الفصل الرابع والعشرون
التسوية الأوروبية
***
فشل نابوليون بونابارت في مصر، إلا أن قوَّته في
أوروبا كانت تتزايد. في ديسمبر ١٨٠٤م، وفي حضور البابا «بيوس السابع Pius Vii»، قام بنفسه بوضع التاج
الإمبراطوري على رأسه في باريس؛ ثم نظَّم حفلَ تتويجٍ لنفسه بعد خمسة
أشهر (في مايو ١٨٠٥م) في كاتدرائية ميلان كملكٍ لإيطاليا. هذه المرة
كانت جمهورياته الإيطالية الصغيرة قد أصبحت في عالم النسيان. قراره بأن
يُستخدم في الاحتفال تاجُ لومبارديا الحديدي القديم، الذي كان من
ممتلكات الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة لقرون، كان مبعثَ ضيق شديد
للإمبراطور النمساوي فرانسيس Francis،
الذي انضم نتيجةً لذلك إلى التحالف الذي كانت بريطانيا وروسيا قد
كوَّنتاه قبل أسبوع.
وهكذا بعد أن ثبَّت دعائمَ غزواته السابقة، عكف نابوليون على حملةٍ
جديدة ضد النمسا، وكان هناك ابتهاجٌ عظيم في «الجيش الكبير
Grande Armeé»، عندما استسلم أمامه
جيشٌ نمساوي قوامه ثلاثة وثلاثون ألف مقاتل في «أولم Ulm». مما يدعو للسخرية، أن نلسون قام في اليوم التالي
بتدميرِ أسطولٍ فرنسي-إسباني مشترك في «ترافالجار Trafalgar»، وأُصيب هو نفسه بجروحٍ خطرة لحظة الانتصار؛
إلا أن — حتى — كارثة كتلك لم تبقَ طويلًا في ذاكرة الإمبراطور؛ حيث
إنه بعد ستة أسابيع فقط (في الثاني من ديسمبر)، انتصر جيشُه المكوَّن
من ثمانية وستين ألف مقاتل على قوة مشتركة، من أكثر من تسعين ألف
نمساوي وروسي، في «أوسترلتز Austerlitz» في مورافيا. في اليوم التالي لعيد الميلاد،
وطبقًا لشروطِ اتفاقيةٍ تم توقيعُها في «برسبورج Pressburg» (براتسلافا
Bratislava الآن)، كانت النمسا مجبرةً
على أن تعيدَ لفرنسا — بين أشياء أخرى — كلَّ الأراضي الفينيسية التي
كانت قد استحوذت عليها في ١٧٩٧م في «كامبوفورميو Campo
Formio» - لكي تشكِّل مع
سواحل «إستريا Istria» ودالماشيا
جزءًا من مملكة إيطاليا النابوليونية الجديدة.
كان الإمبراطور قد رفض أن يُضَمِّن اتفاقية برسبورج أي شروط نيابةً
عن بوربون نابولي؛ والحقيقة أنه يوم توقيع الاتفاقية، كان قد أعلن عن
نيته أن «يخلع عن العرش تلك المرأةَ المجرمة التي انتهكت، على نحوٍ
شائن، كلَّ ما هو جديرٌ بالإجلال بين الرجال». ربما يكون هذا الحكمُ
على ماريا كارولينا يتَّسم ببعض الغلظة، إلا أنه لا بد من الاعتراف بأن
تَوصُّله إلى اتفاقيةِ حيادٍ مع نابولي في وقت سابق من العام، لم
يمنعها من طلب مساعدة حلفائها؛ وبالقرب من أواخر نوفمبر ١٨٠٥م، كان ما
لا يقل عن ثلاثة عشر ألف جندي روسي وسبعة آلاف بريطاني من مالطة، قد تم
إنزالهم في خليج نابولي. ثم انضم إليهم بضعة آلاف من أبناء نابولي؛
وبحلول منتصف ديسمبر كان الجيش المشترك قد زحف نحو الحدود البابوية.
آنذاك جاءت أخبارُ أوسترلتز، وانتهت الحملة قبل الأوان على نحوٍ مفاجئ.
كانت فكرة رديئة منذ البداية؛ حيث إنه بإرسالها أوقعت الملكة نفسها في
قبضة الإمبراطور. في إعلانه التالي لجيشه، كان بمقدوره أن يقول: «هل
نثق مرةً أخرى ببلاطٍ لا يعرف الوفاء ولا الشرف ولا العقل؟ كلا … ثم
كلا! إن السلالة الحاكمة في نابولي قد انقطعت عن الحكم، ووجودها ليس
متسقًا مع سلام أوروبا ولا مع شرف تاجي.»
لم تكن تلك السلالة قد انقطعت عن الحكم بالطبع، ولن تنقطع لمدة نصف
قرن قادم، ولكنها لم تكن تستطيع أن تتصدَّى للجيش الفرنسي الذي بلغ نحو
أربعين ألف جندي، كانوا يزحفون الآن عبْر الدول البابوية،
١ ويدخلون الجنوبَ الإيطالي تحت قيادة «المارشال ماسينا
Marshal Masséna»، ومعه جوزيف بونابارت
باعتباره الممثلَ الشخصي للإمبراطور. في الحادي عشر من فبراير ١٨٠٦م،
فرَّت العائلة الملكية للمرة الثانية لتواجه بؤس شتاء باليرمو؛ وفي
الرابع عشر وتحت أمطار شديدة، دخلت نابولي فرقةٌ فرنسية بقيادة الجنرال
«بارتونو
Partouneaux». لم تكن هناك
مقاومة، وبينما كان اللازاروني — الدهماء — قبل سبع سنوات يقاتلون مثل
النمور ويحدِثون مجازرَ رهيبة، كانوا هذه المرة لا مبالين، ولم يُبدوا
أيَّ اعتراض أو احتجاج عندما تقدَّم جوزيف بونابارت موكبَه في اليوم
التالي ليتخذَ من القصر الملكي مقرًّا له. في وقتٍ لاحق من ذلك العام،
وبموجب مرسوم إمبراطوري، سيتم إعلان جوزيف ملِكًا.
