الفصل السابع
الهجوم المسيحي المضاد
-
المقاومة المسيحية: ١٠٧١م.
-
الحملة الصليبية الأولى.
-
الصليبيون يستولون على أورشليم: ١٠٩٩م.
-
سقوط إيديسا: ١١٤٤م.
-
بدء الحملة الصليبية الثانية: ١١٤٧م.
-
نهاية الحملة: ١١٤٧م.
-
سقوط أورشليم: ١١٨٧م.
-
قلب الأسد في مسيني: ١١٩٠م.
-
غزو قبرص: ١١٩١م.
-
موت بربروسا: ١١٩٠م.
-
البابا إنوسنت الثالث: ١٢٠٠م.
-
الحملة الصليبية الرابعة تنطلق: ١٢٠٣م.
-
الصليبيون في القسطنطينية: ١٢٠٣م.
-
مكاسب فينيسيا: ١٢٠٤م.
***
بعد قيام العرب بغزو إسبانيا في القرن الثامن ومعظم
جزيرة صقلية في القرن التاسع، لم يستحوذوا على أراضٍ أكثرَ من ذلك، إلا
أنهم كانوا، باستمرار، خطرًا داهمًا يهدِّد الأراضي المسيحية المحيطة
بالبحر الأبيض أكثرَ منهم في أي وقتٍ مضى. كانت مستوطناتهم غير الرسمية
في الجنوب الإيطالي والجنوب الفرنسي هي الرعب الأكبر بالنسبة لجيرانهم
المسيحيين. لم تكن هناك أيُّ منطقة بعيدة على أساطيل قراصنتهم، وكان
القليل من المدن الساحلية هو الذي لا يعيش في رعب شديد من هجماتهم
المفاجئة. ربما كانت فينيسيا وحدها، الآمنة في بحيرتها الضحلة نسبيًّا،
هي التي لم تكن في حاجة إلى اليقظة والحذر بشكل دائم. روما نفسها — كما
سبق أن رأينا — كانت قد نُهبت في ٨٤٦م، وفي القرن التالي كان كلٌّ من
جنوة وبيزا قد عانى مصيرًا مشابهًا.
لم يكن الخطر العربي مقصورًا على القرصنة. كان خطر مصر يتزايد كذلك
على نحوٍ مطرد. في ٨٦٨م، كان جندي تركي مغامر يُدعى أحمد بن طولون قد
أصبح حاكمًا وبسط سلطانه عبر معظم الشرق إلى صقلية في الركن الجنوبي
الشرقي من ساحل آسيا الصغرى؛ ثم في السنوات الأخيرة من القرن أرسل
الخليفة العباسي أسطولًا تأديبيًّا إلى مصر لينتهيَ حكم
الطولونيين
١ في ٩٠٥م. تلى ذلك ثلاثة عقود من الفوضى، بعدها كانت هناك
أسرةٌ أكثر تميزًا وأطول أمدًا هي الأسرة الفاطمية. الفاطميون، من
الشيعة الإسماعيلية الذين ينحدرون من السيدة فاطمة ابنة النبي محمد.
بعد أن وطَّدوا أركانهم في تونس، غزَوا مصر في ٩٦٩م، وبنَوا لأنفسهم
عاصمة جديدة هي القاهرة. في ذلك الوقت، كانت الخلافة العباسية تحتضر
وعاجزة عن منع الغزو الفاطمي، ليس عن فلسطين وسوريا فحسب، بل وعن
الحجاز قلب الأراضي العربية أيضًا.
من القرن التاسع فصاعدًا، كان الإمبراطور الغربي، نظريًّا، هو الذي
يتحمَّل المسئولية كاملة في الدفاع عن إمبراطوريته ضد هجوم غير
المؤمنين بالنصرانية … إلا أن الإمبراطور كان بلا حول ولا قوة. كانت
العاصمة الإمبراطورية «آخن Aachen»
تقع على بُعد مسيرة أسابيع من البحر الأبيض، حتى إن أي جيش كان يحاول
الاتجاه جنوبًا، كان لا بد من أن يتقيَّد بالبر؛ حيث إن السفن القليلة
التي تشكِّل البحرية الإمبراطورية كانت تجد نفسها عادةً في البلطيق.
المسكين «أوتو الثاني Otto II» حالةٌ
وثيقة الصلة بموضوعنا. في ديسمبر ٩٨٠م، كان قد قرَّر أن يقوم بتحرير
الجنوب الإيطالي مرةً وإلى الأبد من بلاء العرب. في البداية، مضت حملته
على نحوٍ جيد، إلا أنه فوجئ في صيف ٩٨٢م وهو متقدم في اتجاه كالابريا،
بقوة عربية بالقرب من «ستيلو Stilo»
تدمِّر جيشه تمامًا، ولم ينجُ هو شخصيًّا إلا بالهرب سباحةً في اتجاه
سفينة مارَّة مخفيًا شخصيته، وعند اقتراب السفينة من «روسانو Rossano»، قفز منها ليصارع الأمواج مرةً
أخرى نحو الشاطئ. كانت هزيمته هي أوضحَ تصوير لعجز الإمبراطورية أمام
الضغط الإسلامي.
إلا أنه حتى ذلك الحين — مع تحفُّظنا على دقة ذلك — كان البندول قد
بدأ حركته العكسية. من أواخر القرن العاشر وما بعده سوف نشهد نموًّا
بطيئًا للمقاومة المسيحية. تم طرد المستوطنين المسلمين من جنوب فرنسا
في ٩٧٥م. كانت جنوة وبيزا تبنيان قوةً بحرية خاصة بهما، وفي ١٠١٦م، كان
ذلك قد مكَّنهما من الاتحاد معًا لطرد العرب من جزيرة سردينيا، التي
كانت قد عانت على الأقل من تسع إغارات رئيسية منذ سنة ٧٢١م، كانت
مصحوبة عادةً بمذابحَ للسكان المحليين. بعد سنوات قليلة كان عرب شمال
أفريقيا يجرعون دواءهم المر، عندما بدأت السفن الإيطالية بدورها تهدِّد
المدن الساحلية. بنهاية حكم الإمبراطور البيزنطي، السفاح البلغاري،
«بازيل الثاني Basil II» الذي استمر
خمسين عامًا، كانت إمبراطوريته قد استعادت السيطرةَ على كل شبه جزيرة
البلقان تقريبًا، وكل آسيا الصغرى وأبوليا وكريت وقبرص. كانت نقطة
التحوُّل الكبرى في ١٠٨٧م، عندما قامت جنوة وبيزا بحملةٍ مشتركة أخرى،
كانت هذه المرة ضد المهديةِ Mahdia
العاصمةِ العربية (موجودة الآن في تونس)، واستولوا على المدينة،
وأحرقوا السفن الموجودة في مينائها، وفرضوا شروط السلام على حاكمها.
بعد أربع سنوات أكمل الكونت الأكبر روجر الأول غزوَ صقلية، وفي ١٠٩٢م
و١٠٩٣م شاركت حملات أخرى من إيطاليا وجنوب فرنسا قوةً رئيسية من
النورمنديين لاسترداد معظم الشمال الإسباني. كان العالم الإسلامي
يتحطَّم من كل جوانبه؛ وسياسيًّا، كان المتوسط يعود بحرًا مسيحيًّا
مرةً أخرى.
ولكن كانت هناك أخبار سيئة كذلك. في ١٠٥٥م استولت الموجة الأولى من
الغزاة الأتراك - السلاجقة على بغداد، وفي ١٠٧١م تدفقوا على آسيا
الصغرى. قام الإمبراطور البيزنطي «رومانوس الرابع ديوجينيس
Romanus IV Diogenes» شخصيًّا بقيادة
جيش ضدهم، إلا أنه هُزِم في ٢٦ أغسطس هزيمةً ساحقة وأُسِر في معركة
«مانزكرت Manzikert». صحيح أن القائد
السلجوقي «آلب أرسلان Alp Arslan»،
الذي يقال إن شاربه كان طويلًا لدرجةِ أنه كان يعقده خلف ظهره عندما
كان يخرج للصيد، عاملَ الإمبراطور معاملةً حسنة، وأعاده بصحبةِ مرافق
إلى القسطنطينية … ولكن الضرر كان قد وقع. في السنوات التالية سينتشر
الترك في كلٍّ من الأناضول الأوسط، تاركين أجزاءً قليلة من الشاطئ في
أيدي البيزنطيين. بعد أربعة عشر عامًا من المعركة، في ١٠٨٥م سوف
يستولون على أنطاكية، ثالث البطريركيات الخمس في الكنيسة الشرقية — بعد
الإسكندرية وأورشليم — التي سقطت في يد المسلمين. لن يتبقى سوى روما
والقسطنطينية.
كان لقصة هذه الموجةِ الأولى من التوسُّع التركي في الأناضول نتيجةٌ
واحدة مهمة لم تكن متوقَّعة بالمرة: أدَّى الغزو السلجوقي لأرمينيا —
الذي كان مركزًا على جبل «أرارات
Ararat» — إلى هجرة سكانية واسعة في اتجاه الجنوب، وفي
سنة ١٠٨٠م أسَّس شخصٌ ما يُدعى «روبين
Roupen»، كان أحد أقارب آخِر ملوك «أني
Ani»، معتمديةً
Principality٢ صغيرةً في «كيليكيا
Cilicia» في قلب «طوروس
Taurus». نمت قوَّتها وأهميتها تدريجيًّا إلى أن أصبحت في
١١٩٩م «مملكة أرمينيا الصغرى». كان الأرمن يفاخرون دائمًا بأنهم أولُ
أمة في العالم تبنَّت المسيحية، وهو ما كانوا قد فعلوه في سنة ٣٠٠ق.م.؛
فجأةً أصبحت هنا مملكة مسيحية محاطة بدول إسلامية، كانت معادية لبيزنطة
إلا أنها بعد وقت قصير سوف تقدِّم دعمًا مهمًّا للصليبيين — وبصفة خاصة
لصليبيي الحملة الأولى — وهم في طريقهم عبْر كيليكيا إلى الأراضي
المقدَّسة.
٣
في أعقاب معركة مانزكريت مباشرةً، كان من المتوقَّع أن تحوِّل
المسيحية الغربية اهتمامَها إلى الشرق الإسلامي. كان ما يجذب المدن
الساحلية الإيطالية هو الإمكانيات التجارية، وكان ما يحفِّز
النورمنديين دائمًا هو دافع الغزو والمغامرة المتأصِّل فيهم، ولكنَّ
المسيحيين المقاتلين أينما وُجدوا، كانوا كلهم إصرارًا على وقف الزحف
الإسلامي. ولذا عندما خاطب البابا «أوربان الثاني Urban
II» مجمع كليرمونت «Council of
Clermant» في ٢٧ نوفمبر ١٠٩٥م، وأنهى خطابه بدعوةٍ
حارة للقيام بحملة صليبية، إنما كان يناشد أناسًا شبه مهتدين بالفعل،
مقدمًا تبريرًا دينيًّا لمغامرةٍ كان يمكن أن تنطلق بدونه. كان
الاحتلال الدائم للأماكن المقدسة — وفي المقدمة منها أورشليم نفسها —
بواسطة أعداء النصرانية، كان إهانةً للمسيحيين كما قال؛ فقد كان الحجاج
المسيحيون يتعرَّضون آنذاك لكل صور المهانة والإذلال. كان من واجب كل
المسيحيين الصالحين أن يحملوا السلاح ضد أولئك الذين دنَّسوا الأرض
التي مشى عليها المسيح، وأن يستعيدوها إلى عقيدتهم الصحيحة.
في الأشهر التالية، سوف يحمل البابا نفسه كلماتِ أوربان عبر
فرنسا
٤ وإيطاليا بواسطة جيش كامل من الوعاظ والدعاة، إلى كل أركان
أوروبا الغربية. كانت الاستجابة مذهلة. من بعيد … من اسكتلنده سارع
الرجال لحمل الصليب. لم يكن الإمبراطور «هنري الرابع
Henry IV» ولا «فيليب الأول
Philip I» ملك فرنسا (الذي كان قد حُرم
كنسيًّا من وقتٍ قريب متهمًا بالزنا)، لم يكونا على وفاق كامل مع روما
لكي يشاركا في الحملة الصليبية، ولعل ذلك كان أمرًا جيدًا؛ فقد كان
أوربان مصممًا على أن تكون العملية كلها تحت سيطرة إكليركية، وقام
بتعيين أحد رجال الكنيسة القلائل الذين كان قد سبق لهم الحجُّ إلى
أورشليم وهو «أديمار
Adhemar of Le Puy» (أسقف لابوي)، قام بتعيينه قائدًا وممثلًا
رسميًّا له. هذا الأسقف على أية حال سوف يصحبه عدد كبير من الأقطاب
الأقوياء: «ريمون السان جيلي
Raymond of Saint
Gilles»، و«كونت تولوز
The
Count of Toulouse» الأكبر
سنًّا وأكثرهم ثراء وأسماهم قدرًا، و«هيو
Hugh» كونت «فيرماندوا
Vermandois» شقيق الملك الفرنسي الذي وصل مهزوزًا بعد
كارثة غرق في الأدرياتيكي، و«روبرت الثاني
Robert
II» كونت «الفلاندرز
Flanders»، و«روبرت
Robert» دوق نورمنديا (ابن وليم الفاتح)، وابن عمه
«ستيفن
Stephen» كونت «بلوا
Blois»، و«جودفري البويوني
Godfrey of Bouillon»، ودوق
«اللورين الأدنى
Lower
Lorraine».
