الفصل الثالث

روما - الجمهورية

هانيبال (٢١٨–٢١٦ق.م.).
محو قرطاج (١٤٦ق.م.).
كراسوس وبومبي (٧٣–٧٠ق.م.).
يوليوس قيصر (٦٠ق.م.).
ديكتاتور بومبي (٥٢ق.م.).
قيصر في مصر والشرق (٤٧ق.م.).
«عيدس» مارس ٤٤ق.م.
أنطونيو وكليوباتره (٣١–٣٠ق.م.).

***

كان نهوض روما يعود قبل أي شيء إلى طبيعة وخصال الرومان أنفسهم. كانوا شعبًا بسيطًا، مستقيمًا، أمينًا، مطيعًا للقانون. مع شعورٍ قوي بقيم الأسرة، مستعدًّا لقبول النظام، منضبطًا عندما يتطلب الأمر ذلك — مثلما كانوا، بكل تأكيد في سنة ٥١٠ق.م. عندما طردوا «التاركين The Tarquins»، تلك السلالة من ملوك «الإتروسك Etruscan» الذين كانوا قد حكموهم على مدى القرن السابق،^١ وأسَّسوا جمهوريتهم. كانت مدينتهم، كما كانوا يزعمون، قد سبقت المدن الإتروسكية بعدة قرون، وكان مؤسِّسها هو الأمير الطروادي «أيناس Aeneas» الذي كان قد شقَّ طريقه إلى إيطاليا بعد أن دمَّر اليونانيون مدينته. هكذا كانت روما وريثة طروادة القديمة.

في ٢٨٠ق.م. رسا «بيروس Pyrrhus»، ملكُ «إبيروس Epirus» (إحدى الدول الهلنستية شمال غرب اليونان) بجيشٍ قوامه نحو ألف مقاتل في «تارنتوم Tarentum» (تارانتو الحديثة). قابله الجيش الروماني عند «هيراكليا Heraclea» ليُلحِق به هزيمةً فادحة؛ ولأن خسائر بيروس كانت عظيمة مثلها مثل خسائر الرومان: كان أن ظهر مفهوم «الانتصار البيروسي»! على مدى السنوات الخمس التالية سيواصل الملك إثارةَ القلاقل وإن بنجاحٍ أقل، وفي آخر الأمر عاد إلى إبيروس في ٢٧٥ق.م. بعد أن فقد أكثرَ من نصف جيشه. وهكذا هَزمت روما، التي كانت لا تزال جمهورية مغمورة في وسط إيطاليا، ملكًا هلنستيًّا، وفي موكب النصر الذي سيطوف بالعاصمة سوف تظهر فيلة بيروس المأسورة، وهي المرة الأولى التي يظهر فيها هذا الحيوان (الفيل) في إيطاليا.^٢

ولكن عدو روما الأقوى والألد لم يكن سوى «قرطاج Chartage»، التي كانت في الأصل مستوطنةً للفينيقيين Phoenicians تحتل جزءًا من الموقع الذي تشغَله مدينة تونس الحديثة. كان القرطاجيون دائمًا شوكةً في جنب الرومان على مدى أكثرَ من مائة عام (من ٢٦٤–١٤٦ق.م.)، كان الرومان خلالها مجبرين على خوض حربين منفصلتين هي «الحروب البونيقية Punic Wars»،^٣ قبل أن يتمكنوا من محوِ قرطاج من الوجود. هاتان الحربان هما اللتان ألقتا ﺑ «روما» في قلب المسرح المتوسطي بعد أن أصبح من الواضح أن قرطاج لا يمكن هزيمتها على البر فحسب، فجعلت الحربان من روما قوةً بحرية رئيسية. الحرب الأولى التي انتهت في ٢٤١ق.م. كان لها نتيجة واحدة سعيدة بالنسبة لروما؛ فقد ضمت الجزء الأكبر من صقلية، الذي سيكون اعتبارًا من ذلك الوقت بمثابة مخزن القمح الرئيسي لها. (بعد ثلاث سنوات سوف تتبعها كورسيكا وسردينيا). إلا أن روما كان لديها سببٌ أهمُّ للقلق طوال السنوات الثلاث والعشرين التي مرَّت قبل أن تبدأ الحرب الثانية؛ لأن قرطاج أثناء تلك الفترة كانت قد نجحت في إقامة إمبراطورية جديدة تمامًا — هذه المرة في إسبانيا.

كان الفينيقيون قد وصلوا إلى شبه جزيرة أيبيريا لأول مرة نحو عام ١١٠٠ق.م.، عندما أنشئوا مرفأ قادش. كانت في تلك الأيام جزيرة وكانت نموذجًا للمستعمرات الفينيقية بعدها، التي كانوا يقيمونها فيما بعدُ على الأجزاء الناتئة من الجبال أو الجزر البعيدة عن الشاطئ، وغالبًا عند مصبَّات الأنهار لكي يكونوا بعيدين عن أهالي تلك المناطق. من بين أولئك الأهالي كان الأيبيريون الأكثر تقدمًا، وهم شعبٌ غامض، لغتاه — مثل الإتروسكية — ليستا هندو-أوروبية، وعلى خلاف الإتروسكية ما زالت محيرة بالنسبة لنا. كان الأيبيريون يمارسون تجارةً نشطة مع الفينيقيين، ويبدو أنهم كانوا يعيشون معًا في مودة وسلام. بعد بضعة قرون كانت لهم حضارتهم الخاصة التي اشتهرت قبل كل شيء بتماثيلها التي يوجد بعضها الآن في المتحف الأركيولوجي في مدريد. بعضها يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وهي من أجمل وأروع المنحوتات القديمة التي يمكن أن يراها المرء في أي مكان.

نحو عام ٢٣٧ق.م. انطلق «أملكار باركا Hamilkar Barca» جنرالُ قرطاج الأشهر (أو الأدميرال حيث يبدو أنه كان سيدًا على البر والبحر على السواء) نحو شبه جزيرة أيبيريا مصطحبًا ابنَه الصغير «هانيبال Hannibal» الذي كان في التاسعة من عمره آنذاك. وهنا على شبه الجزيرة، وفي غضون ثماني سنوات فحسب سوف يضع كلَّ البنى التحتية لدولةٍ مزدهرة مع جيش ضخم للدفاع عنها. بعد أن غرق بالمصادفة في ٢٢٩ق.م.، خلفه صهره «هاسدروبال Hasdrubal»، الذي أسَّس العاصمة الدائمة لإسبانيا القرطاجية التي يسميها الرومان «قرطاج الجديدة» ونسميها نحن «قرطاجنة Cartagena». هاسدروبال، بدوره، فعل الكثير لتطوير فن التعدين، ويقال إن منجمًا واحدًا هو منجم «بايبيلو Baebelo»، كان ينتج نحو ثلاثمائة رطل من الفضة يوميًّا. عندما اغتيل هاسدروبال في ٢٢١ق.م. بيد عبدٍ أيبيري، أخذ مكانه هانيبال الذي كان قد بلغ السادسة والعشرين.

