الفصل الثامن
الشتاتان
-
معاهدة نيمفايوم: ١٢١٤م.
-
اليونان الفرنجية: ١٢٠٥م.
-
مكاسب فينيسية: ١٢٠٥م.
-
مايكل بلايولوجوس: ١٢٦٠م.
-
عودة اليونانيين: ١٢٦١م.
***
لم تكن الحملة الرابعة على وشْك تدمير القسطنطينية
فحسب، بل إنها هزَّت كذلك كلَّ شرق المتوسط بقوة. هذا الجيَشان القوي
كان له تأثير كبير على كلٍّ من اليونانيين واللاتين. كل نبلاء
البيزنطيين فرُّوا من المدينة — أو تركوها مكرهين — بدلًا من أن يرضخوا
لحكم الفرنجة واتجهوا صوب الممالك التي كانت الروح البيزنطية والإيمان
الأرثوذوكسي موجودة بها. إحدى هذه الدول، أو ما يسمَّى ﺑ «إمبراطورية التريبيزوند Empire
of Trebizond» —
وهي لا تهمنا كثيرًا هنا — كانت عبارة عن شريط ضيق على ساحل البحر
الأسود. الثانية كان اسمها «إمبراطورية إيبيروس Despotate
of Epirus» التي تأسَّست بسرعة بعد الغزو
اللاتيني بواسطة شخصٍ كان يُدعى «مايكل كومنينوس دوكاس Michael Comnenus Ducas»،
كان حفيدًا غيرَ شرعي لألكسيوس الأول كومنينوس. من عاصمته في
«آرتا Arta»، بسط مايكل سيطرتَه
بالتدريج على الساحل الشمالي الغربي من اليونان، وعلى جزء من
«تيسالي Thessaly». أما الدولة
الأخيرة التي تم تأسيسها — وهي الأكثر أهميةً من وجهة نظرنا — فكانت
إمبراطورية «نيقية Nicaea»، التي تم
الاعتراف ﺑ «تيودور
لاسكاريس Theodore Lascaris»، صهرِ ألكسيوس الثالث، إمبراطورًا عليها في
١٢٠٦م وتتويجه هناك بعد عامين. كانت تشغل معظم الجزء الشمالي الغربي من
الأناضول، الممتد من البحر الأسود إلى بحر إيجه. ناحية الشمال، كانت
تقع إمبراطورية القسطنطينية اللاتينية، وناحية الجنوب والشرق كانت
«سلطنة
السلاجقة The Seljuk Sultanate»، وبالرغم من أن نيقية (إزنك Iznik) كانت هي العاصمة الرسمية، فإن «جون
الثالث John III» خليفةَ تيودور جعل
إقامته الرئيسية في «نيمفايوم Nymphaeum» (الآن كمال باشا على بُعد أميال قليلة من
أزمير)، وعلى مدار معظم سنوات نفيه من القسطنطينية التي استمرت سبعة
وخمسين عامًا، كانت إمبراطورية نيقية تحكم من هنا بالفعل كدولة بحر
متوسطية.
حتى ذلك كان يمكن أن يكون مجرَّد هامش في قصتنا، لولا القيصر
«البلغاري كالوجان Tsar Kalojan»،
الذي كان يونانيو تراقيا قد وعدوه بالتاج الإمبراطوري إذا طرد اللاتين
من القسطنطينية. في الرابع عشر من أبريل ١٢٠٥م، كان كالوجان قد دمَّر
جيش الفرنجة بالفعل. فشل في الاستيلاء على المدينة لكنه نجح في أسرِ
الإمبراطور بلدوين نفسه، الذي لم يستعِد حريته قط إلى أن مات بعد ذلك.
بعد ستة أسابيع فقط، تبِعه إلى العالم الآخر في الأول من يونيو، الدوج
العجوز داندولو، الذي كان قد حارب إلى جواره رغم سنوات عمره التسعين.
الغريب أنه لم يتم إعادة جثمانه إلى فينيسيا، وإنما دُفن في كنيسة سان
صوفيا. لم ينجُ التابوت الحجري من الغزو التركي بعد ذلك، إلا أنه يمكن
رؤية شاهد قبره هناك في مكانه على أرض الرواق فوق الممر
الجنوبي.
هكذا، بعد عام واحد من الاستيلاء على العاصمة، انكسرت شوكة اللاتين.
