الفصل الثلاثون
مصر والقناة
-
مشكلات مالية: ١٨٧٠م.
-
عزل الخديوي: ١٨٧٩م.
-
حاشية: ١٩٥٦م.
***
قناة السويس الأولى حفرها الفرعون نيخو
Necho في القرن السابع ق.م. هذا ما
يقوله لنا، على الأقل، هيرودوتس
Herodotus، الذي يضيف أن مائة وعشرين
ألف مصري قضَوا في عملية الحفر تلك، وأن الرحلة في القناة كانت تستغرق
أربعة أيام، وأنها كانت تتسع لمرور جيشين جنبًا إلى جنب. إلا أنه بعد
مرور نحو خمسة قرون، لم يكن لها أثرٌ تقريبًا، عندما أمر نابليون
بإجراء أول عملية مسح مفصَّلة للبرزخ، لينتهي كبير مهندسي المساحة
لديه، جان-بابتست لوبير: Jan-Baptiste Le
Pere (جان بابتست الأب) إلى أن مستوى طرفي أي قناة يتم
حفرها سيكونان مختلفين، وقدَّر بالفعل أن يكون مستوى الطرف الجنوبي
أعلى بنحو عشرة أمتار؛ ولكن سرعان ما أصبحت تلك نظريةً قديمة، وعندما
قدَّم تقريره النهائي كان الفرنسيون قد رحلوا عن مصر، وكان الإنجليز
الذين طردوهم مصمِّمين على الرحيل، هم كذلك، بأسرعِ ما يكون. مرة أخرى
ذهبت الفكرة طيَّ النسيان، وظلَّت كذلك لمدة نصف قرن آخر.
في ١٨٥٤م منح خديوي مصر سعيد (والي السلطان العثماني)، الابن الرابع
لمحمد علي، منح شابًّا فرنسيًّا حالمًا يُدعى الكونت فرديناند دي ليسبس
Count Ferdinand de Lesseps، ممثلًا
لشركته الفرنسية، حقَّ إنشاء قناة تمرُّ لمسافة مائة ميل تقريبًا عبْر
البرزخ، من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر. بدأ العمل في ١٨٥٩م
واستغرق عشر سنوات بدلًا من الست التي قدَّرها دي ليسبس، وظهرت في وقتٍ
باكر مشكلات تتعلَّق بالعمالة المصرية الكبيرة، وفي ١٨٦٥م كان انتشار
الكوليرا يهدِّد بتوقف المشروع كله، إلا أنه تم التغلُّب على الصعاب في
النهاية. اتضح أن مخاوف لوبير لم يكن لها أساس، ولم تكن هناك حاجة لعمل
هويس؛ وفي الثامنة والنصف من صباح السابع عشر من نوفمبر ١٨٦٩م دخل
اليخت الإمبراطوري الفرنسي The Aigle
القناة من ناحية بورسعيد، حاملًا على متنه الإمبراطورة أوجيني
Eugenie ودي ليسبس نفسه، وكان يتبعه
خمس وخمسون سفينة أخرى تحمل الخديوي إسماعيل الذي كان قد خلَف سعيد ابن
أخيه، وضيوفه الرسميِّين والسفراءَ الأجانب وغيرهم من كبار المدعوين.
صباح اليوم العشرين، دخل اليخت Aigle
البحر الأحمر على أنغام فرقته الموسيقية. هناك اعتقادٌ خاطئ شائع أن
«عايدة» أوبرا فيردي Verdi، كانت قد
كتبت خصِّيصَى للاحتفال بافتتاح القناة، والواقع أن فيردي لم يكن
مباليًا بذلك الحدث التاريخي لدرجةِ أنه كان قد رفض كتابةَ لحنٍ
افتتاحي للمناسبة، إلا أن عالِم المصريات الفرنسي أوجست مريت
Auguste Marette، أرسل إليه في الأشهر
الأولى من العام ١٨٧٠م سيناريو يعتمد على قصة متخيَّلة، تقع أحداثها في
أحد العصور المصرية القديمة. راقت له الفكرة وعلى الفور كلَّفه الخديوي
إسماعيل بكتابة أوبرا، فشرع بكل همَّة. بالرغم من أن العرض الأول كان
مقررًا له أن يكون على مسرح الأوبرا الجديدة التي شيَّدها إسماعيل في
القاهرة، تم الاتفاق على أن يتم إعداد المناظر والملابس في باريس، وكان
قرارًا سيئ الحظ، حيث أدَّت الحرب الفرنسية البروسية وحصار المدينة إلى
تأخير وصولها عدة أسابيع. وأخيرًا وصلت الديكورات والملابس وافتُتحت
الأوبرا ليلة رأس سنة ١٨٧١م. لم يكن فيردي حاضرًا، ويبدو ذلك أمرًا
غريبًا إلى حدٍّ ما، رغم أنه حضر العرض الأول لها في ميلان في أوائل
العام التالي.
