الفصل الثاني والثلاثون
الحرب العظمى
-
الدردنيل: ١٩١٥م.
-
مصطفى كمال: ١٩١٥م.
-
الرسو والإنزال في خليج سلفا: ١٩١٥م.
-
كيز وكتشنر: ١٩١٥م.
-
الإخلاء الأخير: ١٩١٥م.
-
اجتياح مقدونيا: ١٩١٦م.
-
اللنبي واﻟ E.E.F:
1917م.
-
اللنبي يلتقي لورانس: ١٩١٧م.
-
أطلال الإمبراطورية العثمانية: ١٩١٨م.
***
جرَت أحداث الحرب العالمية الأولى في الأساس، كما
يعرف الكل، في خنادق الشمال الفرنسي وبلجيكا. لم تكن حربًا متوسطية بأي
معنًى، إلا أنها امتدَّت ثلاث مرات إلى البحر الأبيض للتركيز على
عدوِّها الشرقي … الإمبراطورية العثمانية. في المرة الأولى، كانت
الحملة سيئة الطالع على الدردنيل و«جاليبولي Gallipoli»، والثانية إنزال الحلفاء في سالونيكا، أما
الثالثة فكانت في فلسطين.
في السابع والعشرين من ديسمبر ١٩١٤م، وجَّه «ونستون تشرشل Winston
Churchill»، وكان آنذاك
لورد أول البحرية، وجَّه على نحوٍ مميَّز رسالةَ نصح ﻟ «هربرت هنري أسكويث Herbert Henry Asquith». قال إن
الحرب كانت قد وصلت إلى طريق مسدود. كان الجيشان على أهبة الاستعداد،
لدرجةِ أن التقدم عدة ياردات كان من المرجَّح أن يسفر عن ضحايا
بالألوف. كان المطلوب كسر طوق الحصار والخروج إلى مسرح جديد تمامًا
للحرب. وتساءل تشرشل: «ألا توجد بدائل أخرى لإرسال جيوشنا لمضغ الأسلاك
الشائكة في الفلاندرز؟» كان يرى بديلين. إحدى الأفكار كانت القيام بغزو
«شلزويج-هولشتين Schleswig-Holstein»
والاستيلاء عليها لتمكين الدانمرك من الانضمام إلى الحلفاء، وفتح
البلطيق أمام سفن الحلفاء؛ حينذاك سيكون بمقدور الروس إنزالُ جيش على
مسافة تسعين ميلًا من برلين. كان ذلك هو الخيار المفضَّل بالنسبة
له.
إلا أنه عرض فكرةً أخرى، كانت أكثرَ طموحًا وأوسع خيالًا: غزو شبه
جزيرة جاليبولي؛ حيث إن السيطرة عليها ستمكِّن البحرية الملكية من شقِّ
ممر بالقوة عبر الدردنيل إلى بحر مرمرة؛ وبالرسو عند مدخل القرن
الذهبي، يمكن أن تهدِّد بقصف القسطنطينية، وهو خطرٌ شديد في الواقع
نظرًا للشوارع الضيقة والمنازل الخشبية الآيلة للسقوط في المدينة
القديمة. كما أن تدمير جسر «جالاتا Galata» سيعزل «بيرا Pera» عن إسطنبول، كذلك فإن مَصنعَي الذخيرة الوحيدين في
تركيا مُقامان على حافة الماء وسيكونان هدفًا سهلًا للمدفعية
البريطانية. كل ذلك يمكن أن يرغم حكومةَ السلطان على التماس السلام،
الذي لن تكون بعده صعوبة — كما كان تشرشل يعتقد — في إقناع اليونان
التي كانت ما زالت محايدة، وكذلك رومانيا وصربيا وبلغاريا بأن تلقي
بثقلها مع الحلفاء. كانت تلك فكرة نموذجية تمامًا تليق بتشرشل؛ وفي حال
نجاحها كان يمكن أن تختصر أمد الحرب. إلا أنها لم تنجح؛ وعلى مدى قرن
كامل، كان المؤرخون العسكريون يحاولون تحليل الأسباب التي جعلت فكرةً
كتلك كانت تبدو واعدة، تؤدي إلى أسوأ كوارث الحرب.
يبدو أن المشكلة كانت تكمُن في عدم وجود خطة شاملة منسقة. كان تشرشل
في الأساس قد تصوَّر عمليةً عسكرية وبحرية مشتركة؛ ففي منتصف يناير
١٩١٥م، كان يقود هجومًا بحريًّا فقط، بالرغم من المعارضة الشديدة من
الأدميرال سير «جون فيشر John Fisher»
لورد أول البحرية، صديقه الذي كان يخشاه في الوقت نفسه. بعد شهر، وقبل
أقل من أسبوع قبل قيام المدفعية بقصف الدردنيل. تقرَّر إرسال قوات دعم.
كان ذلك يعود إلى حدٍّ كبير إلى حقيقة أن تشرشل، الذي كان يبذل كل جهده
وطاقته دعمًا لهذه الفكرة، كان مجرد وزير في الحكومة، ومسئوليته مقصورة
على البحرية. لم يكن له سلطة على الجيش؛ لم يكن «اللورد كتشنر Lord Kitchener» وزير الدولة لشئون
الحرب والمسئول عن الجيش، لم يكن متحمسًا للفكرة، وكذلك رئيس الوزراء.
لو كان تشرشل يمتلك السلطة التي ستكون بيده بعد خمس وعشرين سنة، فلربما
كانت حملة جاليبولي قد انتهت نهاية مختلفة تمامًا.
أما بالنسبة للبحرية، فكانت له السيادة المطلقة عليها، وبفضله كان
الأسطول الذي حشده البريطانيون والفرنسيون أكبرَ تجمُّع لقوة بحرية
عرفها البحر الأبيض. بصرف النظر عن الطرادات والمدمِّرات والسفن الأصغر
حجمًا، كان البريطانيون قد أسهموا بأربع عشرة سفينة حربية، كانت من
بينها «كوين اليزابيث»، التي كان قد تم الانتهاء منها مؤخرًا والتي
كانت تحمل مدافع من عيار ١٥ بوصة — التي لا توجد على أي سفينة — أخرى،
وتجعل منها أقوى سفينة في البحر. كانت مدافع معظم السفن الأخرى من عيار
١٢ بوصة، ولكن هذه الأخيرة كذلك، كانت متفوقة على أي شيء يمكن أن يتباه
به الأتراك في الحصون الأحد عشر — على جانبي المضايق — التي كانت
تمثِّل دفاعاتهم الرئيسية. إلى هذه القوة الضاربة، أضاف الفرنسيون أربع
سفن حربية أخرى وملحقاتها.
في الثامن عشر من فبراير ١٩١٥م، كان الأسطول المشترك قد اتخذ مواقعه،
وعند الساعة التاسعة وإحدى وخمسين دقيقة من صباح اليوم التالي بدأ
الهجوم، واستمر طول اليوم. كان الأسطول يتقدم ويقوم بقصف الحصون
والقلاع من مسافة قريبة. في الوقت نفسه، كانت كاسحات الألغام تعمل لفتح
الطريق إلى المضايق. بحلول المساء، لم يكن هناك نتيجةٌ حاسمة. قائد
الحلفاء، نائب الأدميرال «ساكفيل
كاردن Sackville Carden» وجد أنه لا يمكن تحقيق شيء مهم، إلا إذا اقتربت
سفنه من أهدافها أكثرَ من ذلك؛ لسوء الحظ انقلب الطقس فجأة، وأصبح
القصف الدقيق مستحيلًا بسبب البحر الهائج. استمرت الظروف الجوية السيئة
لمدة خمسة أيام قبل أن تُستأنف المعركة. في اليوم الخامس والعشرين
تقدَّم نائب الأدميرال «جون دي
روبك John de Robeck» حتى المضايق نفسها، فانسحب المدافعون في اتجاه
الشمال. في الأيام القليلة التالية، رست جماعات صغيرة من جنود البحرية
على كلا الشاطئين الأوروبي والآسيوي، يدمِّرون كلَّ ما يجدونه في
طريقهم من معدَّات، ولكن معظم المنطقة كان يبدو مهجورًا. في الثاني من
مارس، أبرق كاردن إلى لندن بما يفيد أنه كان يأمل أن يكون في
القسطنطينية في غضون أسبوعين، في حال وجود طقس جيد.
