الجنرال
«بالاند Balland» بنوايا فينيسيا، كما
تم التأكيدُ له أن الإجراءات المقترحةَ ستكون دفاعية، وأنها ليست
موجَّهة ضد الفرنسيِّين، وإنما ضد المتمردين من مواطني الجمهورية. ما
يبدو أن الجميع لم يكونوا يتوقَّعونه، هو أن أولئك المزارعين — كان لا
يقل عددهم عن عشرة آلاف — عندما يجدون في أيديهم أسلحةً لأول مرة، لن
تكون ضمائرهم حيةً عن استخدامها؛ من ناحيةٍ أخرى كانت هناك حساباتٌ
كثيرة معلَّقة لا بد من تسويتها مع الفرنسيِّين، الذين كانت جماعات
السلب والنهب من جنودهم، مطْلَقة اليدِ في الاستيلاء على محاصيلهم
وماشيتهم — وغالبًا زوجاتهم وبناتهم — في مساوماتهم معهم. لم يمرَّ
وقتٌ طويل، حتى بدأت عمليات القنص الخطرة. كان انتقام بالاند سريعًا
ووحشيًّا إلا أنه لم يكن مؤثرًا. في أوائل أبريل كانت كلُّ مظاهر
المجاملة والمعاملة المهذَّبة بين الفرنسيِّين والإيطاليِّين قد
اختفت.
في الطريق إلى فيينا، كان يتم إبلاغ نابوليون بتطوُّرات الوضع الذي
كان يزداد سوءًا. في العاشر من أبريل أملى إنذارًا موجهًا للدوج على أن
يتم تسليمه له شخصيًّا بواسطة مساعده الجنرال «أندوك جنوت
Andoche
Junot». وصل جنوت إلى
فينيسيا مساء الرابع عشر من أبريل، وكان موافقًا ليوم «الجمعة الحزينة
Good Friday».
٧ وطلب لقاءَ الدوج في وقتٍ باكر من صباح اليوم التالي. جاء
الرد مهذبًا وحاسمًا. يوم «سبت النور
Holy
Saturday»
٨ مكرَّس تقليديًّا للشعائر الدينية، ولا يمكن ممارسةُ أي
نشاط حكومي يوم السبت، ولا يوم أحد الفِصْح نفسه. أبلغوه أن الدوج
ومجلسَه
Collegio٩ يسعدهم استقبال الجنرال في أي وقت باكر صباح الإثنين. إلا
أن جنوت لم تكن الشعائرُ الدينية تعنيه، كما قال صراحةً. كانت أوامره
بأنه لا بد من مقابلة الدوج في غضون أربع وعشرين ساعة، وكان يعني أنه
لا بد من تنفيذ ذلك، وهدَّد بأنه إن لم يُحدَّد له موعد كما يريد، فسوف
يغادر وسيكون على فينيسيا أن تتحمَّل العواقب، وأن تلك العواقب لن تكون
محمودة.
وهكذا، عندما استقبله المجلس على مضضٍ صباح السبت كانت كرامته مجروحة
بالفعل. بقي الجنرال واقفًا متجاهلًا المقعدَ الذي طلبوا منه التفضُّل
بالجلوس عليه على يمين الدوج؛ ودون أي مقدِّمات جذبَ رسالة نابوليون من
جيبه وبدأ يقرأ:
جودينبرج - ٢٠ جيرمينال - عام ٥
البرُّ الرئيسي كلُّه لأكثر الجمهوريات سكونًا مسلَّح حتى
الأسنان. في كل ركن تدوي هُتافات الزارعين الذين سلَّحتهم وتُردِّد
«الموت للفرنسيين!» يزعمون أن بضع مئات من الجنود من الجيش
الإيطالي هم السبب. عبثًا تحاول إبعادَ المسئولية عن الميليشيات
التي صنعتها. هل تتصوَّر أنني بسبب وجودي في قلب ألمانيا، عاجزٌ عن
تحقيق الاحترام لأفضل شعب في الوجود؟ هل تتوقَّع أن تتسامح فيالق
إيطاليا مع المذابح التي تسبَّبت فيها؟ لا بد من الثأر لدمِ إخوتي
في السلاح، ولا توجد كتيبةٌ فرنسية واحدة، إن هي كُلِّفت بمثل هذا
الواجب، إلا وستشعر بمضاعفةِ قوَّتها وشجاعتها. لقد ردَّ مجلس
النواب الفينيسي على ما أبديناه من كرمٍ بأبشعِ صور الغدر … حرب أم
سلام هي؟ إن لم تُتَّخذ إجراءات فورية لحلِّ هذه الميليشيات، إن لم
يتم القبض على المسئولين عن المذابح الأخيرة وتسليمهم إليَّ، فسوف
نعلن الحرب — الأتراك ليسوا على أبوابكم. لا عدوَّ يهدِّدكم. لقد
اختلقتم ذرائعَ لتبرير حشد الناس ضد جيشي. سيتم تفريقهم في خلال
أربع وعشرين ساعة. لم نَعُد في عصر حكم شارل الثامن، ولو أنك ضد
المطالب الواضحة المحدَّدة للحكومة الفرنسية فسوف تضطرني لإعلان
الحرب. لا تظنَّ أن الجنود الفرنسيين سوف يتبعون أسلوبَ ميليشياتك
في سلب ونهب ريف أهالي اليابسة المساكين الأبرياء. سوف أحمي أولئك
الناس، وسيأتي اليوم الذي يباركون فيه الجرائمَ التي اضطرَّت جيشَ
فرنسا لتخليصهم من استبدادك.
بونابارت
في الصمت المطبِق الذي ساد، ألقى جنوت بالرسالة على الطاولة أمامه،
واستدار خارجًا من القاعة.
