الفصل الخامس
الإسلام
***
حتى الربع الثاني من القرن السابع، كانت الجزيرة
العربية أرضًا مجهولة بالنسبة للعالَم المسيحي. ولأنها كانت منعزلة
وذات طبيعة قاسية وغير منتجة لأي شيء يغري تجَّار الغرب، لم يكن لها
أيُّ إسهام في الحضارة ولم يكن يبدو أنها ستكون كذلك. وعلى قدرِ ما كان
معروفًا عن شعبها، كان من المتصوَّر أن يكون أرقى قليلًا من الهمج،
يقتل بعضهم بعضًا من وقت لآخر في صراعاتٍ قبَلية عنيفة، وينقضُّون دون
رحمةٍ على أي رحَّالة يجرؤ على المجازفة بالتجارة معهم، كما أنهم لم
يقوموا بأي محاولة للاتحاد أو حتى قيام حكم مستقر. وبصرف النظر عن عدد
قليل من المستوطنات اليهودية حول الساحل وفي المدينة، ومجتمع مسيحي
صغير في اليمن، كانت الأغلبية العظمى تمارس عبادةَ عدة آلهة بدائية،
كانت تبدو في مدينة مكة — مركزهم التجاري — مركزة على الحجر الأسود،
الكعبة القائمة في معبدهم الرئيسي. لم يكونوا مهتمين بالعالم الخارجي
ولم يكن لهم أي تأثير، والمؤكد أنه لم يكن يمثل أيَّ خطر عليهم.
ثم — في لمحة بصر — تغيَّر كل شيء. في سبتمبر ٦٢٢م، هاجر النبي محمد
وأتباعه من مكة المعادية له إلى المدينة المرحِّبة به، وكانت تلك نقطة
البداية للعهد الإسلامي كله؛ فبعد خمس سنوات لا غير، في ٦٣٣م، مبدين
انضباطًا ووحدةَ هدف لم تكن تبدو عليهم من قبلُ أيُّ دلائل لها فاجأت
خصومهم تمامًا، تدفَّق أتباعُه خارجين من الجزيرة العربية. بعد عام،
عبَر جيش عربي الصحراء وهزم الإمبراطورَ البيزنطي «هيراكليوس Heraclius» (هرقل) على ضفاف نهر
اليرموك؛ بعد ثلاث سنوات استولوا على دمشق، وبعد خمسٍ على أورشليم،
وبعد ثمانٍ كانوا يسيطرون على كل سوريا وفلسطين ومصر. وفي غضون عشرين
سنة، كانت كل الإمبراطورية الفارسية، حتى «أوكسس Oxus»، قد سقطت أمام السيف العربي، وفي خلال ثلاثين سنة
أخرى كانت أفغانستان ومعظم البنجاب.
بعد فترة قصيرة حوَّل الغزاة اهتمامهم نحو الغرب لتثبيت أقدامهم؛
ولأن الإمبراطورية البيزنطية، لم تكن عقبةً هينة — لم يحاولوا التقدُّم
في آسيا الصغرى — سلكوا الطريقَ الأطول — ولكن الأسهل — على امتداد
الساحل الجنوبي للمتوسط. لم يستغرق غزو مصر سوى عامين، من ٦٣٩–٦٤١م، ثم
تباطأ حيث كانت إدارة مصر بعد الغزو تمثل مشكلاتٍ كثيرة، ولولا مساعدة
السكان المحليين — الأقباط واليهود والسامريين واليونانيين — لما
استطاع العرب غير المحنَّكين أن يفرضوا سلطانهم.
وهكذا لم يتمكنوا من الوصول إلى الأطلنطي قبل نهاية القرن؛ وفي ٧١١م
فقط، كانوا قد أصبحوا قادرين على عبور مضايق جبل طارق إلى إسبانيا؛ إلا
أنهم بحلول عام ٧٣٢م، بعد أقل من قرن من خروجهم من وطنهم الصحراوي،
شقوا طريقَهم فوق جبال «البرانس
Pyrenees»، واندفعوا — بحسب الرواية — إلى «تورس
Tours»؛ حيث أوقفهم الملك الفرنجي
«شارل مارتل
Charles
Martel» على
بُعد مائة وخمسين ميلًا فقط من باريس، في معركةٍ ألهمت «جيبون
Gibbon» واحدة من أشهر شطحات خياله:
انتشر خط زحفٍ منتصر على ألف ميل من صخرة جبل طارق إلى شواطئ
«اللوار Loire»؛ كانت مسافة
مماثلة يمكن أن تحمل «العرب المسلمين (السراسنة)
The Saracens» إلى تخوم بولندا
ونِجاد اسكتلنده؛ «الراين The Rhine» ليس أكثر وعورةً من النيل أو الفرات، وكان
يمكن أن يبحر الأسطول العربي في مصب «التيمز The Thames» دون قتال بحري. ربما كنا
لنجد تفسير القرآن يدرَّس الآن في مدارس أكسفورد، وتلاميذها يشرحون
لشعبٍ مختتنٍ قدسيةَ وصدق الوحي الذي نزل على محمد.
يسارع المؤرخون المحدَثون للإشارة إلى أن موقعة تورس نادرًا ما
يذكرها المؤرخون المعاصرون أو شبه المعاصرين، وإن ذكروها فإن ذلك يكون
باعتبارها حدثًا ضئيلَ الأهمية نسبيًّا؛ كما أن أدلة أولئك الكُتاب
توحي بأن العرب الذين واجههم شارل مارتل، كانوا مجرد جماعةٍ قامت
بإغارة أمام الجيش الرئيسي بمئات الأميال، وأن ما يُطلق عليه «موقعة»
لم يكن في حقيقةِ الأمر أكثرَ من مناوشة استطالت إلى حدٍّ ما. على أية
حال، فإن نظرة على الخريطة ستبيِّن لنا أن الخطر الإسلامي الحقيقي على
أوروبا سيكون من الشرق، وهو الطريق الأقصر والأسرع بالنسبة لجيشٍ كان
بالفعل قد هزم المشرق هزيمةً ساحقة. لم يكن الفضل ﻟ «شارل» ومَن معه من
الفرنجة، وإنما للمدافعين الشجعان عن القسطنطينية تحت كونستانتين
الرابع في ٦٧٤–٦٧٨م، وليو الثالث في ٧١٧–٧١٨م، الذين حافظوا على كلٍّ
من المسيحية الشرقية والغربية.