بقُوا في القسطنطينية؛ وفي كل آسيا الصغرى، كانت المدينة الصغيرة
«بيجايا Pegae» (الآن كارابيجا Karabiga) على الشاطئ الجنوبي لبحر
مرمرة، هي التي بقيت في أيدي الفرنجة. وأخيرًا كان بإمكان تيودور
لاسكاريس أن يركِّز جهدَه على بناء دولته الجديدة — متبعًا النموذج
البيزنطي بكل تفاصيله؛ حيث لم يكن يشكُّ مطلقًا في عودة أبناء وطنه
عاجلًا أو آجلًا إلى المكان الذي كانوا ينتمون إليه. بفضله، كان أن
أصبح هناك الآن إمبراطوران في الشرق وبطريركان؛ اللاتيني في
القسطنطينية واليوناني في نيقية. كان من الواضح أن فكرةَ العيش معًا في
سلام لم تكن واردة، كلا الطرفين كان يريد أن يدمِّر الآخر. ولكنَّ
كليهما كذلك لم يكن قويًّا بما يكفي ليحقق ذلك دون مساعدة طرف ثالث.
وهكذا كان أن أدخل «هنري
الهاينولتي Henry Hainault»، خليفةُ بلدوين، عنصرًا جديدًا في المعادلة
غير مرغوب فيه؛ «كايكوسرو Kaikosru»
السلوقي سلطان «قونية Konya».
في تاريخ الحملات الصليبية الطويل المؤسف، كثيرًا ما كان المسيحي
يحارب المسيحي. تجنيدُ حليفٍ مسلم ضد عدوٍّ مسيحي كان أمرًا جديدًا
تمامًا. كان الأتراك السلاجقة في ذلك الوقت يسيطرون على مئات عديدة من
الأميال من ساحل البحر الأبيض المتوسط؛ إذ كانوا قد مرُّوا بطريق طويل
منذ بداياتهم في آسيا الوسطى. في القرن الحادي عشر كانوا قد انتشروا
بسرعة عبْر فارس وأرمينيا ووادي الرافدين — حيث أصبحوا سادةً على بغداد
يحكمون باسم الخلفاء العباسيين، وكانوا قد تعلَّموا الكثيرَ من
غزواتهم. بعد أن غزَوا الأناضول وانتصروا على البيزنطيين في «مانزيكرت
Manzikert»
١ في ١٠٧١م، أسَّسوا عاصمتهم في قونية (أيقونيوم
Iconium)، وفي أوج قوَّتهم في القرن
الثاني عشر كانوا قد بنَوا دولة متميزة، سلطنة الروم، كما كانوا
يدعونها بكل فخر … أفلم تكن جزءًا من الإمبراطورية الرومانية؟ كانت تضم
عندما اتسعت كلَّ آسيا الصغرى (نحو ٢٥٠٠٠٠ ميل مربع) وخليطًا من السكان
الترك واليونانيين والأرمن. لم يستمر السلاجقة طويلًا — دمَّر
«المغول
Mongols» قوَّتهم قرابة آخر
القرن — ولكنهم خلفوا تراثًا معماريًّا غير عاديٍّ ما زال الكثير منه
موجودًا إلى الآن: مساجد رائعة على أجنابها مآذن مزدوجة مزيَّنة بحفر
دقيق ونقوش كاليجرافية، وجسور بالغة الروعة، وحصون، وحوض لبناء السفن
في عاصمتهم الصيفية «ألانيا
Alanya»،
واستراحات رائعة على طول طريق القوافل، كل واحدة على مسافة عشرين ميلًا
من الأخرى، يوجد بكلٍّ منها مسجد ونُزل وإسطبل للخيول والجمال وإسكاف
مقيم لإصلاح الأحذية بلا مقابل.
قد يكون مثيرًا للاهتمام أن نتصوَّر ما كان يمكن أن يحدُث لو أن
الإمبراطور في القسطنطينية والسلطان في أيقونيوم كانا قد دعَّما
تحالفهما بانتصار كبير، إلا أنهما فشلا في أن يفعلا ذلك. كانت لهما
معاركُ عديدة ضارية لم تكن حاسمة باستثناء واحدة منها. في تلك المعركة
التي وقعت في ربيع ١٢١٠م بالقرب من أنطاكية على نهر الميندر، سقط
كايكوسرو من على حصانه مقتولًا، حدث ذلك بواسطة الإمبراطور نفسه — إن
كان لنا أن نصدِّق المصادرَ اليونانية — وذلك في قتال فردي بينهما. خضع
خليفته على الفور للشروط تاركًا تيودور حرًّا ليركِّز قوَّته ضد
الفرنجة، وأخيرًا تم حسم الموقف في أواخر ١٢١٤م، عندما وقَّع
الإمبراطوران معاهدةَ سلام في نيمفايوم. هنري، بموجب الاتفاق، سيحتفظ
بالساحل الشمالي الغربي لآسيا الصغرى، والباقي كله حتى الحدود
السلجوقية سيذهب ﻟ «تيودور». هذه المعاهدة ستكون بداية ازدهار نيقية.