بالنسبة لأراضي وموانئ شرق المتوسط، كان شق قناة السويس بمثابة منحة
سماوية — رغم أن أحدًا لم يدرك ذلك إلا بعد فترة. لم تَعُد معزولة،
وأصبح من الممكن أن تستعيد وضعها القديم كمحطات توقُّف على طرق التجارة
العالمية. حتى دول الشرق الأقصى أفادت منها؛ حيث أصبحت العلاقات
التجارية بينها وبين الغرب أكثرَ قوة. غدا العالم مكانًا أصغر
حجمًا.
إلا أنه منذ افتتاح القناة، كانت شركة قناة السويس أسيرةَ عدة مشكلات
مالية. كان حَمَلة الأسهم، الذين كان دي ليسبس قد أقنعهم بأنهم كانوا
يستثمرون في منجم ذهب، كانوا يريدون عائدًا سريعًا على أموالهم؛ ولكن
أوروبا كانت بطيئةً في الاستفادة من الإمكانيات الجديدة. في أول سنة من
تشغيلها، كان عدد السفن التي تمر بها يوميًّا أقلَّ من اثنتين تقريبًا.
كان دي ليسبس قد توقَّع دخلًا سنويًّا نحو عشرة ملايين فرانك، لم يحصل
سوى على أربعة. بعد ذلك كان هناك جدال دولي حول الجوانب المالية، لم
ينجح المؤتمر الذي دعا إليه الباب العالي في حسمه؛ وفي آخر الأمر هدَّد
دي ليسبس الغاضب بإغلاق القناة كلية، بينما أرسل الخديوي — مدعومًا من
الباب العالي — قوةً عسكرية إلى القناة، وسفينتين حربيتين إلى بورسعيد،
مع تعليماتٍ بالاستيلاء على القناة في حالِ إصرار الشركة على موقفها.
فرنسا، التي سبق أن دعَّمت دي ليسبس، سحبت دعمَها الآن، وكان عليه أن
يعترف بالهزيمة.
إلا أن الحرب الفرنسية البروسية كانت قد وجَّهت للإمبراطورية الثانية
الضربةَ القاصمة، وكان نفوذ فرنسا على القناة يزداد ضَعفًا. من ناحيةٍ
أخرى كان نفوذ بريطانيا يتزايد. كانت حكومة اللورد بالمرستون والحكومات
التي خلَفتها قد عارضت شقَّ القناة؛ إذ كانوا يرونه خطرًا استعماريًّا
فرنسيًّا، ولكن بعد أن أصبح الفرنسيون بعيدين عن الأمر بالفعل، كان
الرأي يتغيَّر بسرعة في إنجلترا. فجأة، اختُصرت المسافة إلى الهند إلى
النصف، وانتعش ما كان يُعرف بالصناعة السياحية من بومبي إلى كالكوتا.
في غضون عَقدين، كان التدفُّق السنوي على الهند من الشابَّات في سن
الزواج، بحثًا عن أزواج — أو أسطول الصيد كما كان يُعرف — قد أصبح أشبه
بالمؤسسة.
١ بدأت حظوظ قناة السويس نفسها في التحسُّن اعتبارًا من عام
١٨٧٣م، مع التحسُّن في الزيادة السنوية المطردة في عدد السفن التي
تعبُرها. كان ثلثا تلك السفن بريطانيًّا، وقال الخديوي للوكيل
البريطاني إنه لم يكن يسعده فحسب أن تكون القناة مِلكًا لشركة
إنجليزية، بل إنه في حال تأسيس شركة كتلك، سيبذل كلَّ ما في وسعه
لتسهيل عملية نقلها إليهم.