أثبت هانيبال أنه أعظمُ قائد عسكري عرفه العالَم بعد الإسكندر، وربما كان بالفعل واحدًا من أعظم القادة في التاريخ. كان والده قد غرس فيه — كما هو متوقَّع — العِداء والحقد الشديدين على روما، فكان مصرًّا من لحظة اعتلائه العرشَ على الثأر لهزيمة بلاده قبل عشرين عامًا، كما كان واثقًا من أن الممتلكات الإسبانية الجديدة، بمصادرها الهائلة من الثروة المادية والبشرية، سوف تمكِّنه من تحقيق ذلك. انطلق من إسبانيا في ربيع ٢١٨ق.م. على رأس جيشٍ قوامه نحو أربعين ألف مقاتل، سالكين الطريقَ على امتداد الساحل الشمالي لفرنسا أعلى وادي «الرون Rhone»، ثم شرقًا إلى «بريانكون Briancon» والممر الضيِّق إلى «مونت-جينيفر Mont-Genèvre». كان معظم جنوده المشاة من الإسبان رغم أن ضبَّاطهم كانوا قرطاجنيين، أما جنود الخيالة فكانوا من إسبانيا وشمال أفريقيا، وكان معهم سبعة وثلاثون فيلًا. كان اجتيازه الشهير لجبال «الألب The Alps» في بدايات الخريف، وتبِعه معركتان انتصر فيهما. بنهاية العام كان يسيطر بالفعل على كل شمال إيطاليا. ثم بدأ الفشل بعد هذا الزَّخم. كان هانيبال يعوِّل على حدوثِ تمرُّد عام في المدن الإيطالية القلِقة بسبب نمو قوة روما، إلا أن أمله خاب. حتى الانتصار الثالث الذي حقَّقه في أبريل ٢١٧ق.م.، عندما استدرج الجيش الروماني إلى فخِّ ممرٍّ ضيق بين بحيرة «تراسيمين Trasimene» والتلال المحيطة، حتى هذا الانتصار أثبت عدم جدواه. لم يكن زحفه على روما ذات الأسوار الدفاعية المنيعة مجديًا، ولم يكن لديه عتادٌ يعوِّل عليه لمحاصرتها. قام، بدل ذلك، بالدوران عن طريق «أبوليا Apulia» و«كالابريا Calabria»؛ حيث كان ذلك العدد الكبير من الأهالي اليونانيين يكرهون الرومان؛ ولذا كان يعتقد أنهم سوف ينضمون إليه.

هذه المرة، أيضًا، كان مخطئًا. بدلًا من الحلفاء المتعاطفين الذين كان يمنِّي نفسَه بوجودهم، وجد نفسه مرةً أخرى في مواجهة جيشٍ روماني أكبرَ وأفضلَ تسليحًا وعتادًا من جيشه، قام بمطاردته في اتجاه الجنوب؛ وفي الثالث من أغسطس عام ٢١٦ق.م. كانت المعركة عند «كاناي Cannae»، (بجوار نهر «أوفانتو Ofanto» على بُعد نحو عشرة أميال جنوب شرق بارلتا Barletta الحديثة). كانت نتيجة المعركة انتصارًا هائلًا ﻟ «هانيبال»، لعله الأعظم في حياته، وهزيمةً ساحقة للرومان لعلها الأكثر فداحةً في تاريخهم كذلك. بفضل براعته في القيادة وجدت القوات الرومانية نفسها مطوَّقة من كل جانب، فتم تدميرها في مواقعها. بنهاية اليوم كان قد سقط منهم نحو خمسين ألف قتيل، أما خسائر هانيبال فكانت ٥٧٠٠ جندي.

كان هانيبال الآن قد دمَّر كل قوات روما المقاتلة ما عدا أولئك الذين كانوا داخل المدينة يدافعون عنها، إلا أنه لم يكن قريبًا من هدفه النهائي وهو تدمير الجمهورية. كانت قوات الخيَّالة، بعد أن نفقت كلُّ الأفيال بسبب البرد والرطوبة، تقف بلا حول ولا قوة أمام أسوار المدينة، إلا أنه كان ما زال مصرًّا على خطَّته، يحدوه الأمل في أن يجمع أخوه (هاسدروبال آخر) جيشًا ويَلحق به بعد تجهيزه بمعدات الحصار اللازمة؛ إلا أنه فوجئ في «كامبانيا Campania» (المقاطعة الإيطالية جنوبي روما ومركز نابولي) بوجود درجةٍ من التأييد الشعبي الذي كان مفتقدًا في شبه الجزيرة. زحف بجيشه عبر الجبال إلى «كابوا Capua» (التي كانت ثاني أكبر المدن الإيطالية آنذاك)؛ حيث أقام مركزَ قيادته واستقر منتظرًا.

طال انتظاره. كان لدى هاسدروبال مشاكله الخاصة. كان الرومان قد سارعوا، مستغلين غيابَ هانيبال، وقاموا في غضون شهرين باحتلال إسبانيا بقوةٍ مكوَّنة من فيلقين وخمسة عشر ألف مقاتل من القوات الحليفة بقيادة جنرالٍ شابٍّ يُدعى «جنايوس كورنيليوس شيبيو Gnaeus Cornelius Scipios»، الذي سرعان ما انضم إليه شقيقه «ببليوس Publius». كانت النتيجة الفورية لهذا الغزو صراعًا طويلًا بين القوات الرومانية والقوات القرطاجنية مع وجود أيبيريين محليين يحاربون مع كلا الطرفين. انتهى الأمر بوجودٍ روماني في شبه الجزيرة سوف يستمر أكثرَ من ستة قرون. بعد موت الأخوين شيبيو في عام ٢١١ق.م.، حلَّ محلهما أحدُ أقربائهما كان اسمه — أيضًا — ببليوس الذي استولى على قرطاجنة بعد حصارٍ قصير. بعد الاستيلاء على عاصمتهم، فقدَ القرطاجنيون روحهم بسرعة، وبحلول العام ٢٧٦ق.م. كان آخرهم قد غادر شبه الجزيرة.

بينما كان هناك أملٌ في الانتصار على الرومان في إسبانيا، لم يكن لدى هاسدروبال فرصةٌ لتنظيم حملة دعم لأخيه. في عام ٢٠٦ق.م. فقط، عندما علم أن أخاه قد هُزم بدأ يفكر في ذلك، وعندما قاد جنوده بدوره عبر جنوب فرنسا وعبر جبال الألب كان يسير نحو كارثة: على نهر «ميتوارس Metaurus» بالقرب من أنكونا، واجه جيشًا رومانيًّا ولقي هزيمة ساحقة. لم يعرف هانيبال بهذه الأخبار إلا عندما وصل رأس شقيقه المقطوع إلى معسكره في «كابوا Capua». بقي في إيطاليا أربعة أعوام أخرى، وفي مكان آخر من المتوسط كان الشاب ببليوس كورنيليوس شيبيو يستعد للهجوم.

في عام ٢٠٤ق.م.، رسا ببليوس وجيشه على الساحل الشمالي الأفريقي بالقرب من أوتيكا التي تقع على مسافة أقل من عشرين ميلًا غربي قرطاج، حيث حشدوا عشرين ألف مقاتل من المحليين وأنشئوا موقعًا على خليج تونس كان يهدِّد المدينة نفسها. في ربيع ٢٠٣ق.م.، عاد هانيبال مسرعًا إلى قرطاج في حالة انزعاج شديد، ليقود في العام التالي جيشًا مكوَّنًا من سبعة وثلاثين ألف مقاتل وثمانين فيلًا، ضد الغزاة الرومان. التقى الجمعان أخيرًا بالقرب من قرية «زاما Zama»؛ حيث لقي هانيبال الهزيمة الكبرى الوحيدة في حياته بعد معركة طويلة طاحنة. كان في زاما، كما نعرف، أن اكتشف الرومان كيف يتعاملون مع سلاح القرطاجنيين التكتيكي المفضَّل … الأفيال. في البداية يقومون بإطلاق نوبة مفاجئة من الأبواق العالية المزعجة تجعل راكبيها يفقدون السيطرة عليها، ثم يفتح الرومان صفوفهم لتنطلق الحيوانات بينها مذعورة. كان الانتصار الروماني تامًّا، وهكذا انتهت الحرب البونيقية الثانية. كانت إسبانيا هي جائزة روما على انتصارها. كل الإدارة العسكرية والمدينة القرطاجنية التي كان قد جرى إعدادها بعناية انهارت. كان الإخوة شيبيو حريصين على ذلك — والآن لم يكن أمام قرطاج سوى أن تتخلَّى عن شبه الجزيرة رسميًّا لغزاتها. هانيبال نفسه، الذي كان قد نجا من الموت بصعوبة في زاما، عاش حتى سنة ١٨٣ق.م.، عندما تجرَّع السمَّ لكيلا يقع في يد أعدائه الذين كان يكرههم بشدة؛ أما بالنسبة لشيبيو المنتصر، فقد كوفئ من مواطنيه بلقب «أفريكانوس Africanus» الذي كان يستحقه عن جدارة. كان هو الذي أكَّد، أكثرَ من سواه من بني وطنه، أن روما، وليست قرطاج، هي التي ستكون سيدةَ المتوسط في القرون التالية.

