الفصل التاسع والعشرون
الملِكات والكارليون
-
الحروب الكارلية: ١٨٣٩م.
-
ماريا كريستينا تعود إلى الوطن: ١٨٤٣م.
-
الهجوم على قصر الملِكة: ١٨٥٤م.
-
المناداة ﺑ «دون كارلوس ماركا»: ١٨٦٨م.
-
انتهاء الحرب الكارلية الثانية: ١٨٧٦م.
-
موت الملِكة إيزابيل: ١٩٠٤م.
***
في الثلاثين من سبتمبر ١٨٦٨م، استقلَّت «إيزابيل الثانية Isabel II» ملِكة إسبانيا قطارًا
هي وأبناؤها من سان سيباستيان San
Sebastian في طريقهم إلى المنفى. لم يكن رحيلُها
نهايةً لحكمها فحسب، بل ربما لأكثر الفترات اضطرابًا في تاريخ
البلاد.
كانت القصة قد بدأت بأبيها فرديناند السابع
Ferdinand
VII، الذي كان قد تنازل مع جَدها شارل الرابع
Charles IV عن حقِّه في
العرش.
١ كان من الواضحِ أن سقوط نابوليون جعل تلك التنازلات كأن لم
تكن، وبعد أن ورِث فرديناند العرش في ١٨١٤م، حكمَ إسبانيا لمدة خمس
عشرة سنة، كانت بعيدةً كلَّ البُعد عن الكفاءة، عندما ترمَّل في ١٨٢٩م
للمرة الثالثة. مات كل أبنائه من زوجاته الثلاث في سنِّ الطفولة وكان
شديد الرغبة في أن يكون له ابن، ورغم أن فرصةَ ذلك كانت تبدو شديدةَ
الضآلة بسبب مرض النقرس ونوبات الصرع المتكررة، كان يرفض أن يفقدَ
الأمل في الإنجاب. كانت المشكلة هي أن يجد الزوجةَ المناسبة. كان شقيقه
الأصغر فرانسيسكو دي باولا
Franciso de
Paula متزوجًا من إحدى بنات فرانسيس الأول
Francis I ملِكِ نابولي؛ وكانت قد
عُمِّدت باسم ماريا لويزا كارلوتا
Maria Luisa
Carlotta، إلا أنها كانت تُعرف في إسبانيا باسم
كارلوتا
Carlotta. كانت هي التي أرت
الملكَ صورةً صغيرة — مرسومة — لشقيقتها ماريا كريستينا
Maria Cristina ذاتِ الثلاثة والعشرين
ربيعًا، فلم يَعُد فرديناند ينظر أبعدَ من ذلك. في الثاني عشر من
ديسمبر ١٨٢٩م، تزوَّج من الأميرةِ الصغيرة في كنيسة السيدة العذراء في
مدريد.
كانت كريستينا شديدةَ الجاذبية، عابثةً بلا حياء، ولديها طاقة هائلة
على الاستمتاع بالحياة، وكانت مثلَ نسمةٍ رقيقة منعِشة هبَّت على
البلاط الإسباني، لتبدِّد كآبته الخانقة. سرعان ما أسرَت قلوبَ الكل
إلا قليلًا؛ حيث إن الزواج كان قد جاء ضربةً قاصمة لولي العهد دون
كارلوس
Don Carlos، الشقيقِ الأصغر
للملك، كما كان أكثرَ من ضربة قاصمة لزوجته ماريا فرانسيسكا
البراجانزية
Maria Francisca of
Braganza، كانا زوجين غير متجانسين. كان دون كارلوس
قَزَمًا تقريبًا، برغم ذقنِه وأنفِه ذي الملامح البوربونية البشِعة،
كان متدينًا بدرجةٍ مَرَضية شديدة التزمت، مستبدًّا، متعصبًا …
وضعيفًا. يصفه كاتب اليوميات الإنجليزي هنري جريفل بأنه كان «أبله …
شديدَ التعصب … شاذًّا جنسيًّا … شديدَ الجبن … خاملًا … ليس لديه ذرةٌ
من موهبة.» على العكس من ذلك تمامًا، كانت ماريا فرانسيسكا جميلةً
وجليلة وذكية وطموحة وصاحبة حضور طاغٍ. حتى ذلك الحين، كانت متأكدة من
اعتلاء زوجها العرش، أما الآن فأصبحت هناك فرصةٌ لأن يضيع منه. القادم
كان أسوأ. عندما أُعلِنَ بعد ثلاثة أشهر من الزفاف أن الملِكة كانت
حاملًا، أعلن فرديناند عن تطبيق المرسوم الملكي القديم
Pragmatic Sanction، الذي تم التخلي
بموجبه عن القانون الصالي
Salic
Law،
٢ الذي كان يمنع تولي الإناثِ العرشَ بالوراثة. بمعنًى آخرَ،
فإن المولود الذي كان قد طال انتظاره، ذكرًا جاء أو أنثى، سوف يرِث
عرشَ إسبانيا.
أما المولود الذي كان قد طال انتظاره فكان طفلة، عُمِّدت في العاشر
من أكتوبر ١٨٣٠م باسم ماريا إيزابيل لويزا Maria Izabel
Luisa. الكارليون The
Carlists — كما أصبح يُطلَق على الموالين لدون كارلوس
— كان يمكن أن يشعروا بقدرٍ من الارتياح لذلك، ولكن بمرور الوقت، ومع
تدهور صحة الملك بدأت فكرة أن تتولَّى ملِكةٌ الحكمَ تصبح مثيرة للقلق.