•••
في الوقت نفسِه كان نابوليون يواصل زحفَه. كان أسلوبه مع رجاله،
كالعادة، مرحًا وواثقًا، إلا أن قلقًا كان يتنامى بداخله لسببين، كان
أولهما استراتيجي: كانت إمدادات الجيش ضعيفة؛ إذ إنه كان محصورًا في
وديانٍ جبليةٍ ضيقة، ولم يكن هناك أملٌ كبير في التماس مؤن أو طعام —
ناهيك عن عمليات السلب والنهب — مع وجود سكان معادين من حوله، وجيش
نمساوي أمامه في الانتظار. أما السبب الثاني فكان أكثرَ خطرًا. كان
جيشه يكوِّنُ شُعبة واحدة فحسب من شوكة الهجوم الفرنسي؛ إذ كان هناك
أيضًا جيش الراين بقيادة منافسه الرئيس الشاب الذكي «لازار هوش Lazare
Hoche»، الذي كان الآن
يتقدَّم شرقًا بسرعةٍ مخيفة عبْر ألمانيا، وينذِر بالوصول إلى فيينا
قبله. كان ذلك احتمالًا لا يريد أن يفكِّر به. لا بد من أن يكون هو،
وليس سواه، قاهرَ إمبراطورية الهابسبورج. كان كل مستقبَله يتوقف على
ذلك. لن يسمح ﻟ «هوش» بأن يسرق انتصاره.
كان ذهنه في صراعٍ مع هاتين المشكلتين عندما — فجأةً وعلى نحوٍ أشبه
بالمعجزة — طلبت الحكومة الملَكية هدنةً وهي مذعورة. لا بد أنه كان من
الصعب عليه إخفاءُ ابتهاجه: توقيعه وثيقة كتلك سوف يوقف هوش في مكانه.
وهكذا حدَث في الثامن عشر من أبريل ١٧٩٧م، في قلعة «إسكنولد Eckenwald» المجاورة ﻟ «ليوبن Leoben»، أن تم توقيعُ اتفاق سلام مؤقت بين
نابوليون بونابارت باسم حكومة الإدارة الفرنسية The
French Directory — رغم أنه لم يحاول استشارةَ أحد —
والإمبراطورية النمساوية، بحسب شروط الاتفاق (بقيت التفاصيل سريةً إلى
أن تم تأكيدها في «كامبو
فورميو Campo Formio» بعد ستة أشهر)، كان على النمسا أن تتنازل عن كل
مطالباتها ﺑ «بلجيكا ولومبارديا»، وتحصُل في مقابل ذلك على
«إستريا Istria» و«دالماشيا Dalmatia» وكل أراضي اليابسة الفينيسية
التي تحدُّها أنهار «أوجليو Oglio»
و«بو Po» والأدرياتيكي. أما فينيسيا،
فيتم تعويضها — وهذا غير كافٍ تمامًا — بالمناطق البابوية السابقة في
«رومانا Romagna» و«فيرارا Ferrara» و«بولونيا Bologna».
لا بد من القول إنه لم يكن من حق بونابارت أن يتنازل، على هذا النحو،
عن أراضي ولاية محايدة. ربما كان من المحتمل أن يجادل بأن فينيسيا كانت
لم تَعُد ولاية محايدة، إلا أن قوانين الدبلوماسية الدولية لم تكن تنظر
بعين الرضا لتسوياتٍ سلميةٍ من هذا القبيل. وبالرغم من أن حياد فينيسيا
المعلَن قد يبدو فارغًا، سيكون عليها أن تخرج منه، وإذا ظهرت أثناء هذه
العملية بشكلٍ غير ملائم وربما عدواني، فسيكون ذلك أفضل. والآن، بفضل
الإحباط المعنوي لحكومتها، كانت تقدِّم ﻟ «بونابارت» فرصةً
مثالية.
لا يمكن إلا أن نشعرَ بالرثاء لكلٍّ من «فرانسيسكو دونا Francesco
Dona» و«ليوناردو جستنيان Lunardo Giustinian»، المبعوثَين
الفينيسيَّين اللذين أُرسلا إلى بونابارت حاملَين الردَّ على رسالته
وتعليماتٍ لاسترضائه وتهدئته قدْر المستطاع. حتى الجانب المادي من هذه
المهمة كان كريهًا بما يكفي. كان نابوليون معروفًا بسرعةِ تنقُّلاته.
الأيامُ والليالي المرهقة التي أمضياها وهما يحاولان اللَّحاق به،
وعورةُ الطُّرق الجبلية السيئة، التي لم يكن يقطعها سوى ساعاتٍ قليلة
للراحة في أماكنَ رديئة … كل ذلك كان، بالتأكيد، كابوسًا ثقيلًا
بالنسبة لاثنين مثلهما في منتصف العمر. كذلك، فإن معنوياتهما لم
تتحسَّن بسببِ ما كانا يتوقَّعانه من مشاهدَ عاصفة، كانا يعرفان أنها
في انتظارهما في النهاية. ولم يكن ذلك هو كل شيء؛ ففي كل قرية أو مدينة
كانا يتوقَّفان فيها كانت الشائعات نفسُها تحاصرهما. فرنسا عقَدت صلحًا
مع النمسا، وعلي مذبح هذا الصلحِ سوف يتم التضحية بفينيسيا.
استمرَّ السعي خلف نابوليون أكثرَ من أسبوع، وفي ٢١ أبريل كان
المبعوثان المرهقان يقفان في «جراز Graz» أمام المعسكرِ الفرنسي. استقبلهما بونابارت
باحترامٍ شديد واستمع صامتًا إلى تأكيدهما الصداقةَ بين الجانبين، ثم
تغيَّر مِزاجه فجأة. راح يذرع الغرفةَ جَيئةً وذهابًا، ثم انفجر في
تقريعٍ شديدٍ لفينيسيا وحكومتها وشعبها، متهمًا إياهم بالغدْر والنفاق
والظلم وعدم الكفاءة و«بربرية العصور الوسطى» والعِداء الشديد الذي
يضمرونه له ولفرنسا، وهو الأكثر خطورةً من وجهة نظره. طلب بونابارت
الإفراجَ الفوري عن السجناء السياسيِّين، متوعدًا أنه إن لم يتم ذلك
فسيقوم باقتحام السجون بنفسه، واستمر غضبُه وهو يتساءل عن الفرنسيِّين
الذين قتلهم الفينيسيون. قال إن جنوده مصرُّون على الثأر، وإنه لن
ينكرَ ذلك عليهم، مضيفًا أن أي حكومةٍ تعجز عن كبْح جِماح رعاياها، لا
بد أن تكون حكومةً حمقاء، وليس من حقها أن تبقى. ثم أنهى كلامه
بالعبارة المرعبة، التي سرعان ما راح صداها يتردَّد في قلب كلِّ
فينيسي: Io Saro un Attila per lo stato
Veneto: «سوف أكون أتيلًا بالنسبة لدولة
فينيسيا.»