كم كان مخطئًا! سرعان ما اكتشف أن الدردنيل كان عبارة عن حقل ألغام
كبير؛ وكاسحات الألغام لا تستطيع القيامَ بعملها بسبب المدفعية
المعادية، والبحرية لا تستطيع إسكاتها حتى يتمكنوا من إزالة الألغام؛
وبعد أسبوعين، بدلًا من الرسو في القسطنطينية، كان كاردن في طريقه
عائدًا إلى لندن مصابًا بانهيار عصبي. خلَفه في القيادة دي روبك، الذي
قاد هجومًا على المضايق في الثامن عشر من مارس؛ من أسفٍ أنه فشل بسبب
خط ألغام لم يكونوا قد اكتشفوه، فأدَّى إلى غرق سفينة فرنسية وسفينتين
بريطانيتين. لم يكن دي روبك يعرف — رغم أنه كان لا بد من أن يتوقَّع
ذلك — أن مرابض المدفعية التركية كانت آنذاك تعاني من نقص كبير في
الذخيرة، ولم يكن لديها أمل كبير في الحصول على المزيد منها. كان يعرف
خسائره الفادحة فحسب، وأن القسطنطينية كانت تبدو بعيدة كما كانت
دائمًا. أما بالنسبة للأتراك، فإن جنودهم البالغ عددهم نحو ستين ألفًا،
الذين كانوا منتشرين ويقودهم بمهارة الجنرال «ليمان فون ساندرز Liman von
Sanders»، فقد
حققوا أولَ انتصار لهم منذ سنوات، على البحرية الملكية، التي كانوا
يعتقدون، مثل كثير من باقي العالم، أنها لا تُقهر. لقد تم إنقاذ
القسطنطينية من براثن بريطانيا. مرةً أخرى كانوا يستطيعون أن يمشوا
مرفوعي الهامة.
والآن، كان قد أصبح من الواضح لمعظم الحكومة البريطانية أن البحرية
لا تستطيع القيامَ بالاختراق بمفردها. كتب الأدميرال فيشر إلى
«ديفيد لويد
جورج David Lloyd George»: «لا بد من أن يقوم أحدٌ بالرسو في جاليبولي في
وقتٍ ما». وفي منتصف مارس، وافق كتشنر على مضضٍ بأن يرسل الفرقة ٢٩ من
إنجلترا — نحو سبعة عشر ألف مقاتل — مع فِرقٍ أسترالية ونيوزيلندية
(ثلاثون ألفًا أخرى) كانت موجودة في مصر في انتظار التحرُّك. إلى جانب
ذلك، كانت هناك فرقةٌ فرنسية أخرى (ستة عشر ألف مقاتل)، وفرقة البحرية
الملكية (عشرة آلاف مقاتل)؛ وعيِّن «الجنرال سير إيان
هاميلتون General Sir Ian Hamilton»، صديقه القديم منذ أيام «حرب البوير Boer war»، قائدًا عامًّا؛ وتم الاتفاق
على تجميع الجيوش في جزيرة «ليمنوس Lemnos» لاستلام معدَّاتها وتموينها ووضع خطط الحملة
القادمة.
في ليمنوس، كانت خيبة أمل أخرى تنتظرهم. كان قد تم تحميل سفن النقل
من إنجلترا دون أن يكون لديهم أيُّ فكرة عن الجيش الذي سيستقبلها. وصلت
الخيول والمدافع على سفينة، والسروج وعدة الخيل والذخيرة على سفينة
أخرى، بينما نسوا تمامًا صنادل إبرار الجنود والعتاد؛ كما كان هناك عدد
كبير من الشاحنات تم تحميلها، بالرغم من عدم وجود طرق على شبه جزيرة
جاليبولي. إلى جانب ذلك كله، لم يكن لدى الجيش خرائط أو مخططات دقيقة
للمنطقة التي سيحارب عليها. في آخر الأمر، تم اكتشاف أن معدَّات
الإبرار وغيرها، وكذلك التجهيزات على جزيرة ليمنوس لم تكن كافية وربما
لا وجود لها، والنتيجة أنه كان لا بد من إعادة تحميل كل شيء مرة أخرى،
والاتجاه بالسفن إلى الإسكندرية لكي يعاد تجميع الجيش بكامله وتجهيزه
للمعركة. لم يكن هناك فرصة الآن لكي تكون القوة المشتركة جاهزةً قبل
منتصف أبريل على أقل تقدير. سيعطي ذلك هاميلتون نحو ثلاثة أسابيع
للتحضير والتخطيط لأكبر عملية برمائية وأكثرها طموحًا في تاريخ
الحروب.
أما بالنسبة للبحرية، فقد كانت أفضل حظًّا من ناحية الإمداد. كان
أسطولٌ جديد من المدمرات-كاسحات الألغام قد وصل مع ثلاث سفن حربية
هيكلية، وهي سفن بسيطة، تمَّت كسوتها بشكلٍ متقن بهياكل ومدافع هيكلية
لتكون بمثابة شِراك خداعية قد تغري الأسطول الألماني بالظهور للقتال.
كان يمثِّل الطيران الملكي «كومودور الجوِّ تشارلز سامسون
Air Commodore Charles Samson عند
إخراج طائرته الثلاثين من الشِّحنة، وجدوا خمسًا وعشرين منها غير صالحة
للعمل؛ وبالنسبة للباقي كان هناك عدد من القنابل التي سيلقي بها
المراقب أو مساعد الطيار، كان أهم ما تقوم به الطائرات هو الاستطلاع
والتصوير الجوي لمرابض مدفعيات العدوِّ ومواقع جنوده والمساحات الشاسعة
من الأسلاك … وهو ما ملأ هاميلتون بالغم والحزن.
•••
الإبرار الذي تأخَّر طويلًا، تم في الساعات الأولى من صباح ٢٥ أبريل.
نزل البريطانيون في «كيب
هيليز Cape Helles» على الطرف الغربي من شبه الجزيرة، والأستراليون
والنيوزيلنديون في خليج صغير — سيُعرف فيما بعدُ ﺑ «جون أنزاك Anzac Cove» الذي يبعُد نحو ثلاثة عشر
ميلًا على امتداد الساحل الشمالي. في الوقت نفسه رسا الفرنسيون عند
«كوم كاليه Kum
Kale» على الساحل
الجنوبي. المدافعون الأتراك، بالرغم من تفوُّق الحلفاء عددًا وعُدة،
ورغم أنهم (الأتراك) كانوا معرَّضين للقصف المستمر من السفن، ظلوا
يقاومون ببسالة، كما كانت قوات الحلفاء تقاتل ببسالة مماثلة، إلا أن
مهمتهم كانت أصعبَ بسبب تفضيل هاميلتون ونائبيه (الجنرال
«إيلمرهنتر-وستون: Aylmer
Hunter-Weston» والجنرال «سير وليم بيردوود
Sir William Birdwood» اللذان كانا يقودان البريطانيين
والأنزاك The
Anzacs على التوالي) البقاءَ في البحر أثناء الساعات
الأولى الحيوية بعد الإبرار. وهكذا، عندما بدأت ترتيبات الإشارة في
الإخفاق وانهارت الاتصالات بين قوات الحلفاء، كانت كل وحدة تتصرف حسب
ظروفها دون علمٍ بما يدور على الشاطئ التالي لها. بنهاية اليوم الأول،
وبعد خسائر ثقيلة في الجانبين، كانت القوات الغازية ما زالت على
الشاطئ.
أي زائر لشبه جزيره جاليبولي لا بد أن تصدمه قسوة التضاريس والبيئة
بشكلٍ عام. صحيح أن هناك كثيرًا من المناظر الجميلة مثل هضبة
«تروي Troy» الممتدة جنوبًا إلى ما
وراء الدردنيل ثم ترتفع عن البحر في الغرب، وهناك جزر «إمبروس
Imbros وسامو تراقيا
Samotrace»، ولكن الشواطئ نفسها، وهي
مجموعة من الخلجان الصغيرة، ضيقةٌ ومليئة بالجروف الصخرية التي تبرز
متعامدة تقريبًا على بُعد ياردات قليلة من الشاطئ، تشقها وهادٌ ضيقة
شديدة التحدر تغطيها شجيرات وأجمات سرخس تجعل المرور متعذرًا في مواضع
كثيرة. وهكذا كان الأتراك في مواقعهم على المرتفعات يستطيعون الاختفاءَ
وسط النباتات الكثيفة، وأمامهم مجالٌ ملائم لإطلاق نيرانهم على القوات
المحصورة على الشاطئ تحتهم، وكأنها في فخٍّ لا فِكاك منه.
هنا يحق لنا أن نتساءل … كيف كان لدى مَن خطَّطوا لهذه العملية أي
تصور لنجاحها؟ هاميلتون، وبعض كبار ضباطه، كانوا قد قاموا باستطلاع
أولي، بأن أبحروا في مدمِّرة لمسافة أبعد قليلًا من الساحل وكان لديهم
بعض الصور الجوية. لم يكن لدى أيٍّ منهم خريطة جيدة، كما كانت هناك بعض
المناطق — وبخاصة جون أنزاك — التي لم تكن قد رُسمت لها خرائط بالمرة؛
وبالرغم من ذلك، عندما شقَّ الأستراليون والنيوزيلنديون طريقَهم إلى
الشاطئ في الساعات الأولى من صباح يوم الأحد ذاك، كانوا يحاربون مثل
النمور. استطاع بعضهم أن يشق ممرًّا عبر الشجيرات والعشب البري بواسطة
حِرابهم؛ وبحلول الساعة الثامنة صباحًا، كان يبدو أن الاتراك قد بدءوا
يفرون في أماكن متفرقة. في تلك اللحظة، وصل إلى موقع الأحداث أحدُ أبرز
الرجال الستة الذين عرفهم القرن العشرون.
