الفصل السابع والعشرون
اﻟ «كوارانتوتو»
The
Quarantotto
***
عندما ثار شعب باليرمو في الثاني عشر من يناير ١٨٨٤م
— يوم عيد الميلاد الثامن والثلاثين للملك فرديناند الثاني —
١ على حكامهم البوربون، لم يكن لديهم أيُّ فكرة عن العمل
الذي شرعوا فيه. لم تكن الانتفاضاتُ شيئًا جديدًا على المملكة: كانت قد
سبقت ثورة يناير انتفاضاتٌ فاشلة في نابولي (١٨٢٠م) وفي بيدمونت
(١٨٢١م)، كما كانت صقلية نفسُها قد شهِدت انتفاضةً في ١٨٣٧م على إثرِ
وباء الكوليرا في أولِ ظهور للمرض في أوروبا الغربية؛ إلا أنه كان من
السهل — نسبيًّا — التعامُل مع مظاهر الغضب الناجمة عن ذلك. ما حدَث في
١٨٤٨م أو الكوارانتوتو
٢ كما تتذكَّرها إيطاليا، كان شيئًا مختلفًا. كان ثورة،
وبحلول آخرِ العام كانت قد تبِعتها ثوراتٌ أخرى: في باريس وفيينا
ونابولي وروما وفينيسيا ولوكا وبارما ومودينا وبرلين وميلان وكراكاو
ووارسو وبودابست.
مع مطلع العام، كانت مظاهراتُ الطلاب قد أجبرت السلطات على إغلاق
الجامعة، كما كان قد تم القبضُ على أعدادٍ كبيرة من المواطنين
المعروفين بتوجُّهاتهم الليبرالية، كما تم توزيعُ منشور بدون توقيعٍ
يدعو الناس للثورة يومَ عيد ميلاد الملك. كان عددٌ كبير من الثوار من
لصوص الجبال وقُطَّاع الطريق — أسلاف مافيا هذه الأيام — أو من
المزارعين البسطاء. كان قليلٌ منهم لديهم فكرةٌ عما يناضلون من أجله،
بصرفِ النظر عن التطلُّع إلى حياةٍ أفضلَ بشكلٍ عام، إلا أنهم كانوا
يناضلون بضراوة. كان الدمار قد أصاب الكثيرَ من القرى والبلدات الصغيرة
والكثيرَ من المناطق الريفية.
كان للبوربون قواتٌ قوامها نحو سبعة آلاف جندي في حاميةِ باليرمو،
إلا أنها كانت بلا فائدة. كانت وسائل الاتصال رديئةً والطرق سيئة، ومن
الصعب الوصولُ إلى الأماكن في الحال. عندما شعروا باليأس، قرَّروا أن
يقصفوا المدينة، وهو القرار الذي سيندمون عليه بعد قليل.
٣
انقضَّ الدهماء على القصر الملكي فنهبوه — إلا أنهم، والحمد لله،
أبقَوا على كنيسة البلاط الصغيرة — وأضرموا النارَ في سجلات الدولة
وأرشيفاتها. تراجعت الحامية ثم عادت مسرعةً إلى نابولي. في الأيام
التالية شُكِّلت لجنةٌ حكومية برئاسة روجيرو سيتيمو
Ruggero Settimo الوطني الصقلي البالغِ
من العمر سبعين عامًا (ووزير البحرية السابق في نابولي)، وفي الوقت
نفسِه كانت الثورة قد انتشرت في كل المدن الرئيسية، ما عدا مسيني التي
نأت بنفسها حقدًا على باليرمو، وفي نحوِ مائة قرية؛ حيث كان دعمُ
المزارعين قد تأكَّد بوعودٍ بمنحهم أراضيَ زراعية. لم تواجه الثورة
أيةَ مقاومة تستحق الذكر.
بنهاية الشهر، كانت المدينة قد أصبحت خاليةً من القوات الملكية، وفي
الخامس من فبراير أعلن سيتيمو أن «شرور الحرب انتهت، وأن عهدًا من
السعادة يبدأ الآن في صقلية». فاته أن يذكر أن قلعةَ مسيني كانت ما
تزال في أيدي النابوليِّين، إلا أنه كان من الواضح بالنسبة للملك
فرديناند أن ظهره كان للحائط. وبسبب المظاهرات المستمرة في نابولي على
النموذج الصقلي، عرضَ منْحَ جزئَي مملكتِه دستورًا ليبراليًّا، ينهض
بأعباء مجلسَين تشريعيَّين وقدْرٍ من الحقوق. كتب السفير النمساوي
الأمير شوارزنبيرج Prince
Schwarzenberg، الذي أصابه الرعب، إلى رئيسة متيرنخ
Metternich يقول: «لقد فقدَ الملك
ووزراؤه عقولَهم تمامًا.» أمَّا متيرنخ فكتب على هامش الرسالة:
«أتحدَّى أن يكون الوزراء قد فقدوا شيئًا لم يملكوه قطُّ.»