ومع جودفري أخوه «بلدوين
البولوني
Baldwin of
Boulogne»، الذي كان ابنًا أصغرَ بدون وقف كنسي، فجاء
بزوجته وأطفاله وكان مصممًا على إنشاء مملكة له في الشرق. ومن الجنوب
الإيطالي جاء «بوهيمند
Bohemund» أمير
تارانتو، ابن روبرت جيسكار، الذي كانت لديه طموحات مماثلة، ولأنه كان
نورمنديًّا حقيقيًّا، لم تكن الأماكن المقدَّسة تعنيه كثيرًا، وكان يرى
الحملة في حد ذاتها أعظمَ مغامرة في حياته.
أحد أشهر قادة الحملة وأكثرهم شعبيةً لم يكن من النبلاء أو عِلية
القوم، كان مبشِّرًا جوَّالًا مسنًّا يُدعى بيتر
٥ المكنَّى بالناسك؛ إذ لم يكن أحد قد رآه قط بدون ذلك
الرداء المطروح على كتفيه دون أكمام. كانت تفوح منه رائحته الكريهة،
ويقال إنه كان يشبه الحمار الذي يمتطيه دائمًا، إلا أن أحدًا لم يكن
ليستطيع أن ينكر ما له من جاذبيةٍ شخصية. وكما يقول المؤرخ
«جيبرت النوجنتي
Guibert of Nogent»:
«كان كل شيء يفعله أو يقوله يبدو وكأنه شبه إلهي.» كان يدعو للحملة في
كل فرنسا ومعظم ألمانيا، وبحلول موعد قيامها ربما كان قد أصبح يتبعه
نحو أربعين ألفًا من البشر. كان كثير منهم بلا شك مخلصين أتقياء،
يريدون القتال في سبيل القضية المقدسة، إلا أنه كان هناك كذلك عدد كبير
من المرضى بينهم نساء وأطفال، يأمُلون في شفاء معجز، بينما كانت تجذب
الأغلبية الساحقة من الرعاع المترحلين فرص السلب والنهب والوعد بمكان
في الجنة، لكل مَن يكمل الرحلة.
•••
بعد تقدير الموقف على ضوءِ الأعداد المشارِكة ونقاط الانطلاق
المختلفة، غادر الصليبيون في توقيتات مختلفة، متخذين طرقًا عدة نحو
نقطة التجمع الأولى؛ القسطنطينية. يبدو أن أوربان كان يعتقد أنهم
سيلقَون ترحيبًا حارًّا من الإمبراطور البيزنطي «ألكسيوس الأول
كومنينوس Alexius I Comnenus»؛ أفلم
يكن كومنينوس الأول نفسه قد لجأ للغرب طالبًا المساعدة العسكرية ضد
الأتراك؟ ما لم يفهمه البابا هو أنه كان هناك فارقٌ شاسع بين وحدة
عسكرية أو اثنتين من المرتزقة المدرَّبين يأتون لمساعدة القوة المدافعة
ويضعون أنفسهم دون شروط تحت أوامر قادتها، وعددٍ من الجيوش الكاملة غير
المنضبطة في معظمها، يتوقَّع أفرادها أن يُقدَّم لهم الطعام والمأوى،
غير مستعدين لتلقي أوامرَ من أحد. في الوقت القصير المتيسر له، تصرَّف
ألكسيوس بشكل جيد، رتَّب إمدادات كبيرة من المؤن في المدن التي سيمر
بها الصليبيون، وأمر بوضع وحدات عسكرية صغيرة تستقبل كل جيش عندما يعبر
حدود الإمبراطورية وتصحبه إلى العاصمة. بمجرد وصولهم، تم تزويدهم
بأماكنَ للراحة خارج الأسوار، وكان يُسمح للزائرين بدخول العاصمة في
جماعات صغيرة للمشاهدة والصلاة في الأضرحة الرئيسية.
وصلت الجيوش الصليبية إلى القسطنطينية بين أكتوبر ١٠٩٦م ومايو ١٠٩٧م؛
وقبل أن تتمكَّن من مواصلة طريقها كان هناك الكثير من العمل الدبلوماسي
المطلوب إنجازه. أولًا وقبل كل شيء كان ألكسيوس مصرًّا على أن يؤدي كل
قائد أمامه قَسم الولاء، مع تقديم اعتراف — كتابةً — بالاستحقاقات
الإمبراطورية في آسيا الصغرى وسوريا. تم ذلك — بدرجات مختلفة من
التردُّد — من قِبل الجميع باستثناء شخص واحد، هو «ريمون التولوزي Raymond of
Toulouse». كان
ريمون قد وصل في منتصف أبريل، وكان ما زال يتآمر ويكيد لكي يتم
الاعتراف به قائدًا أعلى، وأعلن أنه في حال وضع الإمبراطور نفسه قائدًا
للحملة، فإنه سيكون تابعه الوفي؛ وإن لم يكن، فإنه لن يقبل بسيدٍ أعلى
آخرَ سوى الرب. خشيةَ أن يعرقِل هذا التوجه نجاحَ الحملة، كان زملاؤه
من الأمراء الآخرين يرجونه أن يلين. في النهاية، وافق على حلٍّ وسط: أن
يُقسِم (بحسب صيغة قَسم شائع في لغته المحلية) بأن يحترم حياة ومقام
الإمبراطور، وأن يراعي ألا يحدثَ أي شيء قد يلحق به ضرر أو أذًى.
ألكسيوس، الذي وجد في ذلك كلَّ ما كان يتمناه، قبل تعهُّد ريمون، ولم
يبدِ امتعاضه إلا بأن حجب عنه العطايا القيمةَ التي كان قد منحها
للقادة الآخرين … مثل الأطعمة والخيول والأردية الحرير الفاخرة.
لا تستطيع أن تتخيَّل مدى ما كان يشعر به الإمبراطور من ارتياح وهو
يشاهد الصليبيين وهم يصعدون إلى السفن التي كانت ستحملهم إلى آسيا. لم
يكن حتى ليستطيع أن يكوِّن فكرةً عن عدد الرجال والنساء والأطفال الذين
كانوا قد عبروا أراضيه في الشهور التسعة السابقة؛ الإجمالي ما بين
دهماء بيتر (بطرس) الناسك — الذين أبادهم الأتراك في أكتوبر السابق كما
كان متوقعًا قبل أن يصلوا أبعدَ من نيقية — والأمراء الإقطاعيين، كان
لا يقلُّ عن مائة ألف فرد. بفضل استعداداته وما اتخذه من تدابيرَ
دقيقة، لم تتسبب الجيوش في كثير من المتاعب كما كان يخشى، كل القادة،
باستثناء واحد، كانوا قد أدَّوا يمين الولاء له، ولكنه لم يكن لديه أي
أوهام بشأنهم. الجيوش الأجنبية، مهما كانت صديقة من الناحية النظرية،
لم يكونوا ضيوفًا محلَّ ترحيب، أولئك البرابرة بقذارتهم وسوء خُلُقهم،
كانوا بالتأكيد أسوأ من معظمهم. كانوا قد خرَّبوا الأرض واغتصبوا
النساء وسلبوا ونهبوا المدن والقرى، وكانوا يعتبرون ذلك من حقهم،
وينتظرون أن يلقَوا معاملةَ الأبطال والمخلصين. أحدث رحيلهم حالةً من
الفرَج، وكان المزيد من السلوى في أن تعرف أنهم إن عادُوا، فسيكونون
أقل عددًا منهم عندما بدءوا رحلتهم.
•••
على عكس توقعات كثيرين، نجحت الحملة الصليبية الأولى نجاحًا باهرًا،
وإن كان غير مستحَق. في الأول من يوليو تم تدمير جيش السلاجقة في
«دوريلايم Dorylaeum» (إسكيسير
Eskisehir الآن) في الأناضول. وفي
الثالث من يونيو ١٠٩٨م، استعاد الصليبيون أنطاكية، وأخيرًا شقَّ جنود
المسيح طريقهم إلى أورشليم في الخامس من يوليو ١٠٩٩م؛ حيث أعلنوا
انتصارهم بذبح جميع مسلمي المدينة وإحراق كل اليهود في المعبد الرئيسي.
في ذلك اليوم كان يغيب عنهم اثنان من قادتهم السابقين؛ بلدوين
البولوني، كان قد أصبح كونت «إديسا Edessa» (أورفا Urfa
الآن) في الفرات الأوسط، بينما كان بوهيمند، أمير تارانتو، قد نصَّب
نفسه أميرًا على أنطاكية بعد صراع مرير مع ريمون التولوزي.
في أورشليم نفسها، جرى انتخاب للاستقرار على حاكمها المستقبلي. كان
ريمون هو المرشَّح الأبرز إلا أنه رفض. كان مكروهًا، وكان يعرف ذلك،
ولن يكون قادرًا على الاعتماد على طاعة ودعم زملائه. في النهاية وقع
الاختيار على «جودفري
البويوني Godfrey of Bouillon» لورعِه الحقيقي وحياته الخاصة التي لا غبار
عليها، أكثر مما هو بسبب قدراته العسكرية والدبلوماسية. قبِل المنصب
متجنبًا فقط أن يحمل لقب «ملك» في المدينة التي حمل فيها المسيح إكليل
الأشواك. اتخذ بدل ذلك لقب «حامي الضريح
المقدَّس Advocatus Sancti Sepulchri»، وكان يُخاطب دائمًا باعتباره (دوق dux) أو (أمير Princeps)، وليس كملك أو عاهل
(rex). عاش جودفري عامًا واحدًا بعد
الاستيلاء على المدينة، وكان حلفاؤه أقلَّ دقة في الالتزام بالواجب فتم
تتويجهم ملوكًا على أورشليم اللاتينية.
كان أن بقيت هذه المملكة ثمانية وثمانين عامًا سيتغير حجمها خلالها
أكثرَ من مرة، وعندما بلغ اتساعها أقصاه كانت تمتد من رأس خليج العقبة
في الجنوب، إلى نهر الكلب على بُعد أميال قليلة من بيروت في الشمال.
كان حدُّها الشرقي وادي الأردن، والغربي البحر الأبيض المتوسط. بالنسبة
للإمبراطور ألكسيوس، باعتباره مسيحيًّا مخلصًا، كان لا بد من أن يكون
خبرُ تأسيس المملكة محلَّ ترحيب؛ فقد كانت المدينة في أيدي معادين
للنصرانية على مدى معظم أربعة قرون، كما كانت بعيدة عن القسطنطينية لكي
تكون ذات أهمية استراتيجية كبيرة. من ناحية أخرى، كان الوضع في أنطاكية
يسبِّب له قلقًا كبيرًا. هذه المدينة، والبطريركية القديمة كذلك، كان
لها تاريخ متغيِّر؛ كان الفرس قد نهبوها بعد الاستيلاء عليها في القرن
السادس واحتلوها نحو عشرين عامًا في أوائل القرن السابع قبل أن تسقط في
يد العرب في ٦٣٧م. وفي ٩٦٩م استردتها الإمبراطورية وبقيت جزءًا لا
يتجزأ منها حتى سنة ١٠٧٨م. كانت في نظر ألكسيوس وكل رعاياه اليمينيين
مدينةً بيزنطية تمامًا. الآن كانت قد أصبحت في يدِ مغامرٍ نورمندي، لم
يكن لديه النية، رغم اليمين الذي أقسمه، للتنازل عنها، ولم يَعُد يخفي
عداءه. بل إنه تمادي في ذلك وطرد البطريرك اليوناني ووضع مكانه آخَر،
كان رومانيًّا كاثوليكيًّا. كان هناك مصدر وحيد للعزاء؛ لم يكن بوهيمند
محلَّ ترحيب من قِبل جيرانه في الشمال من التركمان
الدانشمنديين،
٦ ويمكن أن نتصوَّر مدى شعور ألكسيوس بالارتياح، عندما سمع
في صيف ١١٠٠م أن أمير أنطاكية كان أسيرًا لديهم. كان أن ظل أسيرًا لمدة
ثلاث سنوات، إلى أن قام بلدوين، الذي خلف أخاه جودفري على عرش أورشليم،
بدفع فدية لتحريره.
خلال السنوات الأولى التالية لانتصار الصليبيين، أصبح من الواضح أن
بوهيمند لم يكن وحده في هذا الموقف من بيزنطة. بعد الاستيلاء على
أورشليم كانوا قد بدءوا يعودون إلى ديارهم، كثيرون منهم كانوا شديدي
الاستياء بسبب الأعمال العِدائية والانتهاكات التي رأوها تُرتكب باسم
المسيح. الفرنجة الذين بقُوا في اﻟ
Outremer (الشرق اللاتيني) — كما أصبحت
تسمَّى أراضي الصليبيين في الشرق الأوسط — هم المغامرون العسكريون،
الذين كانوا يريدون الحصولَ على كلِّ ما تقع عليه أياديهم، بعد
استيلائهم على المدينة المقدَّسة. من بين كل قادة الحملة الصليبية
الأولى، كان ريمون التولوزي — الذي، ويا للسخرية، كان الوحيد الذي رفض
أن يؤديَ قَسم الولاء في القسطنطينية — هو الذي تصرَّف بإخلاص، وأعاد
للإمبراطور بعض الأراضي المفتوحة من تلك التي كانت في السابق تابعةً
للإمبراطورية. الباقون لم يكونوا أفضلَ من العرب الذين حلُّوا محلَّهم.