بعد ذلك، أصيب فرديناند إصابةً جسيمة في حادث مركبة وهو في طريقه إلى
قصره الصيفي في لاجرانجا La Granja في
يوليو ١٨٣٢م، وبعد شهرين كان ما زال في النزع الأخير. الملِكة، التي
كانت نادرًا ما تفارق موقعها بجوار فراشه طوال الشهرين، استشارت أحد
وزرائه الكبار، وأصابها الفزع عندما علمَت منه أن البلاد كلَّها سوف
تتجمع حول دون كارلوس على الفور. من المؤكد أن تكون ماريا فرانسيسكا قد
همست بتحذيرها الشديد، وتم إقناع الملك الذي لم يكن في كامل وعيه
بضرورة إلغاء المرسوم الملكي القديم، إن كان له أن يتفادى حمَّام دم
متوقَّعًا. على وجه السرعة، تم صياغة مرسوم وقَّعه بيدٍ مرتعشة. بعد
قليل، أُعلِن عن وفاته، وكان ما يتراءى للكل هو أن دون كارلوس هو
الملك.
إلا أنه لم يكن. فجأة، اكتشف الحانوتية الذين كانوا قد جاءوا لتجهيز
الجثمان وجودَ دلائل على أنه كان ما زال حيًّا … ثم بدأ فرديناند يفيق
شيئًا فشيئًا. حتى بالرغم من ذلك، كان يمكن أن تظل الوثيقة التي
وقَّعها، ولم يكن الحبر الذي كُتبت به قد جفَّ بعدُ، ساريةَ المفعول،
لولا كارلوتا زوجة شقيقه. بمجرد أن وصلتها الأخبار في كاديز
Cadiz، طلبتْ عربتها وانطلقتْ بأقصى
سرعة لتقطع مسافةً أطول من أربعمائة ميل من الطرق الوعرة، متجهةً إلى
لاجرانجا. لم تكن صحة الملك ذاتَ أهمية كبيرة بالنسبة لها، ولكنها كانت
تكره دون كارلوس وزوجته، ولم يكن لديها النية أن تتركهما يحرمان ابنةَ
أختها من تاجها المستحَق. بمجرد وصولها، ذهبت مباشرةً إلى الملكة
ووبَّختها بعنف لضعفها، وطلبت أن ترى مرسومَ إلغاء القانون. وهم يُرونه
لها، خطفته من يد المسئول ومزَّقته.
عاش فرديناند سنةً أخرى، رأس خلالها حفلًا في كنيسة لوس جيرونيموس
Los Jeronimos القديمة في مدريد، كان
مخصصًا لتدعيم حقِّ ابنته الصغيرة في خلافته. اصطفَّ كلُّ أعيان
إسبانيا — مع استثناء واحد — وراحوا يُقبِّلون أيدي الملك والملكة
والأميرة الصغيرة In Fanta — ذات
العامين. في التاسع والعشرين من سبتمبر ١٨٣٣م، أصيب فرديناند بسكتة
دماغية. هذه المرة لم يَعُد إلى الحياة، أما الأميرة الصغيرة، فأُعلِنت
ملِكةً باسم إيزابيل الثانية Isabel
II. اعترفت بها كلٌّ من بريطانيا وفرنسا والبرتغال؛ من
ناحيةٍ أخرى فإن دون كارلوس الذي أعلن نفسه ملكًا باسم شارل الخامس
Charles V، لقي تأييد روسيا والنمسا
والبابا، أما الأكثر غرابةً فكان تأييد فرديناند الثاني ملِك نابولي
شقيق ماريا كريستينا. أما بالنسبة لإسبانيا نفسها فقد انشطرت نصفين،
كانت مدريد والجنوب بالإجماع مع إيزابيل؛ بينما هبَّ كثير من المدن
والبلدات في الشمال على الفور يؤيدون دون كارلوس. بدأت الحروب الكارلية
— آخرُ حروب التاريخ الأوروبي، التي تَقاتل فيها خصمان يدَّعي كلاهما
أحقيَّته في العرش — وكان أن استمرت على نحوٍ متقطع على مدى ما يقرُب
من نصف القرن، وربما أكثر من ذلك.
هناك مَن يرى أن القوميِّين
Nationalists، في الحرب الأهلية
الإسبانية، كانوا كارليِّين في حقيقة الأمر؛ حيث أصبحت الكارلية
Carlism تعني ما هو أكثر من موالاة دون
كارلوس، والاقتناع الراسخ بأنه كان الحاكم الشرعي لإسبانيا. كذلك فإنها
كانت تمثِّل كلَّ التقاليد الإسبانية الرجعية: الكاثوليكية المتشددة،
مع طاعةٍ عمياء للكنيسة، وربما الحنين لمحاكم التفتيش «ذلك المنبر
المرعب الذي جاءت به الملائكة من السماء إلى الأرض»؛ والاستبداد
السياسي تحت ملِك مُطلَق السلطة «وليس ملِكة تحت أي ظرفٍ من الظروف»؛
وتقشُّف وزهد كانا طويلًا من ملامح الشخصية الإسبانية. في مواجهة ذلك
كله، كانت هناك موجة الليبرالية الهائلة التي اكتسحت أوروبا كلَّها في
القرن التاسع عشر، وكانت تمثِّلها الآن إيزابيل الصغيرة ورعاياها
المخلصون لها. لم يُعرف عن الأسرة الملكية الإسبانية أية آراء يسارية،
إلا أنهم، مقارنةً بالكارليِّين، كانوا يعتبرون ثوريِّين متطرِّفين.
كانوا على أية حال في حاجة لدعم ليبرالي، وهكذا أصبحوا ليبراليِّين على
غيرِ رغبة منهم، وقد برهنوا على ذلك بإعادة دستور ١٨١٢م المعروف
بملامحه الليبرالية الواضحة.