بالرغم من ذلك، فإن التاريخ يقدِّم لنا نظائرَ قليلة لمثل قصة الغزو
أو التأسيس الهائلة هذه؛ إذ في أقلِّ من مائة عام كانت هناك إمبراطورية
تمتد من الهملايا إلى البرانس. بالنسبة لهذه الظاهرة، فإن التفسير
المعتاد هو أن العرب كانت تحملهم موجةُ حماسة دينية عارمة؛ ومن الجدير
بالذكر أن هذه الحماسة لم يكن يشوبها أيُّ اندفاعات تبشيرية. لم يكن
القادة المسلمون يعتبرون أنفسهم، قط، مختارين لغزو العالم باسم
الإسلام. القرآن أحل القتال دفاعًا عن النفس، ولكنه لم يُقرَّه كهدفٍ
في حد ذاته، أضف إلى ذلك أنه نصَّ بوضوح على أن «لا إكراه في الدين»؛
فاليهود والمسيحيون كذلك «أهل كتاب».
ما جاء به الدين الجديد كان، قبل كل شيء، الشعورَ بالأخوة والوحدة.
في السابق، كانت القبائل العربية المختلفة في حالة قتال مع بعضهم
البعض. الآن كلهم «عباد الله»، وهذا بدوره جمع بينهم برباطٍ قوي من
الثقة بالنفس. كانوا مقتنعين تمامًا بأن الله معهم، حتى لو كانت مشيئته
أن يموتوا في القتال، فسوف يَلقَون جزاءهم الفوري في الجنة — وهي جنة
حسية، مُتَعُها الموعودة — لا بد من أن نعترف — أكثرُ إغراء من نظيرتها
في المسيحية. ومن ناحية أخرى، كانوا مستعدين لأن يعيشوا في هذه الحياة
الدنيا معيشةَ زهدٍ وتقشُّف لم يعهدوها من قبل، مع طاعة تامة تتجلى في
الصلاة والصيام واجتناب الخمر.
لم يقُم مؤسِّس دينهم بقيادة حملة خارجية قط. محمد، المولود في ٥٧٠م
تقريبًا، الذي عاش اليتمَ في طفولته ثم تزوَّج أرملةً غنية أكبرَ منه
سنًّا، كان مزيجًا نادرًا من الصوفي الحالم ورجل الدولة الذكي بعيد
النظر. بصفته الأولى، نادى أولًا بوحدانية الله، وثانيًا بأهمية خضوع
البشرية التام والإسلام له ولمشيئته. لم تكن تلك عقيدة جديدة تمامًا —
كلاهما، اليهود والمسيحيون كانوا يتبعونها على مدى قرون — ولكنها كانت
تبدو كذلك لأولئك الذين كانوا يسمعون بها لأول مرة؛ فقد كانت براعة
محمد في تقديمها في شكل جديد شعبي، في ثوب من الحكمة وتراث ومعارف
الصحراء وبلاغة موسيقية، وكل ذلك في مجموعة من الإلهامات التي عُرفت
بعده ﺑ «القرآن». كان بالغ الذكاء لأسلوبه الذي ربط بينه وبين اسمه
وشخصه والعقيدة التي جاء بها، بالرغم من أنه كان يعتبر نفسه مصلحًا
أكثرَ منه ثائرًا؛ ليس بإسباغ الألوهية على نفسه كما فعل المسيح، وإنما
بتقديم نفسه كآخر وأعظم الأنبياء من قبله، بمن فيهم المسيح.
أن يكون نبيًّا، لم يكن يعني أن يكون لاهوتيًّا؛ ولعل الفارق البيِّن
بين محمد والمسيحيين الذين كانوا أتباعه ليغزوا أراضيهم بعد وقت قصير،
كان عدم اكتراثه بالتأمُّل اللاهوتي. كان يجد المجادلة حول الأفكار
الجامدة المستغلقة (مثلما كان يفعل الإغريق) أمرًا غير مجدٍ، وذلك
بالأساس لأن صدْقها أو زيفها كان من المستحيل إثباته. الإسلام كما يصفه
«إي. إم. فورستر E. M. Forster»: «ترك
ذلك كلَّه باعتباره سَقَط متاع غير ضروري، لا يؤدي سوى إلى إبعاد
المؤمن الحقيقي عن ربه.» كان الأهم من ذلك كله أسلوب حياة المرء في
المجتمع، أن يكون متمسكًا بالعدل والإنصاف والعطف على أقرانه، محافظًا
على توزيعٍ عادل ومعقول للثروة. كان لدى محمد حماسة روحية كبيرة، ولكنه
لم يكن متعصبًا؛ ومثل المسيح؛ لم يأتِ ليهدم وإنما لكي يُعمِّر. كان
يفهم الناس الذين يعيش بينهم تمامًا، كما كان دائمًا حريصًا على ألا
يجبرَهم على أكثرَ مما كانوا مستعدين لفعله. كان يعرف مثلًا أنهم لن
يتخلوا عن تعدُّد الزوجات فأبقى عليه، واتخذ هو نفسه أكثرَ من زوج بعد
موت الأولى. كانت العبودية جزءًا آخرَ لا يتجزأ من حياة الجزيرة، وذلك
أيضًا سمح به. كان حتى على استعداد للتوصل إلى تفاهم مع الدين الأرواحي
القديم؛ ومنذ ٦٢٤م قضى بأن تكون مكة هي قِبلة الصلاة بدلًا من أورشليم
كما كان الأمر في السابق. لم يتوقف عند تأكيد أحد الجوانب الجديدة —
غير المحببة — من العقيدة، وهو حتمية الحساب الإلهي بعد الموت، وغالبًا
ما كان يبدو أنه يصف عذاب النار بقوةٍ أكثرَ من مُتَع الجنة. هذا الخوف
من العقاب، ربما اتضح أنه كان مفيدًا عندما قرَّر أن يجمع بين أتباعه
في دولة سياسية.