لا بد من أن تكون الأخبار التي وصلته في آخرِ فبراير قد أصابته
بالمزيدِ من الحزن. في باريس، كان لويس فيليب «الملك المواطن»، قد تم
إسقاطه عن العرش في الرابع والعشرين من فبراير، وأُعلنت الجمهورية.
الآن كان الانهيار قد بدأ. كان فرديناند، الذي كان قد حقَّق قدرًا من
الشعبية بعد عرضه منْحَ دستور، قد أصبح ممقوتًا أكثرَ من أي وقتٍ مضى؛
لم تَعُد الدساتير الليبرالية تكفي. في الوقت نفسه كان الصقليون قد
رفضوا العرض، وأبلغوه، دون مبالاة، بأن «صقلية لا تريد دساتيرَ جديدة،
صقلية تريد استعادةَ حقوق كانت لها منذ قرون». أعلنوا عزْلَه في
باليرمو، وبدلًا من عَلَم البوربون، كان هناك الآن العلم الثوري ذو
الألوان الثلاثة، وذلك الشعار الغريب على شكل عجلة بدون إطار، وثلاث
أرجل كأنها أشعةٌ خارجة منها.
الآن كانت صقليةُ مستقلة بحق، ولأول مرة منذ القرن الرابع عشر،
المشكلة كانت في عدمِ وجود آلية لإدارة جيدة. انتشرت العصابات
المسلَّحة على الجزيرة، كثرت حوادث الخطف والابتزاز، إلا أن ذلك كلَّه
كان مجرد أعراض لمرضٍ أشدَّ ضراوة. بارت التجارة وزادت نسبةُ البطالة
وانهار النظام القضائي. لم يَعُد عام ١٨٤٨م، بالنسبة لكثير من أهالي
صقلية، عامَ الثورة؛ كان عامَ الدمار والفوضى.
قُرْب نهاية أغسطس، أرسل فرديناند قوةً برية-بحرية مشتركة بقيادة
الفيلد مارشال «كارلو
فيلانجييري Carlo Filangieri» لإعادة الهدوء للمدينة. ردَّ الثوار قتالًا
بقتال؛ أما حقدُ القرون الكامن بين النابوليِّين والصقليِّين، فتفجَّر
في أعمالٍ عِدائية بين الجانبين، لدرجةِ أن قادةَ البحر البريطانيِّين
والفرنسيِّين الذين روَّعهم الدم المسفوح والوحشية في مياه صقلية،
أقنعوا فرديناند بإعلانِ هدنةٍ لمدة ستة أشهر. كان يمكن أن تكون فرصةً
للخروج من ذلك المأزق، إلا أن كلَّ عروض التسوية كان يتم رفضها على
الفور. كانت النتيجة أن قام فيلانجييري بالاستيلاء على «تاورمينا Taormina» في الثاني من أبريل، وعلى
كاتانيا في السابع من الشهر نفسِه، وفي الخامس عشر من مايو دخل
باليرمو. بما يتَّصفون به من عدمِ كفاءة وفقدان لروح الاتحاد، وبسبب
رفضهم لكل الحلول الوسط، كان الصقليون يقدِّمون نموذجًا لما يجب ألا
يكون عليه طريقُ الثورة. كان جيرانهم اليونانيون قد أظهروا عيوبًا
مشابهة، إلا أنهم كانوا يجدون دعمًا من القوى الغريبة. لم يحصُل
الصقليون على شيء من ذلك … ودفعوا الثَّمن.
•••
رغم أن الثورة في فينيسيا كانت فاشلة هي الأخرى في آخرِ الأمر، فإنها
كانت تُدار بثقةٍ ومهارةٍ أكثرَ. في يونيو ١٨٤٤م، كان ثلاثة من شباب
الضباط الفينيسيِّين: الشقيقان أتيليو
Attilio وإميليو
Emilio بانديير
Bandiea، وصديقهما دومينيكو مورو
Domenico Moro، كانوا قد أبحروا من
كورفو قاصدين كالابريا للانضمام إلى حركةِ تمرُّد ضد بوربون نابولي.
