الفصل السادس والعشرون
محمد علي وشمال أفريقيا
***
كان السلطان العثماني محمود الثاني يستحق أكثرَ مما
حصل عليه. كان — من جوانبَ كثيرة — حاكمًا ومصلحًا مستنيرًا، فعل كلَّ
ما يستطيع لتحديث إمبراطوريته الهرمة. في ١٨٢٦م، كان أن تخلَّص من
الإنكشارية (الذين كانوا على مدى خمسمائة عام، القوةَ العسكرية
الممتازة للإمبراطورية، ولكنهم أصبحوا كثيري التمرُّد)، وذلك بالأسلوب
البسيط. قتلهم جميعًا. كَوَّن محمود جيشًا جديدًا تحت قيادته المباشرة
جاء له بمدرِّبين ألمان، وأنشأ مدرسةً عسكرية على غرار مدرسة نابوليون
«Saint-Cyr»، ضرب سلطةَ علماء الدِّين
وجرَّدهم من مسئولياتهم غير الدينية؛ نظَّم الخدمة المدنية وبسَّط
إجراءاتها إلى حدٍّ بعيد؛ أدخل أساليبَ جديدة في التعليم، بدأ خدمةً
بريدية، كما أنشأ أول جريدة باللغة التركية في إسطنبول؛ أنشأ مدرسةً
للطب وسنَّ قوانين جديدة للصحة العامة؛ وأخيرًا، وربما آسفًا، ألغى
الزيَّ التركي القديم فاختفت الأردية الطويلة والعمائم والسراويل
المنتفخة والشباشب الخفيفة، وظهر الطربوش والسترة الفراك والبنطلون
الأوروبي والحذاء الجلدي الأسود.
كان أمرًا محزنًا له في الواقع أن تشهد فترةُ حكمه خسارةَ بحريته
وضياع جنوب اليونان ومناطقَ كثيرة من الأراضي العثمانية السابقة، ثم
يكون عليه أن يتصدَّى لتلك الشوكة الدائمة في خاصرته … نقصد محمد علي،
في القاهرة. كان محمد علي يتوقَّع أن يكون حاكمًا على سوريا، مكافأةً
له على تدخُّله في البيلوبونيز، ولكن محمود أعطاه كريت، وهو ما كان
واليه يعتبره غير كافٍ. لذلك، أرسل محمد علي ابنَه إبراهيم بجيش جرَّار
إلى سوريا في ربيع ١٨٣٢م، مع تعليماتٍ باحتلالها بالقوة. نفَّذ إبراهيم
الأمرَ حرفيًّا. سقطت غزة، والقدس، وبعد حصار قصير سقطت عكا … وبعد ذلك
زحف إبراهيم شمالًا صوب دمشق وحلب … ثم قاد جيشه عبْر الأناضول حتى بات
يهدِّد إسطنبول نفسَها.
عندما وجد السلطان عاصمتَه مهدَّدة وفي حالة ذعر، استغاث بلندن،
ولمَّا لم يُبدِ وزير الخارجية البريطاني «لورد بالمرستون
Lord Palmerston» اهتمامًا بالأمر،
لم يكن أمامه سوى أن يلجأ إلى روسيا … عدوِّه القديم. لم يكن
«القيصر نيكولاس
Tsar Nicholas»،
المستعد دائمًا للتدخُّل في الشئون التركية، يتمنى أكثرَ من ذلك، فقام
في أوائل ١٨٣٣م بإنزال قوة من ثمانية آلاف جندي في «سكوتاري
Scutari» على البوسفور أمام إسطنبول. في
مواجهةِ قوة كتلك، كان إبراهيم يعرف أنه لا توجد فرصةٌ أمامه، وعليه
كان من الحكمة أن يقبلَ التفاوض. في ذلك الوقت، كان بالمرستون قد
تنبَّه لخطورة الموقف وكذلك الحكومة الفرنسية، فقامت الحكومتان معًا
(البريطانية والفرنسية) بإقناع الباب العالي بالإصرار على انسحاب الروس
مقابل بعض التنازلات. تم تثبيت محمد علي حاكمًا على مصر، والآن أضيفت
إليها سوريا، التي كانت تضم دمشق وطرابلس وحلب وأضنة. في الوقت نفسِه —
ولكن بموجب اتفاقية منفصلة — عقَد السلطان محمود معاهدةَ هجوم ودفاع مع
روسيا، يمنح بندٌ سريٌّ فيها السفنَ الحربية الروسية حقَّ المرور من
البحر الأسود إلى البحر الأبيض عبْر المضايق، وهي ميزة لم تكن متاحة
لأيٍّ من القوى الأجنبية الأخرى دون موافقة تركيا.