مات محمد بالحمى في مكة — التي كان قد عاد إليها منتصرًا — في الثامن
من يونيو سنة ٦٣٢م. انتقلت القيادة الدينية والسياسية لشعبه إلى صديقه
الصدوق أبي بكر، الذي حمل لقبَ خليفة رسول الله. في العام التالي زحفت
جيوش المسلمين. إلا أن أبا بكر الذي كان كبير السن، مات بدوره في ٦٣٤م
— في شهر مارس كما يقال، ويوم الاستيلاء على دمشق — وكان تحت الخليفة
الثاني عمر، أن بدأت سلسلة الانتصارات التاريخية. من زاوية معينة، كان
الحظ إلى جانب العرب؛ لم تكن الشعوب المسيحية في مصر وشمال أفريقيا
وفلسطين، تشعر بولاء حقيقي للإمبراطور في القسطنطينية؛ إذ كان يمثِّل
ثقافة يونانية/رومانية غريبة، كان عدم تعاطفها مع بدعِهم العديدة يؤدي
إلى اضطهاد من وقت لآخر. بالنسبة للكثير منهم، كان المد الإسلامي
المكوَّن من ساميين مثلهم يعترف بتوحيدٍ لا يختلف عن توحيدهم، كما
يَعِد بالتسامح مع تنوُّعات العقيدة المسيحية، ولا بد أنه كان يبدو
بالنسبة لهم أفضلَ من النظام الذي أزاحه.
•••
قبل الغزو الإسلامي كان شمال أفريقيا جزءًا من الإمبراطورية
البيزنطية تحميه بحريتُها، ومن ثَم كان بالنسبة للعرب أرضًا معاديةً لا
بد من الاستيلاء عليها. لم تكن مقاومة مصر كبيرة. لم يكن مع القائد
العربي عمرو بن العاص
١ سوى أربعة آلاف مقاتل عندما غزا البلاد في مطلع ربيع ٦٤٠م،
بعد عامين ونصف العام قامت الإمبراطورية — طواعيةً — بتسليم مدينة
الإسكندرية العظيمة، أكثر مدن المتوسط مهابةً، التي كان الإسكندر
المقدوني قد شيَّدها، وكانت مقرَّ كرسي أحد بطاركة المسيحية الشرقية
الأربعة ما يقرُب من ستة قرون. ما كان للإسكندرية أن تستعيدَ مجدَها
الغابر.
٢ في طريق عودته من الدلتا جنوبًا، أنشأ عمرو حاميةَ الفسطاط
نواةَ القاهرة الحديثة، أما إنجازه الآخر فكان تطهيرَ القناة المنسابة
من النيل شرقًا إلى «القلزم
Klysma»،
المرفأ البيزنطي السابق الذي يبعُد نحو ميل تقريبًا عن السويس الحديثة،
فاتحًا بذلك الطريقَ لمرور السفن المحمَّلة بالقمح من وادي النيل إلى
البحر الأحمر والجزيرة العربية.
في زحفهم الأول، لم يكن لدى المسلمين أسطول — كان القليل منهم هم
الذين سبق لهم أن رأوا البحر —
٣ ولكن سرعان ما أدركوا أنه إذا كان لهم أن يوصلوا هذه القوة
الدافعة، فلا بد لهم من أن يجيدوا فنونَ الملاحة. ومثلما كان الرومان
يستخدمون اليونانيين لتسليح سفنهم كلما كان ذلك ممكنًا، كان العرب
يجدون بين مسيحيي مصر وسوريا بناةَ سفن جيدين وبحارةً مهرة، استطاعوا
بمساعدتهم — تدريجيًّا — إنشاء أحواض لبناء السفن وتجهيزها، ومن ثَم
بناء أسطول قوي للحرب والتجارة، إلى أن أصبحوا قادرين على تحدي التفوق
البحري لبيزنطة نفسها. بحلول سنة ٦٥٥م، كانوا قد شنوا غاراتٍ على قبرص
وكريت ورودس وصقلية؛ وبعد أن قام المسلمون بتدمير القوة البحرية
الرئيسية لبيزنطة، التي كان يقودها الإمبراطور «كونستانس الثاني
Constans II» شخصيًّا، بالقرب من
شواطئ «ليسيا
Lycia» في تلك السنة
نفسها، لم يكن مؤكدًا ما إذا كان ميزان القوة البحرية في المتوسط سيعود
كما كان. لحسن الحظ، كان البيزنطيون قد طوَّروا سلاحهم السري الأكثر
تأثيرًا؛ «النار
الإغريقية
Greek Fire»، التي كانت تنطلق من مقدِّمات سفنهم على شكل
ألسنة كبيرة من اللهب. بفضل ذلك فحسب، استطاعت الإمبراطورية الاحتفاظَ
بقدرٍ من السيطرة.
كان هناك، بالإضافة إلى ذلك، سببٌ آخر لبطء زحف العرب بعد غزو مصر.
وكما يعرف جيدًا كلُّ مَن قطع الستة آلاف ميل بين بنغازي وطرابلس، فإن
الصحراء هناك جرداء بلا ملامح أو معالم، والطريق يبدو بلا نهاية،
والمؤكَّد أنه لم يكن يفي بأي فرصة للغنْم أو السلب والنهب؛ ولذا لم
يكن مغريًا للجيش العربي. كانت المنطقة كذلك مرتعًا لقبائلَ متناحرة.
عاجلًا أو آجلًا ستكون مهمة المسالمة والغزو ماثلة، ولكن أزمة سياسية
في المدينة أجَّلت القرار الحاسم، كما أن قيام الإمبراطورية
الأموية،
٤ مع ما تبِع ذلك من نقل كرسي الحكم إلى دمشق في ٦٦١م، كان
سببًا في المزيد من التأخير. لم يبدأ الزحف الكبير إلا في ٦٦٧م، وبعد
ثلاث سنوات أسَّس قائده عقبة بن نافع قلعةَ القيروان الكبيرة فيما
يسمَّى اليوم تونس. على مسافةٍ أبعدَ في اتجاه الغرب واجه مقاومةً
شديدة من كلٍّ من البيزنطيين وقبائل البربر المسيحية؛ وفي ٦٩٢م، بعد
إرسال جيش آخرَ من قِبل الخليفة عبد الملك، قوامه نحو أربعين ألف
مقاتل، استؤنف الزحف. في ٦٩٣م سقطت قرطاج بالرغم من انتفاضة كبيرة
لملكة-كاهنة غامضة، تُدعى الكاهنة
Al
Kahina (كأنها
شخصية خارجة من كتب رايدر هاجارد
Rider
Haggard)، وهجوم بري-بحري بواسطة
جيش بيزنطي. هُزم كلاهما في النهاية، إلا أن الكاهنة واصلت حربَ
العصابات حتى سنة ٧٠١م. لم يتخذ العرب من قرطاج عاصمةً لهم؛ فميناؤها
كان عرضةً للهجوم من البحر. قاموا بدل ذلك ببناء قلعة حصينة في تونس،
تصل بحيرة داخلية بالساحل، وهنا ستكون نقطة الانطلاق لإزعاج وتهديد
سردينيا وصقلية وقبرص وجزر الباليري. تواصلت الإغارات على تلك الجزر
كلها — وغالبًا ما كانت تنتهي باحتلالٍ مؤقت — حتى سنة ٧٥٠م تقريبًا،
عندما اشتدت المقاومة البيزنطية فجأة، ووجد العالم الإسلامي نفسه أمام
أمورٍ أخرى كثيرة جديرة بالتفكير فيها، كما سنرى لاحقًا.