٣
كانت إسبانيا الآن ممزقة بسبب الحروب الأهلية، والمعروف أن الحرب
الأهلية هي أقسى الحروب وأكثرها ضراوةً. كان القتال عنيفًا في الشمال،
مع ارتكاب كثير من الفظائع بحق الرجال والنساء والأطفال في كلا
الجانبين. وأخيرًا، تفاوض الكارليون سرًّا في أغسطس ١٨٣٩م على اتفاق
للاستسلام. عبَر دون كارلوس الحدودَ إلى فرنسا حزينًا؛ حيث احتفظ ببلاط
غريب نوعًا ما مع زوجته الثانية
٤ وأبنائه الثلاثة في بورجيس
Bourges. عاش خمس عشرة سنة أخرى، ولكنه
لم يَعُد إلى إسبانيا قط.
•••
بالقرب من نهاية أغسطس ١٨٤٠م، انطلقت ماريا، القائمة بالوصاية، إلى
برشلونه، ظاهريًّا للاستشفاء في منتجع كالداس، والحقيقة أنها كانت تريد
أن تلتقي ﺑ «بالدوميرو
إسبارتيرو Baldomero Espartero»، أبرز جنرالات البلاد لتستشيره في كل الأمور.
كان دستور ١٨١٢م قد منح درجةً كبيرة من الاستقلال لبلديات الدولة، وكان
الكثير منها قد حصل على ما كانت هي تعتبره أكثر من الميزات التي مُنحت
في الحرب الأخيرة. كان الأعضاء الأكثر محافظةً في الحكومة، حريصين الآن
على تحجيم سلطات البلديات بواسطة ما عُرف ﺑ «قانون البلديات Municipal Bill»، وكانت ماريا
كريستينا معهم في ذلك قلبًا وقالبًا، ومن ناحيةٍ أخرى كان الليبراليون
مصرِّين على عدم تنفيذ ذلك. كان من الواضح أن هناك مشكلة كبيرة تختمر.
وباعتبار أن قطالونيا لم تكن ممن يكنُّون حبًّا كبيرًا للأسرة الحاكمة،
إلا أن ماريا كريستينا فوجئت بالاستقبال الدافئ لها وكانت مسرورة لذلك؛
ولكنه لم يكن شيئًا مقارنةً بالاستقبال الرائع ﻟ إسبارتيرو بعد يومين،
وعندما أبلغها الجنرال بمعارضته الشديدة للقانون، كانت شديدة الضيق
والغضب لذلك، وقامت على الفور بتوقيعه نكايةً فيه.
في تلك الليلة، هبَّت برشلونة كلها احتجاجًا. أحاط العامة بالقصر
يهتفون بحياة الجنرال والدستور، ويهدِّدون بقتل الوصية على العرش
ووزرائها. في الواحدة ليلًا، كانت كريستينا تتوسَّل للجنرال مذعورةً
لكي يطلب من الجماهير الانصراف، ولكنه رفض أن يفعل ذلك حتى تسحب
موافقتها على القانون. فعلت ذلك، إلا أنها حاولت أن تغيِّر رأيها بعد
أيام قليلة، ومرة أخرى دبَّت الفوضى. هربت ماريا إلى فالينسيا، إلا أن
الشرارة كانت قد انطلقت؛ ففي الأول من سبتمبر، ثارت مدريد وندَّدت
بالحكومة … وسرعان حذت حذوها مدنٌ أخرى كثيرة. وبعد أن ابتلعت ما كان
قد تبقى من كرامتها ودعت إسبارتيرو لتشكيل حكومة، عاد للبلاد قدرٌ من
الهدوء. آنذاك، ألقت ماريا كريستينا قنبلتها. أعلنت تنازلها عن الوصاية
على العرش، رجاها إسبارتيرو وطلب منها أن تعيد التفكير في الأمر، إلا
أنها أصرَّت على موقفها. يقال إن آخر كلماتها له كانت: «لقد جعلت منك
دوقًا (على موريللا
Morella)، إلا
أنني فشلت في أن أجعل منك شخصًا نبيلًا». ودَّعت الأميرتين الصغيرتين
بعد ذلك (كانتا في العاشرة والثامنة على التوالي؛ حيث كانت الصغرى
ماريا لويزا فيرناندا من مواليد ١٨٣٢م)، وفي السابع عشر من أكتوبر
استقلَّت سفينة مع أسرتها الثانية، شبه السرِّية،
٥ حاملةً معها كلَّ ما في القصر من أموال ومجوهرات وفضيات
ومفروشات.
٦
ربما كانت الغنيمة التي حملتها
معها ماريا كريستينا كافية لكي تجعلها تعيش هي وأسرتها في راحة ودَعة
بقيةَ حياتهم، إلا أن تنازلها عن الوصاية كان قصيرًا. لقيت هي وأسرتها
ترحيبًا واستقبالًا حارًّا في باريس، سافر الملك لويس فيليب إلى فونتين
بلو Fintaineblean للقائهم، كما خصَّص
لهم مسكنًا فخمًا في الباليه رويال. في ديسمبر قاموا بزيارةٍ لروما؛
حيث وقَّعت إقرارَ ندم وتوبة — مكتوبًا — عن كل القوانين المعادية
للإكليروس التي كانت قد وافقت عليها. حصلت من البابا جريجوري السادس
عشر Gregory XVI على غفران شامل، قبل
أن تعود إلى باريس. ولكن، في الثامن من نوفمبر، أعلن أن الملكة إيزابيل
الثانية، وكانت في الثالثة عشرة، كانت قد بلغت السن القانونية. الآن لم
تكن هناك أي عقبات سياسية تحول دون عودة أمها إلى إسبانيا، كانت
المشكلات القائمة مشكلاتٍ مالية فحسب. طلب الليبراليون أن تدفع
كريستينا أولًا تعويضًا عن كلِّ ما حملته معها عند مغادرتها إلى فرنسا.