كان مصطفى كمال — الذي ظهر على نحوٍ خاطف في الفصل السابق — في
الرابعة والثلاثين آنذاك، وكان قائد فرقة، تم استدعاؤه لكي يشتبك مع
الغزاة بكتيبة صغيرة، فقام أولًا، وحدَه دون مساعدة، بإيقاف انسحاب
مجموعة من الجنود الأتراك؛ واستطاع، معتمدًا على قوة شخصيته، أن يقنعهم
بالعودة إلى القتال، وبعد أن أدرك أن المعركة كانت أكثرَ خطورة وأوسع
نطاقًا مما كان يتصور، قام على مسئوليته، باستدعاء كتيبة تركية متفوقة
بالإضافة إلى إحدى الوحدات العسكرية العربية. كان مصطفى كمال — بذلك —
يتجاوز صلاحياته، إلا أنه أبلغ قيادته بذلك قبل حلول المساء. آنذاك،
كان سير المعركة قد تحوَّل لصالحه، وعاد إلى وحدته وبيده السلطة
المؤثرة في جبهة الأنزاك بكاملها.
حافظ على الضغط طوال اليوم وبدأت قوات الحلفاء في المنطقة، التي كانت
قد تمكَّنت من التقدُّم لمسافة قصيرة، بدأت في التقهقر في اتجاه البحر.
كان بيردوود قد اكتشف — مرتعدًا — أنه قد أنزل رجاله على الشاطئ الخطأ.
كان قد توقَّع أن يجد شريطًا ساحليًّا بطول ميل على الأقل، بدلًا من
جون أقل من نصف ذلك، بين الماء والمنحدر الصخري. كان لا بد من إحضار كل
شيء إلى هنا: المدافع والذخيرة ودواب الحمل — على وجه السرعة — ونقالات
لحمل الموتى والجرحى. في تلك الليلة بعث برسالة إلى القائد الأعلى يطلب
الإذن بالتخلي عن موقعه وإعادة رجاله إلى البحر.
ولكن هاميلتون رفض؛ إذ إن أي عملية لإعادة الرجال إلى السفن، كما
أوضح، ما كانت لتستغرق أقلَّ من يومين. في الوقت نفسه، كانت قد وصلته
تقاريرُ تفيد بأن غواصة أسترالية كانت قد عبرت المضايق ودخلت بحر
مرمرة، حيث أغرقت زورقًا حربيًّا تركيًّا بطوربيد. لم يكن أمام الجنرال
المسكين سوى أن يأمر رجاله بحفر الخنادق والبقاء في وضع الدفاع. كان
يمكن أن تَهِن عزيمةُ بيردوود الذي كان مشغولًا بالأنزاك، لو أنه علِم
بما حدث للقوات الأوروبية. كان الفرنسيون قد حققوا قدرًا من النجاح:
كانوا قد رسوا بالقرب من مقبرة «أخيل
Achilles» الشهيرة، واستولوا على قلعة كوم كاليه المهجورة
واحتلوها، ومستعدين الآن للالتحاق بحلفائهم البريطانيين في كيب هيليز.
إلا أن عمليات الرسو والإبرار هنا كانت كارثية. كان الأتراك قد حبسوا
نيرانهم إلى أن اقتربت سفن النقل من الشاطئ وتم تحميل الأفراد، ثم
قاموا فجأةً بإطلاق وابل من الطلقات القاتلة. لم تكن هناك حماية للقوات
البريطانية، وفي لمح البصر، كما قال سامسون كومودور الجو، الذي كان
يراقب المشهد من طائرته: «كان البحر الأزرق الهادئ قد اصطبغ بلون الدم
على امتداد خمسين ياردة من الشاطئ … كان المنظر مرعبًا»؛ وفي مناطق
المياه الضحلة، كانت الأمواج الصغيرة قد استحالت قرمزية اللون. في غضون
ثلاث ساعات، كانت ثلاثون جثة تقريبًا تغطي الشاطئ. كان الموقف أفضلَ
كثيرًا في مواقع الرسو والإبرار؛ والمعروف أن خسائر الأتراك، كذلك،
كانت كبيرة. بالرغم من ذلك كان تفاؤل هاميلتون المستمر مثيرًا للدهشة.
كتب في ٢٦ أبريل:
«بفضل الله الذي أسكن هياج البحر، وبفضل البحرية الملكية التي
حملت زملاءنا إلى الشاطئ بهدوء وكأنها في سباق للزوارق، وبفضل
الروح الجسورة التي أبداها الجميع، استطعنا إبرار ٢٩٠٠٠ جندي على
ستة شواطئ في مواجهة مقاومة شرسة»؛ ولكن بحسب التقارير التي
تسرَّبت إلى لندن، لا يمكن أن يكون هناك شكٌّ لدى أحد في أن تكلفة
عملية جاليبولي في الأرواح وحدَها، كانت أكبر بكثير مما كان
متوقعًا، وأن آفاقها بعيدة المدى كانت محلَّ شك كبير.»
بعد ثلاثة أيام، كان هناك هدوء مؤقت تبِعه ما يشبه الورطة. كان
البريطانيون والأنزاك قد تمكنوا من التقدُّم لمسافة ميل أو ميلين
تقريبًا في التلال وأن يحفروا لأنفسهم خنادقَ يتحصنون بها؛ ولم يستطِع
الأتراك زحزحتهم. لفترةٍ ما، كان يبدو أن أعمال القتال لن تتحرك أبعدَ
من خنادق شبه الجزيرة كما كان الوضع في الفلاندرز. في الوقت نفسه، كانت
كل بوادر الضيق والقلق بين الحكومة البريطانية قد بدأت تظهر للعلن في
لندن. أولًا: في الخامس عشر من مايو، استقال الأدميرال فيشر، أو
بالأحرى انسحب احتجاجًا. ثانيًا: اضطُر «أسكويث Asquith»، رئيس الوزراء، لتشكيل حكومة ائتلافية — تم
استبعاد ونستون تشرشل منها بكل إصرار — في أكبر انتكاسة درامية له في
عمله السياسي حتى ذلك الحين.
بالنسبة للجنود على شواطئ جاليبولي وأقرانهم على المنحدرات الصخرية
الشاهقة، كان صيفًا طويلًا. مع ارتفاع درجة الحرارة أصبح الذباب لا
يطاق: الطعام، الجثث الملقاة في العراء، الجروح العديدة المتقيحة،
قربهم من المراحيض … كل ذلك جعل الذباب يتكاثر بالملايين لتصبح حياة
الجنود جحيمًا، ثم كانت الديزنطاريا. بحلول شهر يوليو كانت السفن تحمل
أسبوعيًّا آلاف المرضى إلى لمينوس وغيرها من الجزر. إلا أنه كانت هناك
أخبار طيبة وسط هذا الجو المأساوي: في يونيو، تم الاتفاق في لندن على
إرسال خمس فرق إضافية ليصبح عدد قوات هاميلتون نحو مائة وعشرين ألف
مقاتل. دي روبك كذلك، بعد أن كان فيشر قد انزاح من الطريق، حصل على
تعزيزات كبيرة لأسطوله. مع هذه الظروف التي تغيَّرت تمامًا، كان هناك
ما يوحي بعملية رسو وإبرار جديدة، وهذه المرة وقع الاختيار على
«خليج سلفا Sulva Bay»، الواقع على
بُعد أميال قليلة شمالي جون أنزاك. من هنا، كان المأمول هو التقدُّم
بسرعة وقطع الأميال الأربعة المتبقية إلى المضايق، وعزل الجزء الرئيسي
من الجيش التركي عند رأس شبه الجزيرة.