من قرطاج، تسارع الزحفُ مرةً أخرى في اتجاه الغرب، وبعد أن أصبح
الساحل كلُّه من مصر إلى الأطلنطي في أيديهم، بدأ العرب يفكِّرون
جِديًّا في إسبانيا؛ حيث الأرض أكثرُ غنًى وخصبًا من تلك التي حاربوا
طويلًا وبمشقة لكي يغزوها، والبلاد تَعِد بمكاسبَ هائلة. في تلك اللحظة
تحديدًا كانت المملكة القوطية الغربية الهرمة تذوي. نظريًّا، كان عرشها
دائمًا محلَّ نزاع ودعوة مفتوحة للنبلاء الطموحين والصراع على الخلافة
عليه. بعد سنوات من الاضطهاد كان المجتمع اليهودي الكبير هناك على شفا
ثورة والاقتصاد مدمرًا. كانت إسبانيا، باختصار شديد، فاكهةً ناضجة حان
قِطافها. في ٧١٠م، تسلَّل ضابط عربي يُدعى «طريف
Tarif»، ومعه جماعةُ استطلاع قوامها نحو خمسمائة رجل
بالتسلل عبْر المضايق واحتلال الحافة الجنوبية من شبه جزيرة أيبيريا،
حيث ما زالت مدينة طريف (التي تحمل اسمه موجودة هناك). عادت السفن
محمَّلة بالغنائم … فكان أن اتخذ المسلمون القرار. في العام التالي،
أبحر طارق بن زياد من طنجة بجيشٍ قوامه نحو تسعين ألفًا من البربر،
ليرسوا هذه المرة في ظل صخرة هائلة تخلِّد هي الأخرى اسمه إلى
اليوم.
٥
بعد رسو طارق، وقعت معركةٌ بالقرب من نهر «الجواداليت Guadalete»، كانت كافية لسحقِ مقاومة
القوط الغربيين، رغم ما يقال من أنها لم تستمر سوى أسبوع. بعد أن دفع
بمفارزَ صغيرة من قوَّاته لاستلام «ملقة Malaga»، و«مرسيا Murcia»، و«قرطبة Cordova»، اتجه طارق إلى العاصمة «طليطلة Toledo»، التي وجدها مهجورةً من سكانها
باستثناء اليهود. هنا، كانت غنائمُ كثيرة في انتظاره بما في ذلك — إن
كان لنا أن نصدِّق رواية المؤرخ العربي «ابن الأزهري Ibn Adhari» — مائدةُ سليمان المرصَّعة باللؤلؤ
والياقوت الأزرق والأحجار شبه الكريمة على شكل دوائر متحدة المركز، كما
وجد مجوهرات الإسكندر الأكبر وعصا موسى وأردية ملوك القوط. ترك طارق
اليهود يديرون الأراضي التي استولى عليها، وواصل زحفه شمالًا نحو
«قشتالة Castile»، و«أستورياس Asturias»، و«ليون Leon». كان يمكن أن تكون سرعةُ تقدُّمه أكبر، لولا أن
الجيش «المورسكي Moorish» كان محلَّ
ترحيب بشكل عام، كما كانت الأغلبية العظمى من المسيحيين المحليين سعداء
بقبول سيادة أولئك الغزاة المتسامحين، وكان الكثير منهم يرون القادمين
الجدد أفضلَ بمراحل من سابقيهم، القوط الغربيين.
وصلت أخبار انتصارات طارق إلى قائده الأعلى موسى بن نصير، الذي جاء
إلى شبه الجزيرة في يونيو أو يوليو ٧١٢م على رأس جيشٍ من نحو ثمانين
ألف رجل، كان معظمهم هذه المرة من العرب. اتخذ ابن نصير — عن عمد —
طريقًا مختلفًا عن طريق سلفه؛ حيث رسا عند «الجيسيراس Algeciras» واستولى على «هيلفا Huelva» و«إشبيلية Seville» قبل أن يلتقيَ بطارق في طليطلة. العام التالي
انقضى معظمه في الاندماج وتثبيت قواعدهما، ثم استولت القيادة المشتركة
على برشلونة في ٧١٤م وعبرت «البرانس Pyrenees» متقدمةً في وادي «الرون
Rhône» حتى «أفينون Avignon» و«ليون Lyon»، وهنا سيتوقفون. كان طموح موسى بن نصير الرئيسي هو
التقدُّم شرقًا إلى دمشق عن طريق القسطنطينية، إلا أنه أدرك أن ذلك كان
مستحيلًا الآن. كانت المقاومة تشتد وخطوط الاتصال طويلة، فلم يكن أمامه
سوى العودة إلى إسبانيا — حيث كان عازمًا على تقديم تقريره إلى الخليفة
— ثم إلى أفريقيا. في ذلك الشتاء نفسه، نقل مسئولية الأراضي المستولى
عليها إلى ابنه عبد العزيز في إشبيلية. بينما تقدَّم هو وطارق في موكبِ
أبهةٍ وبطانة ضخمة تضم عددًا كبيرًا من القوط الغربيين الأسرى وعددًا
كبيرًا من العبيد — ناهيك عن الذهب والفضة والأحجار الكريمة — على
امتداد الساحل الشمالي الأفريقي مرورًا بمصر وفلسطين، إلى دمشق. من
أسف، كان أن مات الوليد عندما وصلا، وكان هو الخليفة الذي وافق على
حملات إسبانيا. لم يكن انطباع خليفته سليمان إيجابيًّا، فكانت خيبةَ
أمل كبيرة.