كانت رحلةً دونكيشوتية غريبة: لم يكونوا قد استعدوا لها على أي نحو، لم
يتخذوا أيَّ تدابير وقائية، وتم إلقاءُ القبض عليهم في الحال. بعد شهرٍ
تم إعدامهم في وادي روفيتو
Rovito
بالقرب من كوسنزا
Cosenza.
٤ كان لأخبار موتهم صدًى بالغُ الأثر في الرأي العام
الإيطالي؛ فإذا كان ثلاثة من أبناء فينيسيا — ناهيك عن شهداءَ آخرين
كثيرين من بيروجيا وريميني ومدنٍ أخرى — على استعداد للموت من أجل
نابولي، فإن الوحدةَ الإيطالية في آخرِ الأمر لا بد من أن تكون أكثرَ
من حُلم أجوفَ، كان يبدو ألا يكون موت أولئك الأبطال ضربًا من العبث.
كان هناك الآن اتفاقٌ عامٌّ في فينيسيا على أن اللحظةَ قد حانت، لكي
يتكلم كلُّ أهالي المدينة بصوتٍ واحد، وكان ذلك هو صوت دانييل مانن
Daniele Manin.
مانن من مواليد فينيسيا في الثالث عشر من مايو ١٤٠٨م، وكان أبوه
اليهودي قد تحوَّل إلى المسيحية في شبابه، واتَّخذ لنفسه اسمَ أبيه
بالمعمودية، بيترو مانن Pietro Manin —
شقيقِ لودوفيكو Ludovico، الدوج
الأخير. عازمًا على أن يكون محاميًا مثل أبيه، كان دانييل قد نشر أولَ
عمل له، وهو رسالة عن الوصايا Wills في
سنِّ الثانية عشرة. عندما حصل على درجةِ الدكتوراه من جامعةِ بادوا وهو
في الحادي والعشرين، كان لديه إلمامٌ جيد باللاتينية واليونانية
والعبرية والفرنسية والألمانية، إلى جانب الإيطالية، وفينيسيته
الوطنية. كان كما أنشأه والده قد تشرَّب أفكاره الجمهورية والليبرالية،
كما كان ناشطًا سياسيًّا على مدى نحو ستة عشر عامًا، عندما بدأ ما
أَطلق عليه نضاله القانوني lotta
legale، مع نمو الوعي القومي في إيطاليا في ١٨٤٧م ضد
الاستبداد النمساوي. في تلك المرحلة، لم يكن يطالب بالاستقلال الكامل
لفينيسيا، وإنما مجرد الحكم الذاتي تحت إمبراطورية الهابسبورج. وعندما
تم رفضُ ذلك — كما كان يعرف جيدًا أنه سيحدُث — دعا أبناءَ وطنه لحمل
السلاح.
جاءت أولى لحظات التحدِّي العلني في الثلاثين من ديسمبر ١٨٤٧م، عندما
ألقى الأكاديمي المتميز نيكولو توماسيو
Niccolò
Tommaseo محاضرةً، كان موضوعها الظاهري «حالة الأدب
الإيطالي»، بينما كانت في حقيقتها هجومًا مباشرًا على الرقابة
النمساوية. في النهاية، قام بتمرير عريضة وقَّعها أكثرُ من ستمائة
شخصية قيادية من فينيسيا وفينيتو، وكتعبير إضافي عن سخطِهم، اتَّبع
أهالي فينيسيا النموذجَ الذي كان أهالي ميلان قد انتهجوه قبل أسابيع
قليلة، وتوقَّفوا عن التدخين.
٥ كانوا كذلك قد أصروا على عدمِ التصفيق استحسانًا، للفرقة
الموسيقية العسكرية النمساوية في الساحةِ العامة، وأصبحوا — من الآن —
يغادرون المكانَ عندما تبدأ العزف. بعد أسبوع، أتبعَ مانن ذلك ميثاقًا
من ست عشرة نقطة، يطالب فيه، بين أشياءَ أخرى، بحقوقٍ لجميع
الإيطاليِّين تحت الحكم النمساوي، وبحكومةٍ منفصلة في الشمال الإيطالي
تكون مسئولة أمام الإمبراطور، وإلغاء الرقابة نهائيًّا، وكانت تلك هي
القشة الأخيرة بالنسبة للسلطات الإمبراطورية. في الثامن عشر من يناير
١٨٤٨م، أُلقي القبضُ على مانن وتوماسيو وتم اقتيادهما إلى السِّجن
المجاور لقصر الدوج. بمجرد أن عرفَ أهالي فينيسيا مكانهما، كانت
الجماهير تتجمَّع يوميًّا في المكان في وقفةِ صمتٍ وإجلال لهما.