ولكن الحروب البونيقية كان لها آثارها المؤلمة. لقد أوصلت الإمبراطورية الرومانية أكثرَ من مرة إلى شفا الكارثة، وفقدت فيها أرواح ما يقرُب من مائتين أو ثلاثمائة ألف من أبنائها. بالرغم من ذلك كانت قرطاج ما زالت هناك رابضةً على الجانب الآخر من البحر بسكانها غير المسلَّحين يعملون بنشاط ودأب. كانت قرطاج تتعافى من هزيمتها الأخيرة بسرعة مخيفة؛ كانت تذكِرة لكل روماني وطني بالخزي وتمثل خطرًا دائمًا. لم يكن مسموحًا لها — بالقطع — أن تنجوَ من الكارثة. «لا بد من محو قرطاج من الوجود» Delenda est Carthago، كانت تلك عبارة «كاتو الكبير elder Cato»، التي ينهي بها كلَّ كلمة له أمام مجلس الشيوخ إلى أن أصبحت شعارًا، ولكن السؤال الآن كان: كيف يتم ذلك؟ وأخيرًا وجدوا مبررًا في ١٥١ق.م. عندما هبَّ القرطاجنيون للدفاع عن مدينتهم أمام عمليات السلب والنهب التي كان يقوم بها أحد الرؤساء المحليين. تعاملت روما مع ردِّ الفعل الطبيعي هذا باعتباره ذريعةً للحرب casus belli، وفي ١٤٩ق.م. أرسلت مرةً أخرى جيشَ غزو. هذه المرة سوف يستسلم القرطاجنيون، إلا أنهم سيعودون للمقاومة بعد أن روَّعتهم شروط روما: تدمير المدينة تمامًا وعدم السماح لسكانها بإعادة بناء منازلهم إلا على بُعد عشرة أميال من البحر. كانت النتيجة حصارًا رهيبًا استمرَّ قرابة العامين، وبعده (في ١٤٦ق.م.) حدث التدمير الذي هدَّدوا به. هكذا تحقَّق شعار كاتو وتم محو قرطاج من الوجود.

كان يمكن ألا يكون لمملكة «بونتس Pontus» (وهي دولة كانت تقع على الشاطئ الجنوبي للبحر الأسود) مكانٌ في تاريخٍ يُكتب عن البحر الأبيض المتوسط. وبالفعل لم يكن لها مكان، لولا ملِكها الشاب «مترداتس السادس Mithridates VI» الذي كان الشوكة الرئيسية في جنب الإمبراطورية الرومانية على مدى خمس وعشرين سنة. بالرغم من أنه كان — هو ورعاياه — من أصولٍ فارسية، كان يتصور نفسه يونانيًّا ويفضِّل أن يبدوَ في هيئة بطل من أبطال «الهيلينية Hellinism» الملهمين لكل المدن اليونانية لكي تثور على حكامها الطغاة من اللاتين. في سنة ٨٨ق.م. قام بغزو الإقليم الروماني من آسيا،^٤ وأعدَّ لثورةٍ انتهت بمذبحةٍ راح فيها ثمانون ألفًا من الإيطاليين المقيمين؛ ثم متشجعًا بما حقَّقه من نجاح، عبَر بحر إيجه واحتل أثينا، وسقط عدد كبير من المدن في يده.

كان لا بد من أن تتحرَّك روما، واختار مجلس الشيوخ الروماني نبيلًا رومانيًّا في الخمسين من عمره يُدعى «لوكيوس كورنيليوس سولا Lucius Cornelius Sulla» قائدًا عامًّا لقوة الحملة. كان سولا صاحب سجلٍ عسكري رائع، وعلى معرفة وثيقة بآسيا. وهو على وشْك الرسو على الشاطئ، قرَّر الجناح الديمقراطي في المجلس — ونجح في ذلك — أن يحلَّ محله جنرال عجوز متهالك كان قد خدم تحته من قبل، هو «جايوس ماريوس Gaius Marius». كان ذلك قرارًا كارثيًّا رفضه سولا رفضًا قاطعًا، فزحف بجيشه على روما حيث صفَّى أعداءه، وانطلق دون ضجة في اتجاه اليونان. هجم على أثينا ودمَّر ميناءها (ميناء بيرايوس Piraeus)، وحقَّق انتصارين حاسمين في ساحة القتال، ثم عقد في النهاية معاهدةَ سلام مع مترداتس، رغم أن شروطها كانت — في نظر الكثيرين — متساهلةً بدرجةٍ مدهشة. فعل سولا ذلك كلَّه دون إذنٍ من روما، وكان «الحزب الماري Marian Party» قد وصل إلى السلطة أثناء غيابه.

عاد سولا مسرعًا إلى العاصمة ليواجههم للمرة الثانية واتخذ دورَ الدكتاتور، فأصدر أوامره دون تردُّد بمذبحةٍ جماعية لنحو عشرة آلاف من خصومه السياسيين، بمن فيهم أربعون نائبًا في مجلس الشيوخ ونحو ألف وستمائة فارس. بعد ذلك أصدر سلسلةً من القوانين شديدة الرجعية أعادت عقاربَ الساعة إلى الوراء … نحو نصف قرن على الأقل! في آخر الأمر، بعد أن نجح في إتمام ذلك، تخلَّى عن السلطة وعاد إلى موطنه كامبانيا. هنا، سيعيش حياةَ فسق وفجور، ملقيًا الرعبَ في قلوب عبيده الكُثُر، الذين سيصدر حكمًا بإعدام واحد أو اثنين منهم من وقت لآخر، مع حرصٍ على مشاهدة التنفيذ بنفسه؛ وذات يوم من عام ٧٨ق.م. عندما كان يشاهد عملية إعدام خنقًا، أصيب بأزمة قلبية مفاجئة مات على إثْرها.

كانت السيطرة في السنوات الأربعين التالية لثلاثة من القادة العسكريين الذين سيتركون بصماتهم على الجمهورية الرومانية أكثرَ من سولا. الثلاثة هم «جنايوس بومبيوس (المعروف ﺑ «بومبي»)»، و«ماركوس ليكينيوس كراسوس Marcus Licinius Crassus»، و«جايوس جوليوس سيزر Gaius Julius Caesar». كان بومبي قد حقَّق انتصارات لصالح سولا — الذي كان متزوجًا من ابنة زوجته — في صقلية وشمال أفريقيا، ثم منحه بسببها امتياز موكب النصر.^٥ على خلاف معظم نبلاء الرومان في عصره، لم يكن بومبي شديد الاهتمام بالمال، كما كانت السياسة مضجرةً بالنسبة له. أكثر ما كان يستهويه هو السلطة والنفوذ. كان جنديًّا بمعنى الكلمة … جنديًّا شديد الطموح.

لم يكن كراسوس — ثاني العمالقة الثلاثة — مختلفًا بدرجة كبيرة. وُلد ثريًّا، وجعل نفسه أكثرَ ثراءً من خلال عمله في سوق العقارات الرومانية بمهارة شديدة … إن لم يكن باستخدام كل الوسائل غير المشروعة والمجردة من كل المبادئ الأخلاقية. كان — كذلك — جنديًّا من الطراز الأول، عندما يريد. ولكن بينما كان بومبي يجد من الوسائل ما يرسِّخ من شهرته العسكرية ويسرع بها، كان كراسوس يحبِّذ البقاءَ في روما يتآمر من خلف الستار لتحقيق مآربه السياسية والمالية الخاصة. كان إنجازه العسكري الوحيد هو إخماده لثورة العبيد في ٧٣ق.م. بعد أن طارد قائدها «سبارتاكوس Spartacus» في البداية عبر كالابريا، ولحِق به في أبوليا حيث أعدمه فورًا، وصلب ستة آلاف من العبيد الثوار.