عندما عاد المبعوثان إلى فينيسيا بروايتهما، شعرَ الدوج «لودوفيكو مانن Lodovico Manin» وزملاؤه بأن مصيرَ
الجمهورية المشئوم كان قد تقرَّر. كانت الحرب وشيكةً لا ريب فيها،
والتفاوض غير وارد، واليابسة مفقودة مفقودة. كان الأمل الوحيد في إنقاذ
المدينة نفسِها من الدمار هو الرضوخ لمطالب الغازي، وكانت تلك المطالب
مرعبةً بالفعل: ليس أقل من تنحِّي الحكومة كلِّها والتخلي عن الدستور
الذي كان قد استمرَّ أكثرَ من ألف عام … أي انتحار الدولة
بالفعل.
يوم الجمعة الموافق للثاني عشر من مايو ١٧٩٧م، اجتمع مجلس الشورى
لآخر مرة. كان معظم أعضائه قد غادروا المدينة، وكان عدد الحاضرين يقلُّ
عن النِّصاب القانوني (٦٠٠ عضو) بثلاثة وستين عضوًا، ولكنَّ وقتَ هذه
التفاصيل الصغيرة كان قد فات. كان الدوج على وشْك الانتهاء من كلمته
الافتتاحية عندما سُمع صوتُ إطلاق نار خارج القصر. فجأةً دبَّت الفوضى.
كان ذلك الصوت يعني شيئًا واحدًا بالنسبة للحاضرين: الانتفاضة الشعبية
التي كانوا يخشونها منذ فترةٍ طويلة قد بدأت. كان أملهم الوحيد في
النجاة هو الهربَ من القصر ما دام هناك وقت. في دقائق، عُرف مصدر إطلاق
النار: بعض قوات دالماشيا، الذين كان قد تم إجلاؤهم من فينيسيا بأوامرَ
من نابوليون، كانوا يقومون بتفريغ بنادقهم القديمة في الهواء تحيةَ
وداع للمدينة. ولكنَّ الفزَع كان قد بدأ ولم تَعُد التهدئة مجدية.
تاركين أروابهم الرسمية خلفهم، انسل الباقون من أعضاء المجلس التشريعي
من الأبواب الجانبية للقصر. كانت تلك نهايةَ السيرينيسيما
Serenissima.
لم يحاول لودوفيكو مانن نفسُه أن يهرُب. في الهدوء المفاجئ الذي ساد
بعد انفضاض الاجتماع، جمع أوراقَه ببطء وانسحب إلى مقر إقامته. وهناك
خلع تلك القلنسوةَ غريبة الشكل، التي كانت الرمز الرئيسي لمنصبه،
وأعطاها لخادمه الخاص قائلًا: خُذ هذه … لن أحتاجها ثانية.
•••
منذ تولِّي أولِ دوج في سنة ٧٢٦م إلى استقالةِ الدوج الأخير في
١٧٩٧م، تكون الجمهورية الفينيسية قد عاشت ١٠٧١ سنة، وهي فترةٌ تقلُّ عن
تلك التي عاشتها الإمبراطورية البيزنطية بنصف القرن. على مدى معظم تلك
الفترة، كانت فينيسيا باعترافِ الجميع، هي سيدةَ المتوسط سياسيًّا
ودستوريًّا وتجاريًّا وفنيًّا ومعماريًّا. كانت أعجوبةَ العالم. كان
يمكن أن يكون من دواعي السرور تسجيلُ نهايةٍ أقلَّ خزيًا، لو أن شعبها
كان قد أظهر — عندما بدأت جمهوريته تترنَّح — ومضةً من الثبات والشجاعة
التي أظهروها في الدفاع عن مستعمراتهم ضد الأتراك، أو تلك التي سيبديها
أحفادُهم ضد النمساويين بعد ذلك بنصف القرن. إن المرء لم يكن لِيطلُب —
وبالتأكيد ما كان ليتوقَّع — مقاومةً بطولية مثل تلك التي شُوهدت على
أسوار القسطنطينية في ١٥٤٣م: مجرد ومضة من الروح الفينيسية القديمة
التي كان يمكن أن تجعل اﻟسيرينيسيما تدخل التاريخَ بأقل القليل من
الشرف، ولكن حتى ذلك لم يكن موجودًا. المأساة الأخيرة لفينيسيا لم تكن
موتها … وإنما الطريقة التي ماتت بها.
وهكذا كان أن حصلت النمسا على أكثرَ مما كانت تتوقَّع بموجب اتفاقية
كامبو فورميو
Campo Formio التي
وقَّعتها في السابع عشر من أكتوبر؛ ليس اليابسة الفينيسية فحسب، بل
والمدينة نفسها. كان نابوليون سعيدًا. كان يعتقد دائمًا — وربما عن
حقٍّ — أن بإمكانه السيطرةَ على إيطاليا طالما بقيت مقسَّمة. وبالفعل،
أنشأ في ديسمبر ١٧٩٦م جمهورية سيسبادان
Cispadane
Republic،
١٠ بدمج دوقيات ريجيو ومودينا والولايات البابوية بولونيا
وفيرارا. وفي يونيو التالي، أسَّس الجمهورية الليجورية
Ligurian Republic في ميلان وعاصمتها
جنوة، وفي يوليو الجمهورية السيسالبينية
Cisalpine في ميلان. أما بالنسبة
لفينيسيا نفسِها فلم تطأ قدمُه أرضَها، ولم يكن لديه الرغبة في ذلك.
كان يراها — خطأ – بعينِ عقلِه دولةً بوليسية قمعية، سجونها تحت الأرض
مليئة بالسجناء السياسيِّين. في الوقت نفسِه كان هناك سلامٌ في كل
القارة الأوروبية. كانت إنجلترا الآن هي ما ينبغي غزوه وتدميره. وافقت
حكومة الإدارة وعيَّنت بونابارت قائدًا لجيش إنجلترا، ولكن بعد تفكيرٍ
استمر نحو عام، رفض الفكرةَ على مضض. ستكون التكلفة باهظة، كما أن
القوة البشرية اللازمة ليست متوفِّرة، وقبل ذلك كله كانت البحرية
الفرنسية في حالةٍ متردية، وليست ندًّا للبريطانية، وبلا قائد يمكن
مقارنته ﺑ «هود» أو «رودني» أو «سان فانسانت
St
Vincent» … وكلُّهم أقلُّ من «نلسون
Nelson».