في أوائل مارس، ولدهشةِ الجميع
تمَّت تبرئة الاثنين، إلا أن قائد الشرطة النمساوية صمَّم على استمرارِ
احتجازهما في السِّجن. كانت غلطةً كارثية. تم إلغاء الكرنفال السنوي،
وتولَّى المحامون من رفاقِ مانن تصريفَ أعماله دون أجر. بالرغم من ذلك،
كان أهالي فينيسيا ما زالوا متردِّدين في اللجوء للسلاح؛ إذ كانوا
يعرفون أن الجيشَ النمساوي في فينيسيا - لومبارديا، تحت قيادة المارشال
جوزيف رادتسكي
Joseph
Radetzky٦ (٨١ سنة) لم يكن يقل عن خمسة وسبعين ألف مقاتل. بعد ذلك،
جاءت باخرة البريد من تريستا
Trieste
بأخبارٍ مفادُها أن فينيسيا كانت في حالةِ ثورة، وأن الثوار انتصروا،
وأن الأمير المكروه متيرنخ كان قد فرَّ قبل أربعة أيام لينجوَ بحياته.
بين عشية وضحاها تغيَّر الموقف؛ إذ عندما ذاعت الأخبار في المدينة،
تدفَّقت الجماهير الحاشدة على مقرِّ الحاكم في الركن الجنوبي من
الميدان الكبير وهم يهتفون:
Fuori Manin e Tommaseo!٧ كان من الواضح أن أحدًا لن يستطيع الوقوفَ في طريق الشعب
بعد ذلك.
في آخرِ الأمر، أطلَّ «الكونت
بالفي Count Palffy» من النافذة، معلنًا أن ليس من سلطته إطلاقُ سراح
السجناء، حتى وإن كان يريد ذلك. آنذاك، اندفعت الجماهير بقيادة
«جيورجيو Giorgio» (١٦ سنة) ابنِ
مانن، من الرواق إلى السِّجن، وراحوا بكل عنف يدقُّون الأبواب التي
فُتحت في النهاية. أما دانييل مانن الذي لم يكن لينسى في كل الظروف أنه
محامٍ، فكان من الطبيعي أن يرفض مغادرةَ المبنى دون قرار رسمي بذلك،
وهو القرار الذي وقَّعه بالفي على عجل، بناءً على إلحاحٍ من زوجته التي
كانت في حالةٍ شبه هستيرية. آنذاك، فحسب، ظهر هو وتوماسيو لتحمِله
الجماهير على الأعناق إلى مقر الحكم. كانت الجماهير على وشْك أن تحطِّم
الأبواب، ولكن مانن كبح جمامهم قائلًا: لا تنسوا أنه لا يمكن أن يكون
هناك حرية حقيقية، أو أن الحرية يمكن أن تستمر إلا إذا كان هناك نظام.
وبعد أن ساد الهدوء تركهم يحملونه إلى بيته.
•••
إذا كانت استقالة متيرنخ وهروبه يوم الثالث عشر من مارس قد ألهمت
إيطاليا لكي تعمل، إلا أنها تركت النمسا في حالةٍ من الفوضى. كانت
الحكومة بلا ضابط أو رابط، والجيش مرتبكًا وغيرَ واثق من ولاءاته؛ وكان
ذلك دون شك، مؤشرات للمتمردين والثوار في أرجاء إيطاليا. التمرُّد
الكبير في ميلان، المعروفُ لكل الإيطاليِّين ﺑ «الأيام الخمسة من ١٨
إلى ٢٢ مارس cinque giornate»، أدَّى
إلى طرد النمساويِّين من المدينة ونصَّب حكومةً جمهورية. في اليوم
الأخير من تلك الأيام الخمسة، ظهر مقالٌ في الصفحة الأولى من جريدة
«إلريزورجمنتو Il Riosorgimento»
(البعث) في تورين Turin، بقلم رئيس
التحرير الكونت كاميللو كافور Count Camillo
Cavour، كتب: «دقَّت الساعة الحاسمة» و«هناك طريق واحد
مفتوح أمام الأمة، أمام الحكومة، أمام الملك. الحرب!»