بومبي، الذي كان غائبا في إسبانيا — التي أسَّس فيها مدينة «بامبلونا Pamplona» وأعطاها اسمه — عاد في وقت عملية الصلب ليشارك فيها بحماسة، وحاول بالطبع أن تنسب إليه وأن يكون له الفضل فيها. غضب كراسوس بشدة كما كان متوقعًا. كلاهما كان وراءه جيشٌ جرار، وللحظةٍ كانت الجمهورية تبدو على شفا حرب أهلية، إلا أن المتنافِسَين نجحا في التوصل إلى تفاهم اللحظة الأخيرة: سيتقدم الاثنان لانتخابات القنصلية في عام ٧٠ق.م. الحقيقة أن كليهما لم يكن مؤهلًا للترشُّح؛ إذ لم يقُم أيهما بتسريح جيشه كما كان من المفترض، باعتبارهما متقدِّمين لانتخابات القنصلية. يضاف إلى ذلك أن بومبي — وكان ما يزال في السادسة والثلاثين — لم يكن — حتى — قد حصل على عضوية مجلس الشيوخ؛ ولكن المجلس لم يكن لديه الشجاعة للوقوف ضد رجلين مثلهما … وتم انتخابهما. أمضيا عامهما في الحكم، يعملان بكل جهد — ودقة — على إبطال تشريعات سولا.

في السنوات التالية، بينما بقي كراسوس في روما مشغولًا — كان في شجار مستمر مع مجلس الشيوخ حول جمع الضرائب في آسيا — كان بومبي يزداد قوةً ونفوذًا يومًا بعد يوم؛ وفي عام ٦٨ق.م. استطاع بواسطة مائة وعشرين ألف مقاتل وخمسمائة سفينة أن يقضيَ تمامًا على القراصنة الذين طويلًا ما أزعجوا البحر الأبيض. لم يستغرق ذلك الأمر منه أكثرَ من ستة أيام، بعدها أصبح البحر آمنًا على مدى معظم سنوات الألفية التالية. ثم أرسل إلى الشرق حيث كان ملك بونتس قد عاد إلى حيَله القديمة. لسوء حظ بومبي، انتحر مترداس قبل نشوب المعركة، إلا أنه كانت هناك مهامُّ أخرى ينبغي إنجازها في الأراضي الشرقية قبل أن يعود إلى البلاد. ودون أن يفكر في استشارة مجلس الشيوخ قام بضم بونتس وزحف بجيشه جنوبًا إلى سوريا وطرد آخر ملوك السلوقيين وجعل منها أيضًا إقليمًا تابعًا، وبذلك حصل لروما على مدينة أنطاكية العظيمة. وأخيرًا تقدَّم في اتجاه يهوذيا Judaea حيث استولى على أورشليم سامحًا لملِكها بالبقاء على عرشه وكيلًا لروما. أنجز ذلك كلَّه في غضون أربع سنوات، ولن يكون من المبالغة أن نقول إنه غيَّر فيها وجه الشرق الأدنى على نحوٍ جذري، أكثرَ من أي وقت آخر، حتى مجيء الإسلام.

عاد بومبي إلى روما في ٦٢ق.م. ليُستقبل استقبالَ الأبطال الفاتحين. حصل على امتياز موكب النصر الثاني، وكان أكثر روعةً من الأول. كان الخوف يساور الكثيرَ من الرومان الذين كانوا يسترجعون عودةَ سولا قبل عشرين عامًا، ولكن القائد المنتصر قام بتسريح قوَّاته، ولم يطلب شيئًا سوى إقرار كلِّ ما فعله في الشرق والتصديق عليه، ومنحه هِبةً من الأرض يمكن أن يعيش عليها جنوده. كان المطلبان يبدوان معقولين. بالنسبة للمطلب الأول: إذا كان قد تصرَّف دون تفويض بذلك، إلا أن بطء وسائل الاتصال في تلك الأيام لم تترك بديلًا أمامه. كانت مكاسب روما هائلةً على أية حال، ولم يكن لدى الرومان أسبابٌ كثيرة للاعتراض.

ولكنهم فعلوا. كان كراسوس أحدَ كبار المعارضين لأعمال وتصرفات بومبي، وكان من الواضح أن ما يحرِّكه هو الحقد الشخصي على منافسه القديم. الآن كان أقوى رجلين في روما في خلاف وخصام مع الحكومة … وكلاهما مع الآخر.

•••

الآن يظهر على المسرح ثالث وأعظم المنتصرين الثلاثة. في عام ٦٢ق.م. كان جايوس جوليوس سيزر في الثامنة والثلاثين من عمره ومتزوجًا من «بومبيا Pompeia»^٦ حفيدة سولا (طلَّقها في العام التالي). كان معروفًا في روما كمثقَّف وخطيب مفوَّه في مجلس الشيوخ، يهوى إقامة الحفلات والولائم ويعيش حياةً متهتكة، ودائمًا ما يقع في الديون. كانت علاقاته الجنسية الماجنة (سواء مع الرجال أو النساء) لا تُعَد ولا تُحصى، إلا أنه بالرغم من ذلك انتُخب حَبرًا أعظم Pontifex Maximus رئيسًا لكهنوت الدولة الرومانية … كان موهوبًا، صاحبَ شخصية آسرة، ولكن لا يُعتمد عليه. عاد من إسبانيا في عام ٦٠ق.م.؛ حيث كان حاكمًا عليها؛ وبعد أن حقَّق بعض الانتصارات ضئيلة الأهمية، وعدُوه بموكب نصر، ولكن ظهرت مشكلة. كان مصرًّا على أن يحصل على القنصلية، ولكي يعلن ترشُّحه كان لا بد من أن يظهر في روما قبل ترتيب موكب النصر بوقتٍ طويل، وهو ما يجعله يفقد حقَّه فيه. حاول أن يحل المشكلة بأن طلب بشكل رسمي أن يتم إعلان ترشُّحه بالوكالة؛ وعندما رُفض طلبه لم يتردَّد طويلًا. أُلغيت فكرة موكب النصر. جاء من فوره إلى روما. كانت السلطة والنفوذ أهمَّ عنده من المجد. الآن، كانت هناك عقبةٌ أخرى، كانت العادة قد جرَت منذ أيام روما القديمة على تخصيص مقاطعات للقناصل المحتملين حتى من قبلِ أن يشغلوا المنصب، لكي يحكموها بعد انتهاء فترتهم في القنصلية؛ ولأن مجلس الشيوخ كان يعلم أنه لن يستطيع أن يمنع انتخابَ سيزر، صمَّم أن يُحَجِّمه على الأقل، فلم يخصِّص له مقاطعات مهمة، وإنما بعض الغابات والمراعي الإيطالية. كان ذلك بالتأكيد زجرًا واضحًا له، أو هكذا فهمها.

كان مجلس الشيوخ الآن قد نجح في استعداء أقوى رجال روما، وحيث إن سيزر كان قد بقي على وفاق ممتاز مع كلٍّ من بومبي وكراسوس، لم يكن مفاجئًا أن يتقدَّم للرجلين باقتراحِ تحالف بينهم. في مقابل دعمهما سيعطي كليهما كلَّ ما يريد ما دام لم يعترض، وبشرط أن يحجما كذلك عن النزاع معًا، وكان سيزر عند كلمته. صِنوه القنصل المدعو ببليوس Bibulus (وكان شخصية تافهة مثيرة للسخرية) انسحب إلى منزله «يستطلع السماء»، ولكن سيزر تجاهله. كافأ محاربي بومبي بالأرض التي طلبوها، وأكَّد التصديقَ على الإنجازات التي حقَّقها في الشرق، وكان سعيدًا عندما طلب بومبي يد ابنته جوليا Julia، وكان قد طلَّق زوجته الأولى. كما تمَّت تسوية مسألة جمع الضرائب، وكان ذلك أمرًا مهمًّا بالنسبة ﻟ «كراسوس». في الوقت نفسه، وبمساعدة حلفائه الجدد خصَّص سيزر لنفسه مقاطعتين «حقيقيتين» لكي يكون حاكمًا عليهما بعد انتهاء فترة قنصليته: هما «سيسالباين جول Cisalpine Gaul»^٧ (في شمال إيطاليا) و«إليلركم Illyricum» (دالماتيا)؛ وعندما وصلت الأخبار عن الموت المفاجئ لحاكم ترانسلباين جول Transalpine Gaul،^٨ التي كانت تغطي معظم فرنسا الحديثة، كانت فرصة أخرى قد لاحت له، فانتهزها كذلك.