•••
غزت الجيوش العربية فرنسا ثلاث مرات — في ٧١٦ و٧٢١ و٧٢٦م — ولكنها لم
تتجذَّر هناك قط. كانت تقوم بالعمل المنوط بها فحسب؛ وتحت اسمها العربي
«الأندلس»، أصبحت إسبانيا — أو الجزء الأكبر منها — جزءًا من
الإمبراطورية الأموية. لن تعود كما كانت قط. من ذلك الحين، سوف تؤوي
البلاد ثلاثةَ شعوب مختلفة تمامًا (العرب واليهود والمسيحيون) في الجنس
والدين واللغة والثقافة. بكل تأكيد، سوف يؤثِّرون بعضهم في بعض
ويتفاعلون معًا بأساليبَ لا حصر لها، وسيكون ذلك في صالح ثلاثتهم، على
مدى سبعمائة وخمسين عامًا هي عمر الاحتلال الإسلامي؛ وعلى مدى معظم —
إن لم يكن كل ذلك الوقت — سوف يتعايشون في وئام وأحيانًا في وئام
تام.
المشكلات التي حدثت جاءت بالأساس من داخل صفوف المسلمين. ارتكب عبد
العزيز بن موسى بن نصير الخطأ الرئيسي بزواجه من ابنة «رودريجو
Rodrigo» القائد الأعلى للقوط الغربيين،
وتحت تأثيرهم تم إغراؤه بأن يتقلد تاجًا على الطريقة المسيحية. أثار
ذلك حفيظةَ أتباعه المسلمين وأغاظهم فقتلوه، وبعدها عمَّت الفوضى؛ وعلى
مدى الأربعين سنة التالية سوف يتعاقب على الأندلس ما لا يقل عن واحد
وعشرين حاكمًا. كان يمكن أن تتفسخ تمامًا لولا أن حدث تطوُّر مثير لم
يكن أحد يتوقعه أو يتصوره. سقطت الخلافة الأموية في سنة ٧٥٠م وقُتل
مروان الثاني آخر خلفاء بني أمية، كما قُتل كل أفراد أسرته في وليمة
تذكِّرنا بتلك التي كان تيودوريك قد دعا إليها أسرة أودوآكر قبل قرنين
ونصف القرن؛ وصعدت أسرةٌ جديدة — العباسيون — لتحكم في بغداد. أمير
واحد فقط من أمراء بني أمية، هو عبد الرحمن
٦ البالغ من العمر تسعة عشر عامًا، كان هو الذي تمكَّن من
الهرب. بعد تجواله مستخفيًا لمدة خمس سنوات في فلسطين ومصر وشمال
أفريقيا، رسا في إسبانيا في ٧٥٥م ليجد البلاد كلَّها في حالة فوضى
شاملة. لم يجد صعوبةً في أن يكون حاكمًا لها. في العام التالي، وكان ما
يزال في السادسة والعشرين نودي به رسميًّا أميرًا على الأندلس، وكانت
الأسرة التي أسَّسها لتحكم إسبانيا الإسلامية على مدى ثلاثمائة عام
تقريبًا.
لم يكن هناك إجماع على عبد الرحمن. كانت هناك ثورات عديدة في
إسبانيا، ثم كانت أكبر وأخطر الأزمات عندما استطاعت مجموعة من الثوار
الإسبان إقناعَ الملك الفرنجي «شارل الأكبر Charles the Great» (شارلمان Charlemagne) في ٧٧٨م أن يحاربه. بسرعة، قام شارل باحتلال
«بامبلونا Pamplona»، إلا أنه — لحسن
حظ الأمير — لم يكد يبدأ حصارًا على «سرقسطة Saragossa»، حتى غيَّر رأيه. يبدو أنه — لسببٍ ما — وجد
الأمر لا يستحق، فأصدر أوامره بالعودة بذريعة وجود مشكلات لديه في
الداخل. في ١٥ أغسطس، في طريق عودته عبْر البرانس، فوجئت قوةُ مؤخرته
التي كان يقودها «رولاند، ماركيز بريتني Roland,
Marquis of Brittany»، بقوةٍ مشتركة من المسلمين
والباسك في ممر «رونسسفال Roncesvalles» الضيق. لم ينجح أحدٌ في أن يهرب، وكلُّ ما بقي
هو اسم رولاند باعتباره بطلَ إحدى الملاحم الأولى في الأدب الأوروبي
الغربي.
ستكون سنوات عبد الرحمن التالية أكثرَ هدوءًا. لم ينجح في فرض وحدة
سياسية على إسبانيا، ولكنه كان حاكمًا حصيفًا ورحيمًا وعميقَ الثقافة.
أحدث تحولًا كبيرًا في عاصمته قرطبة وبنى فيها قصرًا رائعًا وحديقة
خلابة — والأهم من ذلك كله — المسجد الكبير الذي أصبح بعد اكتماله
أروعَ مساجد العالم، وما زال موجودًا إلى اليوم.
٧ كان عبد الرحمن كذلك شاعرًا ذائعَ الصيت كتب بإحساسٍ وحنين
شديد عن الوطن السوري الذي قد لا يراه مرةً أخرى. ورِث حبَّه للثقافة
حفيدٌ لابنه وخليفته الثالث عبد الرحمن الثاني الذي — حكم لمدة نصف قرن
تقريبًا من ٩١٢ إلى ٩٦١م — ملأ بلاطه بالشعراء والموسيقيين والعلماء
بالإضافة إلى توسيع مسجد جَدِّه الكبير، وبناء مساجد أخرى في
«جاين
Gaen» وإشبيلية. كما استورد
كميةً كبيرة من سلع الترف من الشرق وجلب الفنانين والحرفيين والصنَّاع
المهرة، ويقال إنه هو الذي أدخل فن التطريز إلى البلاد، وكان أول مَن
سكَّ عملته من الأمراء. كانت قرطبة في عهده أكثرَ مدن أوروبا ثقافة. في
٩٤٠م جاء آخر تكريم له: وصلت بعثة دبلوماسية من القسطنطينية محمَّلة
بالهدايا، تعرض عليه التحالف ضد العباسيين، عدوهم المشترك.