أخيرًا ستحصل الإمبراطورية الصغيرة على اعتراف رسمي من خَصمها اللاتيني
بحقِّها في الوجود.
•••
كتب «إدوارد جيبون Edward Gibbon»
يقول: «لن أتتبَّع الأسرَ الغامضة المختلفة التي صعدت وسقطت في القارة
أو الجزر.» كمؤرِّخ للإمبراطورية الرومانية، ليس هناك سببٌ بذاته كان
يجبره على أن يفعل ذلك، ولكن بالنسبة لمؤرخي البحر الأبيض، لا يمكن
إهمال هذه المهام بمثل تلك السهولة. لا أحد ممن يتنقلون عبر ووسط
اليونان والبيلوبونيز لا تدهشه كميةُ قلاع العصور الوسطى التي تتوِّج —
كما يبدو أحيانًا — كلَّ قمة أو مرتفع من تلك الأراضي الجبلية الرائعة.
المؤكد، أنه لا بد من بعض التفصيل لمن يشوقهم معرفة المزيد، وبالرغم من
ذلك فإن الكتب التي تروي قصةَ هذه القلاع ما زالت قليلة إلى
اليوم.
يرجع ذلك — إلى حدٍّ كبير — إلى أن ذلك التاريخ شديد التعقيد.
الحقيقة البسيطة، وهي أن الشتات اليوناني الذي تلا الحملة الصليبية
الرابعة كان يعادله توسُّع إقليمي أكثر دراميةً من جانب اللاتين.
البارونات الفرنجة الذين أبحروا ليكونوا مع الحملة — مع كثيرين آخرين
ممن لم يبحروا ولكنهم سمِعوا عن الغنائم وكانوا مصرين على ألا تفوتهم
الفرصة — كانوا يجولون في أرجاء اليونان يستولون على كلِّ ما يمكنهم
الاستيلاء عليه من أراضٍ، ويصنعون لأنفسهم إقطاعياتٍ على نمط تلك التي
كانوا يعرفونها في الغرب، ولكنهم كانوا يفعلون ذلك في بلادٍ لم يكن
النظام الإقطاعي معروفًا فيها كما يفهمونه. في البلاد الغربية، كان ذلك
النظام يقوم على هرمٍ من الثروة والقوة، وعلى رأسه الملك. في الشرق،
كانت إمبراطورية القسطنطينية اللاتينية أضعفَ من أن تمارس أيَّ سيطرة
حقيقية، ومن هنا تظهر صورة العديد من المدن-الدول المستقلة، وفي غالب
الأحيان تكون متحاربة، تتآمر وتحتال باستمرار لتثبيت أوضاعها. في بحر
إيجه؛ حيث كان نفوذ فينيسيا هو السائد، كان عدد الجزر يزيد الأمر
تعقيدًا؛ ولذا لم يكن مستغربًا أن يحوِّل كثير ممن كانوا يريدون القيام
بالتأريخ للمكان وللفترة اهتمامَهم إلى أمورٍ أخرى.
تبدأ قصةُ هذا الشتات اللاتيني مع الماركيز بونيفاس المونتيفراتي.
عندما كان غاضبًا بشدة بسبب تخطيه كأمير، زاد غضبه عندما عرض عليه
بلدوين إقطاعيةً كبيرة في الأناضول؛ وبدلًا من ذلك أشار إلى أن أخاه
بزواجه من ابنة مانويل الأول كومنينوس قبل ربع قرن، حصل على لقب ملك
«تيسالونيكا Thessalonica»؛ ولذا
قدَّم مطالبةً رسمية بتلك المدينة. الآن كان دور بلدوين قد جاء لكي
يعترض، ولكن تم تجنُّب هذه الحرب المكشوفة بفضل وساطة الدوج واندولو
وعدد من قادة الفرنجة وبخاصة النبيل البوجندي «أوتو دي لاروش Otho de la Roche». في آخر الأمر،
كان الإمبراطور مضطرًّا للموافقة على مضض، على أساس أن يعترف بونيفاس
بمملكته الاسمية ويحتفظ بها كإقطاعة إمبراطورية.