بعد انتهاء فترة قنصليته، سيغادر سيزر فورًا إلى الغال حيث سيبقى ثماني سنوات، وعندما يعود إلى روما سيكون قد غزا الدولة كلَّها. يقدِّر «بلوتارك Plutarch» عدد مَن قُتلوا من الغال The Gauls بمليون نسمة، كما تم استعباد مليونين آخرين. كان الأكثر أهمية بالنسبة ﻟ «سيزر» هو أنه حقَّق شهرةً عسكرية كبيرة طمست شهرةَ بومبي، ليبرُز هو كواحد من أعظم قادة العصر. كان لذهنه سرعة البرق، ويستطيع أن يتأقلم فورًا مع الموقف المتغيِّر، كما كانت حساباته وتقديراته للوقت سليمة دائمًا. جسديًّا، كان لديه طاقة استثنائية وقوة تحمُّل هائلة، يستطيع أن يقطع مئات الأميال في عربةٍ خفيفة في يوم واحد، رغم وعورة الطرق وسوء الأحوال الجوية.

بعد عودته إلى روما، كانت سلطات كراسوس وبومبي تزداد ضعفًا بالرغم من أنهما كانا ما زالا مسئولين، وذلك بسبب مكائد ودسائس ببليوس كلوديوس بلشر Publius Clodius Pulcher، الذي كان قد تسلَّل إلى حفل طقوس بونا ديا كما أسلفنا (انظر الهامش رقم ٦ في آخر الفصل). كان كلوديوس قد كشف عن نفسه كديماجوجي راديكالي شديد الخطورة، كما كانت أنشطته تمثِّل خطرًا على الدولة. مصرين على الاحتفال بهم وتكريمهم كمنتصرين، التقى القادة الثلاثة في لوكا Lucca في سنة ٥٦ق.م.، المدينة الواقعة داخل منطقةِ ما وراء الألب، كان سيزر على علمٍ بأن بعض المخالفات التي حدثت أثناء فترة قنصليته قد تجعله عرضةً للمحاكمة إذا وضع قدمه على الأرض الرومانية. وهكذا وجدوا أن تقسيم العالم الروماني إلى مناطق نفوذ ثلاث — الشرقية ﻟ «كراسوس»، والوسطى ﻟ «سيزر»، والغربية ﻟ «بومبي» — سيكون من الأفضل بالنسبة لهم لكي يحقِّقوا طموحاتهم. سوف يتقدَّم بومبي وكراسوس للقنصلية، للمرة الثانية، في العام التالي؛ بعد ذلك سوف يقوم كراسوس (الذي كان قد بدأ يساوره الشعور بأن الاثنين الآخرين كانا يضعانه في الظل، ويريد أن يثبت قدراته في ميدان القتال) بحملة وراء الفرات ضد الإمبراطورية «البارتية Parthian Empire»^٩ التي كانت الدولة الوحيدة المتماسكة، في أي مكان في العالم، يمكن أن تواجه روما. بومبي سوف يضطلع بمسئولية إسبانيا لمدة خمس سنوات، معظمها من خلال معاونين تابعين، لكي يظل هو في روما كأحد أصحاب الكلمة العليا في الإدارة. أما بالنسبة ﻟ «سيزر» فسوف يمتد حكمه على الغال لمدة خمس سنوات أخرى، حتى يتسنَّى له أن يوسِّع ويدعم فتوحاته.^١٠

إلا أن توترات الشراكة التي قامت بينهم وما خلَّفته من ضغوط كانت قد بدأت تتزايد. في ٥٤ق.م. ماتت جوليا وهي تلد، وكانت قد بذلت كلَّ جهدها للإبقاء على أبيها وأمِّها معًا. بموتها افترقا. بعد ذلك سيلقى جيش كراسوس هزيمةً ساحقة في الشرق على أيدي البارتيين رماةِ السهام، عند كارهاي Carrhe (حران الحديثة جنوب شرق تركيا). من بين الستة آلاف مقاتل، لقي خمسة آلاف وخمسمائة حتفَهم، وعندما ذهب كراسوس للتفاوض … قتلوه. بقي بومبي وسيزر وحيدين. شيئًا فشيئًا كان كلاهما يدرك أن روما لم تكن كبيرة بما يكفي لأيهما؛ وعندما رفض بومبي عرْضَ سيزر بزواجٍ آخرَ بين الأسرتين، واتخذ لنفسه زوجةً ثالثة هي ابنة «ميتيليوس شيبيو Metellus Scipio» عدوِّ سيزر الذي جعله قنصلًا، كان واضحًا أن الدُّمل امتلأ بالصديد، وأن الأزمة كانت في اتجاهها إلى الذروة. بالإضافة إلى ذلك كان لدى بومبي ميزةٌ أخرى مرجحة؛ وجوده في روما.

ولكن روما كانت تنحدر سريعًا نحو الفوضى؛ وبالرغم من أن بومبي كان يتمتَّع بسلطات أكبرَ من أي شخص آخر، كان له أعداء كثيرون يشغَلون مواقعَ مهمة مثل سيزر، وتدريجيًّا كان يصبح أقلَّ قدرةً على السيطرة على أتباع كلوديوس المناوئين، وعلى خَصمه الرئيسي «ميلو Milo» الذي قسم الشارع بينهما. في ٥٢ق.م. قُتل كلوديوس وأصبح بومبي قنصلًا وحيدًا، مع صلاحيات طوارئ خاصة تمكِّنه من إعادة النظام للمدينة، وبعد عامين كانوا يتناقلون في مجلس الشيوخ آراءً حول ضرورة إعفاء سيزر من القيادة. إلا أن هذا التحرُّك توقَّف فورًا بواسطة مُدافع شاب عن الحقوق العامة يُدعى «كيوريو Curio»، كان من أشدِّ مؤيدي سيزر، ومع ذلك بقي الطريق مسدودًا والموقف مجمدًا. بعدها اقترح كيوريو أن يتقدَّم سيزر وبومبي بالاستقالة من منصبيهما، وعندما تم رفض هذا الاقتراح أيضًا، دعا أحد القناصل بومبي لتولي قيادة كلِّ قوات الجمهورية، بما يعني أن يكون له سلطات دكتاتورية. قبِل بومبي الدعوةَ بشرط — وضعه هو — وهو ألا يكون هناك بحثٌ عن أسلوبٍ أفضل، وتولَّى على الفور قيادةَ فيلقين تصادف أن كانا في العاصمة.

هُرع كيوريو من فوره بالأخبار إلى مقر قيادة سيزر في «رافينا Ravenna»، ثم عاد إلى روما مكملًا رحلةَ المائة والأربعين ميلًا في ثلاثة أيام، حاملًا معه رسالةً من سيزر كتب فيها، بالتفصيل، الخدمات التي قدَّمها للدولة، مصرًّا على أنه إذا كان لا بد من أن يتخلَّى عن القيادة فلا بد، كذلك، من أن يفعل بومبي الشيء نفسه. مجلس الشيوخ، الذي رفض مجردَ قراءة الرسالة، دعم اقتراحًا من ميتيليوس شيبيو Metellus Scipio» (هو الآن حمو بومبي)، مُفاده إما أن يستقيل سيزر وحده، وإما أن يُعلن عدوًّا عامًّا. هكذا قُضي الأمر كما أعلن سيزر نفسه؛ ففي ليلة العاشر من يناير ٤٩ق.م. قام هو والفيلق الوحيد الذي كان قد أخذه معه بعبور نهر «رابيكون Rubicon» الصغير الذي كان يمثِّل الحد الجنوبي الشرقي للجزء المتاخم للألب من الغال، وبهذا الفعل يكون قد خرق القانون الروماني عمدًا؛ حيث كان يُحظر على أي حاكم أن يقود جيشًا خارج إقليمه، وإلا اتُّهم بالخيانة. من الآن فصاعدًا سيكون اختبار قوة … وستكون حربٌ أهلية.