بعد يومين، أعلن ملِك سافوي، تشارلز ألبرت Charles
Albert، من بيدمونت، استعدادَ بلاده لمنحِ دعمِها
الكامل لفينيسيا - لومبارديا في الصراع القادم، بالإضافة إلى عزمِه
القيامَ شخصيًّا بقيادة جيشه في المعركة. لسوء حظه، وبالرغم من قدرته
على تعبئةِ نحو سبعين ألف جندي على الفور، لم تكن بيدمونت جاهزةً
للحرب، لم يكن لدى جيشها كلِّه خريطةٌ واحدة ﻟ «لومبارديا»؛ ولسوء الحظ
كذلك، أن الملِك لم يكن قائدًا عسكريًّا كفئًا — المؤكَّد أنه لم يكن
ندًّا ﻟ «رادتسكي» العجوز الذي كان قد عرف قيادةَ الجيوش قبل أن يُولد
تشارلز ألبرت.
من ناحيةٍ أخرى، بالرغم من أن المحصِّلة النهائية للأعمال العِدائية
بين النمسا وبيدمونت كان لا بد من أن تكون نهايةً محتومة من وجهة النظر
العسكرية، لا بد من أن يكون ردُّ فعل الدول الإيطالية الأخرى قد شجَّع
الملك. أرسل الدوق الأكبر ليوبولد الثاني Leopold
II، دوق توسكانيا، جيشًا على الفور، كان يضم قواتٍ
نظامية ومتطوعين. الأكثر مدعاةُ للدهشة، أنه كانت هناك استجابةٌ مماثلة
من فرديناند ملِك نابولي، الذي أرسل قوةً من ستة عشر ألف جندي، بقيادة
جنرال كبير من كالابريا يُدعى «ججليملو بيبي Guglielmo
Pepe». ربما لم تكن تلك الإسهامات تعني شيئًا
مهمًّا من الناحية الاستراتيجية، إلا أنها كشفت دون شك عن أن القضية
كانت قضيةً إيطالية قومية؛ وبمجرد أن اتخذوا أماكنهم إلى جوار
البيدمنتويين، كان الحكام زملاء تشارلز ألبرت يعتبرون أنفسَهم رفاقًا،
وليس مجرد حلفاء.
وحدَه دانييل مانن، لم يدَّعِ أنه كان يحارب من أجل إيطاليا، كانت
فينيسيا هي قضيته. قبل أشهرٍ قليلة، كان يمكن أن يستقبل الأخبار التي
وصلت مساء إطلاق سراحه من السِّجن على اعتبار أن الملِك وافق على مبدأ
الحكومة الدستورية ﻟ «فينيسيا - لومبارديا»، إلا أن مثل ذلك العرض كان
قد أصبح شيئًا قليلًا جدًّا … ومتأخرًا جدًّا. كان مانن الآن مصرًّا
على عدم الموافقة على ما هو أقلُّ من طردِ كل النمساويين من الأراضي
الفينيسية. صباح يوم الثاني والعشرين من مارس — وهو يوم خُلِّدت ذكراه
بإطلاقه على أهمِّ شارع تجاري في فينيسيا — قام هو ورجاله باحتلال
الترسانة العسكرية دون مقاومة، وصادروا كلَّ ما بها من أسلحة وذخائر،
ثم قام بعدُ على رأس موكبِ نصرٍ بالتوجُّه إلى الميدان الكبير ليعلن
قيامَ جمهورية، منهيًا كلمتَه بصيحةٍ مدوية «فيفا سان ماركو»
Viva San Marco!، كانت تلك أولَ مرة
تُسمع فيها تلك العبارة علنًا على مدى أكثرِ من نصف القرن. في نفس
الوقت، كان بالفي قد وقَّع مرسومَ استسلام، تاركًا السلطةَ الفعلية ﻟ
«الحكومة المؤقتة التي سيتم تشكيلها»، ومتعهدًا بجلاءِ كل القوات
النمساوية — دون أسلحتها — إلى تريستا
Trieste.