«إذا تم الاستيلاء على نابولي فسيسقط كل شيء»، كان نابوليون قد كتب
ذلك إلى جوزيف فور الفرار الثاني للعائلة الملكية. لم تكن تلك هي المرة
الأولى، على أية حال، التي يُهوِّن فيها من قوة عدوِّه. أثبتت كالابريا
أنها كانت عقبة كئودًا ومشكلةً شديدة الصعوبة. في الأول من يوليو
١٨٠٦م، نزلت قوة بريطانية من باليرمو بقيادة السير «جون ستيوارت
John
Stuart»، مكوَّنة من أربعة
آلاف وثمانمائة جندي مشاة وستة عشر مدفعًا، نزلت على الساحل الغربي ﻟ
«كالابريا»؛ وبعد ثلاثة أيام هاجمت قوة فرنسية بالقرب من قرية
«مايدا
Maida»، وبعد هجوم وحشي
بالحِراب هزمتها هزيمةً منكرة. استُقبل الانتصار بحماسة شديدة في
إنجلترا وليس محليًّا فحسب؛ حيث ما زلوا يتذكرون ميدان القتال باسم
«مايدا فيل
Maida Vale».
٢ لسوء الحظ، أن سقوط مدينة «جايتا
Gaeta» — بعد مقاومةٍ بطولية — بالإضافة إلى قرار
«ماسينا
Masséna» بتركيزِ أكبرِ قوات
ضده، اضطُر ستيوارت إلى إعادة قوَّاته إلى السفن في سبتمبر. كان ذلك
يعني أن حرب العصابات قد بدأت، مع ما يتضمَّنه ذلك من فظائعَ معتادةٍ
سوف تُرتكب من كلا الجانبين. لم يكن أهالي كالابريا يحبُّون البوربون،
وإن كانوا يفضِّلونهم على الغزاة الفرنسيِّين، ألم يكن البابا،
بالإضافة إلى ذلك، قد رفض الاعترافَ ﺑ «جوزيف بونابارت» ملِكًا عليهم؟
كانوا من أصولٍ فلاحية، وعندما بدأ القتال شاركوا فيه.
أما بالنسبة لصقلية، وهي الجزيرة التي كان يحكمها الملِك فرديناند
والملِكة ماريا كارولينا منفردين، فلم تكن مصدر مشاكلَ كثيرة ﻟ
«ماسينا». كان نلسون قد مات، والعائلة الملَكية لم تُستقَبل بحرارة عند
وصولها كما كان الأمر عند زيارتهم السابقة. كان أهالي صقلية قد أصبحوا
يعرفون ملوكَهم جيدًا، ويدركون تمامًا حقيقةَ أن الملِك لم يكن يرى في
جزيرتهم أكثرَ من منطقة للصيد والاستجمام من وقتٍ لآخر. كان قد حطَّم
عددًا من قِطَع الموزاييك، من القرن الثاني عشر، في الكنيسة المقدَّسة
في باليرمو،
٣ لمجرد أن يبنيَ لنفسه مدخلًا مناسبًا لقصره؛ كما وجد كثيرٌ
من أبناء صقلية — بمن في ذلك الأبناءُ الصغار لطبقة النبلاء على وجه
الخصوص — أنفسهم بلا عمل. في ظروفٍ كتلك، فإن غزوًا فرنسيًّا ما كان
ليواجه مقاومةً كبيرة.
إلا أن الموقف الحقيقي كان مختلفًا. أولًا، دعا فرديناند
البريطانيِّين لتولي مسئولية الدفاع عن الجزيرة — وهو ما كانوا
سيفعلونه على أية حال — وكانت مضايق مسيني تحت حراسةٍ مستمرة بواسطة
القوارب الحربية البريطانية. ثانيًا، كان الإنجليز قد تولوا ما هو
أكثرُ من الدفاع عن صقلية. كانوا قد أصبحوا الآن سادةَ الجزيرة نفسِها،
بما لهم فيها من سبعة عشر ألف جندي ونحو ثلاثين قنصلًا أو نائب قنصل.
كانت صقلية كذلك تحصل على إعانةٍ من بريطانيا، ناهيك عن قروضٍ كثيرة
واستثمارات خاصة، ولك أن تتخيَّل حجمَ تأثير ذلك في اقتصاد صقلية الذي
كان يتصف بالركود.
٤
زاد النفوذ البريطاني بشكلٍ كبير بعد ١٨١١م، عندما عُين لورد «وليم
كافنديش-بنتينك William
Cavendish-Bentinck» مبعوثًا خاصًّا إلى بلاط
الصقليتين، بالإضافة إلى كونه القائدَ الأعلى للمتوسط. رغم أن بنتينك
كان ما زال في السابعة والثلاثين من العمر، فإنه كان قد عمِل حاكمًا
على «مادراس Madras» ومن ثَم شارك في
حرب شبه الجزيرة: وحيث إنه كان قديرًا ونشطًا، فقد كان حاكمًا جيدًا
أجرى عدةَ تغييراتٍ دستورية مهمة. في ذلك العام نفسه، كان الملِك قد
ألقى القبض على خمسةٍ من كبار خصومه في مجلس النواب الصقلي وقام
بترحيلهم إلى خارج البلاد، إلا أن «بنتينك» هدَّد بسحب جيشه وإيقاف
المعونة، فاضطُر فرديناند لإعادتهم، وإحلال وزارةٍ أكثرَ ليبراليةً
محلَّ وزارته التي كان معظمها من أبناء نابولي، وكان من بين أعضاء
الوزارة الجديدة ثلاثة من المُبعَدين. في سنة ١٨١٢م، وضع دستورًا
ليبراليًّا على النمط البريطاني، وبعد ذلك بوقت قصير مضى إلى ما هو
أبعدُ من ذلك: وجدت الملِكة ماريا كارولينا، التي كانت عقبةً في طريقه،
نفسِها في المنفى. لا عجب إذن أن تصِفه بأنه «حيوان وحشي una bestia
feroce».