•••

ستكون هذه الحرب على عدة جبهات. في إيطاليا كان سيزر يواجه معارضةً هينة، كانت المدن تفتح له أبوابَها واحدةً تلو الأخرى دون مقاومة؛ إذ إن قوَّاته التي كانت قد خبرت المعارك كانت أكبرَ من ندٍّ لأي قوة يمكن أن تقف ضدها. بعد شهرين فقط من عبور نهر رابيكون فرَّ قنصلان إلى دالماتيا حيث لحِق بهما بومبي نفسه بعد وقت قصير. لم يقُم سيزر بمطاردتهم حيث كانوا في حماية الأدرياتيكي، فانطلق برًّا إلى إسبانيا، المنطقةِ الرئيسية لقوة بومبي في الغرب. توقَّف في طريقه لفترة قصيرة عند مدينة «ماسيليا Massilia» الحرة (مرسيليا Marseille) وعندما وجد أهلها موالين ﻟ «بومبي» وضعها تحت الحصار، ثم عبَر «البرانس Pyrenees» بجيشٍ قوامه نحو أربعين ألف مقاتل. كان في مواجهته ما لا يقل عن سبعين ألفًا تحت قيادة ثلاثة من جنرالات بومبي، ولكنه تغلَّب عليهم دون مشقة بفضل قدرته على المناورة، وعندما وجدوا أنفسهم مطوَّقين من كل جانب استسلموا دون مزيد من المقاومة؛ وعندما عاد إلى ماسيليا كانت المدينة قد استسلمت هي الأخرى، وهكذا بات مستعدًّا للجولة الأخيرة من الصراع.

مع تشتُّت شملِ أعدائه، لم يكن لدى سيزر صعوبةٌ في أن يتم انتخابه قنصلًا مرةً أخرى في ٤٨ق.م. بعد ذلك راح يطارد بومبي الذي كان قد وصل آنذاك إلى اليونان. فشلت محاولتُه لحصار قاعدة بومبي الرئيسية ورأس الجسر عند «ديراكيوم Dyrrachium» (الآن ديورس Durres في ألبانيا)، إلا أن الجيشين تقابلا مرةً أخرى على بُعد مائتي ميل في اتجاه الشمال الغربي، على الهضبة شديدة الحرارة والرطوبة في «فارسالوس Pharsalus» في «تيسالي Thessaly». كانت المواجهة في التاسع من أغسطس من عام ٤٨ق.م. هنا سيحقِّق سيزر، الذي كان يعاونه القائد الشاب «مارك أنتوني Mark Antony»، انتصارًا سهلًا. كان بومبي، كما عرفنا، من أوائل مَن انسحبوا. هرب إلى الساحل، ومن هناك إلى مصر حيث زوَّدها ملكُها الصبي ونصيره القوي «بطليموس الثالث عشر Ptolemy XIII» بسفنٍ ومؤن. إلا أن بطليموس كان يريد أن يكون إلى جانب المنتصِر، وعندما وصل سيزر إلى الإسكندرية في مطاردةٍ محمومة لعدوِّه، وجد أن بومبي كان قد تم اغتياله.

من ناحية أخرى، لم تكن رحلة سيزر بلا جدوى. كان بطليموس قد نفى كليوباتره (٢١ سنة) أختَه غير الشقيقة وزوجه وشريكته في الحكم، وكان لا بد من تحكيمٍ عاجل بينهما. أخذ الأمر شكلًا غير معتاد في مثل تلك الظروف؛ عادت كليوباتره إلى مصر سرًّا لكي تدافع عن قضيتها حيث أغواها سيزر — كان ما زال في الثانية والخمسين من العمر — وأخذها إلى قصره خليلةً له. بطليموس مغضبًا، حاصر القصرَ إلا أن قوةً رومانية جاءت مسرعة لتهزم المصريين في مارس ٤٧ق.م. هرب بطليموس وغرق في النيل — كان جزاءً وفاقًا — وقام سيزر بتثبيت كليوباتره على العرش مع أخيها الأصغر بطليموس الرابع عشر حاكمًا مشاركًا، وأصبحت مصر دولةً تابعة لروما. كان لدى سيزر نفسه مهمةٌ أبعد قبل أن يعود إلى العاصمة وهي تأديب «فارناسس Pharnaces» ابنِ مترداتس صانع المتاعب القديم، الذي كانت كل الدلائل تشير إلى أنه كان يسير على خطى أبيه. انطلق سيزر بسبعة فيالق شمالًا عبر سوريا والأناضول إلا أن الحملة كانت على شفا كارثة تقريبًا؛ ففي الثاني من أغسطس وعندما كان الجيش الروماني يقيم معسكره عند زيلا Zela (زيل Zeil الحديثة في وسط الأناضول) — هاجم فارناسس فيالقَ سيزر على حين غِرة، ولم ينقذهم سوى انضباطهم وما كان لديهم من خبرة. آنذاك، كما يخبرنا بلوتارك — كان أن نقل سيزر أخبار انتصاره لروما بالكلمات التي أصبحت معروفة لكل تلميذ إنجليزي: «جئت … رأيت … غزوت Vici وVidi وVeni».^١١

مات بومبي وبقي ابناه دون هزيمة، وكانت هناك حملتان أخريان — الأولى في شمال أفريقيا، والثانية في إسبانيا قبل أن تصل الحرب الأهلية إلى نهايتها. كان سيزر الآن، وكما هو الحال دائمًا يواجه مشكلة، وهي أن يجد أرضًا يقيم عليها الفيالق التي خدَمته وحاربت معه ببسالة. أقام عدة مستوطنات في إيطاليا — حيث لم تكن هناك أراضٍ كافية في شبه الجزيرة لإيواء كل رجاله — وأقام نحو أربعين مستوطنة أخرى فيما وراء البحار، كان من بينها كورنتة Corinth وقرطاج. وحيث إن تلك المستوطنات لم تكن من أجل المحاربين القدامى وحدهم، فقد أرسل إليها نحو ثمانين ألفًا من الرومان العاطلين للحاق بهم. هكذا وُضعت بذور الرومنة Romanisation بعيدة المدى لساحل المتوسط، الذي ما زال يحمل الكثيرَ من الملامح الرومانية إلى اليوم.

الآن، كان جوليوس سيزر،^١٢ قد أصبح الأسمى والأعلى منزلة. ملأ مجلس الشيوخ بتسعمائة من أتباعه لكي يؤيدوه ويدعموه، كان معظمهم مدينًا له بخدمات وأفضال وكلهم محل ثقته. في الوقت نفسه كانت ظاهرة «عبادة الشخصية Cult of Personality» تنمو لأول مرة في روما من حوله.

انتشرت تماثيله النصفية في كل مكان في إيطاليا وخارجها، ظهرت صورته على العملة، ولم يكن أحدٌ قد سمع بشيء مثل ذلك من قبل. ولكن لا شيء من ذلك أضاف إلى شعبيته. بكل السلطات التي كان يجمعها في يديه كان الطريق مغلقًا أمام السياسيين الشبان الطموحين الذين كان رفضهم لصلفه يتزايد، وكذلك بسبب تقلباته وثروته الطائلة. كانوا رافضين لغيابه الطويل في الحملات التي كانوا يعتبرونها غيرَ ضرورية وغير مسئولة. كان فوق ذلك كله في السادسة والخمسين من العمر، ومعروف أنه مصاب بالصرع، وكان ينبغي أن يترك المستقبل لجنرالاته. الحقيقة أن سيزر كان يكره العاصمة بما فيها من مؤامرات ودسائس، ولم يكن يشعر بالسعادة إلا في حملاته وبين جنوده، الذين كانوا يحبونه لدرجة العبادة ويمنحونه كلَّ الولاء والوفاء؛ وربما كان ذلك، أكثر مما هو لأي سبب آخر، أنه في أوائل سنة ٤٤ق.م. كان قد أعلن عن حملة جديدة في الشرق لينتقم لموت كراسوس ويلقِّن البارتيين درسًا. سيقود هذه الحملة بنفسه، وسينطلق في الثامن عشر من مارس.