كان البديل هو مصر. منذ ١٧٩٧م، كان وزير الخارجية «شارل موريس دي
تاليران-بيريجور
Charles-Maurice de Talleyrand-Périgord»
١١ قد اقترح إرسالَ حملة إلى مصر، وبعد ذلك بسبعة أشهر أصدر
مذكرةً مفصَّلة عن هذا الأمر. كان لا بد من أن تحتوي هذه المذكرة على
جزء يَدين وحشيةَ الحكام المحليِّين، ويؤكد ضرورةَ تخليص المصريين من
الظلم الذي تعرَّضوا له طويلًا؛ أما الجدير بالاهتمام أكثرَ من ذلك،
فكان اقتراحه إرسال جيش من ٢٠ إلى ٢٥ ألف جندي يمكن إبراره في
الإسكندرية واحتلال القاهرة، وبعد ذلك تتَّجه حملةٌ أخرى ضد الهند —
ربما عبْر قناة السويس التي يتم إنشاؤها على عجل. في الثامن من مارس
١٧٩٨م وافقت حكومة الإدارة رسميًّا. لن تكون هذه الفكرة مفيدةً فحسب؛
لأنها ستجد للجيش عملًا يقوم به، بل إنها كذلك سوف تُبعِد الجنرال
الصغير ليكون على مسافةٍ مأمونة من باريس، كانت الفكرة أيضًا توفِّر
فرصةً لاستلام الدَّور البريطاني في الهند وتحقِّق لفرنسا مستعمرةً
جديدة مهمة في شرق المتوسط. وأخيرًا، وإن كان أكثرَ إشكاليةً على نحوٍ
ما، سيحقِّق ذلك تحولًا رئيسيًّا للقوة البحرية الإنجليزية نحو الشرق،
الأمر الذي قد يجعل الغزوَ المؤجل ممكنًا في آخر الأمر.
بلا أدنى شكٍّ، تلقَّى نابوليون الأمرَ بحماسةٍ شديدة. كان منذ
طفولته مفتونًا بالشرق، كما كان مصرًّا على أن تكون للحملة أهدافٌ أخرى
غير تلك السياسية والعسكرية؛ ولذا جنَّد ما لا يقل عن ١٦٧ عالِمًا
لمرافقته، كان من بينهم علماءُ في العلوم الطبيعية ورياضيون وفلكيون
ومهندسون ومعماريون ومصوِّرون ورسَّامون. كانت مصر قد احتفظت بأسرارها
القديمة طويلًا … كانت فاكهةً حان قِطافُها. كانت البلاد فعليًّا تحت
حكم المماليك منذ ١٢٥٠م. في ١٥١٧م كان الأتراك قد غزوها وضمُّوها إلى
الإمبراطورية العثمانية، وكانت ما زالت جزءًا منها من الناحية العلمية؛
وبحلول منتصف القرن السابع عشر كان زعماء المماليك (الباكوات) هم
المسيطرين. لا شكَّ أن غزو فرنسا كان سيثير حفيظةَ واحتجاج السلطان في
القسطنطينية، ولكن إمبراطوريته رغم أنها لم تكن قد عُرفت بعدُ ﺑ «رجل
أوروبا المريض»، كانت قد غدَت ظلًّا مضمحلًّا لماضيها، وليس من الوارد
أن تمثِّل خطرًا كبيرًا. لسوء الحظ كانت هناك أخطارٌ أكثرُ أهمية. كان
تسليح سفن النقل الفرنسية الثلاثمائة هزيلًا وأطقمها غير مدرَّبة. صحيح
أنه كانت هناك حراسة من ٢٧ سفينة حربية كبيرة وفرقاطة، ولكن من المعروف
أن نلسون كان يجوب المتوسط، ولو أنه اكتشف وجودَهم فلن تكون أمامهم
فرصةٌ للهرب، ولا أمام الواحد والثلاثين ألف جندي الذين كانوا
عليها.
أبحر الأسطول على أربع دفعات منفصِلة، كانت الدفعة الأكبر هي تلك
التي خرجت من طولون، أما الثلاث الأخرى فانطلقت من مرسيليا وجنوة
وشفيتافيكيا شمالي روما. غادر نابوليون نفسه على سفينة العلم
«الشرق
Lorient»، من طولون في
التاسع عشر من مايو ١٧٩٨م. كانت مالطة محطَّته الأولى. كانت الجزيرة في
يد تنظيم فرسان سان جون منذ العام ١٥٣٠م، وكان الفرسان يديرون مستشفاهم
بكفاءة وإتقان، كما كانوا قد صمدوا ببطولةٍ نادرة أمام حصار الأتراك في
١٥٦٥م، أما كمقاتلين من أجل المسيحية، فكانوا قد أصبحوا أقلَّ حماسة.
عندما وصل بونابارت إلى الجزيرة يوم التاسع من يونيو، وأوفد رُسلَه إلى
المعلِّم الأعظم — كان ألمانيًّا يُدعى «فرديناند هومبيش Ferdinand Hompesch» — ليطلب
الإذنَ بدخول كل سفنه الميناء، تلقَّى ردًّا يقول إنه طبقًا لتعليمات
التنظيم (تنظيم فرسان الهيكل)، فإن الدول التي تكون في حالةِ حربٍ مع
دول مسيحية أخرى ليس مسموحًا لها بإرسالِ أكثرَ من أربع سفن في المرة
الواحدة؛ وجاء الرد سريعًا من السفينة «الشرق» يقول «إن الجنرال
بونابارت مصمَّم على أن يحصُل بالقوة على كلِّ ما ينبغي أن يحصل عليه
بموجب حُسن الوِفادة، وهي القاعدة الأساسية لتنظيمكم.»