١
هكذا استطاع السلطان أن يتجنَّب الأخطار الروسية والمصرية، إلا أن
التكلفة كانت باهظة. كان محمد علي قد أصبح خَصمًا خطرًا بعد أن أصبح
الحوض الجنوبي الشرقي من البحر الأبيض بكاملِه تحت سيطرته، وبالرغم من
أن سوريا كانت قد مُنِحت له طول حياته فحسب، فإن السلطان محمود كان
يعرف جيدًا أنه كان ينوي أن يحوِّل ممتلكاته إلى ما سوف يصبح ملكيةً
وراثية مستقلة. بعد خمس سنوات سيتضح أنه كان محقًّا، عندما رفض محمد
علي في ١٨٣٨م أن يدفع الجزيةَ السنوية للباب العالي. انتهز السلطان
الفرصةَ وأعلن الحرب في العام التالي؛ إذ أرسل جيشًا من أربعة وعشرين
ألف مقاتل يعاونه أسطولٌ إلى سوريا بأوامرَ واضحة: طرد المصريين من
هناك مرةً أخرى وإلى الأبد.
كانت النتيجة كارثيةً من وجهةِ نظره. في الرابع والعشرين من يونيو،
استطاع جيشُ إبراهيم — بالرغم من أنه كان أقلَّ عددًا — أن يهزمَ قوات
السلطان عند «نيزيب Nezib» في شمال
سوريا. كان بفضل الرشوة المصرية، أن فرَّ عددٌ كبير من الجنود الأتراك
من الخدمة، بينما قام قائد الأسطول — لنفس السببِ تقريبًا — بالذهاب
إلى الإسكندرية مباشرة، وسلَّم الأسطول لمحمد علي. كان ذلك يوم الأول
من يوليو ١٨٣٩م، يومَ وفاة السلطان محمود في إسطنبول. لم يتحرَّك
الفرنسيون، الذين كانوا يعرفون أن مصلحتهم مع مصر، ولم يتخذوا أيَّ
إجراء، إلا أن القوى الأخرى أصابها الرعب. في الخامس عشر من يوليو
١٨٤٠م، عُقد مؤتمر في لندن ترأسه بالمرستون، وشاركت فيه النمسا
وبروسيا، وجَّه إنذارًا لمحمد علي بضرورة سحبِ قوَّاته من شمال سوريا
وكريت وإعادة الأسطول التركي إلى إسطنبول. إذا نفَّذ ذلك، فسيكون له
ولورثته من بعده حكمُ مصر، وحكم جنوب سوريا طوال حياته فحسب، أما في
حال الرفض، فسوف تقوم الأساطيل البريطانية والروسية بمحاصرة كلٍّ من
مصر وسوريا.