•••
بالرغم من أنه لم يكن مسموحًا للبابا «بيوس السابع Pius VII» بأداء المراسم، كان مدعوًّا لحضور حفل
تتويج نابوليون في باريس، وهي الدعوة التي كان يرغب فيها، وبنفس
الدرجةِ لم يكن يستطيع أن يرفضها. في السنوات التالية لذلك مباشرة،
زادت العلاقة بين البابا والإمبراطور سوءًا. كان نابوليون قد وضع يدَه
على كل الموانئ المهمة في شيفيتافيكيا وأوستيا، وبحلول أوائل العام
١٨٠٨م (وفي ذلك الوقت كانت كل الدول البابوية فرنسيةً في كل شيء ما عدا
الاسم)، دخل الجيش الإمبراطوري روما واحتلَّ قلعة سانت أنجلو. وأخيرًا،
في ١٧ مايو ١٨٠٩م، ومن قلعة «شونبرون Schonbrunn» في فيينا، أصدر الإمبراطور مرسومًا بضم روما،
ويقال إن البابا عندما سمِع بذلك تمتم قائلًا: «إنها النهاية!» في
العاشر من يونيو ارتفع العلَم الفرنسي على القلعة مكانَ العلَم
البابوي، أما مَن سلبوا المدينة المقدَّسة فتم حرمانُهم كنسيًّا بشكل
رسمي.
كان البابا حريصًا على ألا يذكرَ الإمبراطور بالاسم؛ حتى ذلك كان
خطوة شجاعة منه، ولم يتأخر الجزاء طويلًا. في ليلة الخامس من يوليو
أُلقي القبض عليه، وتم اقتياده عبْر طريقٍ دائري مرورًا بجرينوبل
وفالينس ونيس إلى «سافونا Savona»؛
وهنا سيبقى لمدة ثلاث سنوات إلى أن يُنقل، وهو في حالةٍ أقربَ إلى
الموت منها إلى الحياة، في عربةٍ محكَمة القَفل إلى «فونتان بلو Fontainebleau». كان يعاني من حمَّى
شديدة لدرجةِ أنه تلقى المسح الأخير بالزيت. على خلافِ سلفِه الذي مات
في منفاه الفرنسي، سيعود إلى روما في مايو ١٨١٤م. عاش حتى ١٨٢٣م وكانت
المسيحية قد اتَّخذت آنذاك طبيعةً مختلفة عن تلك التي كان قد عرفها في
السنوات الباكرة في منصبه.
في خريف ١٨٠٧م، عندما رفض البرتغاليون إغلاقَ موانئهم أمام السفن
البريطانية، أرسل نابوليون الجنرال «جنوت
Junot» الذي كان آخر لقاء لنائبه في فينيسيا قبل عشر
سنوات، بجيشٍ قوامه ثلاثون ألف جندي عبْر إسبانيا ليدخل البرتغال.
فرَّت العائلة الملكية إلى البرازيل على الفور، تاركه البلاد
للفرنسيِّين. بعد ذلك تحرَّك معظم جيش الغزو إلى شمال إسبانيا، وفي
الوقت نفسه أرسل نابليون زوجَ شقيقته، جنرال الخيَّالة اللامع
«جواكيم
ميورا
Joachim Murat»
٥ ليحتلَّ مدريد ويأتيَ بالملك شارل الرابع وابنه فرديناند
للقائه في «بايون
Bayonne»؛ وهناك،
تنازلا في الخامس من مايو ١٨٠٨م عن أحقيتهما في العرش، ومقابل ذلك
وعدهما نابوليون بأن تظل إسبانيا رومانيةً كاثوليكية، ومستقلة تحت
حاكمٍ سوف يعيِّنه في وقتٍ قريب، وسرعان ما فعل ذلك، وكان الحاكم هو
شقيقه جوزيف. إلا أن حكم جوزيف كان قد انتهى قبل أن يبدأ؛ ففي الثاني
من مايو، قام شعب مدريد بانتفاضةٍ ضد المحتلين.