بدأ الهجوم على الجزيرة فجرَ العاشر من يونيو. كان نصف الخمسمائة
والخمسين فارسًا من الفرنسيِّين ومعظمهم من كبار السن غير القادرين على
القتال. لم يقاوموا أكثرَ من يومين. صباح اليوم الثاني عشر من الشهر
طلبوا هدنةً، وفي تلك الليلة نفسِها وصل وفد إلى سفينة العلم (سفينة
القيادة). سوف يتخلَّى التنظيم عن سيادته على مالطة وجوزو
Gozo، ما دامت الحكومة الفرنسية تبذل
مساعيها الحميدةَ لتجدَ للمعلِّم الأعظمِ معتمديةً صغيرة يأوي إليها،
مع معاش ثلاثمائة ألف فرانك يمكِّنه من العيش بمستوًى يتناسب مع مركزه.
قبِل نابوليون، وشرع على الفور في وضعِ برنامج للإصلاح. في غضون أقلَّ
من أسبوع، كان قد استطاع أن يحوِّل الجزيرةَ إلى شيءٍ آخرَ أشبهَ
بمقاطعة فرنسية. صدرت أوامرُ بأن ترتدي الناس قبَّعات عليها شريطٌ من
الأحمر والأبيض والأزرق، أُلغيت العبودية، تم ترحيل ستمائة تركي وألف
وأربعمائة مسلم، تم تخفيض عددِ الأديرة وتقييد سلطة رجال الدين إلى
حدٍّ كبير، تم جمْع كلِّ الذهب والفضة من جميع الكنائس وكل الكنوز من
قصور الفرسان، بما في ذلك الآنيةُ الفضية التي كان التنظيم يستخدمها في
إطعام المرضى، وتحويلها إلى ثلاثة آلاف وخمسمائة جديلة لاستخدامها من
أجل صديرية نابوليون المضادة للرصاص، كما تُركت حامية من ثلاثة آلاف
جندي فرنسي بقيادة الجنرال «كلود
فوبوا Claude Vaubois»، وفي غضون أسبوع من وصوله، كان الأسطول مستعدًّا
لمواصلة رحلته. نابوليون نفسُه أبحر في التاسع عشر من الشهر.
إلا أن فرنسا لم تكن لتحتفظ بالجزيرة المنكوبة طويلًا. في سنة ١٨٠٠م،
ونتيجةَ غضب واستياء شديدين إزاء تصرُّفات فوبوا، الذي حاول أن يجعل
الفرنسيةَ اللغة الرسمية، وحاول أن يبيع بالمزاد كلَّ مقتنيات الكنيسة
الكرملية في «مدينا Mdina»، ثار أهالي
مالطة وقاموا — بقيادة رجال الدين — وألقَوا بقائد الميليشيا الفرنسية
من النافذة. استدعى فابوا كلَّ رجاله إلى «فاليتا Valleta»؛ حيث أغلق أبواب المدينة. منذ ذلك الوقت وجد
الفرنسيون أنفسَهم تحت الحصار. في الوقت نفسِه، لجأ المالطيون إلى
البريطانيِّين لكي يساعدوهم، ووصلت عدةُ سفن لمحاصرة أي سفن فرنسية قد
تحاول إنقاذَ الحامية. بعد ذلك بوقت قصير، كان أن وصلت قوةٌ بريطانية
تقدَّر بنحو ألف وخمسمائة جندي. ظل فابوا صامدًا على نحوٍ بطولي إلى أن
أصبح ما تبقى من المؤن لا يكفي إلا لثلاثة أيام، وذلك بسبب الحصار. بعد
ذلك سُمح له باستسلام مشرِّف وخروجٍ آمن للحامية معه — مما زاد من غضب
المالطيِّين الذين لم يُستشاروا — حاملًا جزءًا كبيرًا من الكنوز التي
كان رجاله قد نهبوها أثناء إقامتهم على الجزيرة.
بعد رحيل كل الفرسان والفرنسيِّين، كان أن وجد المالطيون أنفسَهم تحت
سلطة مفوَّض بريطاني مدني، إلى أن يتقرَّر مصيرهم على المدى الطويل. في
سنة ١٨٠٢م نصَّت اتفاقية «أميان
Amiens»
١٢ التي أعلنت السلام بين بريطانيا وفرنسا (رغم أن نابوليون
لم يكن ينوي تنفيذها إلا إذا كانت تناسبه)، نصَّت على عودةِ الجزيرة
إلى تنظيم فرسان سان جون، إلا أن المالطيِّين لم يكونوا يحسَبون أن
الفرسان كانوا يبدون تفضيلَهم للأمان الذي يوفِّره لهم التاج
البريطاني، وهو ما حصلوا عليه أخيرًا في ١٨١٤م، بموجب معاهدة الصلح في
باريس
Peace of Paris.
•••
ليلة الأول من يوليو ١٧٩٨م، بعد نحوِ أسبوعين من مغادرته مالطة، ألقى
الأسطول الفرنسي مراسيَه بالقرب من «مارابوت
Marabout»، التي تبعُد نحو سبعة أميال عن الإسكندرية. كان
إبرارُ ذلك العدد الكبير من الجنود وذلك الكم الهائل من العتاد بواسطة
سفن صغيرة (لم يكن متيسرًا سواها)، كان عمليةً طويلة وشاقة. بدأ ذلك في
وقتٍ متأخر بعد الظهر، عندما كانت عاصفةٌ قد بدأت تتجمَّع. كان نائب
الأدميرال فرانسوا - بول برييز ديجاليير
Francois-Paul
Bryes d’Aigailliers، قد نصح بتأجيل العملية إلى
الصباح التالي، ولكن نابوليون رفض أن يستمِع إليه. هو نفسُه لم يتمكَّن
من الوصول إلى الشاطئ إلا قبل منتصف الليل بقليل. لحسن حظه، لم تكن
هناك مقاومةٌ إلى أن وصل الجيش إلى الإسكندرية، وحتى هناك لم تكن
الأسوار المتهالكة ولا الحامية الصغيرة ذات جدوى كبيرة لتأجيلِ ما كان
محتومًا. كانت المدينة كلُّها في حالة متردية. كان عدد سكانها قد تناقص
من ثلاثمائة ألف (وهو ما كانت تزهو به أيام الرومان) إلى نحو ستة آلاف
من البشر … وكانوا في حالةٍ يُرثى لها. بصرف النظر عن عمود بومبي
Pompey Pillar (الذي لم يكن له علاقة
ﺑ «بومبي») ومسلَّة كليوباتره
١٣ (التي لم يكن لها علاقة ﺑ «كليوباتره»)، لم يكن هناك أي
شيء يذكِّر بأيام مجدِها وعزِّها.