كان خليج سلفا يبدو في البداية مبشرًا بالوفاء بالغرض. على خلاف
الأشكال الهلالية الضحلة في غيره من الخلجان، كان سلفا أشبه بحدوة
الحصان، ومن ثَم كانت مياهه بمثابة مرسًى مثالي للأسطول. لم تكن هناك
مرتفعات صخرية شاهقة يمكن السيطرة منها عليه، وربما لهذا السبب لم يكن
يوجد به سوى قوة دفاع خفيفة — اتضح فيما بعدُ أنها كانت عبارة عن ١٨٠٠
جندي موزعين حول الخليج دون أي أسلاك شائكة أو مدافع ماكينة؛ كانت
الأسلاك والمدافع حول لسان جون أنزاك فحسب، وكانت السيطرة عليه تعني
إيواء جزء كبير من قوات الحلفاء المشتركة (الدومينيون)، للتخفيف من
الكابوس الذي تحمَّلوه طويلًا. بدأت عملية الإبرار تحت جنح الليل ليلة
الرابع من أغسطس واستمرَّت حتى السادسة صباحًا. لم يكن الأتراك يتوقعون
شيئًا مثل ذلك. بعد أن تم إبرار كل شيء، بدأت الأمور تنحو منحًى خطأ
إلى حد الخطر. لم تكن القوات التي وصلت حديثًا مدرَّبة ولا منضبطة وكان
قادتها من كبار السن، غير أكفاء، وغير قادرين على التأقلم مع الظروف
البالغة الصعوبة المحيطة بهم. سرعان ما انهار التسلسل القيادي … كان
هاميلتون بعيدًا ولا يمكن الاتصال به … كانت الأوامر تتغيَّر من النقيض
إلى النقيض في اللحظات الأخيرة … كان قادة الوحدات يتصرفون، كلٌّ كما
يشاء، ونادرًا ما كان يتم إخطار الجنود بما هو مطلوب منهم.
إلا أنه كانت هناك نجاحات قليلة مؤقتة. الهجوم البطولي للقوات
الأسترالية على «لون باين Lone Pine»
كلَّفهم أربعة آلاف قتيل، إلا أنه عاد عليهم بما لا يقل عن سبعة أوسمة
من طبقة «صليب
فيكتوريا Victoria
Cross»، وأسفر عن الاستيلاء على خط الدفاعات التركية.
النيوزيلنديون دمَّروا جزءًا آخرَ من الخط، ليجدوا أنفسهم أمام مؤخرة
المواقع التركية. إلا أنه كانت هناك، مع كل نجاح، أوجهُ فشل كثيرة؛ ففي
مساء الثامن من أغسطس أُجبر الحلفاء على العودة إلى خنادقهم بعد أن
مُنوا بخسائرَ فادحة وفشلوا في تحقيق أيٍّ من أهدافهم الرئيسية. في آخر
أغسطس، اعترف هاميلتون بفشله لكتشنر. قال إنه لم يكن باستطاعته أن يفعل
أكثرَ مما فعل دون تعزيزات قوية؛ ذكر رقم ٩٥٠٠٠ مقاتل، إلا أن الفيلد
مارشال هزَّ كتفيه استخفافًا. كانت حكومة الحرب — فيما يبدو — قد
قرَّرت التركيز مرةً أخرى على الجبهة الغربية. هل كان المطلوب طي صفحة
جاليبولي؟
في الأسبوع الأخير من سبتمبر، كانت هناك كارثةٌ أخرى أشد قسوة. بعد
أن أعلنت بلغاريا التعبئة، كان من المؤكد أنها — في ظرف أسبوع على
الأقل — ستدخل الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا، وتزحف معهما على صربيا.
كان ذلك نذيرًا بتغيُّر الموقف برُمَّته في البلقان؛ ولذا قرَّر
الحلفاء نقل فرقتين؛ فرقة فرنسية ثم أخرى بريطانية، من جاليبولي إلى
«سالونيكا Salonica» حيث يمكنهما من
هناك، الزحفُ شمالًا لمساعدة الصرب. كان يبدو آنذاك أن هاميلتون لا بد
أن يكون مستعدًّا لتجنُّب سلفا Sulva
تمامًا. كذلك كان هناك احتمالٌ آخر، ولعله كان مُوقِعًا للكآبة في
النفس أكثرَ من ذلك: في الحادي عشر من أكتوبر أبرق كتشنر إلى هاميلتون
يسأل: «ما تقديرك للخسائر المحتملة بين قواتك، في حال القيام بإخلاء
شبه جزيرة جاليبولي؟ لم يتم اتخاذ أي قرار بهذا الخصوص بعد … إلا أنني
أشعر بضرورة معرفة رأيك». ردَّ عليه هاميلتون فورًا؛ قال إن ٥٠٪ ربما
يكون تقديرًا واقعيًّا، وأضاف: «من ناحية أخرى، بوجود كل هذه القوات
الخام قليلة الخبرة في سلفا، وكل أولئك السنغاليين في كيب هيلز، لا بد
أنه ستكون هناك كارثة محقَّقة.» عندما وُضعت هذه الرسالة أمام لجنة
الدردنيل في الرابع عشر من أكتوبر، تقرَّر مصير هاميلتون. بعد يومين …
تم الاستغناء عنه.
•••
خليفة هاميلتون، الليفتنانت جنرال سير تشارلز مونرو
Charles Monro جاء من الجبهة الغربية
مباشرة. لم يخفِ منذ اليوم الأول له، أنه كان يعتبر حملة جاليبولي
برُمَّتها فكرةَ خطأ. كان يعتقد أن الانتصار في الحرب يمكن أن يتحقَّق
في فرنسا، وأن أي انحراف أو تحوُّل عن الهدف الرئيسي مرفوض. وحيث إن
الأوامر الصادرة إليه كانت أن ينصح إما بإخلاء شبه الجزيرة أو بعدم
إخلائها، فإن طبيعة استشارته كانت تبدو نهايةً مقررة سلفًا. كما أنه
عندما وصل، لم يجد شيئًا يجعله يمكن أن يغيِّر رأيه. رغم أن برودة الجو
كانت قد بدأت تتزايد، لم تكن ملابس الشتاء قد وصلت من لندن. لم يكن قد
أُبقي من معظم القوات سوى نصف عددها تقريبًا، وربما أقل، وكانوا في
حالة من الضَّعف والهزال شديدة. كانت الذخيرة قليلة ومُقنَّن المدافع
قذيفتان في اليوم. عندما رأى مونرو خليج سلفا لأول مرة تأكَّدت مخاوفه.
يقال إنهم سمِعوه يتمتم: «مثل آليس في بلاد العجائب … أعجب … وأعجب».
في اليوم التالي أرسل توصياته إلى كتشنر.
بالرغم من ذلك، لم يكن كل شيء قد ضاع. كان «الكومودور روجر كيز Commodore Roger Keyes»، رئيس
أركان الأدميرال دي روبك، كان يرى من المناسب أن يعترض. كانت خطته في
غاية البساطة: أن يتم تجميع كل أسطول البحر الأبيض الذي كان موزَّعًا
في أشهر الصيف في عدة مواقع في بحر إيجه، لكي يقوم بمحاولةٍ مخطَّطة
لعبور المضايق، بينما يتم قصف بطاريات الأتراك الموجودة على الشاطئ
بكثافة. كان يعتقد أن ذلك سيفاجئ الأتراك. وبمجرد أن يصبح الأسطول في
بحر مرمرة، سيكون من السهل إغلاق البرزخ عند الحافة الشمالية لشبه
الجزيرة، وعزل الفِرق التركية العشرين الموجودة هناك. كان دي روبك
متشككًا، إلا أنه سمح ﻟ «كيز» بالعودة إلى إنجلترا ليدافع عن فكرته.
وفعل.
تركت الفكرة انطباعًا جيدًا لدى كبار القادة العسكريين، وعلى لورد
أول البحرية «آرثر
بلفور Arthur Balfour»، وبالطبع على ونستون تشرشل.
لم يكن قد بقي سوى لورد كتشنر، الذي روَّعته سرعة وفحوى رد مونرو،
وكان هو شخصيًّا الذي اختار هاميلتون لقيادة عملية جاليبولي، ولم يكن
يسعده، بالتأكيد، أن يرى صديقه ممتهنًا. على الفور، وافق على فكرة كيز.
وطلب منه أن يحاول الحصولَ على تعهُّد محدَّد من البحرية، وبعد ذلك
أعلن (لبيردوود وليس لمونرو) عن قراره بالذهاب، شخصيًّا، إلى الدردنيل
في اليوم التالي. كانت آخر عبارة في رسالته «أرفض تمامًا توقيع قرار
بالإخلاء، الذي سيكون، في رأيي، أكبرَ كارثة، وأن أحكم على نسبة كبيرة
من رجالنا بالموت أو السجن. سيعيِّن مونرو لقيادة القوة المتجهة إلى
سالونيكا». ثم انطلق، عبْر باريس — حيث كان الفرنسيون قد أكَّدوا
معارضتهم للإخلاء — إلى مرسيليا، ثم إلى جاليبولي على متن السفينة
الملكية «دارموث Darmouth».
لو كان كيز قد رافقه — كما طلب منه كتشنر إلا أن الرسالة لم تصل —
فلربما كان قد نجح في تهدئة الفيلد مارشال، ولكن مناخ الآراء بين
القادة كان قد تغيَّر على الفور إلى حدٍّ كبير منذ رحيل كيز، ليجد
كتشنر نفسه محاطًا بمونرو ودي روبك وبيردوود، وكان ثلاثتهم مع فكرة
الإخلاء. لم يتكلم أحد عن كيز ولا عن خطته. بعد يومين من النقاش خرج
الفيلد مارشال في رحلة تفتيش على رءوس الجسور الثلاثة الرئيسية، وأصابه
الحزن لِما رأى، إلا أنه كان أقلَّ من حزن مونرو. وفي الثاني والعشرين
من نوفمبر، أبرق بتوصية إلى لندن بضرورة إخلاء سلفا وخليج أنزاك فورًا
والاحتفاظ بكيب هيليز «مؤقتًا». بعد يومين أبحر إلى إنجلترا.