كان جوزيف بونابارت قد بدأ بدايةً جيدة جدًّا في نابولي؛ فبأوامر من
شقيقه بدأ برنامجًا لتفكيك الملكيات الإقطاعية الكبيرة في المملكة،
وأجرى إصلاحاتٍ على نُظُم الرهبنة، وبذل كلَّ ما في وُسعه لتنظيم
الأمور المالية والتعليمية والقضائية. ولكنه لم يكن سعيدًا هناك،
وعندما عرض عليه نابوليون تاجَ إسبانيا قبِلَه بكل سرور. شغَل
الإمبراطور مكانه في نابولي ﺑ «جواكيم ميورا»، الذي أحاط نفسَه ببلاطٍ
كله بذخ وترف. كان بلاطًا شاذًّا وغريبًا نوعًا ما، إلا أنه واصل ما
كان جوزيف قد بدأه، منفِّذًا عددًا من الإصلاحات المهمة، وفتَّت
الملكيات الزراعية الكبيرة، وأحلَّ «قانون نابوليون
Code Napoléon» محلَّ قوانين نابولي
القديمة، التي كانت متراخية نوعًا ما. كان أن بقيَ في نابولي إلى أن
خرج في ١٨١٢م على رأس الحملة الروسية التي أثبَت فيها — مرة أخرى —
شجاعتَه في «بورودينو
Borodino»،
ولكن نابوليون تركه ليكون مسئولًا عن الجيش الكبير الممزَّق أثناء
الانسحاب، وهو بدوره ترَكه، في محاولةٍ لإنقاذ مملكته النابولية. عندما
وصلت أخبارُ هروبِ الإمبراطور من «إلبا Elba» إلى إيطاليا، كان ميورا الذي كان قد عاد إلى
نابولي، أحدَ الأوائل الذين أعلنوا تأييدَهم له، واضعًا نفسه فورًا على
رأسِ جيشٍ إيطالي؛ ولكن في الخامس من مايو ١٨١٥م، متحديًا تعليمات
الإمبراطور، كان من الحماقة لكي يعترض قوةً نمساوية كبيرة. ولقي هزيمةً
كبيرة في «تولنتينو Tolentino». طلب
اللجوء إلى كورسيكا، وفي أكتوبر قام بمحاولةٍ أخيرة لاستعادة نابولي،
ولكن أهالي نابولي آنذاك كانوا قد تحمَّلوا ما يكفي … فأسروه
وأعدموه.
•••
تم قمعُ انتفاضة مدريد بسرعة وبوحشية بالغة، ولكن غيرها من
الانتفاضات والهبَّات اجتاح إسبانيا، التي أظهر شعبُها قدرةً فائقة على
خوض حرب العصابات. طُرِد الفرنسيون من «فالينسيا Valencia» وأُجبر الجنرال «بيير ديبو Pierre Dupont»، الذي كان قد دخل
«أندلسية Andalusia»، إلى الاستسلام
هو وجيشه بالكامل في «باليان Balién»
في الثالث والعشرين من يوليو. تقدَّم المتمردون نحو مدريد، وبعد
أسابيعَ قليلة كان قد تم طرد جوزيف. في ذلك الوقت، كان البريطانيون قد
دخلوا حلبةَ الصراع بعد أن رست قواتٌ بريطانية بقيادة «آرثر ولسلي Arthur Wellesly» — دوق «ولنجتون Wellington» القادم — في البرتغال في
الأول من أغسطس. كان بفضلهم إلى حدٍّ كبير، أن فشل الهجومُ الفرنسي
المضاد الواسع في سحق التمرد تمامًا في الشتاء التالي.
استمرَّت حربُ شبه الجزيرة حتى ١٨١٤م في أنحاء البرتغال وشمال غرب
إسبانيا — ولكن بالرغم من أن إسبانيا دولةٌ متوسطية، فإن الحرب لم تكن
متوسطية بأي معنًى، ولا كان نابوليون بونابارت متورطًا فيها على نحوٍ
مباشر. لا يهمنا تاريخُه بعد رحيله من مصر كثيرًا. كان قد نقل مسرح
عملياته عائدًا به إلى شمال ووسط أوروبا حيث سيبقى هناك على مدى الخمس
عشرة سنة التالية. أثناء الشطرِ الأكبر من تلك السنوات سيظل نجمه في
صعود؛ ولكن في سنة ١٨١٢م جاءت الحملة الروسية الكارثية، وبعدها لم يكن
الكثير في صالحه. كان الحلفاء الآن يسحبون الشبكةَ إلى مكانٍ أقرب،
وفي أكتوبر ١٨١٣م كانت هزيمةُ
الإمبراطور في «ليبزج Leipzig» هي
نهايته الفاجعة. كانت هناك حملةٌ واحدة أخرى يائسة، ولكن في الثلاثين
من مارس ١٨١٤م، أُجبر المارشال «مارمون Marmont» على تسليم باريس للحلفاء — بعد أقلَّ من
أسبوعين، أعلن نابوليون تخليه عن السلطة رسميًّا، لتبدأ بعد قليل فترةُ
المنفى على جزيرة «إلبا Elba».
كان ﻟ «إلبا» تاريخٌ مختلف الألوان. في الأزمنة القديمة كانت مشهورةً
بخام الحديد الذي كان «الإتروسكُ
The Etruscans» أولَ مَن استخرجه ومن بعدهم الرومان. في
العصور الوسطى الباكرة كانت الجزيرة تابعة ﻟ «بيزا»، ولكن في ١٢٩٠م
انتقلت تبعيَّتها ﻟ «جنوة»، وفي ١٣٩٩م لدوقات «بيومبينو
Piombino»، الذين تخلوا عنها في ١٥٤٨م ﻟ
«كوزيمو دي ميديشي
Cosimo dé Medici»
الفلورنسي. منذ ذلك الحين، كانت تحت حكم إسبانيا ثم تحت حكم نابولي،
وفي ١٨٠٢م آلت لفرنسا. بعد وصول نابوليون، أصبحت «معتمدية
Principality» مستقلة وهو
حاكمها.