كانت مهمة الماركيز التالية هي غزو مملكته الجديدة، وبهذا الهدف
نُصْب عينيه، انطلق في خريف ١٢٠٤م في حملةٍ طويلة جدًّا عبر شمال ووسط
اليونان. خرج معه في الحملة مجموعةٌ من البشر متعددي المشارب: فرنسيون
وألمان وفلمنك ولومبارد، كلٌّ منهم كان مصرًّا على أن يحصل على إقطاعة
لنفسه. كان من بينهم — إن كان لنا أن نذكر أربعة منهم فحسب — الفرنسي
«وليم
الشامبليتي
William of Champlitte» حفيدُ كونت شمبانيا، وأوتو دي لاروش
البورجندي، و«جاك دافسنس
Jacques
d’Avesnes» الفلمنكي، والماركيز الإيطالي الشاب
«جيدو
باللافيسيني
Guido Pallavicini». تحرَّكوا جنوبًا عبر تيسالي مرورًا ﺑ
«تيرموبايلاي
Thermopylae»؛ حيث كان
«ليونيداس
Leonidas» الإسبرطي قد وقف
وقفته البطولية قبل نحو سبعة عشر قرنًا. لم يعترضهم أحد، ولكن بونيفاس
الذي كان مدركًا لأهمية المكان الاستراتيجية، قام هناك وآنذاك بتقليد
باللافيسيني منصبَ ماركيز «بودونيتزا
Boudonitza» لكي يغطي مشارفها الجنوبية. هذه، مع بارونية
«سالونا
Salona» المجاورة، ما كانتا
لتبقيا مائتي سنة أخرى وتلعبا دورًا مهمًّا في تاريخ اليونان
الفرنجية.
٢
استسلمت «بويتيا Boetia» دون مقاومة
وكذلك «أتيكا Attica» — بما في ذلك
أثينا نفسها — حيث عيَّن بونيفاس على الفور حاميةً على الأكروبولوس. في
ذلك الوقت كان البارثينون يقوم مقام الكاتدرائية في المدينة، ولكن
الجنود الفرنجة — لا بد من القول — لم يكونوا يكنُّون للمبنى احترامًا
كبيرًا. تكرَّرت القصة نفسها، وإنْ على نطاقٍ أقلَّ كما حدث في سانت
صوفيا: الخزانة نُهبت، الأواني الذهبية والفضية سُلبت، المكتبة بُددت
ودُمرت. تم منح الإقليمين معًا ﻟ «أوتو دي لاروش»، ربما كمكافأة له عن
توسُّطه أثناء نزاع بونيفاس مع الإمبراطور بلدوين. في البداية، لقَّب
أوتو نفسه بتواضع نسبي ﺑ «أب أثينا Sire
d’Athènes»، وهو اللقب الذي عظَّمه رعاياه ليصبح
«العاهل العظيم» megas kyr، وحتى سنة
١٢٦٠م، أي بعد موته بفترة، لم تكن أثينا قد أصبحت دوقيةً بشكل
رسمي.
في الوقت نفسه كان المغامر الفلمنكي جاك دافسنس قد ترك قوةَ الجيش
الرئيسية واتجه شرقًا حيث تسلَّم جزيرة «إيوبيا
Euboea» بعد استسلامها (كانت هذه الجزيرة قد خُصصت
لفينيسيا أثناء الانقسام، ولكنَّ الفينيسيين لم يكن عندهم وقت لها).
بقي هناك فترةً طويلة لكي يبنيَ قلعة صغيرة في وسط «إيوريبوس
Euripos»، تلك القناة الملغزة
٣ التي تفصل الجزيرة عن برِّ اليونان الرئيسي، ويترك فيها
حامية صغيرة. بعد ذلك، في تلهُّفه على المشاركة في غزو البيلوبونيز
القادم — وبالطبع في الفوائد التي كانت ستتحقَّق من جراء ذلك — أسرع
عائدًا إلى بونيفاس. كان الماركيز قد ذهب ليحاصر «نوبليا
Nauplia»؛ ولذا قام جاك مع أوتو دي لاروش
الذي لحِق به في الطريق، بهجوم مشترك على كورنتة. بصعوبةٍ ما، تمكَّنا
من الاستيلاء على المدينة الأدنى، أما قلعة أنطاكية المرتفعة فكانت
منيعة، وظل الحصار مستمرًّا عليها إلى أن تمكَّن المدافعون عنها ذات
ليلة من القيام بهجومٍ مفاجئ، ليحدثوا ضررًا بالغًا بالمعسكر الفرنجي،
أصيب فيه دافسنس نفسه بجراح خطيرة.
إلا أن حتْف البيلوبونيز كان مؤكدًا، ولن يكون ذلك على يد بونيفاس —
الذي كان مضطرًّا على أية حال للعودة إلى تيسالونيكا لمواجهة جيش
البلغار بقيادة القيصر «كالوجان
Tsar Kalojan» — وليس جاك دافسنس ولا حتى أوتو دي لاروش.