مرةً أخرى، عادت فينيسيا جمهورية، إلا أنه كان من الواضح منذ الأيامِ
الأولى أن الجمهورية كانت تواجه خطرًا قاتلًا. انسحب النمساويون لكنهم
لم يُهزموا، كما أن الثورةَ كانت مقصورةً على المدن الرئيسية. كان
راديتسكي يسيطر على معظمِ المناطق الريفية؛ وبعد سقوط «فيزنزا
Vicenza» في العاشرِ من يونيو كانت كلُّ
اليابسة الفينيسية قد عادت لأيدي النمساويين. لم تكن فينيسيا تتصوَّر
أنها ستقف وحيدةً، وهكذا في الرابع من يوليو، صوَّت المجلس الفينيسي،
الذي كان قد انتُخب حديثًا، للاندماج مع بيدمونت؛ حيث كان كافور ينادي،
على نحوٍ أكثرَ إلحاحًا، بالوحدة الإيطالية. كان يومًا مأساويًّا
بالنسبة لدانييل مانن، الذي سلَّم فورًا لحكومةٍ مؤقتة واعتزل الحياة
العامة. (بعد عدة أيام شاهدوه يرتدي زيَّ جنديٍّ أثناء قيامه بالحراسة
في الرواق). في الوقت نفسِه كان نحو ثلاثة آلاف جندي من قوات بيدمنتو
قد سُمح لهم بالإقامة في المدينة، وكان ذلك بالنسبة لأهالي فينيسيا
أمرًا سيئًا، وكأن النمساويين عادوا مرةً أخرى.
«كل يوم يثبت البابا أنه شخصٌ يفتقر إلى الخبرة. كان قد وُلد
ونشأ في أسرةٍ ليبرالية، وتعلَّم في مدرسةٍ سيئة، ولم يوجِّه عقله
لشئون الحكم. ولأنه كان دافئَ القلب ضعيفَ العقل ترك نفسَه — منذ
أن وضع التيرةَ على رأسه — لكي يرضخَ ويقع في شِراكٍ لم يَعُد يعرف
كيف يخرج منها، وإذا مضت الأمور في مسارها الطبيعي، فسوف يُطرد من
روما.»
العبارات النبوئية السابقة، كان قد كتبها الأمير متيرنخ، السكرتير
الأول في سفارة النمسا إلى سفيرةٍ في باريس في أكتوبر ١٨٤٧م. كان
موضوعها هو جيوفاني ماريا ماستاي-فيريتي
Giovanni Maria
Mastai-Ferretti، أسقف أيمولا
Imola سابقًا، ورئيس أساقفة سبوليتو
Spoleto، الذي كان قد انتُخب في العام
السابق — وهو في الرابعة والخمسين — ليكون البابا بيوس التاسع، بواسطةِ
ليبرالي إيطالي، وكل أوروبا الغربية في الحقيقة، وكانت أخبار انتخابه
مثيرةً ومبهجة. كان البابا الجديد يبدو واحدًا منهم؛ ففي أول شهرٍ له
في المنصب، أصدر عفوًا عن أكثرَ من ألفٍ من السجناء السياسيِّين
والمنفيِّين،
٨ وبعد أسابيعَ قليلةٍ كان يقيم احتفالاتٍ للجنسين في الهواء
الطلْق في حديقة الكويرينال. في الوقت نفسِه شجَّع على قيامِ مشروعاتٍ
للسكك الحديدية وإنارة شوارع روما بالغاز. أسَّس صحافةً حرة أو قريبة
من ذلك، وبدأ إصلاحات التعرفة، وأدخل غيرَ الإكليريكيِّين للعمل في
الإدارة البابوية، كما ألغى ذلك القانون الشاذَّ الذي كان يجبر اليهود
على الاستماع إلى موعظةٍ مسيحية مرةً في الأسبوع. باحتشاد الناس حوله
أينما ذهب، كان أن أصبح أكثرَ شخص محبوب في إيطاليا.
إلا أن تلك السُّمعة الطيبة كان لها مخاطرها. كانت كل تظاهرة سياسية،
من أكثرها اعتدالًا إلى أكثرها ثوريةً تدَّعي الآن دعمَه لها وتطالب
بالمزيد منه، فظهر اسمُه على ألوف اللافتات وكثيرًا ما كان ذلك من أجل
قضايا كان يعارضها بشدة. بتفجُّر ثورات ١٨٤٨م، أصبح الدفاع عن موقعه أو
المحافظة عليه أكثرَ صعوبةً. بيو نونو … بيو نونو … بيو نونو،
Pio Nono! Pio Nono! Pio Nono! أصبح
الاسم هُتافًا تردِّده الجموع وهي تموج عبْر شوارع مدينة بعد أخرى؛
وعندما أنهى البابا كلمةً له بعبارة «فليبارك الرب إيطاليا»، فهمت
العبارةَ على الفور باعتبارها مصادقةً على الحُلم العام بإيطاليا
موحَّدة، متحرِّرة إلى الأبد من الحكم النمساوي. (من الصعب في الحقيقة
القول إن بيوس كان يريد أن يرى إيطاليا موحَّدة؛ فبصرف النظر عن أي شيء
آخرَ، ماذا سيكون مصير الدول البابوية؟) باختصار، كان البابا قد وجد
نفسَه الآن على قطارٍ جامح بلا سائق، أملُه الوحيد أن يوقفه بأيِّ
طريقة.