كان بوهيمند أسوأ من الجميع. في ١١٠٤م، بعد عام من قيام الدانشمنديين
بإطلاق سراحه، أبحر إلى أبوليا حيث كانت تنتظره أعمالٌ كثيرة في
ولاياته التي كان قد طال إهمالها. وفي سبتمبر ١١٠٥م، انتقل إلى روما
حيث استطاع — دون جهد يُذكر — أن يقنع البابا «باسكال الثاني
Paschol II» بأن العدوَّ الأكبر
للممالك الصليبية في الشرق اللاتيني لم يكن العرب ولا الترك، وإنما
ألكسيوس كومنينوس نفسه.
تلقَّى باسكال ما قاله بوهيمند بحماسة شديدة، لدرجةِ أنه عندما حان
موعد ذهاب الأخير إلى فرناس، وجد نفسه مصحوبًا بممثلٍ بابوي يحمل
تعليمات بالدعوة لشن حرب مقدَّسة ضد بيزنطة. هنا وجد ألكسيوس وأعوانه
تأكيدًا لأسوأ شكوكهم. الآن اتضح أن الحملة كلها، لم تكن أكثرَ من
ممارسة بشِعة للنفاق، استُخدم فيها الوازع الديني قناعًا لاستعمارٍ لا
يعرف الخجل.
•••
تقع «إيديسا
Edessa»،
الكونتيةُ
٧ الصليبيةُ، في الأناضول الجنوبي القريب من الحدود السورية،
على بُعد مائة وخمسين ميلًا تقريبًا من البحر الأبيض المتوسط. سقوطها
يوم عيد الميلاد في ١١٤٤م في يد قوات عماد الدين زنكي — أتابك
٨ الموصل — بعد حصار خمسة وعشرين يومًا، ووسط مشاهد ذبح
وتقتيل، هذا السقوط لا يهمنا سوى في نتيجته المباشرة؛ الحملة الصليبية
الثانية. الأخبار الرهيبة أصابت كلَّ العالم بالرعب. بالنسبة لشعوب
الغرب الذين رأوا نجاح الحملة الأولى باعتباره «رضًا إلهي»، أيقظت
الأخبار كل الآراء المكتومة لتضعها موضعَ المساءلة. كيف، بعد أقل من
نصف قرن، يسقط الصليب أمام الهلال؟ كان الرحَّالة الذين يذهبون إلى
الشرق يعودون بأخبار عن الانحلال المنتشر بين الفرنجة هناك. هل كان ذلك
لأنهم لم يعودوا في نظر الرب جديرين بأن يكونوا حراسًا أوصياء على
الأماكن المقدسة؟
كان لدى الفرنجة فهْم أفضل. المشكلة بكل بساطة كانت أن الأغلبية
العظمى من الصليبيين قد عادوا إلى بلادهم؛ كان الجيش الدائم الوحيد —
إن جاز لنا أن نعتبره كذلك — مكوَّنًا من الجماعتين العسكريتين؛ «فرسان
سان جون
Knights of St John»
٩ و«فرسان الهيكل
Templars»،
١٠ ووحدهم، لم يكن لديهم أيُّ أمل في الصمود أمام هجوم جماعي
منظَّم. كان الأمل الوحيد هو حملة صليبية أخرى. إلا أن البابا
«إيوجينيوس الثالث
Eugenius III» لم
يكن أوربان؛ كان قد اضطُر مؤخرًا للفرار من الفوران المعتاد في روما
العصور الوسطى، ولجأ إلى «فيتيربو
Viterbo». وقع عبء القيادة من ثَم على «لويس السابع
Louis VII» ملكِ فرنسا. بالرغم من أنه
كان ما زال في الرابعة والعشرين، كان لويس بالفعل قد اتخذ سمت الورِع
الزاهد، وهو ما جعله يبدو أكبرَ من سنه، كما أزعج زوجته الجميلة
الجريئة «إليانور دو
أكيتان
Eleanor of Aquitaine»، كان أحد حجاج الطبيعة، وكانت الحملة واجبًا
باعتباره مسيحيًّا، كذلك كانت هناك أسبابٌ عائلية حيث إن إليانور كانت
ابنة أخت ريمون أمير أنطاكية.
١١ في عيد الميلاد في ١١٤٥م، أعلن عن نيته في استلام شارة
الصليب، ولكي يملأ قلوب أتباعه ورعاياه بنيران الحماسة الصليبية، أرسل
في طلب رئيس دير رهبان «كليرفو
Clairvaux».
كان «سان برنار St Bernard» آنذاك
في الخامسة والخمسين من العمر، وكان أكبرَ وأقوى سلطة روحية في أوروبا.
كان طويل القامة، مهزولًا، تكسو ملامحه آلامُ حياة طويلة من التقشف
المُبالغ فيه، وكانت تتملَّكه حماسة دينية متأجِّجة لم تترك مجالًا
للتسامح أو الاعتدال. على مدى السنوات الثلاثين السابقة كان دائم
التنقُّل، يعظ ويجادل ويناقش ويكتب الرسائل العديدة، ويلقي بنفسه في
أتون كلِّ ما هو أخلاقي، دينيًّا كان أو سياسيًّا. كانت الحملة
الصليبية المقترحة مغامرةً تلقى هوًى شديدًا في نفسه. يوم أحد السعف
Palm Sunday الموافق الثالث عشر من
مارس ١١٤٦م، ألقى أهمَّ خُطبة في حياته وأكثرها شؤمًا. كان الملك لويس
يقف إلى جواره وعلى صدره الصليب الذي أرسله إليه البابا رمزًا لقراره؛
وبينما كان برنار يتكلم، كان كلُّ مَن يستمعون إليه — كانوا بالألوف —
يصيحون مطالبين بصلبان لهم. كانت هناك بالفعل حُزَم كثيرة من الصلبان
من القماش الخشن قد أُعِدت مسبقًا لتوزيعها، وعندما نفدت الكمية، خلع
رئيس الدير (سان برنار) رداءه وراح يمزِّقه أشرطةً لصنْع صلبان منها.
وفعل آخرون مثله، وظل هو ومساعدوه يخيطون الأشرطة صلبانًا إلى أن حل
الظلام.
كان إنجازًا مدهشًا. لم يكن ليقوم به إنسان آخر في أوروبا، وبالرغم
من ذلك … وعلى ضوء ما جاءت به الأحداث … ليت ذلك ما حدث!
•••
هناك في القسطنطينية كان مانويل الأول كومنينوس قد استوعب جيدًا حجم
الكابوس الذي سبَّبته الحملة الأولى لجَدِّه قبل نصف قرن. لم يكن يود
أن يرى الكارثة تتكرر. أوضح من البداية أنه سوف يوفِّر الطعام والتموين
للجيش، ولكن لا بد من أن يكون كل شيء مدفوع الثمن. إلى جانب ذلك سيكون
مطلوبًا من جميع القادة أن يؤدوا يمين الولاء له عند مرورهم بالأراضي
التابعة له. كان الجيش الألماني، الذي كان قوامه نحو عشرين ألف جندي
وكان أول جيش يصل، كان هو أكثرَ مَن ينقصه الشعور بالمسئولية. كان كثير
من قادته مَثلًا سيئًا للجنود؛ بالرغم من أن «كونراد
Conrad» ملكَ الرومان
١٢ — الذي رفض في البداية أن يكون له أيُّ علاقة بالحملة،
ولكنه ندم بعد تأنيب علني قاسٍ من برنار — تصرَّف بنبله المعتاد، فإن
ابن أخيه ومَن يليه في القيادة الدوق الشاب «فردريك أمير سوابيا
Fredrick of
Swabia» —
المعروف في التاريخ باسم الشهرة «بربروسا
Barbarossa» — قام بإحراق ديرٍ كامل في «أدريانوبل
Adrianople» (أدرنة الحديثة)، انتقامًا
لهجومٍ قامت به كتائب محلية. كونراد الذي كان يشعر بالنِّقمة والغضب
الشديدين، رفض اقتراحًا ﻟ «مانويل» بأن يعبر جيشه إلى آسيا عن طريق
«هيلزبونت
Hellespont»، وبذلك يتفادى
القسطنطينية تمامًا؛ وعندما أقام الصليبيون معسكرهم خارج أسوار العاصمة
في منتصف سبتمبر ١١٤٧م، كانت العلاقة بين الألمان واليونانيين قد بلغت
مبلغها من السوء.
كان الجيش الفرنسي الذي وصل بعد أسابيعَ قليلة أقلَّ حجمًا، كما كان
حسن المظهر بشكل عام. كان أكثر انضباطًا، كما أن مجيء بعض السيدات
المتميزات بمن فيهن الملكة إليانور
Eleanor نفسها، بصحبة أزواجهن مع
الجيش، هيأ الفرصة لمزيد من الانضباط. حتى ذلك الحين لم يكن التقدم
سهلًا. لم يكن غريبًا أن تجعل تجاوزات الفرنجة فلاحي البلقان يتخذون
موقفًا معاديًا واضحًا؛ كانوا يطلبون أسعارًا غريبة لما تبقى لديهم من
أطعمة يبيعونها. أصبح انعدام الثقة متبادلًا، وأدَّى إلى ممارسات عنيفة
من كلا الطرفين؛ وهكذا قبل أن يصلوا إلى القسطنطينية بوقت طويل، بدأ
الفرنسيون يشعرون باستياء كبير نحو الألمان والبيزنطيين على
السواء.
كان مانويل يتملق ضيوفه بالحفلات والولائم، وبالرغم من ذلك كان يخشى
الأسوأ. بعد عودته من حملةٍ له في الأناضول، عرف أن تلك القوات بطيئة
الحركة، التي كانت تفتقر إلى الروح المعنوية والانضباط، لن تكون ندًّا
لخيالة السلاجقة. كان قد زودهم بالمؤن ووفَّر لهم الأدلاء ونبَّههم إلى
ندرة الماء، كان قد نصحهم بألا يسلكوا الطريق المباشر عبر الأراضي
الخلفية، بل أن يلتزموا الساحل لأن معظم الأراضي الخلفية كانت تحت
سيطرة البيزنطيين. لم يكن بوسعه أن يفعل أكثرَ من ذلك. أما إذا كانوا
مصرِّين، بعد كل هذا النصح، على أن يُقتلوا، فاللوم لن يقع إلا عليهم.
من جانبه، سوف يأسَف لذلك … وإن بدرجةٍ ما.
لم تكد تمر أيامٌ قليلة على وداع الإمبراطور للجيش الألماني، حتى
جاءته الأخبار بأن الترك هاجموه على حين غِرة ودمَّروه تمامًا. كونراد
نفسه وفردريك دو سوابيا هربا وعادا لينضما إلى الفرنسيين الذين كانوا
ما زالوا في نيقية، ولكن تسعة أعشار رجالهم كانوا قد هلكوا أو يحتضرون
بين حطام معسكرهم. كانت بداية سيئة، إلا أن الأسوأ كان في الطريق. لم
يتقدم كونراد أبعدَ من إفسوس، عندما سقط مريضًا. كان مانويل قد أبحر
فورًا من القسطنطينية وأعاده سالمًا إلى القصر، كان يتباهى بمهاراته
الطبية، وقام هو شخصيًّا بتمريضه إلى أن استعاد عافيته. وفي النهاية،
عندما كان كونراد قادرًا على إكمال رحلته، كان هناك سربٌ إمبراطوري تحت
تصرُّفه لكي يواصل إلى فلسطين. في الوقت نفسه كان الفرنسيون يواجهون
مصاعبَ جمَّة على يد الترك وهم يتقدمون عبر الأناضول؛ وبالرغم من أن
ذلك كان خطأ الملك لويس تمامًا، الذي تجاهل تحذير الإمبراطور ونصيحته
بالتزام الساحل، كان مصرًّا على نسبة كل مواجهة مع العدو إلى إهمال
البيزنطيين أو إلى الخيانة أو لكليهما، وسرعان ما تملَّكه امتعاض
سيكوباتي ضد اليونانيين. أخيرًا، وفي حالة من حالات اليأس، اصطحب أهل
بيته وعددًا كبيرًا من خيَّالته (بقدرِ ما استوعبت السفينة)، وأبحر من
أتاليا (أنطاليا الآن)، تاركًا ما تبقَّى من الجيش والحجاج لكي يصارعوا
قدرَ استطاعتهم. في وقتٍ متأخر من ربيع ١١٤٨م، كانت البقايا البائسة
لجيشٍ كان عظيمًا ذات يوم، تجرُّ أذيالها إلى أنطاكية.