أدَّى ذلك إلى جدال قانوني طويل، وبخاصة بعد أن رفعت دعوى مضادة مطالبة
بمعاش لم يُدفع لها؛ إلا أنه بعد تسوية الأمور، كان أن أصبحت أغنى من
ذي قبل. وفي آخر الأمر، كانت مستعدةً للعودة إلى وطنها.
في كل مرحلة من مراحل رحلتها عبْر إسبانيا، كانت تلقى استقبالًا
حارًّا. أظهرت هي كذلك أنها بعد خمسة عشر عامًا، وبرغم الزيادة الكبيرة
في وزنها، لم تفقد شيئًا من سحرها وفتنتها الشبابية. بعد عودتها إلى
مدريد، عاد للبلاط بهاؤه القديم. حدث ذلك بين عشية وضحاها. حفلات الرقص
والاستقبال والعشاء … توالت، كانت تطغى فيها ماريا بجمالها ورقي
تصرُّفاتها على حضور ابنتها الجافة نوعًا ما، التي أصبحت أكثرَ جفافًا
عندما أدركت أن أمها كانت أكثرَ رقيًّا. هذه الأحوال، على أية حال،
ليست غريبة بالنسبة للمراهقات، ولكن إيزابيل تغيرت بسرعة.
•••
في الثالث من أبريل ١٨٤٦م أرسل الكومت دي برسو
Comte
de Bresson، السفير الفرنسي لدى البلاط الإسباني، أرسل
إلى وزير خارجيته فرانسوا جيزو
Francois
Guizot رسالةً موجزة محدَّدة: «الملكة بلغت سن الزواج
لمدة ساعتين».
٧ لم يكن كثير من السفراء يمكن أن يهتم بمثل تلك الملاحظة،
ولكن من الصعب القول إن ماريا كريستينا لم تكن تنتظر تلك اللحظة
السعيدة. على مدى عدة شهور، كانت قد كرَّست وقتًا طويلًا للتفكير في
أمر زواج ابنتها. لم يفكر أحدٌ في استشارة إيزابيل نفسها. هناك في
بورجس
Bourges، كان دون كارلوس يقوم
بتدبير الأمور نيابةً عن ابنه كونت مونتمولا
Count
Montemolin، إلى درجة التنازل له عن العرش. كان من
الواضح أن زواجًا مثل ذلك، يكفي لإنهاء قضية الكارليين إلى الأبد، إلا
أنه كان يمكن أن يخفِّض الملكة إلى وضع الملكة المرافقة
Queen Consort، وهو المنصب الذي كانت
أمُّها قد رفضت أن تفكِّر به. في باريس، كان لويس فيليب يدعم ابنه دوق
دي مونبنسييه
Duc de Montpensier؛
بينما في لندن — حيث كانت فكرة الاتحاد الملكي بين فرنسا وإسبانيا
أمرًا بغيضًا — كانت الملكة فيكتوريا واللورد بالمرستون
Palmerston يضغطان من أجل ابن عم زوجة
الأمير، ليوبولد
Leopold، أمير كوبرج
Coburg. كان ذلك بدوره غير مقبول
بالنسبة ﻟ «لويس فيليب»، الذي أشار، بكل تهذيب، إلى أنه كان هناك
بالفعل أمراء ﻟ «كوبرج» في بروكسيل ولندن ولشبونة، وأن أربعة سيكون
عددًا كبيرًا. اقترح ملك نابولي شقيقه كونت تراباني
Count of Trapani، ولكن؛ حيث إنه كان
يدرس في روما مع الجيزويت الذين كانوا محظورين آنذاك في إسبانيا، لم
يأخذ أحدٌ اقتراحه على محمل الجِد.
في آخر الأمر، كانت ماريا كريستينا مضطرةً لتخفيض نظرتها، والبحث في
إطار العائلة، وتم الاتفاق في النهاية على أن تتزوج إيزابيل، سيئة
الحظ، من فرانسيسكو دي أسيس
Francisco de
Asis٨ ابنِ عمها وابن خالتها كارلوتا
Carlota التي كانت قد توفِّيت من وقت
قريب. لم تكن التوقعات مبشِّرة؛ كان الزوج المستهدَف قصير القامة،
شخصية غير جذابة، عالي الصوت بدرجة مزعجة، وكان الشائع عنه أنه شاذٌّ
جنسيًّا وربما عنِّين؛ وكأن ذلك لم يكن كافيًا. ما زاد الأمر سوءًا،
كان قرار أن تتزوج شقيقته الملكة الأصغر (والأجمل) لويزا
Luisa من دوق دي مونبنسييه
Duc de Montpensier، الأكثرِ جاذبيةً
ووسامةً ورقيًّا، وكان المفترض أن يتم الزواج في الوقت نفسه.
تم الزواج الثنائي في العاشر من أكتوبر ١٨٤٦م، يوم عيد ميلاد إيزابيل
السادس عشر. عندما تم إعلان فرانسيسكو دي أسيس (الذي كان يبدو، كما
يقال، مثل فتاة صغيرة في ثياب جنرال) وإيزابيل زوجين، انخرط كلاهما في
البكاء. بعد سنواتٍ سأل أحد الأصدقاء الملِكة عن ليلة زفافها. أجابت:
«ماذا أقول عن رجلٍ كان يرتدي من اللاسيه أكثرَ مما كنت أرتدي؟»
الحقيقة، أن هناك من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أنها، حتى قبل زواجها،
كانت قد عرفت أولَ عشَّاقها الكُثر. كان ذلك هو الجنرال فرانسيسكو
سيرانو Francisco Serrano «أكثر الرجال
وسامةً في إسبانيا»، ولكن عندما ظهرت عليها علامات الحمل في أواخر صيف
١٨٤٧م وأصبح التقارب الرسمي مع زوجها ضروريًّا، تم نقل سيرانو إلى
غرناطة برتبةٍ أعلى. لم تأسف إيزابيل (حتى على انفراد) لرحيله؛ حيث
كانت قد عرفت مطربًا شابًّا من الأوبرا.