على أملِ تلقي مساعدة كبيرة من فرنسا — غني عن القول أنها لم تكن
مؤكَّدة — رفض محمد علي الإنذار، وكان البريطانيون عند كلمتهم. في ذلك
الخريف ذاته، قامت فرقةٌ بريطانية بقيادة الكابتن «تشارلز نابير Charles Napier» بقصفِ قلاع بيروت
وعكا وتدميرها، بل وقامت بإبرار قوةٍ تحت قيادة نابير كذلك، تمكَّنت
بسهولة بمساعدة العرب — الذين كانوا قد عانوا الأمرَّين تحت حكم محمد
علي — من أن توقِع الهزيمةَ بجيش محمد علي المحتل في معركة
«بوهارسف Boharsef» (أحد انتصارات
البحرية الملكية غير المهمة)؛ غضب الفرنسيون بسببِ ما اعتبروه عدوانًا
غيرَ مبرَّر وهدَّدوا بالحرب، إلا أن أحدًا لم يأخذهم على محملِ الجِد؛
وكما أشار الملك لويس-فيليب نفسُه فيما بعد، كان هناك فرقٌ شاسع بين
التلويح بالحرب والقيام بها. بعد ذلك أبحرَ نابير إلى الإسكندرية التي
كان يمكن أن تلقى مصيرَ الميناءين السوريَّين، لولا أن محمد علي وافق
على التفاوض. أعاد الأسطولَ التركي إلى إسطنبول، واستأنف دفْعَ الجزية
للسلطان، وانسحب كليةً من سوريا وكريت.
عاش ذلك العجوز الشرس حتى العام ١٨٤٩م ليموت في الثمانين. كان حاكمًا
وراثيًّا على مصر والسودان، ولكن تحت السلطة العثمانية العليا، ولم
يقُم بأي محاولاتٍ أخرى للتوسُّع الإقليمي. كان رجلًا شديدَ الذكاء و—
كما يقال — صاحبَ شخصية ساحرة. كان قويًّا وعلى درجةٍ كبيرة من
الكفاءة: لا شك أن حكمَه أحدَث تحسنًا كبيرًا عما كان عليه الأمر من
قبل؛ ولكنه لم يكن متعلمًا، ولم يكن لديه رؤية سياسية حقيقية ولا
أيديولوجية. كان يحكم بحسب المبادئ العثمانية، ورغم أنه مضى قُدمًا نحو
صُنْع مجتمع جديد أكثر تقدُّمًا، فإن الكثير من وقته كان مكرَّسًا
لتثبيت سلطانه ومقاومة المحاولات المتكررة من قِبَل السلاطين المتوالين
للتخلُّص منه. كان ناجحًا في ذلك أيَّما نجاح. استمرَّت الأسرة التي
أسَّسها أكثرَ من مائة عام (حتى منتصف القرن العشرين)، وإذا كان قد
أضاع الفرصةَ لوضعِ أسسِ دولة مصرية حديثة، فإنه — على الأقل — مهَّد
الطريقَ أمام مَن خلفوه؛ وإذا كانوا قد فشِلوا هم كذلك، فمن الصعب أن
نعزوَ هذا الفشل إليه.
•••
في أحدِ أيام شهر أبريل من عام ١٨٢٧م، ضرب داي
٢ الجزائر — حسين — غاضبًا القنصلَ الفرنسي بمِذبَّته ثلاث
مرات. مستاءةً لإهانة ممثِّلها الرسمي أرسلت الحكومةُ الفرنسية مجموعةً
بحرية إلى المدينة مُطالِبةً بالاعتذار والتعويض، وعندما رفض الباي، تم
وضْعُ القنصل والرعايا الفرنسيِّين على السفن، ومحاصرة الجزائر. بعد
ذلك، نزلت حملةٌ عسكرية في يوليو ١٨٣٠م، في «سيدي فروش
Sidi Ferruch»، الواقعةِ على بُعد
عشرين ميلًا غربي الجزائر تقريبًا، في الوقت الذي كانت المدينة نفسُها
تحت قصفٍ قوي من البحر. بعد أسابيعَ قليلة سقطت المدينة ونُفي الداي
وبدأ احتلال الجزائر.