بنهايةِ يناير من ذلك العام المشئوم، كان فيضان الدساتير الجديدة قد
بدأ. كان فرديناند قد منح نابولي دستورًا في التاسع والعشرين من الشهر،
وبعد ذلك بأسبوع، منح الدوق الأكبر فلورنسا دستورًا آخرَ. في الخامس من
مارس، بعد ثورةِ باريس وهروب لويس فيليب، منح تشارلز ألبرت ملِك سافوي
دستورًا ﻟ «تورين». ثم جاء دَور فيينا في الثالث عشر من مارس، عندما
هرب متيرنخ نفسُه. كانت تلك أهمَّ الأخبار، كان هناك أملٌ جديد في صدر
كل زعيم وطني إيطالي ممن كانوا ينظرون إلى الفاتيكان كمبادر. في الخامس
عشر من مارس، منح البابا بيوس روما دستورًا. لم يكن دستورًا شديدَ
الليبرالية. كان وزيره الأول الكاردينال أنتونيللي
٩ قد راعى ذلك — كما أنه لم يستمرَّ طويلًا كما كشفت الأمور
فيما بعدُ، إلا أنه حقَّق الهدفَ منه. بيوس، الذي لم يكن على استعدادٍ
لأن يقودَ ثورةً أوروبية، لم يكن يريد كذلك أن يبدوَ متقاعسًا.
في الرابع والعشرين من مارس — نفس اليوم الذي أعلن فيه تشارلز ألبرت
الحربَ على النمسا — قام الجنرال جيوفاني ديوراندو
Giovanni Durando بقيادةِ الحرس
المتقدِّم لجيشٍ بابوي، خارجًا من روما لحمايةِ الحدود الشمالية للدول
البابوية من أي هجوم نمساوي محتمل. كان ذلك يعتبر إجراءً دفاعيًّا،
ولكنَّ مثيري الحرب رفضوا أن يعتبروه كذلك؛ فالنمسا، حسب زعمهم، كانت
قد أعلنت الحربَ على إيطاليا المسيحية. كانت تلك إذن حربًا مقدَّسة،
حربًا صليبية، ذات هدف مقدَّس، وهو طرد الغزاة من الأراضي الإيطالية
المقدَّسة.
كان المتوقَّع أن يستثيرَ ذلك غضبَ البابا بيوس. كان لا يمكن أن
يتغاضى عن سياسةٍ عدوانية كتلك، على الأقل ضدَّ دولة كاثوليكية، كما
كان من الضروري جدًّا بالنسبة له أن يوضِّح موقفَه مرة وإلى الأبد.
كانت النتيجة ما عُرف ﺑ «خُطبة ٢٩ أبريل ١٨٤٨م التحذيرية
Allocution of 29 April 1848». بعيدًا
عن قيادة الحملة من أجل إيطاليا موحَّدة، أعلن أنه كان ضدَّها بكل قوة.
ينبغي على الإيطاليِّين التقاةِ الذين يخشون الربَّ أن ينسوا فكرةَ
الوحدة برُمَّتها، وأن يتعهَّدوا مرةً أخرى بالولاء لأمرائهم
الفرديِّين.
رحَّب الملِك فرديناند بخطبةِ التاسع والعشرين من أبريل، وكان يراها
عذرًا كافيًا لإعادة الجيش الذي كان قد أرسله إلى الشمال بقيادة
الجنرال بيبي. (يُحسب ﻟ «بيبي» أنه لم ينفِّذ أوامره، وقاد نحو ألفين
من رجاله دفاعًا عن فينيسيا). عن طريقِ عددٍ كبير من الوطنيِّين
الإيطاليِّين الذين كانوا يجوبون البلاد طولًا وعرضًا، انتقلت الأخبارُ
التي تلقَّاها الناس بقدْرٍ من الرعب، غيرَ أن قضية الوحدة لم تتأثَّر
كما ستكشف الأحداث التالية. كانت الحركة قد انتشرت ومن المتعذَّر
إيقافها. كان الضررُ الوحيدُ الذي وقع، هو ما لحِق بسُمعة بيوس نفسِه.