حتى ذلك الحين لم يكن أحدٌ من المعنيِّين بالعملية — من أعلى إلى
أدنى مستوى — يشعر بغير الاشمئزاز من شبه جزيرة جاليبولي، إلا أنهم لم
يروها في أسوأ ظروفها. في ٢٧ نوفمبر ضربتها أقوى عاصفة ثلجية على مدى
أربعين سنة على الأقل. أربع وعشرون ساعة على الأقل من المطر الغزير،
تبِعتها رياحٌ شمالية عاتية لإعصارٍ استوائي مع تساقط ثلوج كثيف،
وليلتان من الصقيع. كانت السيول تنهمر كاسحةً من التلال حاملة معها
جثثَ الغرقى من الجنود الأتراك. في جون أنزاك بخاصة؛ حيث كان كثيرٌ من
الأستراليين ووحدة هندية صغيرة، ربما يرون الثلوج لأول مرة في حياتهم.
لم يكن هناك أيُّ وسيلة للحماية من البرد القارس. لم يكن قد تم صرف
ملابس الشتاء للجنود، ولم يكن أمامهم سوى الاحتماء بالبطاطين الغارقة
بالماء، التي سرعان ما كانت تتجمَّد. استمر هذا العذاب ثلاثة أيام
وثلاث ليالٍ، وعندما انتهى كان هناك مائتا قتيل بين غريق وميت من
البرد، ونحو خمسة آلاف يعانون من قضمة الصقيع. كان كثير منهم قد عارض
الإخلاءَ من قبلُ، مصرِّين على استمرار العملية حتى النهاية. الآن،
وبالرغم من الأخطار الشديدة، لم يكن باستطاعتهم الخروجُ من هنا
بسرعة.
كان من الواضح أن الإخلاء سيكون
عمليةً طويلة وشاقة.
١ عن رأس جسر سلفا-أنزاك وحدَه، كان هناك نحو ثلاثة وثمانين
ألف جندي، غير خمسة آلاف حصان وحمار وألفي مركبة ونحو ألفي مدفع وعدة
أطنان من المواد التموينية. كان الأمل الوحيد هو الانسحاب سرًّا وفي
هدوء في غضون أسبوعين أو ثلاثة. حتى آنذاك، كانت هناك مخاطرُ شديدة:
القصف التركي المتواصل قد يجعل عمليةَ التحميل مستحيلة، الطقس السيئ
والبحر الهائج قد يفسدان الخطط المعدَّة مهما كانت جيدة، كما أن انقلاب
الشمس الشتوي كان قد اقترب. إلا أنه لم يكن هناك بديلٌ آخر. من الأسبوع
الثاني في ديسمبر بدأت مجموعات صغيرة من البوارج والقوارب الصغيرة في
التسلل إلى الخليج ليلًا لتغادر قبيل الفجر، محمَّلة عن آخرها بالأفراد
والحيوانات والأسلحة. كان يتم تحميل المرضى والجرحى أولًا، وكان قد تم
إعداد ستٍّ وخمسين سفينة مجهَّزة كمستشفًى بشكلٍ مؤقت. كان هناك ١٢٠٠٠
سرير في المستشفيات جاهزة في مصر. كانت الحياة أثناء النهار تسير
كالمعتاد لدرء شكوك الأتراك: قوافل البغال مستمرة في رحلاتها من
الشواطئ إلى الجبهة وبالعكس. الفارق الوحيد هو أن الأقفاص والصناديق
التي كانت تحملها كانت فارغة. مع تقدُّم عملية الإخلاء أصبح الخداع
والتمويه أكثرَ صعوبة: نفس الرجال والحيوانات كان لا بد من أن تواصل
السيرَ جيئةً وذهابًا عدة مرات مثل جيش على خشبة مسرح. لم يكن هناك
خيام، وكان لا بد من إشعال الألوف من مواقد الطهي كلَّ ليلة.
بعد أسبوع، تسارع معدَّل الحركة؛ في الثامن عشر من ديسمبر، كان نصف
القوة — نحو أربعين ألف جندي — قد أقلع. إلا أنه لم يكن بالإمكان خداع
العدوِّ أكثرَ من ذلك؛ تم الاتفاق على أن تغادر بقيةُ الجيش في
الليلتين التاليتين. في بعض قطاعات الجبهة لم يكن يفصل بين خنادق
الحلفاء وخنادق الأتراك أكثر من عشر ياردات (ما زال بعض الخنادق
موجودًا إلى الآن)، وربما كان يبدو من المستحيل مغادرتها دون أن
يتنبَّه العدوُّ لذلك، إلا أن ذلك حدث على نحوٍ ما. قبل بزوغ فجر اليوم
الحادي والعشرين تحرَّكت آخر القوارب من الشاطئ. عند جون أنزاك، جُرح
جنديان على إثر طلقات طائشة أثناء صعودهم السفينة؛ في خليج سلفا خرج
كلُّ الرجال والحيوانات في سلام، كان آخر شيء فعلوه قبل مغادرتهم هو
إشعال الفتائل التي كانت موضوعة على الشاطئ بعناية. بعد عشر دقائق
كانوا يسمعون — بكل ارتياح — سلسلةَ الانفجارات المدوية في مستودعات
الذخيرة.
•••
ولكن ماذا عن البريطانيِّين؟ بالنسبة لفِرقهم الأربع — نحو ٣٥٠٠٠
جندي — عند رأس جسر هيليز كان الوضع يبدو خطرًا بالفعل. كان الأتراك قد
تركوا الأنزاك يهربون من ناحية اليمين على مرأًى منهم؛ والمؤكَّد أنهم
لن يرتكبوا الخطأ نفسَه مرة أخرى. بدلًا من ذلك، سيُلقُون بكل ثِقل
جيشهم ضدهم؛ حيث لم يعودوا مقيَّدين في أنزاك وسلفا. لم يَعُد رفضُ
الإخلاء ممكنًا، مونرو، وبيردوود، ودي روبك — الذي كان مريضًا في بلاده
وعاد قبل عيد الميلاد — كانوا متفقين الآن: لا بد من الإخلاء مهما كانت
صعوبته.
بدأت العملية يوم السبت الأول من يناير ١٩١٦م. غادر الفرنسيون أولًا،
وبعد أسبوع كان عدد القوات البريطانية المتبقية قد انخفض إلى تسعة عشر
ألف جندي. حتى ذلك الحين كان هناك قليلٌ من المقاومة من جانب العدوِّ،
وهو أمرٌ كان يدعو للدهشة بالفعل. بعد ظهيرة اليوم السابع، بدأ الأتراك
هجومَهم بقصفٍ متواصل استمر نحو أربع ساعات ونصف الساعة. بعد أن صمتت
المدافع كان أن بدأ الهجوم المتعذَّر اجتنابُه. واجهه البريطانيون من
خنادقهم بالمدافع والبنادق، ولكنهم فوجئوا بالمشاة الأتراك يقفون في
أماكنهم رافضين التقدُّم، رغم ما كانوا يُعرفون به من شجاعة وانضباط.
حتى حلول المساء، لم يكن جندي تركي واحد قد اخترق خطَّ الدفاع
البريطاني. لم تكن هناك أيُّ متاعب على مدى الأربع والعشرين ساعة
التالية، واستمرت عملية الإخلاء.
في الوقت نفسه كانت الحالة الجوية تزداد سوءًا. بحلول اليوم الثامن
من يناير، كانت الرياح العاتية التي بلغت سرعتها نحو خمسة وثلاثين
ميلًا في الساعة، تطيح بكل شيء. تحطَّم مشعلان ليرتطما بإحدى الدعامات
المؤقتة، كان كل شيء يتحطَّم أثناء محاولات إصلاحه، ولم يكن العمل في
الظلام سهلًا بينما البحر هائج. كانت الرياح والأمطار، كذلك، سببًا في
بطء حركة الجنود الباقين وهم يقطعون الأميال الثلاثة أو الأربعة من
خنادقهم إلى الشاطئ، إلا أنه في الرابعة إلا الربع صباحًا، كان آخر فرد
قد صعد إلى آخر سفينةٍ مغادرةٍ. بعد عشر دقائق انفجرت مخازن الذخيرة في
مشهد درامي أخير، كما حدث في أنزاك وسلفا من قبل.