إلا أن الأمرَ لم يستتبَّ للمحتلين. نَشِب القتال في الداخل اعتبارًا
من ١٨٣٢م تحت قيادةِ زعيمٍ للمقاومة كان في الخامسة والعشرين من عمره،
يُدعى عبد القادر، ليستمرَّ نحو خمسة عشر عامًا؛ ولكن عندما استسلم عبد
القادر للمارشال توماس-روبرت بوجو Thomas-Robert
Bugeaud في ١٨٤٧م، كان المستعمِرون الفرنسيون
يتدفَّقون على الجزائر. في ١٨٤١م كان هناك منهم بالفعل أكثرُ من سبعة
وثلاثين ألفًا، وقبل نهاية القرن كانوا قد أصبحوا يمثِّلون نحو عشرة في
المائة تقريبًا من عدد السكان. كانت الجزائر، كما وجدوها، مكانًا
مريحًا للإقامة، والحقيقة أن شعوبًا أخرى كثيرةً كانت قد فعلت ذلك من
قَبلهم: القرطاجنيون والرمان والبيزنطيون والعرب والأتراك. كانت قوة
القراصنة البربر قد زادت لدرجةِ أن أصبحوا بالفعل سادةَ البلاد، رغم
أنهم لم يحكموها … إذ إنهم لم يحاولوا. أما الذي لا خلافَ عليه، فهو أن
الجزائر تحت الجيش الفرنسي والدواوين العربية التي أنشأها بوجو، كانت
تُدار على نحوٍ أكثرَ كفاءة وأكثرَ إنصافًا مما كانت عليه على مدى قرون
سابقة.
على امتداد الساحل وفي الجبال الشمالية يسود طقسٌ متوسطي؛ حيث يكون
دافئًا جافًّا في الصيف، وممطرًا معتدلًا في الشتاء. قبل مجيء
الفرنسيِّين، لم تكن البلاد بعيدةً عن المدنية — ففي ١٨٣٤م كان جنرال
فرنسي قد لاحظ أن الأمية لم تكن سائدة، كانت هناك مدرستان في كل قرية —
وبالرغم من أنها كانت تحت السيادة العثمانية، فإن حكوماتها المتوالية
لم تعرف الاستقرار. من بين أسلاف الداي الثمانية والعشرين، كان أكثرُ
من النصف قد قُتل. لم تكن حقوق الملكية واضحة، ولم يكن ذلك مهمًّا
بالنسبة للفرنسيِّين، وعندما تكلَّم بوجو أمام الجمعية الوطنية في
١٨٤٠م، عبَّر عن رأيه بكل وضوح قائلًا: «حيثما يوجد ماء عذبٌ وأرض خصبة
علينا أن نضعَ مستوطنين دون أن نشغلَ أنفسنا بمَن يملك تلك الأراضي».
من ناحيةٍ أخرى، كان هناك نحو مليون هكتار (حوالي أربعة آلاف ميل مربع)
مملوكة للحكومة العثمانية، وممكن أن نقول إن الفرنسيِّين ورثوها، إلى
جانبِ مساحاتٍ أخرى تم الاستيلاء عليها، إما لأنها كانت متروكة دون
زراعة، أو نتيجة لمخالفات المُلاك السابقين.
في بدايته، كان حكم بوجو يتسم بقدْرٍ من الدكتاتورية وقليل من
التفاهم بين الحكام والمحكومين، وبالتدريج أصبحت توجُّهات الفرنسيِّين
أكثرَ استنارة. بعد وقتٍ قصير من تأسيس الجمهورية الثانية في ١٨٥٢م،
كان نابوليون الثالث يقول، إنه بينما كان يأمُل في أن يحافظ على عددِ
الفرنسيين المتزايد على الجزائر الفرنسية، لا بد من التذكُّر دائمًا أن
واجب فرنسا الأول كان إزاء الثلاثة الملايين عربي من سكانها؛ فالجزائر
«لم تكن إقليمًا فرنسيًّا، وإنما هي بلدٌ عربي ومستعمَرة أوروبية
ومعسكر فرنسي». على أية حال، كان أن استمرَّ الحكم الفرنسي إلى ما بعد
سقوط الجمهورية الثانية في ١٨٧٠م. قبل ذلك الوقت، كان «الحاكم العام Governor General» — وهو اللقب الذي
مُنح لأول مرة ﻟ «بوجو» — يُمنح دائمًا لضابط كبير في الجيش. في عام
١٨٧٠م فحسب، كان أن بلغ عدد المستوطنين نحوَ مائتي ألف جندي مزارع
Colons، وأصبحوا مصرِّين على فرض
المزيد من السيطرة على شئونهم مثل أقرانهم في مناطقِ البحر الأبيض
الأخرى. كانت الجزائر قد تم ضمُّها رسميًّا لتصبح جزءًا لا يتجزأ من
فرنسا نفسِها، وكانت تُحْكَم من خلال وزير الداخلية الفرنسي.