سيكون غزو جزر البيلوبونيز على يد جيوفري دي فيلهاردون، ابن أخ وسمي
مؤرِّخ أحداث الحملة الصليبية الرابعة. قبل نحو عام أو عامين، كان ذلك
الشاب نفسه قد قام برحلة حجٍّ إلى فلسطين، وعندما سمع وهو في سوريا
باستيلاء الفرنجة على القسطنطينية، عاد من فوره لكي ينضم إليهم. بعد
مغادرته بوقت قصير، انحرفت سفينته بقوةٍ عن مسارها بسبب عاصفة رعدية من
عواصف المتوسط، واضطرت إلى اللجوء إلى ميناء «مودون
Modone» جنوبي البيلوبونيز، وكان ما زال
هناك عندما سمِع بحصار بونيفاس ﻟ «نوبليا». بعد أقل من أسبوع، كان في
حضرة الأخير. أخبر الماركيز أن موريا
٤ ربما تكون فينيسية من الناحية الفعلية، إلا أنها كانت ثمرة
ناضجة حان قطافها، ولو أنه أُعطي مئاتٍ قليلة من الجنود على أكثرِ
تقدير، يمكن أن تصبح كل الأراضي لهم. لم ترُق الفكرة تمامًا ﻟ
«بونيفاس» الذي فضَّل التمسك بخطته للحملة، إلا أن جيوفري وجد في
المعسكر حليفًا جديدًا، في شخص صديقه القديم وليم الشامبليتي. وافق
وليم على أن ينضم إليه بشرط أن يعترف به جيوفري العاهل المخلص له في أي
غزوة يقومان بها. وباعتباره حفيدًا لكونت شمبانيا، لم يكن بالإمكان أن
يفعل غير ذلك، ولم يعترض جيوفري. بارك بونيفاس الحملة، وبرفقة مائة
فارس ونحو خمسمائة جندي مدجَّجين بالسلاح … انطلق الصديقان نحو
المجهول.
من البداية، كانوا يقومون بالاستيلاء على كلِّ ما في طريقهم، كان أول
ما سقط مدينة وقلعة «باتراس
Patras».
بعد ذلك انطلقوا جنوبًا دون مواجهة تُذكر حتى وصلوا إلى «كالاماتا
Kalamata» في إقليم مسيني. كان
اليونانيون في ذلك الوقت قد حشدوا جيشهم المكوَّن من أربعة أو خمسة
آلاف جندي، والذي كان يتضمَّن قوة كبيرة بقيادة «مايكل دوكاس
Michael
Ducas»، حاكم «إيبيروس
Epirus»، وفي سنة ١٢٠٥م تقابل الجيشان
وجهًا لوجه بين بساتين الزيتون في منطقة «كوندورا
Koundoura» في الركن الشمالي الغربي من الإقليم. كان
اليونانيون المدركون تمامًا لتفوُّقهم العددي واثقين من النصر، إلا
أنهم كانت تنقصهم الخبرة بشكل مريع، فكان أن اخترقهم الفرنجة بسهولة
شديدة. من ذلك اليوم، ستصبح البيلوبونيز أرضًا فرنجية. الفلكلور
اليوناني مليء بقصص البطولة المحلية عن ذلك المقاتل العظيم
«دوكساباترس
Doxapatres» مثلًا، الذي
لم يكن أحدٌ ليستطيع أن يرفع القضيب الشائك الذي كان يستخدمه لتكسير
الدروع، والذي كانت درعه الواقية تزن مائة وخمسين رطلًا، وعن ابنته
التي ألقت بنفسها من برج القلعة بدلًا من الاستسلام لشهوات الغزاة.
والحقيقة أنه كانت قد ظلت بعض جيوب للمقاومة، من بينها «أكروكورنث
Acrocornith» و«نوبليا
Nauplia» (التي اضطُر بونيفاس للتخلي عن
حصارها) وصخرة «مونيمفاسيا
Monemvasia» العظيمة، وقلعة «تايجيتوس
Taygetus» المظلمة في «ماني
Mani». إلا أن هناك رسالة من البابا إنوسنت
الثالث بتاريخ التاسع عشر من نوفمبر ١٢٠٥م، تصف وليم الشامبليتي ﺑ
«أمير كل أخايا
Achaia»،
٥ بما يعني أنه كان الكل في الكل.
•••
هكذا كان أن اكتسح الصليبيون الفرنجة بالفعل، ودون جهد كبير، تسعة
أعشار اليونان وجزر البيلوبونيز كلها، وذلك في غضون ثلاث سنوات من
الغزو اللاتيني للقسطنطينية. لم يكن هذا النجاح يعود لشجاعتهم بقدرِ ما
هو لجبن السكان المحليين الذين لم يكونوا يُبدون سوى مقاومة شكلية. من
ناحية أخرى، كانت القصة مختلفة في مقدونيا. كان الإمبراطور بلدوين —
كما رأينا — قد وقع في أسرِ القيصر البلغاري ليختفيَ في بطن أحد السجون
… ولا يظهر بعد ذلك. عندما سمع بونيفاس بذلك، ترك حصار نوبليا لكي
يدافع عن ممتلكاته الشمالية، وقُتل في مواجهة ثانوية بعد أسابيع قليلة.