بالنسبة للنبلاء، كان أمرًا سيئًا أن يحكمهم دكتاتور، أما احتمال أن يتركهم تحت حكم معاونيه وسكرتاريته لعامين قادمين أو يزيد، فكان أمرًا بالغَ السوء ولا يمكن تحمُّله. هكذا راحت المؤامرات الكبرى تتشكل. بدأها «جايوس كاسيوس لونجينيوس Gaius Cassius Longinus» الذي قد دعم بومبي حتى فارسالوس وصفح عنه سيزر فيما بعد. كان مع كاسيوس زوج شقيقته «ماركوس بروتس Marcus Brutus». كان بروتس صنيعةَ سيزر الذي عيَّنه حاكمًا على سيسالباين جول، ولكنه لم يكن يستطيع أن ينسى قط تحدُّره المظنون من البطل القديم «جونيوس بروتس Junius Brutus»، الذي كان قد طرد الملك الإتروسكي «تاركين» من روما (تأثرًا لاغتصاب «لوكريشيا كولاتينا Lucretia Collatina» وانتحارها فيما بعد)؛ ولذلك كان يُعتبر مهندس الحرية الجمهورية. عندما اختير سيزر في فبراير ٤٤ق.م. حاكمًا أبديًّا مطلقًا dictator in perpetuo، يبدو أن بروتس شعر بأن الوقت كان قد حان للقيام بتوجيه ضربة أخرى لنفس السبب. جمع مع كاسيوس نحو ستين متواطئًا، وفي الخامس عشر من مارس كانوا مستعدين.

في ذلك اليوم، قبل ثلاثة أيام من الموعد المحدَّد لانطلاقه شرقًا، ذهب سيزر لحضور اجتماع لمجلس الشيوخ في القاعة الكبرى المجاورة لمسرح بومبي، فدسَّ يوناني (كان من العاملين في قصر بروتس من قبل) في يده مذكرةَ تحذير عندما اقترب، ولكن سيزر لم يشغَل نفسه بقراءتها ومضى في سبيله. كان المتآمرون قد رتَّبوا أن يشغل أحدهم نائبه الرئيس مارك أنتوني بحديثٍ جانبي، لم يكن مواليًا تمامًا لصديقه فحسب، وإنما كان يتمتَّع بقوة بدنية هائلة كذلك. كانوا قد رتَّبوا أيضًا أن يكون بالقرب منهم جماعةٌ من المجالدين الجاهزين للتدخل في حال نشوب قتال، إلا أن هذا الإجراء الاحترازي لم يكن ضروريًّا. يبدو أن بيلوس كاسكا كان أول مَن قام بالهجوم فطعن الدكتاتور بخنجره في حلقه، وفي لحظاتٍ كان المتآمرون يحيطون ﺑ «سيزر» يطعنه كلٌّ منهم بجنون في كل مكان من جسده، بينما كان يحاول الدفاع عن نفسه قدْر استطاعته دون جدوى، فسقط وهو يغطي رأسه الدامي على القاعدة المربعة لتمثال بومبي.

عندما رأوه ميتًا تملَّك الرعبُ المفاجئ الجميعَ ففروا من المبنى تاركين الجثةَ ملقاة في مكانها. مرَّ وقت قصير قبل أن يأتيَ ثلاثة من العبيد بنقالة حملوه عليها إلى بيته — يقال إن إحدى ذراعيه كانت تُجرجر على الأرض؛ وعندما فحصه الأطباء وجدوا ثلاثة وعشرين جُرحًا في جسده، كان واحدًا منها فقط هو الذي أودى به.

•••

في الثالث عشر من سبتمبر عام ٤٥ق.م.، أي قبل موته بستة أشهر فحسب، كان جوليوس سيزر قد قام بتبنِّي «جايوس أوكتافيوس Gaius Octavius» حفيدِ أخيه كابنٍ له؛ وبالرغم من أن أوكتافيان (كما كان يُعرف بشكل عام في سنواته قبل الملكية) كان ما زال في التاسعة عشرة، كانت تجري تهيئته للنجومية منذ فترة. عندما كان في السادسة عشرة عُين حَبرًا أعظم، كما أنه كان قد حارب ببراعة إلى جانب سيزر في إسبانيا. وهكذا كان متوقعًا أن يتسلَّم السلطة بعد مصرع عمِّه الكبير، ولكن مارك أنتوني، قائد حرس سيزر لم يضيِّع الوقت فتحرَّك بسرعة — لم يتردَّد في تزييف بعض أوراق سيده المقتول — فأمسك بزمام الأمور في الدولة وسيطر عليها. إلا أن أوكتافيان لم يسكت، وتمكَّن بفضل تأييد ومناصرة «شيشرون Cicero» أن يحصل على أغلبيةٍ في مجلس الشيوخ. (كان شيشرون واحدًا من أعظم الخطباء في التاريخ، وكان يكره الطغاةَ بشكل عام، وأنتوني بخاصة، وألقى عددًا من الخطب المدهشة ضده).

وهكذا مرة أخرى، كانت روما مستقطَبة وعلى شفا حفرةٍ من حرب أهلية، بل إن معركة صغيرة نشبت بالفعل بالقرب من «مودينا Modena» انتهت بانتصار أوكتافيان. ولكن بحلول شهر نوفمبر ٤٣ق.م.، كان الاثنان قد توصَّلا إلى تسويةٍ صعبة مع «ماركوس إميليوس ليبيدوس Marcus Aemilius Lepidus» — أحد جنرالات سيزر الآخرين — وشكَّلوا من ثلاثتهم حكومةً رسمية لمدة خمس سنوات تكون مهمتها مساعدة الحكومة لتقف على قدميها. على رأس الأولويات، كان تعقُّب الرجلين المسئولين عن مصرع سيزر. كان بروتس وكاسيوس قد فرَّا مع الموالين لهما من جنودهما عبر الأدرياتيكي تاركين روما في عهدة ليبيدوس. قام أوكتافيان وأنتوني بمطاردتهم حتى فيليبي في مقدونيا، وفي معركتين متتاليتين، بينهما ثلاثة أسابيع، لحِقت الهزيمة بالجيش المتمرد وقُتل قائداه؛ وباتفاق متبادل تم إبعاد ليبيدوس إلى موقعٍ ثانوي. الآن سيُقسِّم القائدان المنتصران العالَم الروماني بينهما. النصف الشرقي ﻟ «أنتوني»، والغربي ﻟ «أوكتافيان».

لعل أشهرَ ما تُعرف به اليوم مدينة «طرسوس Tarsus» الصغيرة في «كيليكيا Cilicia»، هو أنها كانت مسقطَ رأس «سان بول St Paul»، إلا أنها قبل نحو أربعين عامًا من مولده كانت مسرحَ حدثٍ آخر ما زال أثرُه على العالم كما نعرفه اليوم. في وقتٍ ما من صيف عام ٤١ق.م.، كان أن رأى مارك أنتوني الملكة كليوباتره السابعة لأول مرة في طرسوس. قبل ست سنوات كان جوليوس سيزر قد مكَّنها من عرش مصر مع بطليموس الرابع عشر الرجلِ الذي كان أخاها وابن أخيها، وحسب ذلك التقليد الغريب للبطالمة أصبح كذلك زوجًا لها. حتى هذه العلاقة الثلاثية فشلت في أن تقرِّبها منه فقتلته في عام ٤٤ق.م. كانت كليوباتره الآن تحكم منفردةً، ولكنها كانت في حاجة إلى حامٍ روماني، وكانت قد جاءت إلى طرسوس وهي تعرف أنها ستجد بُغيتها هناك.