لم يكن ذلك سوى البداية. كان زنكي، الملك القوي، قد مات وانتقلت
عباءته إلى نور الدين، الذي كانت قلعته في حلب قد أصبحت مركز المقاومة
الإسلامية ضد الفرنجة. وهكذا كان لا بد من أن تكون حلب أولَ هدف
للصليبيين، ووجد لويس نفسه تحت ضغط شديد من ريمون، أمير أنطاكية، لكي
يقوم بهجوم فوري على المدينة. رفض، مبررًا رفضه بسبب مضحك، وهو أنه كان
ينبغي أن يصليَ أولًا في الهيكل المقدس؛ وعليه أعلنت الملكة إليانور عن
نيتها البقاء في أنطاكية وطلب الطلاق. لم يكن حب إليانور لزوجها قد
زاد، بسبب الأخطار ومشاق الرحلة، كما أن علاقتها ﺑ «ريمون» (التي لم
تكن فوق مستوى الشك) كانت قد زادت عن المدى الذي ينبغي أن تكون عليه
علاقة بين عمٍّ وابنة أخ. كانت القرابة بينها وبين زوجها بعيدة، وعندما
تزوجا تم إغفال مسألة القرابة، ولكنها كان يمكن أن تثير بعض المتاعب
إذا أعيد إحياؤها، وكانت إليانور تعرف ذلك.
برغم مزاجه النكِد، لم تكن الشجاعة تعوز لويس ساعة الأزمة. تجاهل
احتجاجات زوجته وجرَّها جرًّا إلى أورشليم؛ واستعدى ريمون لدرجةِ أن
أمير أنطاكية رفض أن يقوم بدورٍ أكبرَ من ذلك في الحملة، ووصل في مايو
إلى المدينة المقدسة تتْبَعه ملكته صامتة. بقي هناك حتى الرابع
والعشرين من يونيو عندما عقد اجتماعًا حضره جميع القادة الصليبيين في
«عكا Acre»، ليقرِّروا خطة القيام
بالحملة. أما لماذا اختاروا آنذاك أن يهاجموا دمشق، فيظل لغزًا؛ حيث
إنها كانت الدولة العربية الرئيسية الوحيدة التي كان يمكن أن تظل
معاديةً لنور الدين، كان يمكن — وينبغي — أن تكون حليفًا لا يقدَّر
بثَمن. بالهجوم عليها، دفعوها ضد رغبتها إلى كونفدرالية الأمير
الإسلامية، وجعلوا دمارها مؤكدًا. وصلوا ليجدوا دمشق قويةً والمدافعين
عنها كلهم إصرار وعناد. في اليوم التالي، وبقرار من تلك القرارات
الكارثية التي كانت تتصف بها الحملة كلها، نقلوا معسكرهم إلى منطقة على
امتداد الجزء الجنوبي الشرقي للأسوار؛ حيث لا ظل ولا ماء. أدرك كونراد
على الفور أن استمرار الحصار كان يعني هلاك كل جيشهم بالتأكيد، وبعد
خمسة أيام من بدء الحملة قرروا الانسحاب.
لا توجد منطقة في الصحراء السورية أكثر تحطيمًا للروح من ذلك
الامتداد الرملي أو المساحة البازلتية الواقعة بين دمشق و«طبرية Tiberias». لا بد من أن يكون الصليبيون قد
شعروا باليأس الشديد وهم يقطعونها منسحبين في قيظ الصيف، تلفح وجوههم
الشمس القاسية ورياح الصحراء الحارقة، تناوشهم سهامُ الرماة العرب من
راكبي الخيول، مخلِّفين وراءهم رائحةً نتنة تتصاعد من جنود وخيول ميتة.
كانوا يعرفون أنها النهاية. كانت الخسائر فادحة، والأسوأ كان ما لحِق
بهم من عار. جيشهم الذي كان مجيدًا ذات يوم، والذي كان يزعم أنه يدخر
كلَّ المُثل العليا للغرب المسيحي، تخلى عن المهمة كلِّها بعد قتال
أربعة أيام، وفشل في استعادة شبر واحد من أراضي المسلمين. هنا يكمُن
الإذلال التام الذي لن ينسوه … كما لن ينساه أعداؤهم.
•••
كتب سير «ستيفن
رانسمان Stephen Ransman» يقول: «إنَّ فشل الحملة الثانية كان نقطة تحوُّل
في قصة الشرق اللاتيني. كان أن بقيت مملكة أورشليم تسعة وثلاثين عامًا
أخرى، ولكن بالنسبة لأي مراقب موضوعي بعد ١١٤٨م، فإن سقوط المدينة
المدوي في أيدي العرب كان لا بد من أن يبدو حتميًّا. في الجانب
الإسلامي، كان يوجد بالفعل قائد عبقري؛ نور الدين الذي جعل منه
الاستيلاءُ على دمشق في أبريل ١١٥٤م سيدًا على سوريا الإسلامية. ثم
سرعان ما كان هناك قائد عبقري آخر هو صلاح الدين، أعظم أبطال المسلمين
في العصور الوسطى. صلاح الدين من مواليد ١١٣٧م لأسرة كردية بارزة، في
سن الحادية والثلاثين عيِّن قائدًا على القوات السورية في مصر، ووزيرًا
للخليفة الفاطمي. بحلول عام ١١٧١م، كان قد أصبح قويًّا بما يكفي لإزاحة
الخليفة الشيعي الضعيف، وإعادة الإسلام السني لمصر، ومنذ ذلك الحين
أصبح حاكم مصر الوحيد. بعد ثلاث سنوات نقل جيشه الصغير الجيد التنظيم
إلى سوريا، وكرَّس جهده لمهمة توحيد كل الأراضي الإسلامية في مصر
وسوريا وشمال وادي الرافدين وفلسطين تحت رايته.
كانت فرصة ملوك أورشليم ضعيفةً أمام هذين العملاقين؛ نور الدين،
وصلاح الدين. ربما كان يمكن أن ينقذ بلدوين الثالث وخليفته «أمالريك
الأول Amalric I» الموقفَ، لو أنهما
كانا على قيد الحياة؛ إلا أنهما كانا قد ماتا، الأول وهو في الثانية
والثلاثين والثاني في الثامنة والثلاثين. الملك التالي، بلدوين الرابع
المجذوم، كان المرض قد هزمه في ١١٨٥م وهو في الرابعة والعشرين، فترك
العرش ﻟ «بلدوين الخامس» ابن أخيه، الذي جلس عليه وهو طفل في الثامنة …
ومات قبل أن يبلغ التاسعة. في مثل تلك الظروف قد يبدو موته نعمة، ولكن
فرصة إيجاد قائد حقيقي ضاعت، وتم تمرير العرش إلى «جاي لوزينان Guy of Lusignan» زوج أمه، وكان شخصية
ضعيفة برِمة، ذات سجلٍ من الفشل، كما كان جديرًا بما يكنه له كل أقرانه
من احتقار. كانت أورشليم على شفا حرب أهلية عندما أعلن صلاح الدين
الجهادَ الذي طال انتظاره، في مايو ١١٨٧م، عبر الأردن ودخل الأراضي
الفرنجية. تحت قيادة «جاي» البائس، كان لا بد أن تكون هزيمة الفرنسيين
هي النتيجة. في الثالث من يوليو قام بقيادة أضخم جيش جمعته مملكته في
تاريخها عبر جبال الجليل متجهًا إلى طبرية؛ حيث كان صلاح الدين يحاصر
القلعة. بعد مسيرة يوم طويل في أشد فصول العام حرارة، اضطُر جيشه
لإقامة معسكره على هضبةٍ قاحلة لا ماء فيها ولا حياة؛ وفي اليوم التالي
وهم منهكون من القيظ والعطش، قامت قوات المسلمين بتطويقهم تحت تلةٍ
تعلوها قمتان صغيرتان، تُعرف ﺑ «قرون حطين».
كانت مهمة المسلمين بعد ذلك هي القضاء على القلاع المسيحية المتفرقة
واحدة بعد الأخرى. سقطت طبرية في اليوم التالي للمعركة، ثم عكا ونابلس
ويافا وصيدا وبيروت … كلها استسلمت في تتابُع سريع. متجهًا جنوبًا،
استولى صلاح الدين على عسقلان بهجوم عاصف، واستسلمت غزة دون مقاومة …
والآن كان قد بات مستعدًّا لأورشليم. صمد المدافعون عن المدينة المقدسة
على نحوٍ بطولي لمدة اثني عشر يومًا، ولكن في الثاني من أكتوبر، وبعد
أن قام جنود المسلمين بتلغيم أسوار المدينة، عرفوا أن النهاية كانت قد
اقتربت. ذهب قائدهم «باليان
الإيبليني Balian of Ibelin» — كان الملك جاي قد وقع في الأسر بعد حطين —
شخصيًّا إلى صلاح الدين ليبحث شروط الاستسلام.
صلاح الدين، الذي لم يكن متعطشًا للدماء ولا محبًّا للانتقام، وافق
على أن يفتديَ كل مسيحي في أورشليم نفسه بدفع فدية مناسبة. في ذلك
اليوم قاد جيشه داخل المدينة؛ ولأول مرة في ثمانية وثمانين عامًا، في
ذكرى ليلة الإسراء والمعراج، كانت راياته الخضراء ترفرف على منطقة
المعبد التي صعد منها النبي محمد. استتب النظام في كل مكان، لم يكن
هناك قتلٌ ولا سفك دماء ولا سلب ولا نهب؛ ومن بين العشرين ألف فقير
الذين لم يستطيعوا جمْع الفدية، تم العفو عن سبعة آلاف بعد قيام
السلطات المسيحية المختلفة بدفع مبلغ إجمالي. طلب «العادل»، شقيق صلاح
الدين ألفًا من الباقين كمكافأة له عن خدماته، ثم أطلق سراحهم في
الحال. حصل البطريرك على سبعمائة آخرين وحصل باليان على خمسمائة، وبعد
ذلك قام صلاح الدين على الفور بإطلاق سراح كل كبار السن، وكل الزوجات
اللائي دفع أزواجهن الفدية، وأخيرًا كل الأرامل والأطفال. كان عدد قليل
من المسيحيين هم الذين وجدوا أنفسهم في الطريق إلى العبودية. كان هدوء
صلاح الدين وسيطرته على مشاعره أمرًا استثنائيًّا بالرغم من أنه لم يكن
قد نسي المذبحةَ التي حدثت بعد وصول الحملة الأولى في سنة ١١٠٩م، كما
لم يكن المسيحيون قد نسوها، ولا بد من أن يكون التناقض بين الموقفين قد
أصابهم بالذهول.
•••
عندما وصلت أخبار سقوط أورشليم إلى الغرب، مات البابا «أوربان Urban» من الصدمة، أما خليفته «جريجوري
الثامن Gregory VIII» فلم يضيِّع
الوقت، دعا على الفور العالَم المسيحي لحمل السلاح لاستعادتها. تم وضع
الخطط على عجل. هذه الحملة (الثالثة) ستكون تحت قيادة الإمبراطور
«فردريك
بربروسا Fredrick Barbarossa»، الذي كان قد خلف عمَّه كونراد في ١١٥٢م. سيحمل
الصليب كذلك ثلاثة ملوك غربيين آخرين: «ريتشارد قلب الأسد
Richard Coeur-de-Lion» ملك إنجلترا،
و«فيليب أوجسطس Philip
Augustus»
ملك فرنسا، و«وليم
الصالح William the Good» ملك صقلية. تم إعفاء الإمبراطور البيزنطي «إيزاك
الثاني أنجيلوس Issac II Angelus» من
المشكلات اللوجستية الكبيرة؛ حيث كان بربروسا الذي يسلك الطريق البري
قد وافق على العبور إلى آسيا عن طريق هيلزبونت بدلًا من البوسفور،
بينما اختار الملوك الثلاثة التحرُّك بحرًا. موت وليم غيرُ المتوقَّع،
تطلَّب إجراء تغيير رئيسي أو اثنين في الترتيبات، إلا أن الخطة
الرئيسية التي كانت تقضي بضرورة تجمُّع الأساطيل الثلاثة في مسيني من
أجل المرحلة الأخيرة من الرحلة، بقيت دون تغيير، وفي العاشر من سبتمبر
١١٩٠م، وصل ريتشارد وفيليب أوجسطس، بفاصل عشرة أيام بينهما، إلى
صقلية.
كان ريتشارد في حالة سيئة وكئيبة، كما كان يحمل حقدًا دفينًا ﻟ
«تانكريد Tancred» ملكِ صقلية،
وبالرغم من أن وليم الصالح كان قد مات دون أن يترك وصية، يبدو أنه كان،
في ظرفٍ ما، قد وعد «هنري الثامن Henry
VIII»، ملك إنجلترا ووالد زوجته بإرثٍ مهم، كان من
بينه طاولة ذهبية طولها نحو اثنتي عشرة قدمًا، وخيمة من الحرير تتسع
لمائتي شخص، وكمية من أدوات المائدة الذهبية، وسفن إضافية كثيرة مزودة
بالمواد التموينية … كل ذلك من أجل الحملة. الآن وقد مات وليم وهنري،
كان تانكريد يرفض الوفاء بذلك الوعد. كانت هناك مشكلة الملكة
«جوانا Joanna» شقيقةِ ريتشارد: كان
قد علِم بأن تانكريد كان قد حجز على أموالها ومنع عنها بعض مستحقاتها
كجزء من تسوية زواجها. ربما كان يرى، كذلك، صقلية جوهرة جديدة محتملة
يمكن أن يضيفها إلى تاجه. تانكريد، برغم كل ذلك لم يكن شرعيًّا، بينما
كانت «كونستانس Constance» بسبب
زواجها من وريث الإمبراطور تعني موت المملكة. ولعله كذلك، باعتباره زوج
أخت الملك قد يكون من حقه أن يدعم مطلبه.