بعد موته، قطعوا رأسَه وأرسلوه هديةً للقيصر. عندما كانت هناك حاجة
ماسة لقيادة حازمة واثقة، انتقل عرشه لابنه الطفل، إلا أن ما أنقذ
الموقف بالفعل كان مقتل كالوجان بدوره (بتحريض من زوجته) لتنكسر بالفعل
قوة بلغاريا.
يكفي ما قلناه حتى الآن عن نجاحات وإخفاقات الفرنجة، ولكن ماذا عن
الفينيسيين؟ بفضل المهارات التفاوضية البارعة ﻟ «داندولو» كانوا قد
حصلوا على نصيب الأسد من الغنائم؛ ولكنهم سرعان ما أدركوا أن ما حصلوا
عليه كان أكبرَ من قدرتهم على الهضم، وعليه كانوا أكثرَ بطئًا من
حلفائهم الفرنجة في احتلال أراضيهم — وهو التأخير الذي كان قد كلفهم
البيلوبونيز بالفعل. كان هناك فرقٌ آخر بين الفلسفتين. كان الفرنجة،
الذين نشئوا في أحضان نظام إقطاعي، ينظرون إلى أراضيهم الجديدة
باعتبارها إقطاعياتٍ وإلى شاغليها كخدم تابعين. إلا أن النظام الإقطاعي
كان يقوم على ملكية الأرض، وهي سلعةٌ لم يكن الفينيسيون يعرفونها
باعتبارهم أبناءَ جمهورية بحرية. كان الفينيسيون يعملون بالتجارة ولم
تكن المستعمرات الخارجية ذات فائدة لهم إلا بقدرِ تحقيقها لمصالحهم
التجارية. لهذا السبب، فإن داندولو قصرَ مطالبه على المناطق الساحلية
بصرف النظر عن البيلوبونيز. حتى ذلك الحين كانت عيناه ما زالتا أوسع من
مَعِدته! لم يرفع إصبعًا عندما دخل جاك دافسنس إيوبيا، ولا عندما أقام
شامبليت وفيلهاردون معتمديتهما في أخايا. كلُّ ما كان يهمه هو
الميناءان في «مودون Modone»
و«كورون Corone» عند الحافة الجنوبية
للبيلوبونيز؛ وفي ١٢٠٦م أرسل ابنه بأسطول صغير ليستعيدهما للجمهورية.
تم إنجاز ذلك سريعًا، وظل الميناءان تابعين لفينيسيا عدة قرون بعد
ذلك.
أما بالنسبة لجزر بحر إيجه العديدة، بما في ذلك «السيكلاديس
Cyclades» التي كانت قد سقطت في
أيديهم، كان الفينيسيون مرةً أخرى مضطرين للاعتراف لأنفسهم بأن إدارة
«سيرينيسيما
Serenissima» كانت
مستحيلةً بالرغم من مواردها الكثيرة. ولذا كان هناك اتفاق على أن يحكم
أغلب الجزر عددٌ من سكانها باسم فينيسيا. كان من بين المشاركين في حملة
المجموعة الفينيسية أحد أبناء عمومة الدوج داندولو واسمه «ماركو سانودو
Marco Sanudo»، الذي لم يضيِّع وقتًا
عند سماعه الخبر. قام بتجهيز ثماني سفن على نفقته الخاصة وجمع مجموعةً
من المغامرين مثله من شباب فينيسيا وانطلقوا، وهناك على جزر
«ناكسوس
Naxos»، و«أندروز
Andros»، و«باروس
Paros»، و«أنتيباروس
Antiparos»، و«ميلوس
Melos»، و«إيوس
Ios»،
و«أمورجوس
Amorgos»، و«سانتوريني
Santorini»، وعشرات غيرها، سيقيم كلٌّ
منهم منطقته الخاصة، تتبع كلها — كإقطاعيات — ماركو سانودو، باعتباره
دوق الأرخبيل.
٦ كذلك اتُّخذت ترتيبات مشابهة بالنسبة ﻟ «كورفو
Corfu» والجزر الأيونية الأخرى على ساحل
الأدرياتيكي.
بقيت هناك «كريت Crete»، أكبر وأهم
الجزر اليونانية التي كان على داندولو أن يساوم بونيفاس عليها. مرة
أخرى، كانت جنوة هي المشكلة. حتى من قبل أن يستوليَ الفينيسيون على
الجزيرة، كان أهل جنوة قد أقاموا مستوطنة هناك، وكان واضحًا من البداية
أنهم لن يتخلوا عنها دون قتال. وعليه، أرسلت فينيسيا أسطولًا، نجح
مؤقتًا في طرد القائد القرصان «إنريكو بسكاتور Enrico Pescator»، كونت مالطة، الذي كان — بالرغم من ذلك
— محلَّ إعجاب من البابا إنوسنت، وكان أن استمر القتال خمس سنوات أخرى
حتى سنة ١٢١٢م، عندما أُجبِر هو وجماعته في آخر الأمر على الانسحاب.