عندما بلغت سن الزواج، كان دخول الحب حياتها عاملًا مهمًّا في
التغيرات التي طرأت على شخصيتها. ذهبت عنها الفظاظة. صحيح أنها لم تكن
جميلة، إلا أنها كانت تبدو الآن وريثةً لبعض دفء أمها، وبالرغم من
نَهَمها الجنسي، كانت تقية وخيِّرة متسامحة وتراعي مشاعر الآخرين. في
السنوات الأولى لها في الحكم، كان رعاياها يحبونها؛ ولكن تدريجيًّا بعد
أن عرفت قافلةٌ طويلة — جنود وبحَّارة ومغنُّون وراقصون وموسيقيون
وطبيب أسنان — طريقَها إلى حجرة نومها، انتشرت الشائعات، لدرجةِ أن
أصبح سلوكها حديثَ كل أوروبا الغربية وليس إسبانيا وحدَها.
فشِلت أمها في تحسين سمعة العائلة. منذ زواجها الثاني، كانت حياة
ماريا كريستينا العائلية لا غبار عليها، إلا أن اسمها أصبح الآن
مرادفًا للفساد. رغم أن الثورة الصناعية الإسبانية كانت لا تزال صدًى
هزيلًا للثورة البريطانية، كان ذلك عصر حقوق وامتيازات تجارية، وخاصة
فيما يتعلَّق بالطرق والسكك الحديدية، وكان يسعدها دائمًا أن تستخدم
نفوذها الكبير في عمليات ابتزاز وتحقيق مكاسب، كما اشتهرت بتعاملاتها
الباطنة في البورصة. كان الفساد الذي تنتقل عدواه دائمًا قد انتشر الآن
في الحكومة والإدارة، إلى أن أصبحت إسبانيا ناضجةً للثورة في صيف
١٨٥٤م. بدأت الاضطرابات الخطرة مساءَ السابع عشر من يوليو عندما قام
العامة بهجوم منظَّم على قصر ماريا كريستينا لينهبوا كلَّ ما طالته
أيديهم، وليدمروا كلَّ ما لم يستطيعوا حمله. لو لم تتمكَّن الملكة
العجوز من الاختفاء هي وابنتها في اللحظة الحاسمة لما نجت في تلك
الليلة.
اتخذت إيزابيل، التي كانت في حالة من اليأس، السبيلَ الوحيد الذي كان
متاحًا أمامها: أرسلت تطلب حضور الجنرال إسبارتيرو. لم يكن هناك ودٌّ
مفقود بينهما منذ تخلِّي أمِّها عن العرش، إلا أنها كانت تدرك أنها إذا
كانت تريد أن تظل ملكة، فإن الجنرال كان هو الأمل الوحيد لكي يعيد
الهدوء. الشرط الذي أصرَّ عليه — وهو أنها كان لا بد من أن تصلح حياتها
الخاصة — جعلها تستشيط غضبًا، ولكنها كانت مضطرَّة للموافقة على ذلك.
في الثامن والعشرين من يوليو دخل الجنرال مدريد. تم التخلص من كلٍّ ما
لا لزوم له في البلاط، وبدت تلوح الفرصة لأن تظل إيزابيل محتفظةً
بالعرش. من ناحية أخرى، ظلَّت ماريا كريستينا بمثابة مسئولية قانونية؛
وفي الساعات الأولى من صبيحة الثامن والعشرين من أغسطس، غادرت مدريد
إلى منفاها الثاني — والدائم هذه المرة — يصحبها مونوز
Muñoz وأبناؤهما.
كانت إيزابيل مذعورة، إلا أنها بقيت متماسكة إلى حدٍّ ما. سرعان ما
نسيت التعهُّد الذي قدَّمته لإسبارتيرو؛ وقبل أن يمرَّ وقت طويل عرفت
كارلوس مارفوري Carlos Marfori الشاب،
الابن البطين لخباز فطائر إيطالي، الذي عيَّنته رئيسًا للشئون المنزلية
الملكية. مع بداية ستينيات القرن التاسع عشر، كانت الكتابة قد ظهرت على
الجدران مرة أخرى! جاء سقوطها الأخير على يد أحد مؤيديها السابقين …
كان جنرالًا يُدعى جوان بريم Juan
Prim، وكانت أولى أفكاره أن يضع مكانها أختها لويزا
Luisa وزوج لويزا الدوق مونبنسييه
Duc de Montpensier، وكان مونبنسييه قد
دفع له مبلغًا كبيرًا لتمويل تمرُّد لصالحهما؛ ولسوء حظه كان أن ارتكب
الجنرال الخطأ الفادح بإبلاغ نابوليون الثالث الذي كان يأمُل في دعمه
المالي كذلك. نابوليون، الذي كان الآن قد زرع لويس فيليب على العرش
الفرنسي، لم يكن لديه النيةُ للسماح لابن سلفه وابنة شقيقه أن يشغلا
عرش إسبانيا، وهكذا ضاعت آمال الدوق.
في الوقت نفسه كان هناك تحدٍّ آخر من مصدر آخر هو الأدميرال جوان
بوتستا توبيتي Juan Bautista Topete،
قائد الأسطول الموجود في كاديز Cadiz.