كان لدى تانكريد ما يكفيه من المتاعب لكي يخاطر بعداءات في أماكنَ
أخرى. بوضوح شديد، كان لا بد له من أن يُخرِج ضيفه الثقيل من الجزيرة
بأسرعِ ما يمكن؛ وإذا كان ذلك يتطلب تنازلات … فسوف يتبعها تنازلات
أخرى. بعد خمسة أيام من وصول ريتشارد لحِقت به جوانا نفسها، وكانت قد
أصبحت تتمتَّع بكامل حريتها بعد حصولها على تعويض كبير عن خسائرها
الأخرى. إلا أن التخلصَ من قلب الأسد أو شراءه لم يكن بالأمر السهل. في
٣٠ سبتمبر، انطلق غاضبًا عبر مضايق مسيني ليحتل مدينة «باجنارا Bagnara» الصغيرة الهادئة على ساحل
كالابريا. وهناك، في كنيسة كان قد بناها الكونت روجر قبل قرن تقريبًا،
أنزل أخته، وتركها تحت حراسة حامية قوية. وفي طريق عودته إلى مسيني،
كان أن وقع على أكثر مؤسسات المدينة قداسة، دير المخلِّص الذي كان
يشغَل موقعًا رائعًا على الميناء. قاموا بطرد الرهبان منه واحتل جيش
ريتشارد ثكناته الجديدة.
كان أهالي مسيني، ومعظمهم من اليونانيين، قد ردعهم سلوك الجنود
الإنجليز غير الأخلاقي وبخاصة مع النساء المحليات، إلا أن احتلال الدير
كان هو القشة الأخيرة. في ٣ أكتوبر حدَث تمرُّد وأعمال شغْب هائلة، وفي
اليوم التالي اقتحم جيش ريتشارد المدينةَ ليعم التخريب والسلب والنهب
أرجاءها، وفي خلال ساعات قليلة كانت المدينة كلها تحترق. فيليب أوجسطس،
الذي حاول جاهدًا أن يتوسط بين ريتشارد وتانكريد، أصابه الرعب عندما
شاهد عَلم ريتشارد يرفرف على الأسوار، فأرسل من فوره رسالة عاجلة إلى
تانكريد ينبِّهه لخطورة الوضع، ويعرض مساعدة جيشه له في حال تمادى
ريتشارد في غيِّه. لم يكن تانكريد في حاجة لمثل هذا التحذير، ولكنه كان
يفكر في المستقبل الأبعد، كما كان يعرف أن «هنري هوهنشتوفن Henry of
Hohenstaufen» كان
خطرًا أكثرَ جسامةً مما يمكن أن يكون عليه ريتشارد. عاجلًا أو آجلًا،
سوف يغزو هنري، وعندما يفعل ذلك سيكون تانكريد في حاجة إلى حلفاء؛
ولهذا الغرض فإن الإنجليز برغم كل أخطائهم سيكونون أفضلَ من الفرنسيين.
كان ريتشارد يكره آل هوهنشتوفن، ومن ناحيةٍ أخرى كان الملك الفرنسي على
وفاقٍ تامٍّ مع فردريك بربروسا. لو أن الألمان قاموا بالغزو الآن
والصليبيون ما زالوا في صقلية، فلن يكون التعاطف الفرنسي مؤكدًا. وجَّه
تانكريد الشكر ﻟ «فيليب»، وأرسل إليه بعضَ ما يليق به من الهدايا
السخية. في الوقت نفسه، أرسل مبعوثًا مؤتمنًا إلى مسيني لكي يتفاوض مع
ريتشارد.
كانت الشروط التي عرضها أكثرَ مما يمكن أن يقاومه ريتشارد؛ عشرون ألف
أونصة من الذهب لأخته ومثلها له، وفي مقابل ذلك وعد بأن يقدم ﻟ
«تانكريد» عونًا عسكريًّا كاملًا ما دام هو وجيشه في المملكة، كما
تعهَّد بأن يعيد للمضارين في الاضطرابات الأخيرة كلَّ ما سُلب ونُهب
منهم. تم توقيع الاتفاق في الحادي عشر من نوفمبر في مسيني، كما تم
إقراره نهائيًّا بتبادل الهدايا؛ كانت هدية ريتشارد ﻟ «تانكريد» سيفَ
الملك آرثر الشهير، الذي كان قد تم العثور عليه في «جلاستون بري Glastonbury». لم يكن غريبًا أن تصبح
العلاقات بين ريتشارد وفيليب أوجسطس أكثرَ برودًا من ذي قبل، ولكن
الملك الفرنسي — على خلاف الإنجليزي — كان يعرف كيف يسيطر على مشاعره.
على نحوٍ ما، مرَّ الشتاء دون المزيد من الصدام بينهما، وفي الثلاثين
من مارس أبحر فيليب بجيشه إلى فلسطين.
بعد أيام قليلة، ستصل سفينةٌ تحمل إليانور أكيتان
١٣ أمَّ ريتشارد، التي كانت في السبعين من عمرها، تصحبها
خطيبته الأميرة «برنجاريا
نافار
Berengaria of Navarre». ربما كانت الخطة الأصلية أن يتزوجا في صقلية، إلا
أن الزواج كان محظورًا في فترة الصيام الكبير — كانت رغبتهما على أية
حال غير متسقة مع هذا التوجُّه — ولم يكن ريتشارد متعجلًا لإتمام
الزواج. بناء عليه، تقرَّر أن تبحر معه برنجاريا إلى الأراضي المقدسة.
إليانور التي كانت تحتفظ بذكرياتٍ غير سارة عن زيارتها الأخيرة، لم يكن
لديها رغبة في العودة؛ العروس الشابة سوف تصحبها الملكة جوانا، وعليه
وُضعت سفينةٌ خاصة تحت تصرفهن. في العاشر من أبريل ١١٩١م، سوف يبحر
ريتشارد — الذي نعرف أن أسطوله كان لا يقل عن مائتي سفينة — إلى
فلسطين.
•••
في اليوم الثالث بعد خروجها من مسيني، واجهت السفن الإنجليزية إحدى
عواصف الربيع العاتية التي يشتهر بها الحوض الشرقي من المتوسط. تمكَّنت
معظم السفن من أن تبقى على اتصال ببعضها — كان الملك قد احتفظ بفانوس
مضاء على صاري سفينته كدليل للآخرين — ولكن الرياح الغاضبة دفعت عددًا
كبيرًا من السفن على نحوٍ كارثي خارج المسار، كما أغرقت عددًا آخر.
لفترةٍ ما، كان البعض يعتقدون أن سفينة برنجاريا وجوانا قد فُقدت،
ولكنهم وجدوها في النهاية وسفينتين أخريين بالقرب من ميناء ليماسول في
قبرص.
بصرف النظر عن فترات احتلال العرب القصيرة لقبرص، كانت هذه الجزيرة
دائمًا جزءًا من الإمبراطورية البيزنطية؛ قبل خمس سنوات فحسب، كان
المدعو «إيزاك دوكاس
كومنينوس Isaac Ducas Comnenus» قد وصل حاملًا وثائقَ تفيد تعيينه حاكمًا على
الجزيرة. فيما بعدُ، اكتُشِف أن هذه الوثائق كانت مزيفة، ولكن ليس قبل
أن يستوليَ إيزاك على كل الحصون الرئيسية. بعد ذلك أعلن نفسه حاكمًا
مستقلًّا واتخذ لقب إمبراطور، ولكي يقويَ وضْعه ضد الإمبراطور الشرعي
في القسطنطينية عقد اتفاقًا مع صلاح الدين. في مثل تلك الظروف، لن يكون
من الوارد أن يقدِّم مساعدة، أو حتى مأوًى، للأسطول الصليبي، أما
الناجون من الغرق فقد تم تجريدهم من كلِّ ما معهم وزُج بهم في السجون.
عندما علم بوصول سيدتين من عِلية القوم، دعاهما إلى اليابسة ولكن جوانا
— وكانت قد سمِعت بمن وضعهم في السجون — لم تكن لتثق به قيد أنملة، ثم
تأكدت شكوكها عن رفض طلب السفينة تزويدها بالماء، وبدأ في حشد قواته
على امتداد الشاطئ.
وصلت الأخبار إلى ريتشارد الذي أبحر على عجلٍ إلى ليماسول وأعطى
أوامره بالهجوم الفوري. كان إيزاك قد فعل كلَّ ما في استطاعته لتحصين
الشاطئ، ولكن رجاله لم يكونوا ندًّا لرماة السهام الإنجليز، وسرعان ما
لاذوا بالفرار. بحلول المساء كانت المدينة قد أصبحت في يد ريتشارد، وفي
نفس الليلة تم تطويق معسكر إيزاك. هو نفسه تمكَّن من الهرب ولكنه ترك
خلفه كلَّ شيء: الأسلحة، الخيول، الثروة … وأخيرًا وليس آخرًا رايته
الإمبراطورية التي أهداها ريتشارد فيما بعد لكنيسة «بوري سان أدموندز
Bury St Edmunds». كان بذلك قد
أعطى الملك «ذريعة
للحرب
casus
belli»، بمعنى الكلمة، ولم يكن ريتشارد ممن يضيِّعون
فرصةً تسنح له. الآن … قرَّر أن تكون قبرص كاملة له. كانت هناك خطوة
شكلية واحدة لا بد من اتخاذها؛ يوم الأحد في كنيسة سان جورج في القلعة،
تزوَّج هو وبرنجاريا على يدِ أسقف «إفروتس
Evreux» الذي ذهب من فوره ليُتِمَّ حفل تتويج
العروس.
١٤ بعد ذلك راح يستعد للحرب.
لم يستغرق غزو قبرص وقتًا طويلًا. كان «جاي لوزينان»، الملك الاسمي
لأورشليم، الذي كان الآن مجردًا من مملكته، قد لحِق ﺑ «ريتشارد». عهد
ريتشارد ﻟ «جاي» بجزء من جيشه مع تعليمات بمطاردة إيزاك وأسره، أما
باقي الجيش تحت قيادته، فكان عليه أن يبحر مطوفًا حول الجزيرة — كل نصف
منه في اتجاه — للاستيلاء على المدن والقلاع الساحلية وما يقابلونه من
سفن في طريقهم. عاد ريتشارد ليجد أن «جاي» قد فشل — وكان ذلك متوقعًا —
في أن يجد إيزاك، الذي كان قد لجأ إلى إحدى القلاع الجبلية المنيعة
العديدة على الساحل الشمالي. كانت خطته أن يبقى هناك إلى أن يغادر
الصليبيون الجزيرة، وكان يمكن أن تنجح الخطة لو لم تسقط قلعة
«كيرينيا Kyrenia» — التي كان قد ترك
فيها زوجه وابنته الصغيرة في أيدي رجال جاي. بعد ذلك فقدَ إيزاك الأمل
ووافق على أن يسلِّم نفسه، مشترطًا فقط ألا يوضع في الحديد. وعدَه
ريتشارد — عن طيب خاطر — بذلك وصنعوا له أصفادًا خاصة من الفضة. بحلول
الأول من يونيو، كان ملك إنجلترا، كذلك، قد أصبح سيد قبرص. تم تعيين
حاكمين لإدارة الجزيرة باسمه من الإنجليز، وصدرت الأوامر لكل القبارصة
من الرجال بحلاقةِ لحاهم دليلًا على الولاء للعهد الجديد.
في الخامس من يونيو، أبحر الملك من فاماجوستا مصطحبًا معه إيزاك
كومنينوس ليودعه سجينًا في قلعة «مارجات Margat» (قلعة المرقاب الحالية في سوريا) الأسوأ والأكثر
كآبةً وظلامًا من بين كل قلاع الصليبيين، وهي القلعة التي كان فرسان
سان جون قد استولوا عليها قبل خمس سنوات. بعد ذلك واصل تقدُّمه جنوبًا
على امتداد الساحل إلى عكا ليحالفه الحظ في الطريق فيقابل ويحطِّم
سفينة للمسلمين كانت ترفع العلم الفرنسي وتحاول اختراق حصار الفرنجة.
(وبحسب شائعةٍ انتشرت على نطاق واسع بين الفرنجة، وجد أن السفينة كانت
تحمل شحنةً من مائتي أفعى سامة كان من المقرَّر إطلاقها في المعسكر
المسيحي). عندما وصل هو وأسطوله كانوا محلَّ ترحيب كبير، إلا أن
ريتشارد وجد نفسه فجأةً متورطًا في أزمةٍ دبلوماسية، كانت تهدِّد ما
تبقَّى من التحالف المسيحي.