لهذا السبب كان وضْعُ الجزائر مختلفًا بالضرورةِ عن أوضاع جيرانها من
ناحية الشرق والغرب؛ أي تونس ومراكش. هنا كذلك، كان النفوذ الفرنسي
قويًّا؛ ولكن حيث إن الهجرة كانت قليلة نسبيًّا هناك، كان هذان البلدان
يُعتبران مجرَّد محمياتٍ تتولَّى شئونهما وزارةُ الخارجية الفرنسية.
كذلك، كانت تونس، من الناحية العملية، ولايةً عثمانية رغم تمتُّعها
بحكمٍ ذاتي مستقل. عندما احتل الفرنسيون الجزائر في ١٨٣٠م، قَبِل باي
تونس الحاكمُ آنذاك — وإنْ بحذرٍ شديد — التطميناتِ الفرنسيةَ بعدم
التدخُّل، ولكن في سنة ١٨٣٥م انتهزت
الإمبراطورية العثمانية فرصةَ الصراع على الخلافة في ليبيا المجاورة،
وأزاحت الأسرةَ الحاكمة هناك، وأعادت تثبيتَ حكمٍ عثماني مباشرةً. من
هنا، وجدت تونس نفسَها في وضعٍ حرِج، محصورة بين قوتين كبريين: فرنسا
وتركيا، وكلتاهما تنظر إليها بنَهم. حتى سنة ١٨٨١م، كانت فرنسا تقوم
بدورٍ متوازن، ثم بذريعةِ أن عددًا من رجال القبائل التونسية كانوا قد
ذهبوا للاستقرار في الأراضي الجزائرية، قامت بغزو البلاد، ونقلت سلطات
الباي الخاصة بالشئون المالية والشئون الخارجية إلى فرنسا، وعيَّنت
وزيرًا فرنسيًّا مقيمًا.
سلطنة مراكش — البلد الوحيد في شمال أفريقيا الذي يطل على البحر
الأبيض والمحيط الأطلنطي — كان وضعها مختلفًا مرةً أخرى. بسبب قلة
الموانئ الطبيعية لديها، وطبيعتها الجبلية، والمسافة الشاسعة التي
تفصلها عن المراكز الكبرى في الشرق، كانت ما تزال في منتصف القرن
التاسع عشر … معزولةً إلى حدٍّ كبير. كانت تلك العزلة — التي شجَّع
عليها حكامٌ متوالون — هي التي مكَّنتها بدايةً من أن تحافظ (إلى درجةٍ
كبيرة لم تكن ممكنة في أماكنَ أخرى) على تراثها الإسلامي والبربري
والأفريقي؛ كما مكَّنتها، ثانيًا، من مقاومة الضغوط الخارجية وبخاصة
ضغوط حروب الاسترداد الإسبانية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر؛
وهكذا تظل مراكش البلدَ العربي الوحيد الذي لم يحدُث أن كان جزءًا من
الإمبراطورية العثمانية التي حكَمت باقي دول العالم العربي
الأخرى.
لم يكن بالإمكان تجاهُل وصولِ الفرنسيِّين إلى الجزائر المجاورة.