في الوقت نفسه، كانت مصر تغرق أكثر فأكثر في الديون، وبحلول نوفمبر
١٨٧٥م، وجد الخديوي نفسه في حاجة ماسة لنحو أربعة ملايين جنيه لمواجهة
التزاماته. كان السبيل الوحيد أمامه هو أن يقوم ببيع أو رهن أسهمه في
شركة قناة السويس. بدأت مجموعتان فرنسيتان منفصلتان من رجال البنوك
تتجادلان مع بعضهما في باريس، ولكن لم تكن أيهما أسرع أو أكثر حسمًا من
«بنجامين
دزرائيلي
Benjamin Disraeli»، الذي كان قد خلَف «جلادستون
Gladstone» قبل وقت قصير رئيسًا للوزراء،
والذي كان على علمٍ بما يجري بالضبط عن طريق صديقه «ليونيل دي روتشيلد
Lionel de Rothschild»، الذي
كان يتناول العشاء معه بانتظام مساء كل أحد. استمرَّت المفاوضات فترةً،
ولكن في الرابع والعشرين من نوفمبر ١٨٧٥م، تم الاتفاق على أن تشتريَ
الحكومة البريطانية من خديوي مصر ١٧٧٦٤٢ سهمًا من أسهم قناة السويس
مقابل أربعة ملايين جنيه إسترليني. كتب دزرائيلي للملكة: «لقد حصلت
عليها يا سيدتي، لقد تفوقت على الحومة الفرنسية.» وردَّت الملِكة بأن
ذلك كان بالفعل «حدثًا عظيمًا وبالغ الأهمية»، وأضافت ساخرة «العيب
الوحيد هو ذلك المبلغ الكبير.»
٢
إلا أن الأربعة الملايين جنيه كان لا بد من أن تُجمع. مرةً أخرى لجأ
دزرائيلي إلى دي روتشيلد، الذي أرسل إليه سكرتيره الخاص مونتاجو لوري
كوري Montagu Lowry Corry. في السنوات
التالية كان يحلو لكوري أن يروي قصةَ ذهابه إلى مكتب روتشيلد وإبلاغه
بأن رئيس الوزراء كان في حاجةٍ إلى أربعة ملايين جنيه: سأله روتشيلد:
متى؟ فكانت الإجابة: غدًا، التقط روتشيلد بعضَ حبَّات من العنب ولفظ
القشر وسأل: ومَن يضمنكم؟ قال: الحكومة البريطانية. ردَّ: حسنًا!
ستحصلون على المبلغ. بعد أيام قليلة، تم تسليم الأسهم للقنصلية
البريطانية العامة في القاهرة. تم عدُّها فوجدوها ١٧٦٦٠٢ سهم، أي إنها
كانت أقل من العدد الذي كان قد تم التعاقد عليه بمقدار ١٠٤٠ سهمًا،
وعليه تم تخفيض السعر إلى ٣٩٧٦٥٨٢ جنيهًا. لا بد من أن يكون ليونيل دي
روتشيلد قد ساوره القلق.
لا بد من التأكيد أن بريطانيا لم تشترِ القناة، ولا حتى حق الرقابة
عليها، إلا أنها بامتلاكها ٤٠٪ من الأسهم، منعت تلك الرقابة من أن تكون
بكاملها في يد الفرنسيِّين لو لم تُقدِم على ذلك. كان من حقِّها الآن
تعيينُ ثلاثة من أربعة وعشرين مديرًا في مجلس إدارة الشركة، وهو عدد
سوف يرتفع إلى عشرة بعد سنوات قليلة. من بين كل حملة الأسهم، بالإضافة
إلى ذلك، كانت هي الأقوى والأغنى.