بعد أحد عشر شهرًا من معركة حطين، كان صلاح الدين قد أطلق سراح «جاي»
بشرطِ ألا يشارك مرةً أخرى في حرب ضده. وافق «جاي»، ولكن الكل كان يعرف
أن الوعود التي تُعطَى لغير المؤمنين بالنصرانية كان يمكن تجاهلها بكل
سهولة — وبخاصة بعد أن ظهر أنه كان لديه ما هو أكثر من الأماكن المقدسة
لكي يحارب من أجله؛ كان عرشه هو شخصيًّا في خطر. أثناء سَجنه كان قد
ظهر قائد جديد يُدعى «كونراد
المونتفراتي Conrad of Monteferrat»، الذي كان قد دافع عن صور ببسالة ضد هجوم
للمسلمين، وكان الآن يسيطر على المدينة بالرغم من أنها كانت جزءًا لا
يتجزأ من مملكة أورشليم. جاي، بعد أن حُرم من صور، كان يريد أن يُظهِر
شجاعته، ولأنه كان متلهفًا على مدينةٍ يحكم منها، تقدَّم مع مجموعة
صغيرة من الجنود إلى عكا حيث ضرب حصارًا حولها. لم يكن، كما كان
معروفًا عنه بشكل جماعي تقريبًا، شديدَ الذكاء، ولكن ما قام به كان
عملًا أقرب إلى الخبل أو الجنون. كانت عكا أكبرَ مدن المملكة، أكبرَ
حتى من أورشليم، ولكن جيش «جاي» كان صغيرًا لدرجة الرثاء، ولم يكن هناك
شيء يمكن أن يمنع صلاح الدين أو يوقفه عن أن يأتيَ بقوة إنقاذ ويقوم
بتطويقه بدوره، وهو ما قام به بالفعل. إلا أن «جاي» استطاع أن يحافظ
على وضعه حتى وصل ريتشارد قلب الأسد في مطلع صيف ١١٩١م.
في الثاني عشر من يوليو من العام نفسه، استسلمت الحامية الإسلامية في
عكا، واستولى الصليبيون على المدينة. بعد ستة أسابيع أعطى ريتشارد
أوامره بالقضاء على كل المسلمين الأسرى لديه — ٢٧٠٠ شخص بمن فيهم
زوجاتهم وأطفالهم — كان من المفترض أن تكون مشكلات «جاي» قد انتهت لولا
كونراد المونتفراتي، الذي كان قد عيَّنه على عرش أورشليم. كان «جاي» قد
وصل إلى العرش عن طريق زوجته «سيبيللا Sibylla»، ولكنَّ سيبيللا وابنتيها الصغيرتين كن قد متن
في وباء خريف ١١٩٠م؛ فهل يا تُرى كان ما زال عند زوجها حقٌّ يطالب به؟
أيًّا كان الوضع القانوني فإن معظم بارونات الشرق اللاتيني الذين كانوا
ما زالوا على قيد الحياة، كانوا يرونها فرصةً مواتية تمامًا للتخلص من
حاكم ضعيف لا يمكن الاعتماد عليه. كان كونراد هو مرشَّحهم للعرش. لم
يكن صاحب حقٍّ قانوني يُعتَد به، ولكن كان هناك حل واحد بسيط لهذه
المشكلة؛ أن يتزوج الأميرة «إيزابيللا Isabella» ابنةَ الملك «أمالريك Amalric». ربما كانت هناك عقبة ثانوية، وهي أنها كانت
متزوجة بالفعل من «همفري Humphery»
لورد «تورون Toron»، ولكن همفري رغم
أنه كان مثقفًا كبيرًا وعالمًا في الدراسات العربية، كان شاذًّا
جنسيًّا، وكان الجميع يعرفون ذلك. وافق بكل ارتياح ودون تردُّد على
الطلاق، وفي الرابع والعشرين من نوفمبر ١١٩٠م أُعلن زواج كونراد
وإيزابيللا.
إلا أن الزواج الملكي ليس تتويجًا على أية حال، استمرت الخصومة بين
جاي ولوزينان وكونراد المونتفراتي لمدة ثمانية عشر شهرًا أخرى، وكان
يمكن أن تستمر أطول من ذلك لولا أن الملك ريتشارد — الذي كانت قوَّته
ومكانته في الأراضي المقدسة أكبرَ بكثير من قوَّتهما ومكانتهما — جاءته
أخبارٌ من إنجلترا أقنعته بالعودة فورًا، إن كان له أن ينقذ تاجه. قبل
رحيله؛ عقد مجلسًا حضره كلُّ الفرسان والبارونات في الشرق اللاتيني
وأبلغهم بضرورة حسم موضوع الملكية مرةً وإلى الأبد. مَن الذي يريدون أن
يحكمهم؛ جاي أو كونراد؟ اختاروا كونراد بالإجماع، أما جاي فأُرسل إلى
قبرص بأوامرَ من ريتشارد؛ حيث سمح له — على سبيل الترضية — بأن يحكم
الجزيرة كما يريد. اتخذ لقب «ملك»، وأسَّس أسرةً كان أن حكمت قبرص ما
يقرب من ثلاثمائة عام.
•••
في العاشر من يونيو ١١٩٠م، وبعد رحلة طويلة مضنية عبر جبال طوروس
جنوبي الأناضول، قاد فردريك بربروسا قواته نحو الهضبة الساحلية
المنبسطة. كانت الحرارة شديدة، ولا بد أن نهر «كاليكادنوس Calycadnus» (يُعرف الآن بنهر جوكسو
Göksu) الذي كان يمرُّ ﺑ «سيلوكيا Seleucia» (سيليفكي الآن) حتى البحر، لا
بد أنه كان يبدو جميلًا مغريًا بالتوقف عنده. فردريك الذي كان يركب
حصانه منفردًا متقدمًا جيشه بمسافة قصيرة، مهمزًا حصانه نحو البحر …
ولم يرَه أحدٌ بعد ذلك. سواء أكان قد نزل من على الحصان ليشرب وزلَّت
قدمه وسحبه التيار، سواء أكان حصانه قد انزلق وأطاحه، سواء أكانت صدمة
سقوطه في ماء الجبل الثلجي أكبر مما يتحمله جسده العجوز — كان في
السبعين من العمر — لن يعرف أحد. أنقذوه ولكن متأخرًا جدًّا، وعندما
وصل معظم أعوانه إلى النهر كان إمبراطورهم يرقد ميتًا على
الشاطئ.
على الفور تقريبًا، بدأ عِقد جيشه ينفرط، عاد كثير من الأمراء
الألمان الصغار إلى أوروبا، آخرون أخذوا السفن إلى صور التي كانت
الميناء الرئيسي الوحيد الذي ما زال في أيدي المسيحيين في الشرق
اللاتيني، واصلت العوامة التي كانت تحمل جثة الإمبراطور محفوظة — دون
نجاح كافٍ — في الخل، سيرَها بكآبة، رغم أنها فقدت المزيدَ من رجالها
في كمين عند دخول سوريا. لم يكن لدى الناجين الذين وصلوا أخيرًا إلى
أنطاكية مرهقين، لم يكن لديهم أيُّ قدرة على القتال. في ذلك الوقت
أيضًا، حدث لِما كان قد تبقَّى من فردريك، ما حدث لِما كان قد تبقَّى
من جيشه … تم دفن بقاياه المتحللة على عجلٍ في الكاتدرائية، لتبقى
ثمانية وسبعين عامًا — إلى أن جاء جيش مملوكي بقيادة السلطان
بيبرس
١٥ ليشعل النار في المبنى كله … مع معظم المدينة الذي استحال
رمادًا.
كان من حسن حظ الشرق اللاتيني أن يصل ريتشارد وفيليبي أوجسطس
بجيوشهما سليمة، وكان بفضلهما كذلك أن كانت الحملة الثالثة أقلَّ خزيًا
ومهانة من الثانية نوعًا ما، رغم أنه من الصعب أن نعتبرها قد نجحت؛ حيث
فشِلت في استعادة أورشليم. أصبحت عكا عاصمة المملكة، ولكن هذه العاصمة
التي أصبحت مختصرة في الشريط الساحلي القصير بين صور ويافا، كانت ظلًّا
شاحبًا لِما كانت عليه من قبل فلسطين الصليبيين. ستظل عكا صامدةً على
مدى قرن آخر، وعندما سقطت في النهاية أمام بيبرس في ١٢٩١م، كانت
المفاجأة الوحيدة أنها بقيت تلك المدة الطويلة.
•••
في تاريخ العالم المسيحي كله، لا يوجد فصلٌ أكثر تضليلًا من ذلك الذي
يروي قصة الحملات الصليبية. الأولى، رغم نجاحها عسكريًّا، كانت تتسم
بدرجةٍ من البربرية والوحشية فاقت كل الحدود حتى بمعايير العصور
الوسطى؛ الثانية كانت فشلًا ذريعًا، ويعود ذلك، إلى حدٍّ كبير، إلى
حماقة قادتها البالغة. الثالثة، وبالرغم من أنها كانت أقلَّ خزيًا من
سابقتها، كانت عملًا أخرقَ؛ حيث فشِلت هي الأخرى في تحقيق أهدافها. ليس
هناك أيُّ أثرٍ تاريخي لأيٍّ منها، بصرف النظر عن الدماء التي سُفكت
فيها عبثًا. ربما بنهاية القرن الثاني عشر، والمؤكَّد أنه بنهاية
الثالث عشر كان الشرق الأدنى الإسلامي يختلف قليلًا عما كان عليه عندما
أطلق البابا أوربان صيحتَه المدوية في مجمع كليرمونت لجمع الشمل من أجل
عملٍ مشترك. كان لا بد من أن تكون الحملة الرابعة مختلفة عن كلِّ ما
سبق. لقد حطَّم المشاركون فيها المعقل المسيحي الوحيد القوي، الذي كان
ينبغي أن يقدِّموا حياتهم ليبقى قائمًا، ألا وهو دفاع أوروبا القوي
الواحد ضد المد الإسلامي. بهذا الفعل، فإنهم غيَّروا مسار
التاريخ.
جاءت نهاية القرن الثاني عشر لتجد أوروبا في حالة فوضى. في الثامن من
أبريل ١١٩٥م، سقط الإمبراطور البيزنطي إيزاك الثاني أنجيلوس فريسةً
لانقلابٍ دبَّره شقيقه «ألكسيوس Alexius»، الذي خلعه وأعماه، وأعلن نفسه إمبراطورًا
مكانه. كان إيزاك كارثة بالفعل … والحقيقة أن ألكسيوس كان أسوأ. في
الثامن والعشرين من سبتمبر، وبينما كان يجهِّز لحملة جديدة، مات
الإمبراطور الغربي «هنري السادس Henry
VI» بالحمَّى في مسيني. كانت ألمانيا ممزقة بسبب الحرب
الأهلية على الخلافة الإمبراطورية، وبالمثل كانت إنجلترا وفرنسا
مشغولتين — وإن بدرجةٍ أقل عنفًا — بمشكلات الوراثة بعد موت ريتشارد
قلب الأسد في ١١٩٩م. كان «نورمان
سيسلي Norman
Cicily» قد رحل إلى الأبد، ومن بين كل الشخصيات البارزة في
العالم المسيحي، كان هناك شخص واحد فقط هو الذي يسيطر بحزم: البابا
«إنوسنت الثالث Innocent III».
تحت إنوسنت، وصلت البابوية ذروةَ قوَّتها ومجدها في العصور الوسطى.
اعتلى إنوسنت العرش البابوي في ١١٩٨م، وخلال الأعوام التسعة عشر في
منصبه، رأس حملتين منفصلتين؛ إحداهما — إن كان لنا أن نلتزم الدقة في
التسلسل الزمني كانت الثانية — كانت ذات أهمية عالية قليلة نسبيًّا؛
حيث كانت مقصورة على جنوب غرب فرنسا. كان هدفها القضاء على المهرطقين
«الألبيجنسيين
Albigenses»
١٦ المعروفين ﺑ «الكاثاريين
Cathars»
١٧ الذين كانوا يجاهرون بالعقيدة المانوية
Manichaean١٨ التي ترى أن مبدأي الخير والشر المتعارضين في حال صراع
دائم لكي تكون لأحدهما الغلبة؛ فالعالم المادي شرير، وواجب الإنسان هو
تحرير روحه التي هي خيِّرة بطبيعتها، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا من
خلال حياة زهد وتقشُّف وتجنُّب للفساد ولكل زينة الحياة الدنيا كما
تقضي الكنيسة الكاثوليكية. لا شك أن هذه العقيدة كانت طعنةً في قلب
المسيحية الأرثوذكسية وكذلك المؤسسات السياسية والكنسية في العالم
المسيحي، وكان أن تحرَّك إنوسنت ضدها بقوة. في ١٢٠٩م أمر الرهبانَ
«السيسترسيين
Cistercians»
١٩ بأن يقوموا بحملةِ وعظ وتبشير استمرت على مدار القرن،
بالرغم من أن الكاثاريين لم يفيقوا من الاستيلاء على معقلهم في «مونت
سيجر
Montségur» عند سفح البرانس في
١٢٤٤م، وكانوا مضطرين للعمل سرًّا. عندما تم القضاء على هذه الهرطقة،
كان قد تم تخريب وسلب ونهب مناطق «بروفنس
Provence» و«اللانجيدوك
Languedoc» ومعظم الجنوب الغربي، وذُبح كثير من الأهالي
بدم بارد، كما تم تدمير حضارة التروبادور البروفنسية.