تدهورت العلاقات بشدة في ١٨٤٤م، بعد أن لجأ الثائر عبد القادر إلى
مراكش، ودفع السلطان بجيش إلى الحدود. ردَّ الفرنسيون بقصف
«طنجة Tangier» في أوائل أغسطس، ثم
«موجادور Mogador» بعد عشرة أيام، وفي
الرابع عشر من الشهر كانوا قد دمَّروا جيشَ السلطان مولاي عبد الرحمن
في «إسلي Isli» بالقرب من
«أوجدا Oujda» كان السلطان مجبرًا،
بين أشياءَ أخرى، على تقديم وعدٍ باعتقال عبد القادر في حال دخوله
أراضي مراكش مرةً أخرى. كان عند كلمته؛ ففي ١٨٤٧م، عندما حاول عبد
القادر اللجوءَ مرةً أخرى، ألقت القوات المراكشية القبضَ عليه وأجبرته
على الاستسلام، ومن دواعي الارتياح القول إن الفرنسيِّين كانوا رحماء
به؛ فقد أمضى بقيةَ حياته في منفًى كريم في دمشق.
بموت السلطان في ١٨٥٩م، سيتحوَّل تسليط الضوء لفترة قصيرة إلى
إسبانيا، وسيواكب ذلك نزاع حاد حول حدود الأراضي الإسبانية المحاطة
بأرض أجنبية في سبتة
Ceuta.
٣ انتهى ذلك بإعلان مدريد الحربَ، واستيلاء إسبانيا على
تطوان
Tetouan في العام التالي، واضطُر
السلطان إلى الموافقةِ على تعويضٍ كبير وزيادة كبيرة في حجم أراضي
سبتة. في الوقت نفسِه كان البريطانيون والإيطاليون يأمُلون في الحصول
على نصيبهم من الكعكة المراكشية، ولكن الرشوة الفرنسية كانت جاهزة،
فوافقت بريطانيا على إطلاقِ يدِ الفرنسيِّين هناك مقابل تعهُّد بعدم
التدخل في خططها في مصر، بينما فعلت إيطاليا الشيء نفسَه فيما يتعلَّق
بليبيا. في ١٨٨٠م وقَّع البريطانيون والفرنسيون والإسبان والألمان
والإيطاليون والأمريكان، وقَّعوا اتفاقًا في مدريد — كان نظريًّا على
الأقل — يضمن استقلالَ مراكش، ولكن ذلك لم يمنع فرنسا من توقيع اتفاقية
سرية مع إسبانيا — بتواطؤ تام مع بريطانيا — على «مناطق نفوذ» لكلتيهما
في البلاد. كان ذلك هو الوضع، عندما وصل القيصر ولهلم الثاني
Kaiser Wilhelm II إلى طنجة في نهاية
مارس ١٩٠٥م على الباخرة هامبورج
Hamburg، وكعادته … أطلق القطَّ بين
الحمام! في ردِّه على كلمات الترحيب، أعلن تأييده: أولًا، لسيادة
السلطان الكاملة واستقلاله، وثانيًا لوحدة أراضي مملكته، وثالثًا ﻟ
«مراكش مفتوحة للمنافسة السلمية أمام كل الدول دون ضم أو
احتكار».
كان ذلك كلُّه يبدو أمرًا محمودًا أو غيرَ ضارٍّ، ولكنه كان في الوقت
نفسه بالنسبة للقوى الأوروبية، محاولةٌ صريحة لوضع عصًا في العجلة
الفرنسية … وكذلك في العجلة الإسبانية، وإن بدرجةٍ أقلَّ. في العام
السابق، كان القيصر قد اقترح بأن تقوم ألمانيا باستئجار «بورت ماهون Port Mahon» (في مينوركا) من إسبانيا،
وهي الفكرة التي قوبلت ببرودٍ من كلٍّ من فرنسا وبريطانيا؛ حيث إن
الجزيرة كانت في موقعٍ يجعلها تتحكَّم في طرقِ الوصول إلى طولون، كما
أنها تقع على خطٍّ مباشر بين القاعدتَين البريطانيتَين المهمتَين في
مالطة وجبل طارق. كان آخر شيء تريده الدولتان هو أن يتدخَّل ولهلم مرةً
أخرى في شئون غرب المتوسط. في آخرِ الأمر، تم بحثُ القضية كلِّها
بالتفصيل، ويبدو أنه كان قد تم حلُّها بشكلٍ مُرضٍ في ١٩٠٦م، عندما
دُعي لاجتماع الموقِّعين على اتفاقية ١٨٨٠م في «الجيسيراز Algeciras» لمناقشةِ المسألة المراكشية
برُمَّتها. أكَّد ذلك الاجتماع وحدةَ أراضي البلاد والمساواةَ
الاقتصادية بين القوى، ولكنه أقرَّ إشرافَ فرنسا وإسبانيا على الموانئ
المراكشية، والقيامَ بمهامِّ الشرطة بها، وتحصيل الضرائب
الجمركية.