كان معه الجنرال سيرانو، عشيقُ الملكة القديم وسرعان ما انضم إليهما
بريم. قامت ثورة أخرى في الثامن عشر من سبتمبر ١٨٦٤م، وسرعان ما انتشرت
في أرجاء البلاد. كانت إيزابيل آنذاك في سان سيباستيان
San Sebastian التي تبعُد عن الحدود
الفرنسية بأميال قليلة. كانت رغبتها الأولى هي أن تعود فورًا إلى
مدريد، ولكن قبل أن تفعل ذلك، جاءت الأخبار بأن سيرانو كان قد بدأ زحفه
على العاصمة التي كانت قد ثارت ضدها. لم تتخلَّ عن العرش مثلما فعلت
أمها من قبل، بل ذهبت بهدوء إلى محطة السكة الحديد مع زوجها وعشيقها
وأطفالها، وفي التاسع والعشرين من سبتمبر ١٨٦٨م، استقلت القطار التالي
إلى فرنسا. كانت لا تزال في الثامنة والثلاثين من عمرها، وكانت قد حكمت
لمدة خمس وثلاثين سنة وستعيش بعد ذلك ستًّا وثلاثين أخرى. بصرف النظر
عن شبقها المَرضي، لم تكن امرأة سيئة، لكنها كانت ملِكة لا أمل فيها
ولا رجاء … والمؤكد أن بلادها كانت أفضل بدونها.
•••
لعل بلادها كانت تَعِد بذلك، إلا أن الكثير كان يتوقَّف على مَن
يخلفها. بالنسبة لبناتها الأربع وابنها الوحيد، الذين يمكن أن نكون
واثقين من أنهم جاءوا من آباء مختلفين، لم يكن هناك شكٌّ في شرعيتهم؛
حيث إنها ظلت متزوجة من فرانسيسكو. ابنها ألفونسو
Alfonso، المولود في ١٨٥٨م، يُعتقد أنه
كان نتيجةَ علاقة بمساعد طبيب أسنان أمريكي يُدعى مكيون
McKeon، إلا أنه كان منذ مولده معترفًا
به كوريث للعرش، ومُنح اللقب التقليدي أمير أستورياس
Prince of Asturias. من المؤكد أن رحيل
إيزابيل المفاجئ أعطى أملًا جديدًا للكارليين.
منذ نهاية الحرب الكارلية الأولى في ١٨٣٩م، كانوا قد حافظوا على
مستوًى محدود من المشاركة العامة والظهور. الكونت مونتمولا، الذي كان
دوق كارلوس (شارل الخامس) قد تنازل لصالحه في ١٨٤٦م، كان، مثل والده،
شخصية باهتة، لا يترك انطباعًا حسنًا أو أثرًا جيدًا.
٩ عدة مرات في حياته، كان قد دعا الشعب الإسباني للثورة على
مغتصبي العرش، لصالح الملك الشرعي، ولكنَّ أحدًا لم يكن ليهتم كثيرًا،
وهو نفسه كان يختفي وقت الحاجة إليه. كان شقيقه دون جوان (الذي دون
رغبة منه، أصبح المُطالبَ بالعرش بعد موت مونتيمولا في ١٨٦١م، إلا أنه
فضَّل أن يعيش في برايتون
Brighton في
هدوء) أكثرَ لا مبالاة، وكانت فرص الكارليِّين ضعيفة إلى أن ظهر دون
كارلوس، الابن الأكبر ﻟ «دون جوان»، على مسرح الأحداث. كان فارع الطول،
وسيمًا، فارسًا ممتازًا عاشقًا للجندية، وكان مقتنعًا تمام الاقتناع
بعدالة قضية الكارليِّين، مصممًا على القتال في سبيلها إلى أن يعتلي
العرش الذي كان من حقه. كان كذلك شديد الثراء، بفضل المهر الذي جاءت به
زوجته الأميرة مارجريت أميرة بارما
Margaret of
Parma. لا عجب كثيرًا أن يعلن في أثناء اجتماع لمجلس
الكارليين الأعلى — عُقد في لندن في صيف ١٨٦٨م — الشاب دون كارلوس
(الذي كان في العشرين) ملِكًا بشكلٍ رسمي، وأن يهتفوا باسمه. بعد
أسابيع قليلة، وقَّع دون جوان مرسومًا بالتخلي عن العرش لابنه.
المؤكَّد أن دون كارلوس سيكون ملِكًا رائعًا، وكان الظاهر الآن أنه
ربما تكون له الأفضلية على ألفونسو أستورياس الصغير، الذي تبِع أمَّه
إلى المنفى، وكان ما زال في العاشرة من عمره. بعد عامين، اقتنعت الملكة
إيزابيل بالتنازل عن العرش لابنها ألفونسو؛ كانت الصعوبة الآن —
بالنسبة لكلا المطالبَين بالعرش — أن لجنة طوارئ (كان قد تم تشكليها
بعد مغادرتها إسبانيا) قضت رسميًّا بأن البوربون كانوا قد فقدوا كل
أحقية في العرش. بالرغم من ذلك، كانت إسبانيا ما زالت مملكة … كل ما
كانت تحتاجه الآن … ملِكٌ.
ولكن كيف يمكن أن تجد ملكًا؟ عُرض التاج على ملك البرتغال، وعلى
الأمير ليوبولد هوهنزولرن-سيجمارنجن.