حتى ذلك الحين كان بطلًا، من الآن سيصبح خائنًا. بالإضافة إلى أن تلك
الخِطبة أظهرت (وربما مثلما لم يظهر أيُّ شيء آخر) مدى ضَعف البابا
وعدم قدرته على التأثير في الأحداث. كلُّ شعبيته الوهمية ذهبت أدراجَ
الرياح بين عشية وضحاها. والآن، كان قد جاء دوره لكي يواجه الثورة. في
الشهور السبعة الأولى، كان يكافح من أجل الصمود، ولكن عندما تعرَّض
وزيره الأول الكونت بيلليجرينو روسي Count Pellegrino
Rossi لاعتداءٍ بالضرب كاد أن يفضيَ إلى موته، وهو
يدخل مبنى المستشارية، أدرك أن روما لم تَعُد مكانًا آمنًا بالنسبة له.
في الرابع والعشرين من نوفمبر، تسلَّل متنكرًا في ثيابِ قسٍّ صغير وخرج
من قصر كويرين، عن طريقِ بابٍ جانبي، فارًّا إلى جاييتا
Gaeta؛ حيث استقبله الملك فرديناند
بحفاوة.
في البداية، حقَّق جيش بيدمونت قدْرًا من النجاح؛ ففي وقتٍ سريع،
ألحقَ هزيمةً منكرةً بجيش تشارلز ألبرت في الرابع والعشرين من يوليو
بالقربِ من كاستوزا Custoza على بُعد
أميالٍ قليلة، جنوب غرب فيرونا. بعد ذلك ارتدَّ إلى ميلان بينما كان
راديتسكي يطارده؛ وفي الرابع من أغسطس اضطُر لطلبِ هدنةٍ وانسحب هو
وجيشه إلى ما وراء حدودهم. بعد يومين، استسلم أبناءُ ميلان، وقاد
المارشال العجوز — الذي لا يُقهر — جيشَه عائدًا إلى المدينة.
انتهت المرحلةُ الأولى من الحرب وخرجت منها النمسا منتصرةً تمامًا.
لم تَعُد لتكون مسيطرة دون منازع على فينيسيا - لومبارديا فحسب.
وَقَّعت نابولي سِلمًا منفصلًا. روما استسلمت. فرنسا، في شخص وزير
خارجيتها الشاعر ألفونس دو لامارتين Alphonse de
Lamartine، أصدرت بيانًا جمهوريًّا أحدَث جلبةً
مشجِّعة، وإن لم يقدِّم أيَّ مساعدة نشطة أو مادية. بعد أقلَّ من خمسة
أشهر من إعلان الجمهورية الفينيسية الجديدة، كانت قوى الثورة المضادة
قد غدَت منتصرةً على امتداد البر الإيطالي الرئيسي.
لم تكن فينيسيا آسفة وهي تودِّع البيدمونتيين، إلا أنها — مرة أخرى —
كانت تقف وحيدةً. كان أملُها الوحيد الآن هو مانن الذي كان قد خلع زيَّ
الجندية تمامًا، وفي الثالث عشر من أغسطس دعاه المجلس لتولي سلطات
مطلقة. رفض، على اعتبار أنه لم يكن يعرف شيئًا عن الشئون العسكرية،
ولكنه اقتنع في النهايةِ برئاسة حكومة ثلاثية. كانت شهرته طاغية لدرجةِ
أن زميليه قبِلا بأن يظلَّا قابعَين في خلفية المشهد: الحقيقة أن مانن
كان دكتاتورًا في كل شيء باستثناء الاسم. تحت إرشاده فحسب، كان أن
واصلت جمهورية فينيسيا الحربَ طوال الشتاء التالي بشجاعة … وإن كان في
ظل يأسٍ متزايد.
كانت الكوارانتوتو سنةً حاسمة بالنسبة لكل الدول الإيطالية.
استراتيجيًّا، كان الوضع قد تغيَّر قليلًا، وفي معظم المواقع كانت
النمسا قد ظلَّت سيدة … سياسيًّا، كان هناك تحوُّل دراماتيكي في الرأي
العام. في مطلع العام، كان معظم الإيطاليِّين الوطنيِّين يفكِّرون من
منظور التخلُّص من قوى الاحتلال النمساوي، وعند نهايته كان الهدفُ
الأهم — في كل مكانٍ ما عدا فينيسيا — هو إيطاليا موحَّدة. كان
التغييرُ يلوح في الأفق. أخيرًا، بدا الإيطاليون وكأنهم قابَ قوسين أو
أدنى من تحقيق حُلمهم الذي طال انتظاره. لقد بدأ الريزورجيمنتو
Risorgimento — أو البعث.
هوامش