لم يكن هناك ما يليق بعملية الإخلاء أكثر من نهايتها: من بين المساخر
الكثيرة في قصة جاليبولي، أن تكون عمليات الإخلاء الأخيرة نموذجًا لدقة
التنظيم والتخطيط، برغم الارتباك والفوضى التي اكتنفت العملية كلَّها
من البداية. لم يكن هناك أيُّ خسائر تقريبًا ولم يتبقَّ أيُّ فرد في
المكان. إلا أنه ربما تكون هناك سخرية أخرى: كانت الحملة الفاشلة، برغم
ذلك كلِّه، فكرةً جيدة، كان ينبغي — وكان يمكن — أن تنجح. بعد الحرب
ببضع سنوات اعترف تقريرٌ رسمي لرئاسة الأركان العامة التركية بأن معركة
١٩ مارس البحرية كانت قد خلَّفتهم بلا ذخيرة، ولو أن دي روبك كان قد
عاود الهجوم على الفور، فلربما كان قد تمكَّن من التقدم، دون عائق، إلى
القسطنطينية عبر المضايق، وفي تلك الحالة فإن «الفِرق الثمانية التي
كانت هناك، ما كانت لتستطيع الدفاعَ عنها». وفي حال احتلال
القسطنطينية، فلربما لم يقدِم الروسي على توقيع صلح منفرد — ولربما لم
تحدث الثورة الروسية. حتى بعد عمليات الإبرار، كان الانتصار ممكنًا؛
فالتقرير التركي يعترف كذلك بأن الحلفاء كان يمكنهم القيامُ باختراق
دفاعاتهم أثناء الحملة مرتين (أثناء أول إبرار في أنزاك في شهر أبريل،
وفي خليج سلفا في شهر أغسطس)، لولا الجاذبية الشخصية لمصطفى
كمال.
٢ لو أنهم كانوا قد تمكنوا من ذلك، لو أن الحملة كانت قد
نجحت — وكانت على وشْك تحقيق ذلك — فلربما كانت الحرب العظمى قد انتهت
قبل نهايتها الفعلية بثلاث سنوات، ولما زُهقت ملايين الأرواح.
•••
كان موقف اليونانيين من عملية إبرار القوات في سالونيكا غامضًا
وملتبسًا. رحَّب رئيس الوزراء «إلفتيريوس فينيزيلوس Eleftherios VeNizelos»
بالخطة سرًّا، بالرغم من أنه سجَّل اعتراضًا رسميًّا من باب التمسك
بالشكليات. من ناحية أخرى كان الملِك «قسطنطين Constantine» (كان قد خلَف والده جورج قبل عامين وكان
متزوجًا من شقيقة القيصر) معارضًا بشدة على أساس أنه حتى عبور الجيش
البلغاري الحدودَ، فإن وجود قوات أجنبية على الأراضي سيكون انتهاكًا
لحيادية اليونان. أما بالنسبة لليونانيين أنفسهم فكانوا إلى جانب
الملِك تمامًا. لم يكن لديهم رغبة في وجود قوات للتحالف، ويشعرون أنهم
أُجبِروا، على غير إرادتهم، على دخول الحرب. كانت النتيجة ما أصبح
يُعرف ﺑ «الشقاق القومي National
Schism»، وأُجبر فينيزيلوس على الاستقالة.
من الخطأ دائمًا أن تتدخل الملكيات الدستورية في السياسة الخارجية،
وهذه المرة كان الخطأ كارثيًّا. الآن، فتح الملك قنوات محادثات سرية مع
الألمان، وفي الثالث والعشرين من مايو ١٩١٦م، وبأوامرَ منه، سلَّم
الجيش اليوناني قلعةَ «روبل Rouple»
الأمامية، مما مكَّن القوات الألمانية والبلغارية من اجتياح مقدونيا
الشرقية. كذلك صدرت الأوامر ﻟ «قولة Kavala» بالاستسلام، وأرسلت حاميتها إلى ألمانيا كأسرى
حرب. كان فينيزيلوس، يصرخ في البرلمان «أين … أين على الأقل الثلاثين
قطعة فضة. التي حصلتَ عليها؟» ربما لم تكن تلك هي الملاحظة الأكثر
دبلوماسيةً للمناشدة الأخيرة للملِك للانضمام إلى الحلفاء قبل أن يتأخر
الوقت. وكما كان متوقَّعًا، تجاهل الملك الأمر تمامًا.
بالنسبة لقوة الحملة، كان الموقف يزداد صعوبة. منذ يوم وصولها، كان
أن وجدت أنها لم تكن محلَّ ترحيب، واضطُرت لإقامة معسكرها بعيدًا عن
المدينة بعدة أميال، بينما بقي قناصل العدوِّ في الداخل دون قيود
عليهم. في ذلك الشتاء، ارتدَّ الصرب إلى الأدرياتيكي وتم احتلال صربيا.
كان الحلفاء يتساءلون: ماذا يريدون؟ كان أن أخذ القائد الفرنسي في
سالونيكا آنذاك — الجنرال «موريس
سيريل Maurice Sarrail» — القانونَ في يده، وألقى القبض على قناصل العدوِّ
وعملائه وسجنَهم في القلعة، بينما قام بالاستيلاء على قلعة أخرى تحمي
مدخل الخليج. الآن، سقطت الأقنعة: طلبت قوات الحلفاء، رسميًّا، تسريحَ
الجيش اليوناني وحلَّ البرلمان وطرْدَ الحكومة. في سبتمبر ١٩١٦م، تسلل
فينيزيلوس إلى موطنه كريت؛ حيث قام بقيادة حركة تمرُّد على الملك. عاد
بعد ذلك إلى اليونان ليشكِّل حكومةً مؤقتة في تيسالونيكا، اعترف بها
الحلفاء بعد شهر.
في ديسمبر، قام البريطانيون والفرنسيون — الذين لم تكن مطالبهم قد
تحقَّقت بعد — بإبرار قوات في بيرايوس
Piraeus، في محاولةٍ لإجبار الملك على
تسليم ما لديه من أسلحة وذخيرة. كان ذلك خطأ كبيرًا: ردًّا على ذلك
قاتل اليونانيون، وقام الأسطول الفرنسي بقصف القصر الملكي. الملوم
بالطبع — وإن بلا مبرِّر — هو فينيزيلوس الذي حرمه أساقفةُ أثينا
كنسيًّا في السادس والعشرين من ديسمبر. فرض الحلفاء حصارًا على جنوب
اليونان، وفي يونيو ١٩١٧م طلبوا تنحِّي الملك — ودعم الفرنسيون هذا
الطلب بإنزال قوات في كورنتة. رفض قسطنطين التنحي، إلا أنه غادر البلاد
مع ابنه الأكبر إلى سويسرة.
الآن، كان الموقف قد تغيَّر بين عشية وضحاها. في أثينا، التي كانت
تتضور جوعًا بسبب الحصار، كما كانت بمثابة مدينة محتلة من الفرنسيين،
خلَف الابن الثاني لقسطنطين أباه. بعد أيام قليلة عاد فينيزيلوس من
سالونيكا بحكومته ليتم استقباله بحرارة ويصبح رئيس وزراء الملك الجديد
ويحتفل بتعيينه بكلمةٍ استمرت تسع ساعات أمام البرلمان. الآن، كان
الملكيون هم الذين يعانون، والحقيقة أنه تم تطهيرهم — من الحكومة
والخدمة المدنية والجيش … حتى الكنيسة. انقسم المجتمع اليوناني شطرين،
وسيبقى كذلك على مدى جيل كامل على الأقل؛ وأخيرًا … دخلت اليونان الحرب
إلى جانب الحلفاء. جيشها الذي كان مكوَّنًا من مجنَّدين إلزاميين وغير
مدرَّب، حارب ببسالة في مقدونيا. حارب مع البريطانيين وهزموا بلغاريا،
ومع الفرنسيين والصرب وطردوا الألمان من صربيا، وفي آخر انتصار لها
دخلت القوات اليونانية القسطنطينية لأول مرة منذ ١٤٥٣م. كانت تلك أسعد
لحظات العمر بالنسبة لإلفيتيريوس فينيزيلوس.
•••
كانت أخبار جاليبولي المثيرة وما خلَّفته الحملة من إحباط قد حجبت
الأضواء عن مسرحٍ آخرَ للحرب: مسرح الشرق الأوسط. كان الشرق الأوسط —
كذلك — يشكِّل جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، وشهد مسرحه الجيش
التركي وهو واقع تحت ضغط مستمر من الحلفاء سواء في بلاد الرافدين أو
فلسطين. كانت الحملة الفلسطينية — مرة أخرى — محاولة أخرى لرفع الروح
المعنوية لبريطانيا التي أنهكتها الحرب: لإعطاء شعبها شيئًا تفكِّر به
بدلًا من الهلاك المستمر في خنادق الفلاندرز، بينما تنزل ضربة قوية
بالعدو في أضعف نقاطه. لم يكن المحرِّض الرئيسي عليها، على أية حال، هو
ونستون تشرشل. كان ما زال خارج الحكومة بسبب كارثة جاليبولي — وإنما
رئيس الوزراء ديفيد لويد جورج، الذي خلَف أسكويث. كان يمكن تلخيص هدفه
في ثلاث كلمات: «القدس قبل عيد الميلاد»، وكان الرجل الذي اختاره
لتحقيق ذلك هو الجنرال سير إدموند اللنبي
Edmund
Allenby. لم يكن اللنبي شخصيةً محبوبة بين الجيش: طوله
الفارع، وحضوره الطاغي، ومزاجه الغاضب دائمًا، وغطرسته … كل ذلك جعلهم
يطلقون عليه لقب «الثور»
The
Bull.