حتى آنذاك لم تكن القصة قد انتهت تمامًا؛ ففي ١٩٠٧م قامت فرنسا
(المتلهِّفة دائمًا على زيادة نفوذها في شمال أفريقيا) باحتلال
كازابلانكا (الدار
البيضاء Casablanca)؛ وعندئذٍ قام عبد الحافظ، شقيق السلطان عبد
العزيز بقيادةِ تمرُّد عليه، متهمًا إياه بخيانةِ الأعراف الإسلامية.
لجأ عبد العزيز إلى طنجة بينما أُعلن عبد الحافظ سلطانًا في فاس
Fez. اعترفت به القوى الأوروبية في
العام التالي، إلا أنه لم يقُم بأي محاولة لفرضِ النظام في أرجاء
البلاد، وفي آخرِ الأمر، اضطُر مع تزايد الفوضى لطلبِ مساعدة فرنسا.
كانت النتيجة اتفاقيةَ فاس في ١٩١٢م، التي أصبحت مراكش بموجبها محميةً
فرنسية؛ أما طنجة التي طالما كانت مقرًّا للبعثات الدبلوماسية
الأوروبية، فوضعت تحت إدارةٍ منفصلة.
وأخيرًا، كلمة عن ليبيا. أي زائر لذلك البلد سيفاجأ بجغرافيته غير
العادية. في الغرب؛ حيث طرابلس العاصمة — توجد «تريبوليتانيا
Tripolitania»، التي ينتابك فيها
الشعور بأجواءِ روما القديمة وبخاصة في مواقع مثل «ليبتس ماجنا
Leptis Magna» أو «سابراتا
Sabrata»، وفي الشرق توجد «كيرينايكا
Cyrenaica» (مركز بنغازي) التي تعيدنا
على الفور إلى عالَم اليونان القديمة، وبخاصة في أماكنَ مثل
«أبولونيا
Apollonia» وكايرين
Cyrene وغيرها. بين تريبوليتانيا
وكيرينايكا نحو ستمائة أو سبعمائة ميلٍ خالية من أي شيء، ما عدا بلدةَ
سرت
Sirte الصغيرةَ التي تقع في منتصف
المسافة. هذه البلاد ظلَّت متحدة بسبب عاملين؛ طائفة السنوسية الذين
يدعون إلى شكلٍ تطهريٍّ من الإسلام — رغم أن ذلك كان مُركَّزًا إلى
حدٍّ كبير في كيرينايكا — ثم الاستعمار الإيطالي.
٤ مثل جيرانها، كانت ليبيا مستقلةً بذاتها تقريبًا، رغم أنها
كانت تحت حكمٍ تركي اسمي، إلى أن استغلَّت الإمبراطورية العثمانية أحدَ
الصراعات التي لا نهايةَ لها حول الخلافة، في سنة ١٨٣٥م، لكي تعيد
فرْضَ حكمٍ مباشر عليها. على مدى سبع وسبعين سنة تالية، سيكون موظفون
مدنيون من إسطنبول هم الذيم يديرون شئون البلاد، إلى أن تتولى إيطاليا
الأمر، وتعطيها اسمَها (ليبيا)، وتحكمها إلى ما بعد الحرب العالمية
الثانية.
هوامش