ولكنَّ العباسيين كانوا بعيدين، وبنقلهم عاصمتهم من دمشق إلى بغداد
كانوا قد غيَّروا طبيعة الخلافة جذريًّا. لم تَعُد الدولة العباسية
إمبراطوريةً متوسطية، بوجود مركزها الآن في قلب آسيا، لم تكن مهتمة
كثيرًا — أو مهتمة على الإطلاق — بشئون أوروبا أو البحر الأبيض. على
مدى القرون السبعة التالية — حتى الاستيلاء على القسطنطينية في ١٤٥٣م —
سيكون تأثيرها في الغرب ضئيلًا؛ حيث سيكون مسلمو شمال أفريقيا وإسبانيا
متروكين لإرادتهم إلى حد كبير. الفئة الأولى (مسلمو شمال أفريقيا)
كانوا يطوِّرون بَحريَّتهم، على نحوٍ خاص، بصفة دائمة، إلى أن أصبحوا
يتصدرون القوةَ البحرية في المتوسط في النصف الأول من القرن التاسع،
وذلك بالرغم من أن البيزنطيين كانوا يمثلون منافسةً شديدة، وبالتأكيد
لم يتركوهم يفعلون كلَّ ما يريدون. والواقع أن الموازين انقلبت بعد
اعتلاء الإمبراطور «بازيل
الأول Basil I» السلطة في ٨٦٧م؛ أصبحت قوى الإسلام في موقع الدفاع
مرةً أخرى.
في سنة ٩٢٩م، اتخذ عبد الرحمن
الثاني لنفسه لقبَ «خليفة»،
٨ ومنذ ذلك الحين لم تَعُد إسبانيا الإسلامية، التي أصبح لها
خليفتها الخاص بها، تؤيد العباسيين حتى ولو بالكلام. هذه الخلافة
الجديدة كان عليها أن تواجه كمًّا من المشكلات يفوق طاقتها، إلا أنها
من ناحية أخرى كانت متألقة ثقافيًّا وفنيًّا، كما تدُل على ذلك آثارها
الباقية التي ما زالت تبهرنا إلى اليوم. تم توسعة وتجميل المسجد الجامع
الأول لعبد الرحمن على أيدي الحكام المتعاقبين في القرنين التاسع
والعاشر، وفي ٩٥٠م أهداه عبد الرحمن الثالث مئذنةً جديدة طولها ٢٤٠
قدمًا. وهناك في إشبيلية الكازار
Alcazar، ذلك المبنى الرائع من القرن
الثاني عشر، الذي سيصبح في ١٣٥٣م قصرًا ﻟ «بدرو
Pedro the
Cruel»، و«الجيرالدا
Giralda» التي يبلغ ارتفاعها ثلاثمائة
قدم، والتي بُنيت بين ١١٧٢م و١١٩٥م لتكون مئذنةً ومرصدًا. وفي غرناطة،
ذلك التجمُّع المذهل من القصور المعروف بالحمراء
Alhambra مع القصر الصيفي وحدائق
الجنراليف
Generalife على التل فوقها،
كلُّ ذلك ما زال مبهرًا مثيرًا للدهشة. هنا بكل تأكيد يكمُن الإنجاز
العبقري لكل إسبانيا الإسلامية.
٩
•••
ربما كانت روعة العمارة هي التي
أدَّت — إلى حدٍّ ما — إلى عمليات التحول الكثيرة المعروفة. نادرًا ما
يتخلى اليهود عن تراثهم، ونادرًا كذلك ما كان المسلم يسعى إلى
المعمودية المسيحية؛ ولكن على امتداد الاحتلال العربي — وبخاصة في
المدن والبلدات بين منتصف القرن التاسع وأوائل القرن العاشر تقريبًا —
اعتنق عشرات الألوف من المسيحيين دينَ غزاتهم طواعيةً، كما اتخذ معظم
مَن احتفظ بدينه منهم العربيةَ لغةً لهم في تعاملاتهم اليومية. إلى
يومنا هذا، تحتفظ اللغة الإسبانية الحديثة بعدد كبير من الكلمات
العربية، كما أن زائرًا إسبانيًّا سوف يدهشه ذلك الكم من أسماء الأماكن
التي ما زالت باقية. انتشرت أيضًا الثقافة العربية طولًا وعرضًا في
أرجاء البلاد. احتفظت الأندلس بشبكة تجارية واسعة مع شمال أفريقيا
والشرق الأدنى وامتدت — حتى — إلى الهند وفارس؛ فلم يكن يصل إليها
الحرير والتوابل (وبخاصة الفلفل والزنجبيل) والأرز وقصب السكر والموالح
والتين والباذنجان والموز فحسب، بل وصلت كذلك أساليبُ العمارة
والسيراميك والخط والموسيقى والرياضيات والفلك والطب.
لم تكن المعارف الجديدة الواسعة، بالطبع، مقصورةً على العالم
الإسلامي. كثير من المسيحيين الذين تأسلموا ظاهريًّا، كما قد يبدو،
كانوا عاجلًا أو آجلًا يجدون طريقَهم إلى الأراضي المسيحية في الشمال
والشمال الشرقي إلى «جاليسيا
Galicia»
و«نافار
Navarre» و«قطالونيا
Catalonia»، حاملين معهم ثقافتهم. هؤلاء
«المستعربون
Mozarabs»، كما كان يُطلق
عليهم، كان لهم تأثيرٌ باقٍ في الشمال المسيحي على كلا جانبي البرانس —
وفوق كل شيء في مجال الرياضيات التي كانت مسيحية العصور الوسطى ما زالت
تجهلها. كانوا هم — كما يعتقد — الذين أدخلوا الأرقام العربية إلى
أوروبا الشمالية، إلى جانب «المِعْداد
abacus»
١٠ وهو الجهاز الذي كان له تأثيرٌ كبير في الحياة التجارية
يمكن مقارنته بتأثير الحاسب الآلي في حياتنا الحديثة.