كانت الحملة الأخرى هي المعروفة لنا بالحملة الرابعة. لم يُقلِق
البابا عدم وجود رءوس متوَّجة لقيادتها على أي نحو؛ حيث كانت التجربة
السابقة قد بيَّنت أن الملوك والأمراء كانوا يثيرون خصومات قومية
ومشكلات لا حصر لها حول البروتوكول والأولويات وتصدُّر بعضهم البعض.
أما المشكلات اللوجستية فكانت أكثرَ خطرًا. قبل مغادرته فلسطين، كان
ريتشارد قلب الأسد قد أدلى برأي شخصي وهو أن مصر كانت النقطة الأضعف في
الشرق الإسلامي، وعليه فإن أي حملة مستقبلية لا بد أن تكون وجهتها
هناك. كان ذلك يعني أن الجيش الجديد سيكون عليه أن يسافر بحرًا، وسيكون
في حاجة إلى وسائل انتقال بكميةٍ لا يمكن الحصول عليها إلا من مصدرٍ
واحد؛ جمهورية فينيسيا … وهذا ما كان.
في الأسبوع الأول من الصوم الكبير
(
Lent) في سنة ١٢٠١م، وصلت إلى فينيسيا
مجموعة من ستة فرسان بقيادة «جيوفري دي
فيلهاردون
Jeoffrey
de Villehardouin» مارشال «شمبانيا
Champagne». تقدَّموا بطلبهم في لقاء خاص، وجاءهم الرد بعد
أسبوع. ستوفِّر الجمهورية وسائلَ انتقال لأربعة آلاف وخمسمائة فارس
بخيولهم، وتسعة آلاف من حَمَلة الدروع، وعشرين ألف جندي مشاة، مع طعام
يكفي تسعة أشهر. بالإضافة إلى ذلك ستقدِّم فينيسيا خمسين سفينة «قادس
Galley»،
٢٠ مجهَّزة تمامًا على نفقتها الخاصة … بشرط الحصول على نصف
الأراضي التي يتم غزوها. سيكون الثَّمن ٨٤٠٠٠ مارك
٢١ من الفضة.
نَقل هذا الردَّ إلى جيوفري وزملائه الدوج «إنريكو داندولو Enrico
Dandolo»، ذلك الرجل
الذي لا يوجد في تاريخ فينيسيا كله، مَن هو أكثر منه إثارةً للدهشة. لا
نعرف كم كان عمره بالتحديد عندما صعد في الأول من يناير ١١٩٣م إلى عرش
الدوقية. تقول القصة إنه كان في الخامسة والثمانين، وإنه كان أعمى
تمامًا، رغم أنه قد يبدو من الصعب تصديقُ ذلك، وخاصة عندما نقرأ عن
طاقته الهائلة — بل بطولته — بعد عقد من الزمان على أسوار القسطنطينية.
ولكن حتى لو أنه كان في منتصف السبعينيات من العمر، فلا بد أنه وقت
الحملة الرابعة كان في العقد التاسع. بعنايةٍ فائقة فسَّر تفسيرًا
محرَّفًا حقيقةَ أن سفراءه في تلك اللحظة كانوا في القاهرة يبحثون
اتفاقًا تجاريًّا مفيدًا، كان جزء منه تعهَّدهم أنهم لن يشاركوا في أي
هجوم على الأراضي المصرية؛ كان الاتفاق على ضرورة أن يلتقي الصليبيون
في فينيسيا في عيد سان جون، ٢٤ يونيو ١٢٠٢م؛ حيث سيكون الأسطول جاهزًا
من أجلهم.
في ذلك اليوم اجتمع العدد في الليدو برئاسة قائدهم الجديد الماركيز
«بونيفاس
المونتفراتي Boniface of Monteferrat»، وكان عددهم أقلَّ من ثلث العدد المتوقَّع.
بعضهم كانت حماسته للقضية قد تبخَّرت، وآخرون رضخوا — بلا شك — لضغوط
أسرية، إلا أن البعض كان قد سمِع عن الوجهة الحقيقية للحملة، ويرون
أورشليم الهدفَ الشرعي الوحيد؛ ولذا رفضوا أن يضيِّعوا الوقت في أي
مكان آخر. بهذا العدد الذي انخفض إلى حدٍّ كبير، لم يكن الصليبيون
قادرين على أن يسدِّدوا للفينيسيين المبلغ الذي وعدوهم به. فعلوا كلَّ
ما في وُسعهم ولكن بقي هناك عجز نحو ٣٤٠٠٠ مارك. وعندما تأكَّد داندولو
أنه لن يتمكن من الحصول على أكثر من ذلك تقدَّم بعرضٍ جديد. كانت
«زارا Zara» (زادار
Zadar الحديثة على ساحل دالماشيا) قد
سقطت قبل وقت قريب في يد ملك هنغاريا، فإذا ساعد الصليبيون على
استعادتها يمكن تأجيل تسوية الدَّين.
وهكذا في الثامن من نوفمبر ١٢٠٢م، أبحر جيش الحملة الرابعة من
فينيسيا — ٤٨٠ سفينة تتقدَّمها سفينةُ الدوج نفسه التي كانت كما يقول
الصليبي الفرنسي المؤرِّخ «روبير
الكلاري Rober of Clary»: «مصبوغة باللون القرمزي، مع مظلة من الحرير
قرمزية اللون كذلك مفرودة عليها، بينما كانت الصناجات تعزف وأربعة
أبواق تصدح في مقدم السفينة.» بعد أسبوع، كان قد تم الاستيلاء على
المدينة ونهبها. اندلع الصراع على الفور بين الفرنجة والفرنسيين على
تقسيم الغنائم، وعندما هدأت الأمور استقرت كلُّ جماعة في ركن من
المدينة في موسم الشتاء. بعد فترة قصيرة، وصلت أخبارُ ما حدث إلى
البابا الذي استشاط غضبًا فعاقب الحملةَ كلها بحرمانهم كنسيًّا. كان
القادم أسوأ. في أوائل العام الجديد وصل مبعوث برسالة إلى بونيفاس من
«فيليب السوابي Philip of Swabia»
الابنِ الأصغر ﻟ «فردريك بربروسا». كان فيليب قد تزوَّج من ابنة
الإمبراطور التعِس إيزاك، الذي كان ألكسيوس الثالث قد خلعه. ابن إيزاك
الصغير (المربِك أن اسمه أيضًا كان ألكسيوس) كان قد هرب من السِّجن؛
حيث كان محتجزًا هو وأبوه، ولجأ إلى فيليب. كان العرْض الذي يقدِّمه
فيليب شديد البساطة؛ إذا وافق الصليبيون على اصطحاب ألكسيوس الصغير إلى
القسطنطينية ووضعوه هناك على العرش مكان عمِّه مغتصِب العرش، فإن
ألكسيوس من جانبه سيقوم بتمويل غزو مصر، ويقدِّم عِلاوة على ذلك عشرةَ
آلاف جندي، ويتكفَّل بنفقات خمسمائة فارس بعد ذلك في الأراضي المقدسة.
كما أنه سوف يقوم بتسليم كنيسة القسطنطينية لسلطة روما.
كانت الفكرة بالنسبة لكلٍّ من بونيفاس وداندولو تحتوي على الكثير
الذي يجعلها جديرةً بالقبول. كان معظم أتباعهما كذلك سعداء بالخطة التي
كانت تَعِد بتقوية وإثراء الحملة — وتُمكِّنها بالمرة من تسديد دَين
فينيسيا — وتستعيد كذلك وحدة العالم المسيحي. وهكذا، كان في يوم ٢٤
يونيو ١٢٠٣م، بعد عام من اليوم التالي للقاء فينيسيا، أن أقلع أسطول
الصليبيين من ميناء القسطنطينية. جيوفري دو فيلهارودين الذي كتب وصفًا
ممتعًا للقصة يقول:
لك أن تتخيَّل كيف كانوا يحدِّقون، أولئك الذين لم يكونوا قد
رأوا القسطنطينية من قبل؛ عندما شاهدوا تلك الأسوار العالية
والأبراج المحيطة بها، والقصور الرائعة والكنائس الكبيرة — كانت
كثيرة ولولا أنهم كانوا يرونها بعيونهم لما صدَّقوا ذلك — وطول
وعرض المدينة التي لا بد من أن تكون سيدة المدن، التي لم يَدُر
بخَلَد أيٍّ منهم أنه كان يوجد مكان على الأرض بمثل هذا الثراء
والقوة. لاحظ أنه لم يكن هناك أيُّ إنسان أيًّا كانت جسارته لم
يشعر برجفة أمام المشهد، ولم يكن ذلك بالأمر المستغرَب؛ إذ لم يوجد
مثل هذا الإنجاز منذ بدء الخليقة.
في البداية لم يواجه الصليبيون مقاومةً تُذكر، وفي الخامس من يوليو
رست سفنهم بالقرب من «جالاتا Galata»
على الجانب الشمالي الشرقي من القرن الذهبي. ولأنها كانت مستوطنة
تجارية وأغلب سكانها من التجار الأجانب لم يكن للمدينة أسوارٌ، ولم
تَزِد دفاعاتها عن برج دائري واحد. كان لذلك البرج أهمية كبيرة؛ إذ كان
يوجد بداخله المرفاع الضخم الذي يُستخدم لرفع وخفض السلسلة الحديدية
الهائلة التي تُستخدم في الظروف الطارئة لإغلاق مدخل القرن. كانت
الحامية البيزنطية قد أقامت دفاعاتٍ قوية، ولكن بعد أربع وعشرين ساعة
تمكَّن البحَّارة الفينيسيون من تحرير المرفاع فسقطت السلسلة الحديدية
في الماء محدِثة صوتًا أشبه بالرعد، ثم اندفع الأسطول ودمَّر السفن
البيزنطية القليلة التي كانت في الميناء. كان الانتصار البحري
ساحقًا.
لكن القسطنطينية لم تكن قد سقطت بعد. لم تكن الأسوار الممتدة بطول
شاطئ القرن الذهبي بمثل قوة استحكامات الجانب الغربي، إلا أن الدفاع
عنها كان مستميتًا. وجَّه الصليبيون هجومهم على أضعف نقطة حيث التقاء
الدفاعين في أقصى الركن الشمالي الغربي من المدينة بالقرب من قصر
«بلاشيرنا Blacherna» الإمبراطوري.
أولُ محاولة للفرنجة للنزول إلى اليابسة تم صدها. كان الفينيسيون هم
الذين حدَّدوا اليوم، وربما إنريكو شخصيًّا. قصة شجاعة يرويها
جيوفري:
… وهنا كان عملٌ جسور بدرجةٍ غير عادية؛ حيث كان يقف دوق
فينيسيا، الذي كان رجلًا مسنًّا وأعمى، بكامل سلاحه في مقدمة
السفينة، وأمامه راية سان مارك، كان يصرخ في رجاله لكي يدفعوا
السفينة إلى الشاطئ إن كانوا حريصين على حياتهم. وهكذا فعلوا
ودفعوها، ثم وثبوا وهو معهم ورشقوا الراية أمامه في الأرض. وعندما
رأى الفينيسيون الآخرون راية سان مارك وسفينة الدوج ترسو على
الشاطئ قبل سفينتهم، شعروا بالخجل وتبعوه إلى اليابسة.
قبل مرور وقت طويل انهارت المقاومة البيزنطية؛ تدفَّق الصليبيون من
ثغرات الأسوار إلى المدينة نفسها ليضرموا النارَ في البيوت الخشبية إلى
أن أصبح حي بلاشيرنا كله مشتعلًا. في ذلك المساء فرَّ ألكسيوس الثالث
تاركًا زوجته وكلَّ أطفاله — عدا ابنة مفضَّلة — يواجهون المستقبلَ
المجهول وما يحمله لهم. لم يكن بالإمكان أن تبقى بيزنطة طويلًا بلا
إمبراطور في تلك الأزمة الأخطر في تاريخها. تم إحضار أنجيلوس
Angelus من سِجنه على عجلٍ وإعادته إلى
العرش. إلا أن ذلك لم يكن نهايةَ الأمر بأي حال. بفضل خدمات أخيه كان
حتى أكثر عماءً من الدوج العجوز، وكان قد أثبت أنه غير كفء، وبذلك بقيت
التعهدات التي كان قد قدَّمها ابنه ألكسيوس ﻟ «بونيفاس وداندالو».
عندما جعل إيزاك من ألكسيوس إمبراطورًا مشاركًا له، باسم ألكسيوس
الرابع، آنذاك فقط اعترف به الصليبيون رسميًّا. بعد ذلك انسحبوا إلى
جالاتا ينتظرون مكافأتهم الموعودة.
إلا أن هذه المكافآت لم تكن لتأتيَ قريبًا. كانت الخزانة
الإمبراطورية خاوية، وبالفعل كانت سُمعة الإكليروس قد شُوهت عندما بدأ
ألكسيوس يضع يده على طبق الكنيسة ويبدِّده، ثم إنهم أصبحوا أكثرَ غضبًا
عندما سمِعوا بخطته لجعلهم تابعين لروما. زاد التوتر بسبب الوجود
المستمر للفرنجة الذين لم تكن لديهم النيةُ للمغادرة قبل أن يفيَ
الإمبراطور بتعهداته. ذات ليلة انقضَّت جماعةٌ منهم على مسجدٍ صغير في
الحي الغربي خلف كنيسة سانت إيرين ونهبوه وأحرقوه تمامًا. انتشرت
النار، وفي اليومين التاليين كانت القسطنطينية كلها وسط أكبر وأسوأ
حريق منذ أيام جستنيان قبل سبعة قرون تقريبًا.