٦ رسا نابوليون في إلبا في الرابع من مايو ١٨١٤م، وعلى الفور
بدت وكأن تيارًا كهربائيًّا قد سرى فيها. كتبَ المفوَّض البريطاني
«سير نيل كامبل
Sir Neil Campbell»
يقول: «لم أرَ رجلًا في أي مجال من مجالات الحياة قط، بمثل هذا النشاط
والدأب الذي لا يهدأ.» تناول نابوليون كلَّ الأمور على إلبا بجدية؛ فلم
يكن يرى الجزيرة سجنًا وإنما ولاية يحكمها. وجَّه سكانها (نحو ١٢٠٠٠
نسمة) للعمل في إنشاء طرق وجسور جديدة، وأسَّس بلاطًا مصغرًا — مع
إيتيكيتٍ صارمٍ كان مصرًّا عليه — ورفع على قَصره في «بورتو فيرايو
Porto Ferraio» عَلمًا جديدًا زيَّنه
بنحله الإمبراطوري. وصلت أمُّه وشقيقته «بولين
Pauline» في يوليو، وبعد وقتٍ قصير وصلت «ماريا فاليسكا
Maria Waleska»، عشيقته البولندية
مع ابنهما الصغير. على قدْر اهتمامه، كان هناك غائب واحد: زوجته
الثانية «ماري لويز
Maria Louise»
الابنة الكبرى للإمبراطور النمساوي «فرانسيس الأول
Francis I»، التي كان يحبها حبًّا حقيقيًّا ويفتقدها
بشدة، والتي كان قد أعد لها القصر الريفي في «سان مارتينو
San Martino»، ولكنَّ والديها كانا قد
أصرَّا على أن تبقى في فيينا. لن يراها بعد ذلك.
في الوقت نفسِه، كان يرقب منتظرًا. كانت هناك بوارقُ أمل. كان معظم
جيشه قد ظلَّ مواليًا له، وفي باريس كان الرجعي العتيد لويس الثامن عشر
يحقِّق المزيدَ من كراهية الناس له باطراد، وكان مؤتمر فيينا قد أخفق.
من ناحيةٍ أخرى، كانت موارده المالية في إلبا تتضاءل، كما كانت أمُّه
تشجِّعه دائمًا على «تحقيق قدره»؛ وهكذا قرَّر نابوليون في فبراير
١٥١٨م. في اليوم التالي لرحيلِ كامبل في زيارةٍ لإيطاليا، أصدرَ أوامره
بتجهيزِ سفينته البريجية
٧ الوحيدة (إنكونستانت
Inconstant). وفي السادس والعشرين أبحر ليرسوَ في الأول
من مارس دون أي مقاومة، في «جولف-جوان
Golfe-Juan» بين «فريجوس
Fréjus» و«أنتيب
Antibes». كان الطريق المباشر إلى باريس هو ذلك عبْر وادي
الرون، إلا أن يروفنس كانت متعصِّبة للملَكية، وكانت قد استقبلته
بمظاهراتٍ عِدائية وهو في طريقه إلى الجنوب في العام السابق. يضاف إلى
ذلك أنه كان الطريق الذي يمكن أن يتخذه أيُّ جيش ملكي قد يتم الدفع به
لمواجهته. اختار بدل ذلك الطريقَ الجبلي الذي يمرُّ عبر «ديجن
Digne» و«سيستيرون
Sisteron» و«جرينوبل
Grenoble» الذي بات يُعرف منذ ذلك الحين بطريق نابوليون.
هذا الطريقُ الذي حمل الإمبراطور عائدًا إلى باريس — وبعد المائة يوم
إلى «ووترلو
Waterloo» — يحمله كذلك
خارجًا من قصتنا.
آنذاك فقط، كان البوربون يستطيعون العودةَ إلى نابولي؛ ولكن الملكة
ماريا كارولينا لم تكن بينهم على أيةِ حال. بعد أن تخلَّى عنها زوجها
البائس — الذي لم يرفع إصبعًا لمساعدتها عندما قام «بنتينك Bentinck» بترحيلها — عادت إلى النمسا
بلدِها الأصلي؛ وهناك في صباح الثامن من سبتمبر ١٨١٤م كان أن وجدوا
جثَّتها في «هوتزندورف Hotzendorf»
بالقرب من فيينا. كانت امرأة قوية وشجاعة ولكنها كانت عنيدةً تتشبَّث
دائمًا برأيها الخطأ، ويرجع إليها — إلى حدٍّ كبير — الانهيار والسقوط
النهائي لمملكة البوربون في نابولي.
•••
قبل أسبوعٍ أو أكثرَ قليلًا من
«ووترلو
Waterloo»، في التاسع من
يونيو ١٨١٥م عقدَ مؤتمر فيينا جلستَه الأخيرة. كان قد بدأ دورته في
سبتمبر السابق، أي بعد خمسة أشهر من تخلي نابوليون عن السلطة، وكان قد
مرَّ بلحظةٍ شديدة الصعوبة عندما جاءت أخبارُ هروبه من إلبا؛ إلا أنه
كان قد استمرَّ في الانعقاد — ناظرًا بعين القلق ناحيةَ الغرب — وكانت
تسويته الأخيرة هي الاتفاقيةَ الأكثرَ شمولًا في تاريخ أوروبا. كان
«القيصر ألكساندر
الأول
Tsar Alexander I» هناك ليدافعَ عن مصالح روسيا، وكان الإمبراطور
النمساوي فرانسيس الثاني ممثلًا بوزيره الأول الأمير «فون متيرنخ
Von Metternich»، وملِك بروسيا ممثلًا
بالأمير «فون
هاردنبيرج
Von Hardenberg»، وجورج الثالث ملِك إنجلترا باللورد
«كاستلريج
Castlereagh». وكان
قبولُ مشاركة بوربون فرنسا في المؤتمر، هو الذي جاء إلى فيينا بالأميرِ
«تاليران
Talleyrand»، الأكثرِ ذكاءً
بين الجميع.