سياسيًّا، كانت العلاقات بين مسيحيي الشمال ومسلمي الجنوب أقلَّ
تحديدًا. لم تكن واضحة المعالم تمامًا. انتهت الخلافة في ١٠٣١م وتبِعها
عدد من الدويلات التي عُرفت ﺑ «الطوائف»، التي كان كلٌّ منها يتكون
عادةً من مدينة رئيسية والريف المحيط بها. لم تكن تختلف كثيرًا عن
المدينة - الدولة التي انتشرت في الشمال الإيطالي في الوقت نفسه
تقريبًا. ومثل الإيطاليين، كانوا يتنازعون كذلك فيما بينهم، بما كان
يسمح للممالك المسيحية القوية في «أراجون
Aragon» و«قشتالة
Castile» بأن توقِع بينها وتستخدمها ضد بعضها الآخر، أو
أن تفرض ما كان يعتبر بالفعل عملياتِ حماية تقدِّم العون العسكري مقابل
جزية سخية. هنا، كانت أرض خصبة لكثير من الجنود المرتزقة الأشبه ﺑ
«الكوندوتييري
Condottierie»
١١ الإيطالية الذين كانوا يبيعون سيوفهم طواعيةً لمن يدفع
أكثر، بصرف النظر عن الإيمان بأي قضية. كان أشهر أولئك المرتزقة إلى
حدٍّ كبير الأرستقراطي القشتالي (في القرن الحادي عشر) «رودريجو دياز دي فيفار
Rodrigo Diaz de Vivar»
المعروف بلقبه الإسباني: «السيد
El Cid» (ومعناها الريس)، الذي جعلت منه الأسطورة فيما
بعد ذلك الوطني الإسباني الأسمى، الذي كرَّس حياته لطرد غير المؤمنين
(
the infidel) من بلاده، وجعلته يقوم
بذلك — حتى — بعد موته، عندما كان يضعون جثمانه مسندًا على حصانه
(بابييكا
Babieca) ليقود جيشه في
المعركة. تقول القصة إن الجثمان بقي كذلك محافَظًا عليه تمامًا، لدرجةِ
أنه وُضع لمدة عشر سنوات على يمين المذبح مباشرةً في كنيسة دير
«سان بدرو دي
كاردينا
San Pedro de Cardena» بالقرب من «بيرجوس
Burgos». من أسفٍ أن الحقيقة ليست بهذه الرومانسية.
الواقع أن رودريجو كان مغامرًا عسكريًّا مثل كثيرين غيره، انتهى به
المطاف بعد عملٍ مربح إلى أن يصبح أميرًا حاكمًا على ولاية
«فالينسيا
Valencia» على شواطئ
المتوسط.
لو أن السيد كان قد وُلد بعد خمسين سنة، أي في ١١٩٠م بدلًا من ١١٤٠م
تقريبًا، لكان ذلك الأمر مستحيل الحدوث. في وقتٍ ما بالقرب من منتصف
القرن الحادي عشر جنوبي مراكش الحالية، تطوَّر ما كان قد بدأ كعصبة
بربرية مفكَّكة ليصبح في غضون سنوات قليلة حركةً أصولية تنادي بأكثر
المبادئ الإسلامية تشددًا. أطلقوا على أنفسهم اسم «المرابطون» — معرفون
لدينا بالمورافيد
Almoravids —
فأسَّسوا مدينة مراكش الكبيرة
(
Marrakesh) واستولوا على شمال المغرب
(
Morocoo)، وجزء كبير من غرب الجزائر،
ثم وجَّهوا اهتمامهم صوب إسبانيا. في ١٠٨٦م عبروا المضايق وهزموا
«ألفونسو السادس
Alfonso VI» ملِكَ
ليون - قشتالة في «ساجراجاس
Sagrajas»
١٢ بالقرب من «باداجوز
Badajoz»، وقضَوا بسرعة على جميع الطوائف الإسلامية
وكثيرٍ من المدن التي كان المسيحيون قد استردوها قبل سنوات قليلة. قبل
أن ينتهيَ القرن كانت الأندلس قد توحَّدت مرة أخرى، ولكنها كانت الآن
مرتبطةً بالشمال الأفريقي تحت نظامٍ غير متحضر إلى حدٍّ بعيد، وغير
متسامح لدرجة التعصب.
لحسن حظ كلِّ مَن يهمه الأمر، كان حكم المرابطين قصيرًا. كانوا
يعانون من نقطة ضَعف رئيسية: كأقلية بربرية صغيرة على رأس إمبراطورية
إسبانية-أفريقية كانت كبيرة آنذاك، لن يكونوا إلهامًا بولاء حقيقي.
حاولوا أن يحتفظوا بإسبانيا بواسطة قواتهم، وبالشمال الأفريقي بواسطة
حرس مكوَّن أساسًا من مسيحيين، ولكن بعد سقوط ساراقسطة في يد ألفونسو
الأول ملك أراجون في ١١١٨م، بدأ المد في التحول؛ وبعد سبع سنوات فقط
ظهرت في جبال «أطلس Atlas»، طائفةٌ
أكثر أصولية وتعصبًا هم «الموحِّدون Almohads»، لتتفجر الأوضاع. الحرب الأهلية التي تلت
ذلك، استمرت نحو ربع القرن وانتهت بسقوط مراكش في ١١٤٧م، وبعدها انهارت
سلطة المرابطين.
عبَر الموحِّدون المنتصرون المضايق، وبنهاية القرن الثاني عشر كانت
قبضتهم على البلاد من عاصمتهم إشبيلية قد أصبحت قوية مثلما كانت قبضة
أسلافهم. قبل مرور وقت طويل، اكتشفوا هم كذلك أن قوَّتهم كانت تضعُف
لدرجةِ أنهم اضطُروا للتراجع أمام عدوٍّ، لم يكن هذه المرة طائفةً أو
مذهبًا جديدًا، وإنما تحالفًا بين الممالك المسيحية الرئيسية الثلاث في
شبه جزيرة أيبيريا؛ قشتالة وأراجون والبرتغال. في سنة ١٢١٢م، حقَّق
«ألفونسو الثامن
Alfonso VIII» ملك
قشتالة انتصارًا كبيرًا في «لاس نافاس دي تولوزا
Las Navas de Tolosa»، أمَّن على نحوٍ مؤثِّر غلبةَ
القضية المسيحية في إسبانيا؛ أما حفيده «فرديناند الثالث
Ferdinand III»، فقد أكمل عهده
الذي استمر خمسًا وثلاثين سنة، مستعيدًا معظم الأندلس بما في ذلك ميناء
«قرطاجنة
Cartagena»، مع طرد كل
السكان المسلمين من البلاد عند الاقتضاء كما حدث في إشبيلية في
١٢٤٨م.
١٣ بحلول منتصف القرن، كانت إسبانيا الإسلامية قد تقلَّصت
لتصبح إمارة واحدة هي إمارة غرناطة، وكانت حرب الاسترداد تمضي في
مسارها.