بالنسبة للجيش الفرنسي إذن، جاء الاستيلاء على الإسكندرية بمثابةِ
خيبةِ أملٍ مفاجئة. كان قيظ يوليو مثبطًا للروح المعنوية، ولكن الرجال
الذين كانوا يتوقَّعون مدينةً رائعة الجمال — مع فرصٍ وفيرة للسلب
والنهب — ولم يجدوا سوى رُكام من الأكواخ الموبوءة، هؤلاء الرجال لم
يشعروا بخيبة الأمل فحسب، بل بأنهم خُدعوا. وجد نابوليون أن من الأفضل
ألا يعطيهم وقتًا للتفكير في ذلك، وأنه كان لا بد من التقدُّم نحو
القاهرة. متقدمين بحذاء الضفة الغربية من دلتا النيل، استولوا على رشيد
دون مقاومة، وفي الحادي والعشرين من يوليو واجهوا القوةَ الرئيسية لجيش
المماليك عند إمبابة. نصيحة نابوليون لقواته «أيها الجنود، إن أربعين
قرنًا من الزمان تُطِل عليكم من قمم هذه الأهرامات»، هذه النصيحة دخلت
التاريخ، إلا أنها لم تكن ضرورية؛ فقد كانت موقعة الأهرام أشبهَ بنزهة.
لم تكن سيوف المماليك، رغم حدَّتها وحُسن استخدامها، ندًّا لبنادق
الفرنسيين. دخل القاهرة في اليوم التالي، كانت أفضلَ من الإسكندرية
نوعًا ما، بالنسبة لجنوده، إلا أنها لم تكن رحلة سهلة.
في الوقت نفسِه كان نلسون يطارد السفن الفرنسية عبْر المتوسط.
مُضَلَّلًا نتيجةَ معلومات من سفينة من جنوة بأن بونابارت كان قد غادر
مالطة يوم السادس عشر من يونيو — أي قبل موعد مغادرته الحقيقي بثلاثة
أيام — أسرع نلسون إلى الإسكندرية، ولما لم يجد أثرًا للأسطول الفرنسي،
أبحر مرةً أخرى يوم التاسع والعشرين، ليبحث عنه، على امتداد سواحل
سوريا. نتيجةً لهذا الارتباك، كان أن عاد إلى مصر في الثانية والنصف
مساء الأول من أغسطس، ليجد ١٣ سفينة حربية فرنسية — كان لديه ١٤ سفينة
— وأربع فرقاطات، راسيةً في تشكيلِ قتالٍ خطي على طول ميلين في خليج
أبو قير، أحدِ مصبَّات النيل. إلا أنها كانت ما تزال على بُعد تسعة
أميال، وكان يلزمه ساعتان أخريان لكي يصل إليها، ووقتًا أطول من ذلك
بكثير لكي ينظِّم سفنَه في تشكيلِ قتالٍ مناسب. كانت المواجهات الليلية
في تلك الأيام محفوفةً بالمخاطر؛ وهناك خطرُ أن تجنح السفن في مياهٍ
مجهولة، وخطرٌ أسوأ وهو احتمال إطلاق النار بالخطأ على سفنٍ صديقة. في
مثل تلك الظروف كان معظم قادة البحر يفضِّلون الانتظارَ حتى الصباح؛
إلا أن نلسون عندما وجد أن الفرنسيِّين لم يكونوا مستعدين، وأن هناك
رياحًا شمالية غربية تسري، قرَّر أن يقوم بالهجوم فورًا. بدأ بإرسال
أربع سفن بالقرب من الشاطئ على امتداد أحد أجناب خط القتال الفرنسي،
بينما قام هو نفسه (من سفينة
القيادة Vanguard) بقيادة هجومٍ موازٍ من الجانب الآخر البعيد عن
الشاطئ، وهكذا كانت كل سفينة معادية معرَّضة لقصفٍ مدفعي متزامن من
الجانبين. كان ذلك نحو الساعة السادسة، واستمرت المعركة طوال الليل.
عند الفجر، كانت كل السفن الفرنسية عدا أربع منها، قد دُمرت أو وقعت في
الأسر، بما في ذلك سفينة القيادة
L’orient، التي قُتل عليها الأدميرال
برييز Brueys بقذيفة مدفع. ما زالت
السفن إلى الآن راقدةً هناك تحت مياه خليج أبو قير، مع كل الكنوز
المنهوبة من قصور وكنائس مالطة.
كانت موقعة النيل — كما أُطلق عليها — أحدَ الانتصارات الكبرى في
تاريخ نلسون.
١٤ بضربةٍ واحدة، لم يتم تدمير الأسطول الفرنسي فحسب، ولكنه
قطعَ اتصالَ نابوليون بفرنسا وتركه معزولًا وأحبط كلَّ خططه لغزو الشرق
الأوسط. كان لانتصاره، كذلك، تأثيرٌ بالغ الأهمية في الروح المعنوية
الفرنسية، بالرغم من أن هذا التأثير فيما يبدو لم يقع على معنويات
بونابارت. حتى قبل أن تبرُد مدافع السفن، كان نابوليون منهمكًا في
تحويل مصر إلى قاعدة استراتيجية. ما كان البريطانيون يحاولون تحقيقَه
في الهند شيئًا فشيئًا، كان هو يريد أن ينتهيَ منه في أشهرٍ قليلة. وضع
أنظمةً جديدة للإدارة والضرائب أكثرَ كفاءة، أنشأ سجلاتٍ للأراضي
الزراعية، أعطى أوامر بإنشاء مستشفيات، حسَّنَ خدمات الصحة العامة
وإضاءة الشوارع. كان العلماء والمهندسون الذين جاء بهم يعملون على حلِّ
مشكلات كثيرة مثل تطهير مياه النيل وصناعة البارود محليًّا.