منذ ذلك الحين، ولمدة السنوات الأربع والنصف التالية، كانت الجزيرة
يحكمها بالفعل فينيسيٌّ يحمل لقب دوج، وهو دليل واضح على أهميتها بسبب
سيرينيسيما.
•••
بموت هنري الهاينولتي في ١٢١٦م في سن الأربعين، بدأت الإمبراطورية
الفرنجية في الانهيار. كان هنري حاكمًا متميزًا. كان الإمبراطور
اللاتيني الوحيد الذي أظهر حنكةً سياسية حقيقية، وكان قد ورِث ما كان
يبدو قضية خاسرة، وفي غضون عقد واحد تقريبًا حوَّلها إلى شأن مهم. لو
كان لدى خلفائه ذرةٌ من قدراته فلربما ما كان قد وصل إلى العرش في
القسطنطينية حاكمٌ يوناني، ولكن منذ أن أصبحت يده بعيدة عن دفة
السفينة، بدا واضحًا أن الاستعادة النهائية لعاصمة الإمبراطورية
الحقيقية ستكون مسألة وقت ليس إلا. في الوقت نفسه كانت إمبراطورية
نيقية تحت قيادة «جون
فاتاتزس John Fatatzes» صهر «لاسكاريس Lascaris»، تمضي من قوة إلى قوة. بحلول العام ١٢٤٦م،
كانت قد اتسعت أملاكه لتشمل معظمَ شبه جزيرة البلقان وجزءًا كبيرًا من
بحر إيجه، وكان منافسوه قد ضعفوا أو أصابهم الإرهاق، أما هو فكان
مصرًّا على أن يحقق الهدف الذي نذر حياته له.
كان جون فاتاتزس أكثرَ من سواه أحقيةً في أن يقود جيشًا بيزنطيًّا
ليحقق الانتصار في القسطنطينية. من أسفٍ أن صحته كانت مدعاةً للقلق منذ
وقت طويل. كان جون مصابًا بالصرع، وكلما كان يتقدم في العمر كانت
النوبات تتزايد عددًا وحدةً، وكثيرًا ما كان ذلك يؤثِّر على قواه
العقلية، وخصوصًا أنها كانت تجعله أكثرَ حقدًا على أكبر قياداته:
«مايكل
بالايولوجوس Michael Palaeologus». الأكثر مأساوية كان أن نقل المرض لابنه
وخليفته «تيودور الثاني Theodore II»
بدرجةٍ أكثرَ حدة، عندما مات تيودور في أغسطس ١٢٥٨م وهو في السادسة
والثلاثين بعد حكمٍ لم يدُم سوى أربع سنوات تاركًا طفلًا صغيرًا يخلفه،
قامت ثورة في القصر ونصَّبت بالايولوجوس على العرش. رغم أنه كان ما زال
في الرابعة والثلاثين، وجد الجنرال الشاب نفسه أمام مهمة متشعبة. كان
مضطرًّا، بداية، لمسايرة إمبراطورٍ معادٍ كان قد قام في ١٢٥٢م بسَجنه
وحرمانه كنسيًّا، واستمرت مشكلاته بعد صعوده للعرش، عندما طلب منه أن
يواجه تحالفًا كان يضم حاكم إيبيريوس، المعتمدية الصليبية في أخايا في
البيلوبونيز، ومانفريد الصغير في صقلية (الابن غير الشرعي للإمبراطور
الغربي فردريك الثاني). هنا كان يوجد عدوٌّ لدود بالفعل، ولكن عندما
التقى الجيشان في بيلاجونيا (بيتولج الآن) في مطلع صيف ١٢٥٩م، انفرط
عقد التحالف.