هل كان شراء بريطانيا الأسهم، مقدِّمة لإعادة توطيد وجود بريطاني في
مصر بدرجةٍ ما؟ كانت المعارضة الليبرالية ترى ذلك. يبدو في الواقع أن
دزرائيلي لم يكن لديه اهتمام خاص بذلك. في الوقت نفسه، كان على نفس
القدْر من الأهمية، أن تكون القناة محميةً جيدًا، وبينما كانت تلك
الحماية تتم في الماضي من قِبل الحكومة العثمانية ونفوذ السلطان، كانت
قد أصبحت الآن في يد الخديوي الذي أظهر أكثرَ من مرة تبذيره وعدم شعوره
بالمسئولية، وأنه لا يمكن الثقة به، لدرجةِ أن الميزانية المصرية في
١٨٧٦م وُضعت تحت إشراف مراقبَين؛ أحدهما بريطاني والآخر فرنسي. هذه
الرقابة الثنائية، كما أُطلق عليها، منعت الانهيار إلى حدٍّ ما، ولكن
سرعان ما اتضح أن الخديوي كان لا بد من أن يذهب. وجَّهت بريطانيا
وفرنسا مناشدةً مشتركة للسلطان، وفي يونيو ١٨٧٩م تم خلعه. ابنه توفيق،
الذي خلفه على الفور، وجد نفسه في مواجهة ثورة كبيرة من الوطنيين
المصريين الذين قاموا بانقلاب في ١٨٨١م، ليقيموا ما كان بالفعل أشبهَ
بديكتاتورية عسكرية، وتبِع ذلك بعد تسعة أشهر، أعمالُ شغب في
الإسكندرية، قُتل فيها أكثرُ من خمسين أوروبيًّا.
آنذاك، كانت بريطانيا قد أرسلت أسطولًا بحريًّا إلى الإسكندرية، وهو
ما ردَّ عليه المقدم أحمد عرابي (المعروف للغرب ﺑ «عرابي باشا») بالبدء
في بناء تحصينات على الجانب المواجه للبحر. أمره الأدميرال البريطاني
بالتوقُّف عن ذلك، وعندما رفض، قصف التحصينات ودمَّرها. رسَت القوات
البريطانية باسم الخديوي، ومضت لاحتلال المدينة، إلا أن عرابي ردَّ هذه
المرة بتهديد جديد: أن يغلق ترعة المياه الحلوة التي كانت تصل النيل
ببرزخ السويس، وكانت المصدر الوحيد لإمداده بالماء العذب. مع التدهور
السريع في الموقف، رست حملة عسكرية كاملة بقيادة الجنرال الشهير السير
«جارنت ولسلي Sir Garnet Wolsely» في
التاسع عشر من أغسطس في بور سعيد، بينما كانت قواتٌ أخرى في طريقها إلى
السويس قادمةً من الهند. بعد شهر، في الثالث عشر من سبتمبر، لم يكن
هناك صعوبةٌ في أن تُلحِق بعرابي هزيمة ساحقة عند التل الكبير على طرف
الدلتا، وأن تحتلَّ القاهرة في اليوم التالي.
هنا، لا بد من أن نتساءل: وأين كانت فرنسا أثناء ذلك الوقت العصيب؟
كانت فرنسا قد أرسلت هي الأخرى أسطولًا إلى الإسكندرية، إلا أنه على
الفور — ولسببٍ غير معروف — واصل إبحاره إلى بورسعيد، ولم يشارك في
القصف أو إنزال قوات. لو أنه كان قد بقي واتبع النموذج البريطاني، لما
اعترضت بريطانيا، بكل تأكيد، بل ربما كانت قد رحَّبت بمثل تلك
المشاركة. يبدو أن الحكومة الفرنسية كانت قد فقدت اهتمامها آنذاك
بالأمر. بفضل المعارضة الشديدة ﻟ «جورج كليمنصو Georges Clemenceau»، كما يقال،
فشِلت في إقرار التمويل اللازم للتدخل العسكري؛ وهكذا بجرة قلم، ضحَّت
بنفوذ فرنسا التقليدي في مصر، وأعطت منافسها البريطاني الفرصة للتصرُّف
كما يحلو له. في آخر ١٨٨٢م، أُلغيت الرقابة الثنائية على قناة
السويس.
عندما احتلَّت القوات البريطانية مصر في الماضي، كانوا يفكِّرون في
الخروج منها بأسرعِ ما يستطيعون، إلا أنهم هذه المرة كان قد أصبح لديهم
حبلُ نجاة يدافعون عنه. لعدة سنوات، كانت بريطانيا تزعم أن احتلالها
مصر لم يكن سوى إجراء مؤقت. بالنسبة للضَّم الكامل، فإن الحكومات
المتوالية كانت تحتجُّ بأن ذلك كان أبعدَ ما يكون عن تصورهم؛ كانت مصر
جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، وكان يسعدهم أن تظل كذلك. إلا أن
القناة كان لا بد من حمايتها، وكانت مهمة بريطانيا هي أن تقوم بذلك،
وإذا كانت تلك الحماية تستدعي احتلال مصر … فلا بأس.