ما فشِل فيه، ولم يكن ذلك مفاجئًا، كان محاولاته كسْبَ ثقة وتأييد
المصريين. بذل كلَّ ما في وُسعه، وانتهز كلَّ فرصة للتعبير عن إعجابه
بالإسلام، أصدر، حتى، بيانًا لشعب مصر ذهب فيه إلى مدًى أبعد:
أنا، أكثر من أيٍّ من المماليك، أعبدُ الله سبحانه وتعالى وأحترم
نبيه والقرآن الكريم … أيها المشايخ والقضاة والأئمة، قولوا لشعبكم
إن الفرنسيِّين أيضًا مسلمون مخلصون …
تبقى حقيقة أن رجاله كانوا يتصرَّفون وكأنهم قد امتلكوا البلاد. كانت
هناك هبَّات وانتفاضات على نطاقٍ ضيق باستمرار، وعمليات هجوم على
حاميات فرنسية منعزلة، أو اعتداءات على أفرادٍ فرنسيِّين في الشوارع.
في شهر أكتوبر تم إخمادُ ثورةٍ أكثرَ خطرًا بطريقة وحشية؛ حيث قُتل
أكثرُ من ثلاثة آلاف مصري، كما نُهِبَ الجامع الأزهر؛ ومنذ ذلك اليوم
أصدر بونابارت مرسومًا بقطع رأس أي مصري يحمل سلاحًا ناريًّا وإلقاء
جثته في النيل. لم يكن غريبًا أن تزداد كراهيته مع استمرار
الاحتلال.
وراء الحدود المصرية كذلك، كان الأعداء يتجمَّعون؛ ففي الثاني من
سبتمبر ١٧٩٨م، أعلن السلطان سليم الثاني الحربَ على فرنسا، وبدأ
الجزار، الحاكم التركي لسوريا، في حشد جيش. كان من السهولة بمكان أن
يتقدَّم هذا الجيش في اتجاه الجنوب ثم ينعطف عبْر شبه جزيرة سيناء
ليغزوَ مصر من ناحية الشرق؛ والأسوأ، أنه كان يمكن أن تحمله السفن
الإنجليزية إلى دلتا النيل مباشرة. وبدلًا من المغامرة بمواجهةِ مثل
هذا الاحتمال، قرَّر بونابارت أن يبادرَ بالفعل ويقوم بتدمير جيش
الجزار قبل أن يكتمل تشكيله. في الأول من فبراير ١٧٩٩م، زحف بجنوده
عبْر صحراء سيناء ودخل فلسطين. في السابع من مارس سقطت جدة؛ قُتل ٢٠٠٠
تركي وفلسطيني وتم اقتياد ٢٠٠٠ آخرين إلى البحر حيث أُطلق عليهم
الرصاص. وفي محاولةٍ لتحسين صورته بعد هذه الفظائع، زار القائد الأعلى
أحدَ المستشفيات، ويقال إنه قام — بناءً على نصيحة سيئة — بنقل أحدِ
موتى الطاعون لدفنه. لم يُصَب بالعدوى، ولكن يبدو أن أسلوب العلاقات
العامة هذا، لم يكن له أي جدوى.
كانت «عكا Acre»، هدفَه الثاني،
ولكن دفاعاتها كانت قويةً بعد أن كان الحاكم التركي قد حصل على
مساعداتٍ إضافية من البحرية البريطانية بقيادةِ الكومودور سير
«سيدني سميث Sidney Smith» الشهير
بهروبه من سجن المعبد في باريس إبَّان الثورة. كان سميث قد جاء معه
بصديقه الكولونيل «فيليبو
Phélippeaux»، وهو مهندس عسكري كان قد
درَس في المدرسة العسكرية مع بونابارت، وكان يستطيع الإسهامَ بخبرته
العسكرية القيمة في الدفاع عن المدينة. حاصر الجيش الفرنسي المدينةَ
لمدة شهرين، إلا أن سميث نجح في أسرِ السفن العسكرية الثمانية التي
كانت تحمل مدفعيةَ الحصار ومخازن التموين والذخيرة. لم يكن لدى
بونابارت سوى مدفعيةِ الميدان، ولم يتمكَّن من إحضار ستة مدافع ثقيلة
من يافا Jaffa إلا في الخامس والعشرين
من أبريل. في العاشر من مايو، شنَّ هجومه الأخير، ومثل سابقه مُني
بخسائرَ فادحةٍ فلم يكن أمامه سوى الانسحاب. آنذاك، كان الطاعون قد
تفشَّى في الجيش. كان هو نفسُه مع قتل كل المرضى باستخدام جرعة زائدة
من الأفيون إلا أن كبير أطبائه العسكريِّين رفض ذلك منذ البداية. كانت
مئات النقَّالات التي تحمل المرضى والجرحى سببًا في بطء رحلة العودة،
أما أفواج الجنود العائدين الذين كانوا يجرُّون أقدامهم إلى القاهرة،
فلم يكونوا أقلَّ بؤسًا.
كالعادة، بذل بونابارت كلَّ ما كان في وُسعه لكي تبدوَ الهزيمة
وكأنها انتصار. تم عرض الأسرى الأتراك والأعلام التركية التي كان قد تم
الاستلاءُ عليها بكل تفاخر. ما كان قد تبقى من الجيش تم تنظيفه قدْر
المستطاع للقيام بعرضِ انتصار عسكري في المدينة؛ وفي الخامس والعشرين
من أبريل أحبط عمليةً لقوةٍ تركية صغيرة كانت قد رست عند أبو قير
بمساعدة بريطانية. لم ينخدع أحدٌ وبخاصة المصريون. فشِلت حملةُ الشرق
الأوسط ولم تحقِّق الكثيرَ لسُمعة نابوليون. أزعجته كذلك التقاريرُ
التي كانت تصل إلى القاهرة عن أن أوروبا كانت في حالةِ حرب مرةً أخرى،
وأن الجمهورية السيسالبينية الإيطالية التي كان قد أقامها قبل عامين
كانت تحت الاحتلال النمساوي الآن، وأن الجيش الروسي كان يتقدَّم، وأن
الوضع الداخلي في فرنسا نفسِها كان قد عاد حرِجًا. للمرة الأولى في
تاريخه — وليست الأخيرة — ترك جيشَه ليعود إلى بلاده؛ وفي الخامسة من
صباح الثاني والعشرين من أغسطس ١٧٩٩م، انسلَّ سرًّا من معسكره وأبحر
إلى فرنسا. حتى خليفته في القيادة الجنرال «جان بابتست كليبر Jan Baptiste Kleber» لم يعرف
بمغادرته إلا بعد أن كان قد رحل في أمان.