٨
كانت إسبانيا والبرتغال والسويد ممثَّلة كذلك، وكان هناك، إلى جانبِ
ذلك عددٌ كبير من النبلاء الأوروبيِّين وزوجاتهم، جاءوا جميعًا لكي
ينعموا بأرقى مناسبةٍ اجتماعية تشهدها أوروبا.
كان لمعظم القرارات التي تم التوصُّل إليها في فيينا تأثيرٌ على دول
أوروبا الشمالية، إلا أنها لن تستوقفنا. أما بالنسبة للبحرِ الأبيض،
فقد وجدت فينيسيا — ولومبارديا وفينيتو — نفسَها مرةً أخرى في يد
النمسا؛ تم استيعابُ جنوة في «بيدمونت
Piedmont»؛ توسكانيا ومودينا كانتا من نصيبِ أرشيدوقٍ
نمساويٍّ، بينما أُعطيت بارما لنمساويةٍ أخرى هي الإمبراطورة ماري
لويز، تلك التي كانت من الطيش لتتزوج من نابوليون قبل خمس سنوات.
الولايات البابوية، التي كانت تشكِّل جزءًا في ١٧٩٨–١٧٩٩م من
الجمهوريات السيسالبينية
٩ والرومانية في المملكة الإيطالية، أُعيدت إلى البابا عن
طيبِ خاطر.
كانت قد تبقَّت بعضُ الترتيبات التي ينبغي القيامُ بها، وبخاصة
بالنسبة للجزرِ الأيونية السبع بالقرب من الساحل الغربي لليونان. لكلٍّ
من هذه الجزر تاريخُها المختلِف إلى حدٍّ ما، وإن كان الطابع العام يظل
واحدًا: كانت في البداية بيزنطية، ثم صقلية نورمندية، بعد أن استولى
عليها «روبرت
جيسكار Robert Guiscard»، ثم فينيسية بعد الحملة الصليبية الرابعة، ثم
تركية (ما عدا كورفو وباكوس التي بقيت فينيسية حتى ١٧٩٧م) بعد أن
احتلَّ نابوليون فينيسيا في ذلك العام، كان من بين أولِ ما قام به هو
إرسال نحو ألفي شخص إلى الجزر، التي كان يعتقد أن امتلاكها ضروري
بالنسبة لخططه الشرقية وخاصة تلك المتعلِّقة بمصر. بحلول شهر أغسطس،
كانت الجزر كلُّها قد أصبحت في يدِ فرنسا، وبعد شهرين كان قد تم تقنينُ
الحكم الفرنسي في «كامبو
فورميو Campo Formu»؛ وكما حدَث في فينيسيا، كان يتم إحراقُ السجلات
الذهبية للنبالة المحلية على نحوٍ منتظم، ويتم محو أسودِ سان مارك من
على البوابات؛ إلا أن الفرنسيِّين سرعان ما جعلوا أنفسَهم مكروهين،
بدايةً بسببِ معاداتهم للإكليروس، ثم بإصرارهم على منحِ اليهود مكانةً
متساوية مع مكانةِ المسيحيِّين الأرثوذوكس. ولذلك عندما انضمَّت روسيا
وتركيا للتحالف الثاني ضد نابوليون في ١٧٩٨م — واستغلَّتا هزيمة
الفرنسيِّين في معركة النيل — وأرسلتا أسطولًا مشتركًا بقيادة
الأدميرال «فيودور
أوشاكوف Feodor Ushakov» لاستعادةِ الجزر، عندما حدَث ذلك كلُّه، كان
هناك ترحيبٌ بالروس الأرثوذوكس (إن لم يكن بالأتراك) باعتبارهم
محرِّرين. في كورفو فقط، كان للفرنسيِّين حاميةٌ كبيرة للقيام بالقتال،
ولكن بعد حصارٍ استمرَّ عدةَ أشهر، كانت مجبرةً على الاستسلام.
بموجب شروط اتفاق روسي-تركي عُقد في مايو ١٨٠٠م، أصبحت الجزر
جمهوريةً فيدرالية مستقلة تحت حمايةِ القيصر، تدفع جزيةً سنوية للباب
العالي؛ وعندما استؤنفت الحرب بين بريطانيا وفرنسا في ١٨٠٣م، كان يبدو
أن استقلالها سيكون محلَّ احترام؛ إلا أن هاجس كورفو بقي مسيطرًا على
نابوليون. وبموجب ملحق لمعاهدة «تلست Tilsit»، التي وقَعت مع القيصر على منصةٍ عائمةٍ وسط بحر
«نيمن Niemen» في يوليو ١٨٠٧م، انتقلت
حمايةُ الجزر من الروس إلى الفرنسيِّين. بعد عام، كانت هناك انتكاسةٌ
أخرى لاحترام الكرامة البريطانية، عندما استولى الفرنسيون على
«كابري
Capri»؛ إذ عندما سمِع
القائد الأعلى للمتوسط، لورد «كولنجوود
Collingwood» من عددٍ من التجار من «شيفالونيا Cephalonia» وزانته أن سكَّان الجزرِ
كانوا يتطلَّعون إلى الحصول على استقلالهم، قرَّر الانتقامَ بالقيام
بالاستيلاء على أكبرِ عددٍ من الجزر الأيونية. القوة الكبيرة التي
أبحرت من صقلية في ١٨٠٩م، استعادت شيفالونيا وزانته وإيثاكا
و«كيتيرا Cythera»، وتم ذلك بسهولة
شديدة، ولكنَّ دفاعات كورفو كانت قويةً أمام أي هجوم مباشر. كان الحصار
هو الخيار الوحيد، وهو ما ثبَت أنه كان أقربَ ما يكون إلى المهزلة: قام
بالحصار فرقاطتان صغيرتان فقط، وبمجرد أن كانتا تغيبان عن الأنظار،
كانت السفن الفرنسية تعبر المضايقَ إلى ألبانيا وتعود بكلِّ ما تريد من
تموين. وهكذا على مدى السنوات الست التالية كان الممثِّلون العسكريون
للقوتين — المستعِدَّتين للقتال في أوروبا — ينتهجون سياساتٍ سلميةٍ
مماثلة، على جزر على مرأًى منهم.