١٠ Prince Leopold of
Hohenzollern-Sigmaringen، وعلى دوق جنوة … لم يقبله
أيٌّ منهم. وفي النهاية تم إقناع أماديو
Amadeo دوق أوستا
Aosta ابن فيكتور إيمانويل بقبوله،
ليدخل عاصمته الجديدة مزهوًّا يوم ٣١ ديسمبر ١٨٧٠م. كون هذا اليوم
تحديدًا هو اليوم الذي شهد اغتيال الجنرال بريم صانع الملك، جعل من
الواضح أنه برغم سعادة أماديو بقبوله إسبانيا، فإن إسبانيا كانت منذ
اللحظة الأولى أقلَّ حماسة له. تنامى السخط، إلى أن دعا دون كارلوس في
أبريل ١٨٧٢م إلى انتفاضة شاملة. في الثاني من مايو، دخل إسبانيا، من
فرنسا، بصحبة مجموعة قليلة، ولكن بدلًا من أن يجد البلاد كلَّها مسلحة
ومستعدة للقتال، كما كان يتمنَّى، لم يجد سوى نحو ألفين من جنود
العصابات غير المدرَّبين وغير المجهَّزين. لم يكادوا أن يصلوا إلى قرية
أوروكيتا
Oroquieta الجبلية، الواقعة
على بُعد أميال قليلة من الحدود، حتى هاجمتهم قوات حكومية وهزمتهم
هزيمة منكرة. أُسِرَ منهم نحو سبعمائة، إلا أن دون كارلوس تمكَّن من
الهرب ليعود إلى فرنسا.
ظل أماديو يناضل عدةَ أشهر أخرى، ولكنه كان يلقى مقاومةً شديدة سواء
من الجمهوريِّين أو الكارليِّين — الذين كان يوجد عدد كبير منهم في
البلاط — وأخيرًا اضطُر بدوره للتخلي عن العرش في فبراير ١٨٧٣م. أدَّى
ذلك إلى مزيد من الفوضى. في آخر الأمر، أُعلنت إسبانيا جمهورية وانتهز
الكارليون — غاضبين — فرصتهم. كان الكارليون دائمًا أقوياء في المناطق
الشمالية — قطالونيا ونافار والباسك — ومرةً أخرى دعَوا إسبانيا لحمل
السلاح دفاعًا عن الملَكية. كانوا هذه المرة أكثرَ نجاحًا منهم في
العام السابق. كان القتال ضاريًا ووحشيًّا من كلا الجانبين، ولكن بحلول
منتصف الصيف، كانت كل البلاد شمال إبرو
Ebro، باستثناء عدد قليل من المدن، في
أيدي الكارليِّين. لو أن دون كارلوس كان قد زحف مباشرةً على مدريد لكان
قد حقَّق الانتصار النهائي. إلا أنه لسببٍ غير مفهوم فضَّل أن يضرب
حصارًا على بلباو Bilbao، تاركًا مهمةَ
التقدم جنوبًا لشقيقه دون ألفونسو كارلوس Don Alfonso
Carlos ولزوجته البرتغالية القوية ماريا دي لاس نيفيس
Maria de las Nieves، ذات التسعة عشر
عامًا، التي كانت ترتدي زيَّ جنديٍّ وتحارب إلى جوار زوجها. هذان
الاثنان، على رأس جيشٍ مكوَّن من نحو أربعة آلاف رجل، استوليا على
كوينكا Cuenca التي تبعُد عن العاصمة
نحو ثمانين ميلًا من ناحية الشرق. نتج عن ذلك سفكُ دماء كثيرة، ما ألحق
ضررًا بالغًا بسمعة الكارليِّين.
الآن، كان المد قد بدأ يغيِّر اتجاهه أخيرًا. في مايو ١٨٧٤م، رفع
سيرانو الحصار عن بلباو. من الآن فصاعدًا سيصبح الكارليون في حالة
دفاع، وفي نهاية العام، كانوا قد لقَوا ضربةً قاصمة: أصدر بريجادير
صغيرٌ هو «أرسينيو
مارتينيز كامبوس Arsenio Martinez Campos» بيانًا رسميًّا
Pronunciamiento يدعو لعودة ألفونسو.
كانت الاستجابة خارج الشمال الكارلي فوريةً وعامة. على الفور، انطلق
ألفونسو من إنجلترا — حيث كان يدرس في كلية سان هيرست العسكرية الملكية
— ليستقل سفينةً حربية إسبانية من مرسيليا، ويرسو في برشلونة، ويدخل
مدريد في العاشر من يناير ١٨٧٥م، باعتباره الملك ألفونسو الثاني عشر،
وسط ترحيب كبير. لقد استدعاه رعاياه واعترف به البابا، أما عدوُّه دون
كارلوس فلم يكن قد بقي لديه ما يمكن الاعتماد عليه.
من أسف أن دون كارلوس لم يوافق على الفور، واستمر يقاتل على مدى
العام التالي. لم يستسلم إلا بعد سقوط إستيللا
Estella في التاسع عشر من فبراير
١٨٧٦م. في اليوم الثامن والعشرين عبَر الحدود الفرنسية. رغم أنه كان
يهدِّد بالعودة، فإن الحرب الكارلية الثانية كانت قد انتهت. تحت الحكم
الخيِّر لألفونسو الثاني عشر Alfonso
XII، دخلت إسبانيا ربعَ قرن من الحكم المستقر، أول ما
عرفت منذ وفاة الملك فرديناند قبل ثلاث وأربعين سنة.
•••
الآن، بعد تثبيت ابنها على عرش إسبانيا، عادت الملكة إيزابيل وبناتها
إلى إسبانيا. لم يُسمح لهن على أية حال بالإقامة في مدريد، وبدلًا من
ذلك خُصص لهن مقرٌّ لائق على بُعد خمسة وعشرين ميلًا، في قصر فيليب
الثاني الضخم في الإسكوريال Escorial.