٣ والحقيقة أن عدوانيته كانت تطغى على عشق حقيقي لديه
للطبيعة، وحب عميق للموسيقى والأدب والفلسفة.
٤ ولأنه كان جنديًّا قلبًا وقالبًا، والجندية في دمه، أصابه
الحزن الشديد عندما صدرت له الأوامر بترك الخنادق والذهاب إلى فلسطين؛
لم يكن يعرف أن تلك النقلة التي لم يكن يرغب فيها، هي التي ستصنع اسمه
وشهرته، وتأتي له بعصا المارشالية ورتبة فيكونت
Viscount، ومنحة قيمتها خمسون ألف جنيه
إسترليني.
كان معظم قوة الحملة المصرية
٥ — كما أُطلق عليها — من الأستراليين، وكانت موجودة أساسًا
لحماية قناة السويس، مع احتمال المشاركة في قتال الأتراك. كانت القناة
آمنة، أما بالنسبة للقتال ضد الأتراك فإنها لم تحقِّق الكثير، وذلك
بالرغم من تفوُّقها عددًا وعُدة عن الجيش الذي كان يواجهها وراء شبه
جزيرة سيناء. كتب لويد جورج يقول: «في فلسطين وبلاد الرافدين لم يكن
شيء أو أحد يمكن أن ينقذ الأتراك من الهزيمة الكاملة في ١٩١٥م و١٩١٦م
سوى أركاننا العامة.» لم يشهد ربيع ١٩١٧م أيَّ تحسُّن في الموقف. كانت
هناك محاولتان هزيلتان للاستيلاء على غزة … انتهت كلتاهما بالهزيمة.
كانت مهمة اللنبي الأولى إذن عندما وصل إلى القاهرة في الثامن والعشرين
من يونيو، هي بثَّ روح جديدة في ذلك الجيش المحبَط البائس، واستطاع أن
يحقق ذلك في غضون أسبوع واحد. كان سلفه الجنرال «أرشيبالد موراي
Archibald Murray»، قد فضَّل أن
يكون مقر قيادته فندق «سافوي
Savoy»
بالقاهرة. نقله اللنبي إلى معسكر خيام رثَّة وأكواخ بائسة خانقة من شدة
الحرارة والرطوبة في مكانٍ متقدم خلف خط الجبهة في غزة، وقام على الفور
بجولة تفقدية على كل الوحدات المتقدمة، كما أقام اتصالًا مباشرًا
بضباطه وجنوده. كنا في ذروة الصيف؛ حيث تصل درجة الحرارة عند الظهيرة
إلى ١٢٠ فهرنهايت والعواصف الرملية تكون متكررة وخانقة، ولكن لم يكن
شيء من ذلك يمكن أن يمنع الجنرال الكبير من الجلوس بكامل زيه الرسمي
منتصبَ القامة، بجوار سائق أسترالي صغير يرتدي قميصًا وبنطلونًا
قصيرًا، في سيارة فورد قديمة، يجول بها الصحراء لتفقُّد الدفاعات
وإمدادات المياه، يعطي الأوامر ويعبِّر بوضوح عن عدم رضائه. أينما
حلَّ، كانت الروح المعنوية ترتفع إلى عَنان السماء.
كانت مهمة اللنبي المباشرة هي تكوين فكرة واضحة عن قواته، والمهمة
التالية هي وضع خطة للحملة، وكان ذلك يتطلب تعزيزاتٍ كبيرة: فرقتان
أخريان إلى جانب السبع الموجودة بالفعل في فلسطين. ولشرح خطته والدفاع
عنها في وزارة الحرب، أرسل إلى لندن ضابطَ اتصال شابًّا هو الليفتنانت
كولونيل أ. ب. ويفل A. P. Wavell
(الفيلد مارشال فيما بعدُ في الحرب العالمية الثانية، ونائب الملك في
الهند) بفضل قوة إقناع ويفل — إلى حدٍّ كبير — وسُمعته الطيبة التي
كانت تتردد، حصل على كل ما يريد، مع مدفعية ووحدات أخرى من الطيران
الملكي؛ وبعد وقت قصير كان ويفل هو الذي يشرح خطةَ اللنبي لرئيس
الأركان العام الملكية ولحكومة الحرب. كانت الخطة باختصار تتكوَّن من
التقدم باندفاع رئيسي إلى آبار «بيرشيبا Beersheba
» الوافرة التي تبعُد نحو ثلاثين ميلًا تقريبًا،
إلى الداخل من غزة، على أن يحمي ذلك الاندفاعَ هجومٌ خداعي على غزة
نفسها. كالعادة، كانت استعدادات اللنبي شاملة: تم جمع ثلاثين ألف جمل
لنقل الماء للقوات التي ستتقدَّم، مع بناء طرق جديدة وإعداد خرائط
أكثرَ دقة — بفضل الاستطلاع الجوي الحديث — من تلك السابقة التي كان قد
أعدَّها ﻫ. ﻫ. كتشنر في سبعينيات القرن التاسع عشر. في الوقت نفسه قرأ
اللنبي كلَّ ما هو متوفر عن المنطقة منذ «هيرودوتس Herodotus» و«سترابو Strabo»، إلى تاريخ الحملات الصليبية، وآخر أوراق
الجمعية الجغرافية الملكية.
أثناء فترة التحضير تلك في أواخر صيف ١٩١٧م، كان أن قابل اللنبي لأول
مرة الضابطَ البريطاني الوحيد الذي سيفوقه شهرةً في المنطقة: الكابتن
«تى. إي. لورانس
T. E. Lawrence» الذي
كان في التاسعة عشرة. لورانس، الابن الثاني بين أبناء خمسة ﻟ «بارونيت
Baronet»
٦ إنجليزي-أيرلندي، كان قد خبر العالم العربي في ١٩٠٨م لأول
مرة، عندما قام بجولة في سوريا ولبنان ليسجل قلاعها الصليبية التي لم
يكن يعرف أحدٌ عنها الكثير. ثم اشتغل بعد ذلك — باعتباره عالِم آثار —
على حفريات المتحف البريطاني في سوريا حتى نشوب الحرب، ليجد نفسه في
القاهرة برتبة ملازم أول في إدارة الاستخبارات العسكرية، ضمن قوة
الحملة المصرية (
EEF)، وكان يمكن أن
يظل هنا، لولا الثورة العربية.
هبَّت الثورة العربية على الأتراك في العاشر من يونيو ١٩١٦م بقيادة
الشريف حسين بن علي، حاكم مكة والحجاز. بعد ثلاثة أشهر خمدت الانتفاضة
وهدأ التمرُّد بعد أن فشل المتمردون أكثرَ من مرة في طرد الأتراك من
المدينة. كانت روحهم المعنوية قد انطفأت. كان لورانس قد التقى بقادة
الثورة، وترك فيصل، الابن الثاني للشريف حسين بن علي انطباعًا جيدًا
لديه، فوضعا خطةً للاستيلاء على العقبة، الميناء العثماني الرئيسي على
الطرف الشمالي للبحر الأحمر. كانت حملتان بحريتان بريطانيتان قد فشلتا
من قبل، إلا أن لورانس كان يعتقد أن بالإمكان الاستيلاءَ على العقبة عن
طريق البر. في أوائل يوليو، وبعد مسيرة شهر تقريبًا، واجتياز نحو
ثمانمائة ميل في الصحراء، وبواسطة قوة من البدو المحليِّين الذين كان
قد تم تجنيدهم في الطريق كيفما اتفق، كان أن استسلمت الحامية التركية؛
وهكذا صنع لورانس اسمه.
لكم يتمنَّى المرء لو أنه كان هناك عندما دخل لورانس بخطًى مسرعة،
وبحجمه الضئيل مرتديًا زيًّا عربيًّا كاملًا — كما كانت عادته — مكتبَ
اللنبي الضخم وهو جالس في زيه الرسمي الأنيق. لا بد من أن يكون أكثر من
ضابط قد طردوه لكي يخلع عنه ذلك الثوب الغريب ثم يعود للقاء الجنرال.