لم يَجِد أيٌّ من الطرفين حكمَ الجزرِ بالأمر الهين؛ كانت عداءات
الدم جزءًا من أسلوب الحياة المعتاد، والقتل عملًا يوميًّا والجهل
والخرافة في كل مكان. يروي رحالةٌ إنجليزي أنه عندما حاول أحدُ حكام
شيفالونيا إدخالَ البطاطس للجزيرة: «كان بعضُ القساوسة يحاولون، بكل
قوة، إقناعَ المزارعين بأن تلك الثمرة كانت هي التفاحة التي أغوت بها
الحية آدمَ وحواءَ في الجنة.» بالتدريج، تمَّت السيطرة على الجزر على
أية حال، وبحلول مارس كان الميجور «ريتشارد تشيرش Richard Church» قد نجح في أن يشكِّل في زانته ما أطلق
عليه الكتيبة الأولى، كانت كتيبةَ مشاةٍ يونانية خفيفة تابعة لدوق
يورك. كانت هناك كتيبة ثانية، تم تشكيلها في شيفالونيا، كان ضباطها
تقريبًا من اليونانيين، وشاركت في الاستيلاء على «باكسوس
Paxos» في ١٨١٤م. رغم تسريح الكتيبتين
بعد انتهاء حروب نابوليون، فإن الكثير من ضباطهما وجنودهما
اليونانيِّين حوَّلوا خبراتهم إلى فائدةٍ كبيرة كقادة في حرب استقلال
اليونان — وبخاصة «تيودور
كولوكوترونس Theodore
Kolokotronis» العظيمُ، الذي يظهر في كل صوره وتماثيله
تقريبًا بخوذته البريطانية.
في نوفمبر ١٨١٥م، تم الاتفاقُ بين مبعوثي بريطانيا وبروسيا وروسيا
والنمسا على أن تكون الجزر الأيونية، من الآن فصاعدًا، دولةً مستقلة
تحت الحماية البريطانية يحكمها مندوبٌ ساميٌّ بريطاني. بعد شهر، وصل
السير «توماس ميتلاند
Thomas Maitland»، حاكمُ مالطة آنذاك، لشغل ذلك المنصب. يصفه السير
«تشارلز نابيير Charles Napier»، وكان
قد عمل تحته، بأنه: «جلف، عجوز، مستبد … وقح، وفظ، ولا يمكن احتماله …
شخصية قذرة … مخمور باستمرار … يحيط به جماعةٌ من المتملقين.» رغم كل
هذه المثالب، ورغم اللكنة الاسكتلندية التي لم يكن أهالي كورفو
ومواطنوه على السواء يفهمونه بسببها، حكم «الملك توم King Tom» الجزرَ على مدى السنوات العشر التالية بيدٍ
حازمة، إلا أنها كانت مستنيرة بدرجةٍ مثيرة للدهشة.
في الوقت نفسه، عبَر المضايق هناك في البر الرئيسي الألباني، كانت
دراما أخرى قد بدأت تتكشف، وكانت حبلى بالمزيد من الأحداث والتطورات.
انطلق عِنان هذه الدراما بسبب المدعو علي باشا. عندما زاره
«بيرون
Byron» في ١٨٠٩م كتب:
«سُموه في الستين من العمر، سمينٌ جدًّا وليس طويلًا، ولكن له
وجهٌ جميل وعينان تميلان إلى الزرقة ولحيةٌ بيضاء، حسنُ الطِّباع
ويتحلى في الوقت نفسه بالوقار الذي أراه سمةً عامة بين الأتراك …
ولا يبدو عليه أيٌّ من صفات شخصيته الحقيقية؛ حيث إنه طاغية لا
يعرف قلبُه الرحمة، وهو المسئول عن كل الفظائع الرهيبة. شجاع،
ومقاتل جيد لدرجةِ أنهم يدعونه: بونابارت المسلم.»
كان علي قد بدأ حياته قاطعَ طريق … وظلَّ كذلك. في شبابه، كان هو
وأتباعُه قد أسَّسوا ما يشبه عهدَ إرهاب في ألبانيا و«إيبيريوس Epirus»، بذلت السلطات العثمانية قصارى
جهدها لدحره، إلا أنه كان يتفوَّق عليهم أو يهزمهم، وفي النهاية
قرَّروا، بعد أن استبدَّ بهم اليأس، رشوتَه بمنصبه الرفيع. أصبح حاكمًا
على إيانينا منذ ١٧٨٧م، ومن تلك القاعدة بسط هو وأسرتُه سلطانَهم على
كل اليونان وألبانيا تقريبًا، بصرف النظر عن «أتيكا Attica» وأثينا نفسها. أحدَث علي تغييراتٍ
كبيرة في عاصمته. كانت إيانينا دائمًا جميلةً بموقعها الساحر بين
بحيرات وجبال. أصلح الطرق وكان يقيم في كل عام سوقين كبيرتين للتجارة،
بنى استراحاتٍ للقوافل التجارية وحفر قناةً للسفن. كان يوجد بقصره
المنيف أكبرُ سجادة جوبلين تم صنْعُها، كانت قبل ذلك معلَّقة في قصر
فرساي Versailles.