كان ذلك إجراء وقائيًّا حكيمًا. طوال حياتها كانت إيزابيل متطفلة
دائمًا، تتدخل فيما لا يعنيها، ولم تفلح سنوات المنفى في شفائها من ذلك
الداء. بمجرد أن استقرت، دخلت في خلاف وجدال عقيم مع الخزانة حول
المعاش المقرَّر لها؛ وقبل مرور وقت طويل، كانت قد بدأت من جانبها
تخطِّط وتدبِّر المكائد مع البابا وتفتعل نزاعًا مع رئيس الوزراء،
لينتقل هجوم الطرفين إلى الصحافة. كان من الواضح أنه لا بد من اتخاذ
إجراءٍ ما. كان من الصعب نفيها مرةً أخرى، ولكن تقرَّر إبعادها عن
العاصمة أكثرَ مما كانت، إلى القصر القديم في إشبيلية
Seville. «وهكذا في غضون أشهر قليلة»،
كما كتبت ابنتها إيولايليا Eulalia،
«انتقلنا من الملل البارد لبلاط شمالي، إلى ظلم وضجر حرملك
شرقي.»
لم يكن تغيير مكان الإقامة يكفي لكي تتوقَّف مكائد إيزابيل. كانت كل
طاقتها الآن مكرَّسة لكي تجد عروسًا مناسبة لابنها. إلا أن ألفونسو
استبق ذلك وبادر بأن أعلن بنفسه خبرَ خطوبته لمرسيدس
Mercedes الفاتنة، ذات الستة عشر
ربيعًا، ابنةِ خالته وابنة دوق دي مونبنسييه Duc de
Montpensier. بذلت أمه قصارى جهدها لتثنيه عن ذلك، إلا
أنه كان زواجًا مناسبًا، وعن حبٍّ حقيقي. وعندما أدركت أنها كانت
عاجزة، عادت حانقة إلى باريس تاركةً بناتها خلفَها. تم الزفاف يوم
الثالث والعشرين من يناير ١٨٧٨م؛ حيث أسرَت سعادة الزوجين الواضحة
وجمال العروس وسحرها، كلَّ القلوب. بعد خمسة أشهر، ولم تكن العروس قد
بلغت الثامنة عشرة بعدُ، ماتت على إثر حمَّى مَعِدية. في نهاية ١٨٧٩م،
تزوَّج من ابنة كارل فرديناند أرشيدوق النمسا، وكانت تُدعى ماريا
كريستينا كذلك، ولكنه ظل زواجَ مواءمة اجتماعية. هذه المرة وافقت
إيزابيل العجوز، وعادت إلى إسبانيا لحضور الزفاف.
كانت حماة الملكة الجديدة وسَميَّتها قد ماتت في بيتها في سانت أدرس
Sainte-Adresse، بالقرب من لي هافر
Le Havres، بعد أقل من شهرين من وفاة
مرسيدس، كما كان مونوز زوجها الثاني قد مات كذلك من زمن؛ وهكذا أعيد
رُفاتها إلى إسبانيا ليدفن بالقرب من رُفاة زوجها الأول فرديناند
السابع في الإسكوريال. ثم في الخامس والعشرين من نوفمبر ١٨٨٥م، قبل
ثلاثة أيام فقط من عيد ميلاده الثامن والعشرين، مات الملك ألفونسو
بالسِّل. أصبحت ابنته الصغرى مرسيدس، ذات الخمسة أعوام، ملكةً على
إسبانيا، ولكن ليس لفترة طويلة: كانت الملكة ماريا كريستينا التي كانت
تحب زوجها جدًّا بالرغم من خياناته المتعددة، والتي لم تغادر مكانها
إلى جوار سريره في أيامه الأخيرة، كانت حاملًا لها ثلاثة أشهر؛ وفي
مايو ١٨٨٩م وضعت مولودًا ذكرًا — الذي وُلد ملكًا في الحكم لأول مرة في
خمسة قرون. كان والده يريد أن يسميه فرناندو
Fernando، إلا أن ماريا كريستينا كانت
مصرَّة على غير ذلك. بعد خمسة أيام، وحول عنقه نموذج مصغَّر من وسام
الصوف الذهبي، تم تعميده ألفونسو «الثالث عشر»؛ وكان فألًا سيئًا أن
يحمل هذا اللقب.
في الوقت نفسه، كانت إيزابيللا الكبيرة، جَدة الوليد (كانت آخر ملكة
فيما عدا اثنتين) ما تزال على قيد الحياة، وتتدخل في كل شيء كلما وجدت
الفرصة، لدرجةِ أنها حاولت أن تنتزع الوصايةَ من زوجة ابنها. عندما
فشلت تلك المحاولة، استسلمت للضغوط وعادت إلى باريس وإلى حياة الحفلات
والولائم التي كانت تحبُّها. بقيت ميولها الأخرى كما هي، كانت الآن قد
وجدت سكرتيرًا وأمينَ صندوق جديدًا. كان إنسانًا شريرًا بغيضًا يُدعى
هولتمان Haltman وكان ملازمًا لها. ظلت
ملِكة قلبًا وقالبًا. كانت تتراسل مع الملكة فيكتوريا
Victoria، وزميلتها في المنفى
الإمبراطورة أوجيني Eugenie أرملة
نابوليون الثالث. والواقع أنه ربما يكون إصرارها على الانتظار في رواق
به تيار هوائي شديد لاستقبال الإمبراطورة، ثم الإصرار على البقاء
لوداعها، ربما يكون ذلك هو سبب وفاتها. السعال العنيف الذي أصابها
انقلب إلى التهابٍ رئوي حادٍّ لتموت في التاسع من أبريل ١٩٠٤م. كانت في
الثالثة والسبعين.
هوامش