المثير للسخرية أنه لا اليونانيون ولا الفرنجة كانوا يريدونها.
اليونانيون كانوا يريدون فقط أن يتخلصوا من أولئك السفَّاحين الهمج مرة
وإلى الأبد، والفرنجة لم يكونوا قد نسُوا سببَ تركهم ديارهم، وكان
رفضهم لبقائهم الاضطراري يتزايد بين مَن كانوا يعتبرونهم شعبًا عقيمًا
ومهرطقًا، في الوقت الذي كان ينبغي أن يكونوا فيه في قتال مع غير
المؤمنين. حتى إذا دفعت الأموال الموعودة كلها، فلن يستفيدوا منها،
كلُّ ما في الأمر أنها كانت ستمكِّنهم من تسوية حساباتهم مع
الفينيسيين. كان مفتاح المسألة برُمَّتها — باختصار — كان مع فينيسيا،
أو إن شئنا الدقةَ كان مع إنريكو داندولو. كانت الفرصة متاحةً أمامه في
أي لحظة لكي يعطي الأمر لأسطوله بالإبحار. لو أنه فعل ذلك لاستراح
الصليبيون ولفرح البيزنطيون. أما لماذا لم يفعل، فلم يكن لذلك علاقة
بالدِّين للفرنجة. كان ذهن داندولو مشغولًا بأشياءَ أكبر؛ إسقاط
الإمبراطورية البيزنطية، ووضع شخصية فينيسية أقربَ إلى الدُّمية على
عرش القسطنطينية.
وهكذا أخذت نصيحة داندولو لحلفائه الفرنجة لهجةً مختلفة. لا شيء أكثر
من ذلك، كما ألمح لهم، كان يمكن توقُّعه من الإمبراطورين المشاركين
اللذين لم يكن فيهما أيُّ أمل. أما إذا كان الصليبيون يريدون الحصول
على مستحقاتهم فلا بد من الاستيلاء على القسطنطينية بالقوة. بمجرد
وجودهم داخل المدينة وأحد قادتهم على العرش، كانوا يستطيعون أن يدفعوا
لفينيسيا الدَّين، وربما دون صعوبة، وسوف يتبقى لديهم ما هو أكثر من
ذلك لتمويل الحملة. كانت تلك فرصتهم، وكان لا بد من انتهازها؛ إذ ربما
لا تتكرَّر. كان ذلك جدلًا خلافيًّا زادت حدَّته عندما أزيح ألكسيوس
الرابع في الخامس والعشرين من يناير ١٢٠٤م وقُتل بعدها بقليل، ثم تبِعه
أبوه الطاعن في السن بسرعة مريبة. قاتِله، كان نبيلًا يُدعى «ألكسيوس
دوكاس Alexius Ducas» (المكنَّى
ﺑ «ميرزوفلوس Murzuphlus» بسبب حاجبيه
اللذين كانا أسودين مشوشين موصولين في المنتصف) تم تتويجه في كنيسة
سانت صوفيا باسم «ألكسيوس الخامس Alexius
V»، وعلى الفور بدأت تظهر عليه علامات القيادة التي
كان الإمبراطور يفتقدها منذ فترة طويلة. كانت كتائب من العمال تعمل
ليلَ نهار في تقوية الدفاعات وزيادة ارتفاعها. أيُّ محاولة كبيرة
للاعتداء على المدينة — إن كان لا بد من أن يحدث ذلك — كان لا بد من أن
تتم فورًا؛ فالإمبراطور الجديد لم يغتصب العرش فحسب، بل إنه كشف عن أنه
كان قاتلًا، وكان الصليبيون أقوى معنويًّا مما لو أنهم كانوا قد تحركوا
ضد سلفه الذي كان — على الأقل — شرعيًّا، إلى جانب أنه كان حليفهم
السابق.
بدأ الهجوم صباح يوم الجمعة ٩ أبريل ١٢٠٤م. قاد ميرزوفلوس مقاومةً
مستميتة، ولكن بلا طائل. فرَّ بدوره. وفي اليوم الثاني عشر من الشهر
اقتحم الفرنجة والفينيسيون الأسوارَ ودخلوا المدينة. كانت مذبحة رهيبة.
حتى فيلهاردون أصابه الرعب. لم يَضِع انتظارُ الجيش الطويل أمام أغنى
عاصمة في العالم سدًى، وبمجرد أن سمح لهم بالأيام الثلاثة لجمع الغنائم
انقضُّوا عليها كالجراد. لم تشهد أوروبا منذ غزوات البرابرة أعمالَ
تخريب ووحشية كتلك. لم يحدُث في التاريخ أن تم تدمير هذا الكم من
الجمال والإبداع الفني في مثل ذلك الوقت القصير. كتب «نيكيتاس كونياتس Nicetas
Choniates» وهو شاهد
عِيان يوناني يقول:
حطَّموا الصورَ المقدَّسة وألقَوا برفات الشهداء في أماكنَ أخجل
من ذكرها. بعثروا جسد ودم المخلِّص في كل مكان … أما عن تدنيسهم
الكنيسةَ الكبيرة فلا يمكن ذِكر ذلك دون الشعور بالرعب. دمَّروا
المذبح العالي، وكان عملًا فنيًّا بهرَ العالم ووزَّعوا قِطَعه
بينهم، أدخلوا الخيلَ والبغال الكنيسةَ ليحملوا عليها الأواني
المقدَّسة وصفائح الذهب والفضة التي خلعوها من العرش والمنبر،
والأبواب والأثاث وكل ما وجدوه، وعندما كانت بعض هذه الحيوانات
تعثر وتقع كانوا يطعنونها بسيوفهم لتنهضَ ملوِّثةً الكنيسة بروثها
ودمها. وضعوا بغيًّا متوَّجة على كرسي البطريرك لتوجيه الإهانات
ليسوع المسيح، كانت تتغنى بكلمات قبيحة وترقص بفجور وخلاعة في
الحرم المقدَّس … لم تكن هناك رحمة حتى بالعذارى المنذورات للرب …
في الشوارع والبيوت والكنائس لم تكن تسمع سوى أصوات البكاء
والنحيب.
هؤلاء الرجال، كما يضيف، كانوا يحملون الصليب على أكتافهم، الصليب
الذي أقسموا عليه أن ينقلوه عبر الأراضي المسيحية دون سفك للدماء، وأن
يحملوا السلاح ضد الوثنيين فقط، وأن يمتنعوا عن كل مُتَع الجسد إلى أن
يكملوا مهمَّتهم المقدَّسة.
بعد ثلاثة أيام من الرعب عاد الهدوء وهيأ الصليبيون أنفسهم لمهمتهم
التالية؛ انتخاب إمبراطور جديد. كان يمكن أن يكون بونيفاس المونتفراتي
المرشَّح المحتَمل أو الواضح، إلا أن ارتباطه ﺑ «ألكسيوس الرابع»
المخلوع لم يكن بعيدًا، وكان يجد نفسه الآن سيئ السُّمعة بدرجةٍ ما.
بالإضافة إلى ذلك فقد كانت له صلاتٌ سرية بحكَّام جنوة، وكان داندولو
يعرف ذلك. لم يكن الدوج العجوز يجد صعوبةً في توجيه اللجنة الانتخابية
— كان نصف عددها من الفينيسيين — نحو الكونت بلدوين أميرِ الفلاندرز
وهاينولت الذي تم تتويجه في حينه في كنيسة سانت صوفيا. ولكن المناطق
التي كان عليه أن يحكمها الآن كان لا بد من تقليصها إلى حدٍّ كبير.
وبالفعل، كان الفينيسيون والفرنجة قد اتفقوا على أنه ينبغي أن يحتفظ
فقط بربع المدينة والإمبراطورية، أما الثلاثة أرباع الأخرى فيتم
تقسيمها بالتساوي بين فينيسيا والفرسان الصليبيين. ومن ثَم استولى
داندولو للجمهورية على المناطق المحيطة بسانت صوفيا كلها حتى القرن
الذهبي، وللباقين أخذ كل تلك المناطق التي كانت تَعِد بتقوية سيادة
فينيسيا على المتوسط وتعطيها سلسلةً كاملة من المستوطنات والموانئ
التجارية، من البحيرة الضحلة إلى البحر الأسود. كانت تضم «راجوسا Raguse» (دوبروفنك
Dubrovnik الحالية)، و«دورازو Durazzo» (ديورس
Dürres الحالية)، الساحل الغربي من
البر الرئيسي اليوناني والجزر الأيونية Ionian
Islands، وكل جزر «البيلوبونيز Peloponnese»، وجزر «ناكسوس Naxos»، و«أندروز Andros»، ومدينتي «إيوبيا Euboea»، والموانئ الرئيسية على «هيلزبونت Hellespont»، ومرمرة: «جاليبولي Gallipoli»، و«رايدستوم Rhaedstom»، و«هرقلية Heraclea»، وساحل تراسي، ومدينة
«أدريانوبل Adrianople»، وأخيرًا —
بعد تفاوضٍ قصير مع بونيفاس — جزيرة كريت ذات الأهمية الكبيرة. مقابل
كل ذلك، أصبح الدوج في حِلٍّ من تبعية الإمبراطور. ستكون الموانئ
والجزر خاصة ﺑ «فينيسيا» تمامًا، أما بالنسبة للبر الرئيسي في اليونان،
أوضح داندولو أن فينيسيا كجمهورية تجارية لم يكن لها أي مصلحة في
احتلالِ ما هو أكثر من الموانئ الرئيسية.
هكذا يتضح بما لا يترك مجالًا للشك أن الفينيسيين كانوا المستفيدين
الحقيقيين من الحملة الرابعة، وأن نجاحهم كان يعود — كلية — إلى إنريكو
داندولو. برفضه التاجَ البيزنطي لنفسه، ضمن نجاح مرشحه؛ إذ إنه لو كان
قد قبِله لسبَّبَ مشكلاتٍ دستوريةً عصيةً على الحل في فينيسيا، ولربما
كان قد أدَّى ذلك إلى سقوط الجمهورية. وفي النهاية، بينما كان يتم
تشجيع الفرنجة على إخضاع الإمبراطورية للنظام الإقطاعي، وهي الخطوة
التي كان يعرف يقينًا أنها ستؤدي إلى تفككها وتشظيها، ويمكن أن تمنعها
من أن تكون قوية لتواجه توسُّع فينيسيا، احتفظ ﺑ «فينيسيا» خارجَ
الإطار الإقطاعي لتكون المناطق التابعة لها بموجب حق الغزو، وليست
منطقة نفوذ إمبراطوري. بالنسبة لشخصٍ أعمى كان يقترب من التسعين، كان
ذلك إنجازًا هائلًا.
إنريكو داندولو، الذي كان قد
لقَّب نفسه الآن ﺑ «لورد ربع ونصف ربع الإمبراطورية الرومانية»، كان
يستحق مدينته، ولكن في الإطار الأوسع للأحداث العالمية … كان كارثة.
الحملة الرابعة، إن كان لنا أن نصِفها هكذا، لأنها لم تدخل الأراضي
العربية قط، فاقت الحملات السابقة في الخيانة والرياء، وفي الوحشية
والجشع. كانت القسطنطينية في القرن الثاني عشر، أهمَّ عاصمة كبرى
ثقافيًّا وفنيًّا وفكريًّا، كانت مستودع التراث الكلاسيكي الأوروبي،
سواء الإغريقي أو الروماني. بنهبها، خسرت الحضارة الغربية أكثرَ بكثير
مما خسرته من جراء نهب روما في القرن الخامس، ولعلها أكبر خسارة في
التاريخ كله.
سياسيًّا كذلك، كان الضرر الذي وقع هائلًا. رغم أن حكم الفرنجة
للبوسفور دام أقلَّ من ستين عامًا، فإن الإمبراطورية البيزنطية لم
تَستعِد قوَّتها ولا أي جزء مهم من ممتلكاتها. تُركت منهارة
اقتصاديًّا، أراضيها ممزَّقة مقطَّعة الأوصال، ضعيفة لا حول لها ولا
قوة في مواجهة المد العثماني. هناك في التاريخ مفارقاتٌ أقلُّ سخرية من
حقيقة أن مصير أوروبا كان لا بد من أن يقرِّره رجالٌ كانوا يحاربون تحت
راية الصليب (نصف أوروبا المسيحية خضع لخمسة قرون تحت الحكم العثماني).
أولئك الرجال، كان الذي نقلهم وألهمهم وشجَّعهم ثم قادهم في النهاية هو
إنريكو داندولو باسم الجمهورية الفينيسية، وحيث إن فينيسيا هي التي
خرجت بالمزايا الرئيسية من المأساة، فلا بد من أن تتحمَّل هي ودوجها
العجوز الرائع، المسئوليةَ الرئيسية عن ذلك الخراب الكبير الذي جرُّوه
على العالم.
هوامش