الآن، كانت بريطانيا قد ضمِنت لنفسها السيطرةَ الفعلية على القناة في
حالِ نشوب حرب، إلا أنها كانت تدرك أن مثل ذلك القرار المتعجِّل لن
يرضي القوى الأخرى. وهكذا فإن ممرًّا مائيًّا بهذه الأهمية
الاستراتيجية يمكن، في آخر الأمر، حمايته بواسطة التحييد الكامل. كانت
المفاوضات الدبلوماسية المطلوبة قبل التوصل إلى ذلك دقيقة ومعقَّدة؛
ولكن أخيرًا، في التاسع والعشرين من أكتوبر ١٨٨٨م، وقَّع ممثلو تسع دول
في القسطنطينية اتفاقيةَ قناة السويس، التي أرست «نظامًا واضحًا، لا
لبس فيه، لضمان استخدام كل القوى قناةَ السويس البحرية في كل الظروف»؛
وتقرَّر أن تكون القناة مفتوحة أمام كل السفن أيًّا كان مصدرها، في وقت
الحرب كما في وقت السِّلم. لا تسد مداخلها ولا تقام على شواطئها أو على
امتدادها أية تحصينات دائمة. لا يحق لأي سفن عسكرية متحاربة إنزال قوات
أو مؤن في موانئها أو في أي مكان على امتدادها. تحت شروط الاتفاقية
الأصلية الموقَّعة في ١٨٥٤م، تظل الاتفاقية سارية حتى ١٩٦٨م، أي بعد ٩٩
عامًا من افتتاح القناة. آنذاك فحسب، ستئول ملكيتها للحكومة
المصرية.
•••
ربما يكون هذا الفصل في حاجة إلى حاشية موجزة.
في نوفمبر ١٩١٤م، كانت بريطانيا قد أعلنت الحرب على الإمبراطورية
العثمانية، وأعلنت الحماية على مصر مع إعادة الخديوي عباس — لم يَعُد
لقب الوالي مستخدَمًا بالنسبة له — بلقب «سلطان». بعد أربع سنوات فحسب،
مُنحت مصر الاستقلال الكامل (مع بعض تحفظات) لتصبح مملكة مستقلة. أول
حاكم، الملك فؤاد الأول (السلطان سابقًا)، خلَفه ابنه فاروق على العرش
في ١٩٣٦م، الذي حكم حتى ١٩٥٢م، عندما قامت مجموعة من ضباط الجيش بقيادة
العقيد جمال عبد الناصر بقلب نظام الحكم الملكي وأعلنت مصر جمهورية. في
١٩٥٤م، وقَّعوا اتفاقيةً مع بريطانيا، تنسحب بموجبها كل القوات
البريطانية من قناة السويس: بعد عامين، في السادس والعشرين من يوليو
١٩٥٦م — قبل اثني عشر عامًا من الموعد المحدَّد لعودة القناة لمصر كما
سبق الاتفاق عليه — تم الاستيلاء على القناة وتأميمها. في نهاية شهر
أكتوبر، وبعد أن فشِلت كل الاحتجاجات الدبلوماسية، قامت دولة إسرائيل،
التي كانت قد أُنشئت حديثًا، بمشاركة من بريطانيا وفرنسا، بغزو مصر
بهدف استعادة القناة عَنوة. تم إنزال قوات بريطانية في بورسعيد تحت
ستار من قصف بحري، بينما احتل الإسرائيليون سيناء بسرعة. زادت قوة
الرفض الدولي للعملية — وبخاصة من قِبل الولايات المتحدة — لدرجةِ أن
اضطُرت القوات الإنجليزية والفرنسية للانسحاب تاركةً عبد الناصر — برغم
الخسائر العسكرية الكبيرة — منتصرًا، والقناة في أيدي المصريين. انتهى
النفوذ البريطاني في مصر. عاد الأهالي إلى بورسعيد، وتم خلع تمثال دي
ليسبس من قاعدته … دي ليسبس الذي لولا رؤيته وعزيمته لما كانت قناة
السويس. في قلوب الطغاة … الوفاء عاطفة نادرة.
هوامش