كلُّ ما فعله اللنبي هو أن حملق فيه، ولكنه راح يستمع إليه، وهو يشرح
كيف سينشر التمرد شمالًا عبر العقبة ضد دمشق، ويقوم بهجمات متواصلة على
خط سكة حديد الحجاز الأحادي، الذي كان طريق المواصلات الوحيد من هناك
إلى المدينة. ربما كان من الصعب احتمالُ أسلوبه المغرور المصحوب
بالغطرسة الزائدة، إلا أن حججه كانت مقنِعة. قام الجنرال بترقيته على
الفور، وجعله — هو وقوة فيصل — مسئولين أمامه مباشرة، كما وعده بتقديم
كلِّ ما يستطيع من مساعدة.
المؤكد أن ذلك كان هو الطريق أمام اللنبي لتحقيق هدفه الرئيسي: تدمير
الإمبراطورية العثمانية، وكان كذلك — كما كان يعلم — ضمانًا لمتاعب
المستقبل. في ربيع العام السابق، كانت بريطانيا قد دخلت في اتفاق مع
فرنسا وروسيا، يمكن بموجبه التوفيقُ بين مطالب فرنسا فيما يتعلق بسوريا
والتعهدات والوعود البريطانية للعرب. كانت روسيا قد خصَّصت للقسطنطينية
بضعة أميال من الأراضي الخلفية على كلا جانبي البوسفور، مع جزء كبير من
شرق الأناضول حتى القوقاز؛ وكانت فرنسا تطالب بمعظم سوريا ولبنان وجزء
كبير من جنوب الأناضول ومنطقة الموصل في العراق؛ أما نصيب بريطانيا
فكان يتكوَّن من بقية العراق الحديث — بما في ذلك بغداد والبصرة —
وقطاع من فلسطين يضم موانئ حيفا وعكا. لو نجحت خطة لورانس للتقدم في
اتجاه الشمال، لما كان من المحتمل — على أقل تقدير — أن تؤيد الجيوش
العربية المنتصرة مثل ذلك الترتيب، إلا أنه سيكون هناك ما يكفي من
الوقت لتناول مثل تلك المشكلات.
بدأ التقدُّم الرئيسي نحو غزة وبيرشيبا بالقرب من أواخر أكتوبر
١٩١٧م، وبالرغم من التحصينات القوية للخط بواسطة القائد الألماني
الجنرال «كريس فون
كرسنشتاين
Kress von Kressenstein»، سقطت بيرشيبا في آخر يوم من الشهر … وبعد
أسبوع سقطت غزة. قرَّر اللنبي أن يحافظ على الزَّخم ولم يرحم نفسه ولا
قواته التي لم يسمح لها بالراحة؛ في بعض الوحدات كانت الخيول تشرب مرةً
واحدة في خلال اثنتين وسبعين ساعة، وتُستعجل لترمح بلا شفقة في اتجاه
الشمال لمد خطوط الاتصال والتموين إلى أبعدِ مدًى. سقطت يافا في السادس
عشر من نوفمبر، وتجمَّع الجيش المنهَك العطشان في تلال يهوذا استعدادًا
للهجوم الأخير على القدس. كان إصرار اللنبي على ألا يكون هناك قتال في
المدينة المقدسة، كان يتضمن مناورةً طويلة ومعقَّدة للقيام بتطويق
المدينة. مما زاد الأمر سوءًا، رداءة الأحوال الجوية فكانت حوافر الخيل
إما تغوص في الوحل أو تنزلق متعثرة على الصخور. بالرغم من ذلك استمر
التقدم، وفي الأسبوع الأول من ديسمبر أبلغ الحاكم التركي دمشق بإخلاء
المدينة قبل أن يقوم هو شخصيًّا بتحطيم آله التلغراف الخاصة به بمطرقة.
المدينة نفسها استسلمت في التاسع من ديسمبر، وبعد يومين دخل اللنبي
القدس رسميًّا. كان معه الجنرال ويفل والميجور لورانس في زيٍّ عسكري
استعاروه له. قبل تسعة عشر عامًا، كان القيصر ولهلم قد دخلها على حصانه
… اللنبي، كما أعلن في كل مكان، دخلها على قدميه. بعد ٧٣٠ سنة، عادت
القدس مرةً أخرى إلى أيدٍ مسيحية، ولكن — بأوامر منه — لم يُرفع عليها
علمٌ رسمي. أصدر بيانًا قصيرًا، كانت سطوره الأخيرة تقول:
حيث إن مدينتكم تحظى بتقدير كبير من أتباع الأديان الثلاثة
العظمى في تاريخ البشرية، وحيث إن أرضها قد قدَّستها صلوات أو
رحلات حجِّ أعداد كبيرة من الأتقياء أتباع تلك الديانات الثلاث على
مدى قرون عدة، أعلن لكم جميعًا: أن كل مبنًى مقدَّس، أو أثر أو
بقعة مقدسة، أو هيكل، أو موقع تراثي، أو وقف أو إرث ديني، أو أي
مكان معتاد للصلاة فيه أو أداء أي شعيرة تابعة لأيٍّ من الديانات
الثلاث … سيتم الحفاظ عليها وحمايتها، حسب العادات والأعراف
القائمة لمن يقدِّسونها.
بعد الاستيلاء على القدس كانت هناك فترة توقُّف نحو عام، قبل استئناف
الحملة. كان اللنبي يعرف أنه إذا كان لا بد من أن يتقدَّم حتى حلب،
فسيكون في حاجة إلى قوةٍ أكبر مما لديه آنذاك. رفض أن يتحرك إلا بعد
توفير تلك القوة له. ما حدث هو أن جيشه أُعيد تنظيمه بالكامل. غادرت
بعض القوات إلى أوروبا، وجاءت أخرى من الهند وغيرها من الأماكن، إلى أن
أصبح لديه قواتٌ من أكثر من ١٢ دولة ومستعمرة، من بينها سنغافورة وهونج
كونج وجنوب أفريقيا ومصر وجزر الهند الغربية. كانت هناك — حتى — وحدة
من راروتونجا Rarotonga في جنوب
الباسيفيكي. كان من بين أفراد الكتائب اليهودية الثلاث التي جاءت على
إثر إعلان بلفور Balfour Declaration،
كان هناك ديفيد بن جوريون David
Ben-Gurion، الذي سيصبح أولَ رئيس وزراء
لإسرائيل.
وهكذا لم يطلِق اللنبي قوَّته الضخمة غير المتجانسة إلا في التاسع
عشر من سبتمبر ١٩١٨م. كانت مكوَّنة من ١٢٠٠٠ جندي خيَّالة و٧٥٠٠٠ جندي
مشاة و٥٤٠ مدفعًا. أطلقها على ١١ فرقة تركية قوامها ٤٠٠٠ جندي خيَّالة
و٤٠٠٠٠ جندي مشاة و٤٣٠ مدفعًا. كانت القوة التركية تحتل جبهةً من يافا
شرقًا إلى نهر الأردن بامتداد شاطئه الشرقي إلى البحر الميت. بعد ١٢
يومًا، وبعد واحدة من أشهر الحملات العسكرية، دخلت قوَّاته المتقدِّمة
دمشق. سقطت بيروت في الثامن من أكتوبر، وطرابلس في الثامن عشر، وحلب في
الخامس والعشرين من الشهر نفسه. في غضونِ ما لا يزيد عن ستة أسابيع،
كان قد تقدَّم لمسافة ٣٥٠ ميلًا تقريبًا، ليدمِّر الجيش التركي في
سوريا تمامًا، ويأسر ٧٥٠٠٠ جندي، ويستولي على المدافع الأربعمائة
والثلاثين كلها وعلى كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة والمواد
التموينية. بلغت الخسائر البريطانية نحو ٥٦٦٦ فردًا. فيما بعدُ سيكتب
المؤرخ العسكري «ليدل
هارت Liddell Hart» أن الحملة «كانت واحدة من أبرع حملات التاريخ؛ إذ
إنها بلغت حدَّ الكمال في التنفيذ، كما في التخطيط لها.»
الآن، كان أن أصبحت الإمبراطورية العثمانية أطلالًا، وهي التي كان من
المفترض أن تكون معبرًا ألمانيًّا إلى الخليج الفارسي وآسيا الوسطى.
ضاعت أراضيها العربية، ليس في فلسطين وسوريا فحسب، بل وفي بلاد
الرافدين كذلك … إلى جانب شبه الجزيرة العربية. سقوط بلغاريا في
سبتمبر، فتح طرقَ المرور الغربية إلى القسطنطينية، بينما كانت القوات
البريطانية والهندية تتقدم من الجنوب والشرق. وراء البحر الأسود، في
اتجاه القوقاز، كان رعايا السلطان السابقون (الجورجيون والأرمن
والأذربيجانيون والأكراد) يكافحون لإنشاء دولهم. في الثلاثين من
أكتوبر، وعلى متن السفينة الملكية «أجاممنون Agamemnon» (وهو اسمٌ يليق بالظروف)، وبالقرب من جزيرة
«مدروس Mudros» في بحر إيجه، كان
ممثِّلو الإمبراطورية يتوسَّلون السلام.
هوامش