كان لعدم تسامح الموحِّدين أثرٌ واحد مفيد. عندما وجدت جماعات كبيرة
من اليهود والمستعربين الحياةَ في كَنْف الموحِّدين غيرَ محتملة فرُّوا
إلى قشتالة وأراجون المسيحية؛ حيث كانوا يلقَون ترحيبًا شديدًا. كان من
بينهم فلاسفة وأطباء مثل «ابن
ميمون Maimonides»، و«ابن
رشد Averroes» اللذين امتد تأثيرهما بطول العالم الغربي وعرْضه،
إلى جانب غيرهما من المفكِّرين الأقل وزنًا، الذين أدوا دورًا مهمًّا
كمترجمين محترفين عن العربية، فجعلوا حجمًا ضخمًا من المعارف العربية
في متناول الغرب. استقر عددٌ كبير من هؤلاء في طليطلة — التي تم
استردادها في ١٠٨٥م وسط فرح شديد — حيث كانوا ينعمون برعاية وتشجيع
الملك.
بقيت إمارة غرناطة أكثرَ من قرنين … حتى سنة ١٤٩٢م، وربما تكون تلك
لحظةً مناسبة نتوقَّف عندها لمحاولة تقييم الآثار؛ أثرُ الإسلام في
إسبانيا أولًا، ثم أثرُ إسبانيا الإسلامية في بقية أوروبا الغربية. من
الناحية الثقافية، ليس هناك أدنى شكٍّ في أن البلاد قد تم إثراؤها
بشكلٍ كبير. لقد نجح الاحتكاك الوثيق بالإسلام في توسيع العقل
الإسباني، كما أنه اجتذب مثقَّفين أوروبيين إلى إسبانيا؛ ولم يكن
«جربرت
الأوريلاكي Gerbert of
Aurillac» — الذي سيصبح البابا «سيلفستر الثاني Sylvester II» — مثقفَ العصور
الوسطى الوحيد الذي جذبه ظمأ المعرفة عبر البرانس؛ تلك المعرفة التي ما
كان ليحصِّلها في أي مكان آخر في القارة. كانت الرياضيات والطب
والجغرافيا والفلك والعلوم الطبيعية ما زالت محلَّ ارتياب في العالم
المسيحي، أما في العالم الإسلامي فكانت متطورة بدرجةٍ لا مثيل لها منذ
الإغريق. أيُّ دارس أو عالِم جادٍّ في أيٍّ من هذه المعارف كان لا بد
من أن يشعر بجاذبية الأندلس، وبمجرد أن يكون هناك كان يلزِم نفسه
بدراسة اللغة العربية؛ حيث إن ترجمة الأعمال العلمية الأساسية كانت
قليلةً وغير دقيقة. أحد الذين نجحوا في ذلك، كان العالِم الإنجليزي
الكبير «أدلارد
الباثي Adelard of Bath»، الذي كان موجودًا في إسبانيا في مطلع القرن
الثاني عشر متنكرًا كطالب مسلم، والذي قدَّم في ١١٢٠م — أو نحو ذلك —
أولَ نص لاتيني ﻟ «إيوقليد Euclid»
(إقليدس) كان قد ترجمه عن نصٍّ عربي مترجَم عن اليونانية.
من جوانبَ أخرى، كان تعايشُ العقائد الثلاث المختلفة تمامًا على
الأرض نفسها، مصدرًا لمعاناة مستمرة. سُفكت دماء كثيرة دون ما ضرورة في
الغزو العربي الأصلي، وأكثر منها في حرب الاسترداد. يُضاف إلى ذلك أنهم
بالرغم من تواصلهم معًا على نحوٍ جيد في الحياة اليومية لم يكن الرعايا
يُعاملون بما يليق بهم من اعتبار، سواء في الولايات المسيحية أو
الإسلامية. وصية النبي بمعاملة اليهود والمسيحيين كإخوة لهم باعتبارهم
«أهل كتاب» لم تكن مرعيةً في الممارسة العملية. في ١٠٦٦م كانت هناك
مذبحة لليهود في غرناطة، وفي ١١٢٦م كانت هناك عمليات ترحيل للمسيحيين
كعبيد في المغرب. لم تكن المجتمعات المسيحية — على قدرِ ما نعرف —
مسئولة عن أعمال عدائية على هذا المستوى، ولكن ما من شكٍّ في أن اليهود
والمودجار،
١٤ (وهو الاسم الذي كان يُعطى للمسلمين تحت الحكم المسيحي)
كانوا يُنظر إليهم كمواطنين من الدرجة الثانية، وكانوا دائمًا مادةً
للتمييز ضدهم — على الأقل — إن لم يكن للاضطهاد.
عندما نفكِّر بحجمِ ما كان ينبغي أن تقدِّمه إسبانيا الإسلامية،
يدهشنا أن نجد أنها لم يكن لها تأثيرٌ كبير في الغرب المسيحي، وربما
كانت هناك أسبابٌ كثيرة لذلك. السبب الأول معتقَديٌّ: كانت مسيحية
العصور الوسطى تكره كلَّ مظاهرِ ما تعتبره في حكم الوثنية. قبِلت
اليهود — في حدود — لأنهم كانوا موجودين هناك بالفعل، وكذلك لأنهم لم
يكن لهم دولة خاصة بهم، وكانوا يتحدثون لغةَ مَن حولهم — مسلمو الأندلس
كانوا مختلفين. كانوا معروفين بدرجةٍ أقل، وربما مفهومين كذلك بدرجةٍ
أقل. لم تكن لغتهم، سواء المكتوبة أو المنطوقة مفهومة. كانوا يسكنون
أبعدَ الأماكن في أوروبا — أبعد كثيرًا في تلك الأيام عن أراضي الحوض
الشرقي للمتوسط؛ حيث كانت بيزنطة بمثابة قوة جذب ثقافية وتجارية، لا
تجتذب العلماء والطلاب من قارة واحدة فحسب، بل كانت تجتذب التجار ورجال
الدولة والدبلوماسيين من قارات ثلاث.
بعد تلك الأيام الباكرة عندما كان الناس يخشون أن يكون الإسلام في
طريقه لغزو العالم، وبمجرد أن توارى العرب وراء حدودهم المتواضعة
نسبيًّا، بدا من الحصافة والحكمة تركُهم وشأنهم، مسالمين لا يهددون.
كانوا، في آخر المطاف منقوعين في الخطأ، ومن ثَم لا يمثلون أيَّ أهمية
بالنسبة للعقل المسيحي المعاصر.
هوامش