•••
في باريس، كان انقلابُ الثلاثين من بريريال Prairial
(18 يونيو) ١٧٩٩م قد أطاح بالمعتدلين في حومة الإدارة،
وجاء بآخرين ممن كانوا يُعتبرون يعاقبةً متطرفين، إلا أن الفوضى ظلَّت
هي السائدة، وأعلن أحدُ المديرين، «إيمانويل سيس Emmanuel Sieyes» أن الدكتاتورية العسكرية فحسب، هي التي
كان يمكن أن تمنع عودةَ الملكية، كما عبَّر عن ذلك بقوله: «إنني أبحث
عن سيف.» Je Cherch un Sabre. لم يمرَّ
وقت طويل حتى كان ذلك السيف في متناول اليد. منذ لحظةِ وصول بونابارت
إلى باريس في الرابع عشر من أكتوبر — بعد أن هرب بمعجزةٍ من الجيش
البريطاني — بدأ هو وسيس في التخطيط لانقلابٍ لحسابهما. حدَث ذلك في
الثامن عشر والتاسع عشر من «برومير Brumaire» (التاسع والعاشر من نوفمبر)، فأسقط حكومةَ
الإدارة وأنشأ حكومة جديدة هي «القنصلية The Consulate»، أو ما عُرف بحكومة القناصل. شكليًّا، كان
هناك ثلاثة قناصل، والفعلي أنه كان هناك قنصلٌ واحد، ومنذ ذلك كان
نابوليون بونابارت — القنصل الأول — هو «سيد فرنسا».
أمضى الشتاءَ في إعادةِ تنظيم جيشه — كانت روسيا قد انسحبت من
التحالف المضاد لفرنسا — والإعدادِ لحملةٍ ضد عدوِّه الرئيسي الباقي؛
النمسا. في ذلك الوقت كان النمساويون يحاصرون جنوة عاصمةَ إحدى صنائعه
الأقصر أجلًا؛ الجمهورية الليجورية. كان جنرالٌ أقلُّ منه يمكن أن
يتقدَّم جنوبًا من باريس عبْر وادي «الرون Rhone»؛ ولكن نابوليون انعطف شرقًا عند الألب، وقاد
رجاله عبْر ممرِّ سان برنار الكبير قبل ذوبان الجليد، وظهر في إيطاليا
خلفَ الجيش النمساوي ليفاجئه. لم يكن أمام الجنرال النمساوي
«مايكل فون ميلاس Michael von Melas»
سوى أن يتركَ جنوة ويعيد تنظيم قواته ويركِّز على «أليساندريا Alessandria»، تَتَبَّعه نابوليون،
ليصل إلى قرية «مارينجو Marengo» مساء
الثالث عشر من يونيو ١٨٠٠م — كانت في الحقيقة أقربَ إلى مزرعة — على
بُعد ميلين ونصف الميل تقريبًا، جنوب غرب المدينة.
كان يمكن أن تضع المواجهةُ التي حدثَت نهايةً لسيرة نابوليون. لم
ينتظر ميلاس حتى يهاجمه جيشُ بونابارت؛ ففي صباح اليوم التالي، وبقوةٍ
قوامها نحو واحد وثلاثين ألف جندي، فتح مدافعه الثمانين بكلِّ عنف على
الفرنسيِّين الذين كان يقدَّر عددُهم بنحو ثلاثة وعشرين ألفًا،
واستمرَّ القصف أكثرَ من خمس ساعات. بعد الظهيرة بقليل، بدأ خطُّ
قتالهم ينهار، وأُجبروا على التقهقُر مسافةَ أربعة أميال تقريبًا، حتى
قرية سان جيليانو
San Giuliano. بدا
انتصار النمساويين مؤكدًا، إلا أنه — ويا للغرابة! — ربما كان ميلاس
البالغُ من العمر واحدًا وسبعين عامًا قد آوى إلى أليساندريا تاركًا
القيادةَ لمرءوسٍ غيرِ كفء نسبيًّا، فكانت مطاردتهم بطيئةً وبلا حماسة،
مما أعطى نابوليون الفرصةَ لإعادة تنظيم قوَّاته وتلقي تعزيزات مهمة،
تحت قيادة الجنرال «لويس
ديزيه
Louis Desaix»، التي جاءت — لحسن الحظ — من جهةِ الجنوب الشرقي.
مع اقتراب المساء، شنَّ هجومًا مضادًّا. قُتل ديزيه في الحال، ولكن
جنوده البالغ عددُهم نحو ستة آلاف جندي، وكانوا قد استراحوا واستعادوا
نشاطهم، بثُّوا روحًا جديدة في زملائهم، وبحلول الليل كان النمساويون
يولُّون الأدبار. عندما انتهت المعركة، كانوا قد فقدوا تسعة آلاف
وخمسمائة جندي، بينما كانت خسائر الفرنسيِّين أقلَّ من ستة آلاف
جندي.
١٥
لم يكن أمام ميلاس الآن سوى التوصُّل إلى تفاهم، ساحبًا كلَّ قواته
شرق نهر «منسيو Mincio» وشمال اﻟ
«بو Po»، تاركًا للفرنسيِّين السيادةَ
الكاملة على وادي اﻟ بو – Po، حتى نهر
أديج. أما نابوليون، الذي لم تتلوَّث سُمعته برغم انتصاره الذي تحقَّق
بشِقِّ الأنفس، فعاد إلى باريس حيث تولَّى السلطتين العسكرية والمدنية.
في ١٨٠١م، أُجبرت النمسا على توقيع اتفاقية «لونيفي Luneville» التي استعادت فرنسا بموجبها
التخومَ القديمة التي كان «يوليوس
قيصر Julius Caesar» قد أعطاها ﻟ «جول Gaul» الراين والألب والبرانس.
كان نجم نابوليون الآن عاليًا في السماء ومستمرًّا في الصعود.
هوامش