بالرغم من شهادة شيكسبير وإشارة «باسكال Pascal» إلى أنفها الذي لو كان أطولَ قليلًا فلربما كان تاريخ العالم كله قد تغيَّر، يبدو أن كليوباتره كانت جذابة أكثرَ منها جميلة بالمفهوم الكلاسيكي. ولكن ذلك لم يمنعها من إغواء مارك أنتوني وإيقاعه في حبائلها كما حدث مع سيزر نفسِه من قبل، لدرجةِ أنها أقنعته بتدبير قتلِ أختها «أرسيون Arsionë»، التي لم تصفح عنها قط؛ لأنها كانت قد أقامت حكمًا مناوئًا في الإسكندرية (كانت أرسيون آخرَ أخواتها الخمس اللائي متن ميتةً عنيفة، اثنتان منهن على الأقل اختفتا بإيعازٍ من كليوباتره). كان أنتوني سعيدًا بأن يوافق، وكمكافأة له دعته لقضاء الشتاء في الإسكندرية. كانت النتيجة توءمًا. بعد ذلك لم يرَ الاثنان أحدهما الآخرَ لمدة ثلاث سنوات، ولكن أنتوني دعاها في سنة ٣٧ق.م. لتلحق به في أنطاكية عاصمته الشرقية، وكانت علاقة دائمة نتج عنها ابنٌ آخر في العام التالي.

كانت العلاقة بينهما أشبهَ بأغنية رعوية تقطعها حملات أنتوني وكأنها علامات الترقيم في نص أدبي … ولم تستمر. في روما، استشاط أوكتافيان — زميله في الحكومة الثلاثية — غضبًا لتصرُّف صهره (كان أنتوني قد تزوَّج من شقيقته أوكتافيا حديثًا)، وأغضبه أكثرَ قوةُ ونفوذ كليوباتره عليه، وفي سنة ٣٢ق.م. أعلن أخوها الحربَ — رسميًّا — على مصر. في الثاني من سبتمبر ٣١ق.م. تقابل الأسطولان المتنافسان عند «أكتيوم Actium» بالقرب من الحافة الشمالية لجزيرة «لوكاس Leucas»، ليحقِّق أوكتافيان انتصارًا حاسمًا ويطارد الثنائي المهزوم وهما مرتدَّان إلى الإسكندرية. مرَّت سنة تقريبًا قبل أن ينتهيَ الفصل الأخير في هذه الدراما. لم يدخل أوكتافيان المدينةَ حتى الأول من أغسطس ٣٠ق.م. حيث أصدر أوامره بضرورة أن تكون مصر في المستقبل إقليمًا رومانيًّا، وأن تظل تحت حكمه الشخصي مباشرة. أما كليوباتره فحبست نفسها في ضريحها الخاص وأذاعت أنها انتحرت، وعندما سمِع أنتوني بالخبر حاول الانتحار هو الآخر، إلا أنه عرف بعد ذلك أن الأخبار لم تكن صحيحة. حملوه إليها، وكان للاثنين حوارٌ أخير — كما يقول بلوتارك — ثم مات.

ليس معروفًا على وجه الدقة كيف ماتت كليوباتره. المؤكَّد أنها انتحرت بالسُّم … ولكن كيف كان ذلك؟ بلوتارك يروي قصة الأفعى مثلما كتب شيكسبير، إلا أنه يضيف أن «لا أحد يعرف الحقيقة الأكيدة …» بالرغم من ذلك فإن الجدال حول لدغة الحية كبير. كانت الكوبرا المصرية — رمز آمون رع الإله الشمس — كانت رمزًا ملكيًّا منذ الفراعنة الأوائل الذين كانوا يضعون رسمها إكليلًا على تيجانهم، ولم يكن أحدٌ يتصور أسلوبًا أكثرَ فخامةً يليق بالملوك أكثرَ من ذلك. إلا أن رواية «سيوتونيوس Suetonius» تظل أكثرَ إقناعًا من كل ذلك. يقول إن أوكتافيان أذاع فيما بعدُ أنه بعد علمِه بانتحار كليوباتره استدعى سحرة الثعابين وأمرهم بأن يمتصوا السُّم من الجُرح؛ ولكن إذا افترضنا أنهم جاءوا بالفعل فلا بد من أنهم كانوا قد جاءوا متأخرين جدًّا.

هوامش

(١) كان الإتروسك، بحسب رواية هيرودوتس، قد جاءوا إلى إيطاليا من ليديا في آسيا الصغرى نحو أواخر القرن التاسع ق.م. تم فك شفرة لغتهم (التي لم تكن حتى هندو-أوروبية) حديثًا، ولكن الوثائق الإتروسكية القليلة لا تعطينا سوى معلومات قليلة؛ أما الأدلة الأكثر حيوية فتقدِّمها لنا أعمالهم الفنية الباقية ومنحوتاتهم (وبخاصة تلك الموجودة على المقابر) ورسومهم ومجوهراتهم. المؤكَّد أنهم كانوا، من الناحية الفنية، أكثرَ موهبةً من الرومان الذين طردوهم.

(٢) هذه الأفيال، ومن بعدها أفيالُ هانيبال كانت أفريقية تقريبًا، ويقال إن الأفيال الأفريقية — على خلاف الهندية — غير قابلة للترويض. هل كان بيروس وهانيبال يعرفان شيئًا لا نعرفه؟!

(٣) punic، مشتقة من كلمة poeni اللاتينية، التي لها نفس الجذر مثل Phoenician.

(٤) كانت روما قد ورِثت هذه المنطقة من آسيا الصغرى في ١٣٣ق.م. من الملك أتالوس Attalus III ملكِ برجامم.

(٥) كان امتياز موكب النصر (Triumph) التكريمي عبارة عن موكبٍ رسمي للقائد الروماني المنتصر إلى مقبرة جوبيتر في الكابيتول، وكان يتم بناءً على تصويت خاصٍّ من الشعب وتوصية مجلس الشيوخ. كان القائد المنتصر (Triumphator) يحضُر على عربة حربية تجرُّها أربعة خيول وخلفه مجموعةٌ من أسرى الأعداء (ربما الذين سيتم إعدامهم) وأسرى الرومان المحرَّرين والغنائم الرئيسية التي تم الاستيلاء عليها وجنود الجيش … وفي آخر الموكب كانت تسير الحيوانات التي سيتم ذبحها كأضحيات.

(٦) كانت بومبيا هي المسئولة عن طقوس «بونا ديا Bona Dea» كانت هذه الإلهة تُعبد في طقس ديني سنوي يتم ليلًا يُحظر فيه حضور الرجال. في ديسمبر ٦٢ق.م. تسلل شخصٌ يُدعى «ببليوس كلوديوس بلشر Publius Clodius Pulcher»، متنكرًا كامرأة لكي يكون مع بومبيا في غياب زوجها كما قيل. سيزر الذي كان يحب كلوديوس، أعلن براءة كليهما إلا أنه طلَّق بومبيا باعتبارها «ليست فوق مستوى الشك».

(٧) منطقة الغال المتاخمة لجبال الألب. (المترجِم)

(٨) منطقة الغال وراء جبال الألب. (المترجِم)

(٩) نسبة إلى «البارت Parthes» وهي إحدى القبائل المترحلة التي استولت على السهول الممتدة شمالي تلال خراسان بعد أن أجلوا عنها سكانها في ٢٥٠ق.م.، واقتطعوا الإمبراطورية السلوقية Seleucids وأقاموا دولة البارت. (المترجِم)

(١٠) كان أن غزا بريطانيا في العام التالي، ثم في عام ٥٤ق.م.، ومكث هناك ثمانية عشر يومًا وثلاثة أشهر على التوالي. لم يحقِّق إنجازاتٍ كبيرة باستثناء استعراض القوة الذي قام به.

(١١) بحسب «سيوتونيوس Suetonius»، كان سيزر سعيدًا بتلك العبارة لدرجةِ أنه طلب نقشها على رايةٍ استعدادًا لموكب النصر في روما.

(١٢) «يوليوس قيصر» في معظم الترجمات العربية. (المترجِم)