كانت المصائر المتغيرة للجزر الأيونية أمرًا بالغَ الأهمية بالنسبة ﻟ
«علي» … وأحيانًا كانت مصدرَ قلق. في سنوات الحكم الفينيسي، كانت
فينيسيا تحكم المدن الساحلية الأربع الرئيسية على البر المقابل:
«بوترنت Butrint» (الآن ضمن ألبانيا)
مقابل المضيق تمامًا من جهة كورفو، و«بريفيزا Preveza» و«فونيتاس Vonitas» على جانبي مدخل «خليج آرتا Gulf of Arta»، و«بارجا Parga» المواجِهة ﻟ «باكسوس Paxos». عندما أصبحت الجزر فرنسيةً في
١٨٠٧م، استولى «علي» على الجزر الثلاث الأولى قبل أن يتمكَّن أحدٌ من
إيقافه، ولكن الروس الذين كانوا يحتفظون بحاميةٍ قوية في بارجا، كانوا
قد سلَّموها لفرنسا حسب الاتفاق. لم يكن أمام السكان المحليِّين، الذين
لم يكونوا يُكنُّون أيَّ حب للفرنسيين، أيُّ خيار في البداية سوى أن
يصبروا عليهم قدْر الاستطاعة، ولكن عندما بدأ نجم نابوليون في الأفول،
رفعوا علم الاتحاد وطلبوا دعمَ البريطانيِّين. وهكذا كان أن قامت قوةٌ
عسكرية بريطانية صغيرة، في الثاني والعشرين من مارس ١٨١٤م، بالاستيلاء
على المدينة. كان من المفترَض أن يكون كل شيء قد أصبح على ما يرام؛
لسوء الحظ، عندما قرَّر مؤتمر فيينا في العالم التالي أن تكون الجزر
الأيونية محميةً بريطانية، تم استثناءُ المدن الموجودة على البر
الرئيسي تحديدًا من القرار وإعطائها للأتراك، مع شرط السماح، لكلِّ مَن
يريد من سكان بارجا، بالعبور إلى الجزر.
لو أن المؤتمر كان قد ترك الأمرَ عند هذا الحد، فلربما كان معظم
أهالي بارجا قد بقوا حيث كانوا، إلا أن المؤتمر فعلَ ما هو أكثرُ من
ذلك. اشترط أن تقوم الحكومة العثمانية بتعويض كلِّ المهاجرين عن
ممتلكاتهم التي تركوها على البر الرئيسي. نتيجةً لذلك، اختار الجميع أن
يغادروا، أما الأتراك الذين واجهتهم مشكلةُ المبالغ الطائلة التي كان
عليهم أن يدفعوها كتعويضات، فأعطوا بارجا ﻟ «علي». في آخرِ الأمر،
قُدِّرت التعويضات بمائة وخمسين ألف جنيه إسترليني قام «علي» بدفعها
بعد فترة قصيرة؛ ويوم «الجمعة الحزينة
Good
Friday»
١٠ من العام ١٨١٩م، عبَر نحو ثلاثة آلاف من أهالي بارجا
بأيقوناتهم وتذكاراتهم المقدَّسة، وربما بعظامِ ورفاةِ أسلافهم، عبروا
المضايق إلى كورفو؛ حيث تم تقسيمُ المبالغ عليهم. وكما نعرف، لم يكن
ذلك عزاءً كافيًا، وأصبحت قصتُهم إحدى الأساطير الكبرى عن معاناة
اليونانيين تحت الحكم التركي، وكثيرًا ما يقال إنهم تركوا موطنهم
طواعيةً، وإنه تم تعويضهم عن ذلك، وإنهم لو كانوا قد بقوا في بارجا
لمَا كان مصيرهم ليكون أسوأ من مصير أبناء المدن المجاورة الذين حُرموا
فرصة المغادرة.
لم يعمِّر علي باشا طويلًا لكي ينعَم بمكتسباته الجديدة. نُسبت إليه
محاولةُ اغتيال أحد أقاربه في فبراير ١٨٢٠م، كان يُدعى إسماعيل باشا
الذي كان قد أساء إليه وفرَّ إلى القسطنطينية، فأعطى ذلك السلطان محمود
الثاني فرصةً كان ينتظرها طويلًا. قام بتعيين إسماعيل حاكمًا على
إيانينا بدلًا من علي، وأعطاه جيشًا صغيرًا وأمره بأن يقوم بالباقي. في
فصل الخريف ذلك نفسه، ومع اقتراب إسماعيل، أضرم علي النار في المدينة،
وأوى إلى قلعته التي كانت تقع على نتوءٍ جبلي على البحيرة يحميها خندقٌ
مائي عريض. هنا، كان يبدو أنه سوف يصمد أبدًا، ولكن في يناير ١٨٢١م
والمأزق مستمر، قام السلطان محمود بعزل إسماعيل وعيَّن مكانه خورشيد
باشا، الأكثرَ قوةً وكفاءة، حاكمًا على «موريا Morea». عندما وجد خورشيد أن جيشَ إسماعيل المختلِط لم
يكن يُرجى منه (كان مكوَّنًا من قواتٍ منفصلة تتصرف كلٌّ منها على
هواها تحت إمرة قائدها الباشا)، أمضى العام التالي في إعادة تنظيمه؛
وفي مطلع العام ١٨٢٢م، شقَّ طريقه نحو القلعة.
تعدَّدت الروايات حول نهاية علي. بعد أيامٍ قليلة كان رأسه المقطوع
مرفوعًا على سنِّ رمح في إيانينا، قبل إعادته إلى القسطنطينية وسط فرحة
الانتصار.
هوامش