مصرًّا على الاحتفاظ بالزخْم، بدأ مايكل زحفَه مبكرًا على
القسطنطينية في ١٢٦٠م. فشلت محاولته الأولى — لم يتمكَّن أحدُ عملائه
السريين من فتح إحدى البوابات كما كان مدبَّرًا، كما فشلت خطة بديلة
للهجوم على جالاتا في الركن القصي من القرن الذهبي. في ذلك الشتاء على
أية حال، سجَّل مايكل انتصارًا دبلوماسيًّا؛ ففي الثالث عشر من مارس
١٢٦١م وقَّع اتفاقيةً مع جنوة، بناءً على شروطها أنه في مقابل مساعدةِ
أهلها له في الصراع القادم، سيعطيهم كلَّ الامتيازات التي كان ينعم بها
الفينيسيون في القسطنطينية، بما في ذلك الحي الخاص بهم في كلٍّ من
المدينة والموانئ الرئيسية الأخرى في الإمبراطورية، وكذلك حق الوصول
إلى موانئ البحر الأسود. كان ذلك بالنسبة لجنوة اتفاقًا تاريخيًّا،
يرسي — كما حدث — دعائمَ إمبراطوريتها في الشرق، أما بالنسبة لبيزنطة
فاتضح أنه كان بمثابة كارثة؛ حيث إن الجمهوريتين البحريتين الإيطاليتين
سوف تستغلان ما تبقَّى من قوَّتها البحرية وتواصلان خصوماتهما القديمة
منذ قرون على كيانها الضعيف. إلا أن ذلك كان ليحدث في المستقبل. في
ربيع ١٢٦١م، كان لا بد من أن يبدوَ تحالف جنوة كأنه هِبة من السماء
لمايكل بالايولوجوس.
جاءت الاستعادة النهائية للقسطنطينية بالمصادفة. في عز صيف ١٢٦١م كان
مايكل قد أرسل أحدَ جنرالاته «ألكسيوس ستراتيجوبولوس Alexius
Strategopoulus»
بجيشٍ صغير إلى «تراقيا Thrace».
عندما وصل إلى «سيلمبريا Selymbria»
(سيلفري Silivri الحديثة)، التي تبعُد
نحو أربعين ميلًا عن القسطنطينية، علِم ألكسيوس أن الحامية اللاتينية
للعاصمة لم تكن موجودة؛ حيث كان الفينيسيون قد استدعوها للقيام بهجوم
على جزيرة «دافنوسيا Daphnusia» في
نيقية، وكانت هذه الجزيرة تتحكَّم في مدخل البوسفور من ناحية البحر
الأسود. علِم أيضًا أنه كانت هناك بوابة خلفية في الأسوار يمكن أن
يمرَّ منها المسلَّحون بسهولة ليدخلوا المدينة. في تلك الليلة قامت
جماعة صغيرة باختبار صحة هذه المعلومات. تسلل أفرادُها دون ملاحظة من
أحد وفاجَئوا حراسَها الفرنجة القلائل وألقَوا بهم من فوق المتاريس، ثم
بهدوء شديد، فتحوا بوابات المدينة. في فجر الخامس والعشرين من يوليو
١٢٦١م تدفَّق باقي الجيش داخل القسطنطينية دون مقاومة تُذكر.
كان الإمبراطور بلدوين الثاني، نائمًا في قصره، أيقظته الجلبة وفرَّ
لينجوَ بحياته، وأخيرًا صادف سفينةً تجارية فينيسية فهرب عليها إلى
إيوبيا. في الوقت نفسه كان ألكسيوس ستراتيجوبولوس ورجاله يُضرمون
النارَ في كل الحي الفينيسي من المدينة، لدرجةِ أن البحَّارة عندما
عادوا من دافنوسيا ووجدوا منازلهم مدمَّرة وأسرهم البائسة مشرَّدة
بجوار أرصفة الميناء، لم تكن لديهم روحٌ للقيام بهجومٍ مضاد، ولم يكن
أمامهم من خيار سوى أن يبحروا بلا عزاء عائدين إلى البحيرة. أما مَن
بقي من الفرنجة فكانوا في حالةِ ذعر شديد، يمكن أن نجد لها وصفًا
بليغًا في الحوليات اليونانية، إلا أنهم ما كانوا ليقلقوا طويلًا …
فالمذبحة التي كانت متوقعة لم تحدث. سرعان ما خرجوا من مخابئهم وجمعوا
كلَّ ما يستطيعون حمله ومضَوا يجرون الخطى نحو الميناء؛ حيث كان في
انتظارهم ثلاثون سفينة فينيسية. بمجرد صعودهم إلى السفن، تحرَّك
الأسطول متجهًا كذلك إلى إيوبيا، ولسنا متأكدين إذا ما كان قد توقَّف
في الطريق للتموين؛ حيث إن المسجَّل أن عددًا كبيرًا من اللاجئين ماتوا
جوعًا قبل الوصول إلى مقصدهم.
في معسكره في «ميتيوروم Meteorum»
في آسيا الصغرى، الذي كان يبعد نحو مائتي ميل، كان الإمبراطور مايكل
نائمًا كذلك عندما جاءته الأخبار الجسام. أخته الكبرى «إيولوجيا Eulogia» (التي كانت تهدهده وهو طفل لكي
ينام بأن تغنيَ له كيف سيصبح إمبراطورًا ذات يوم ويدخل القسطنطينية من
البوابة الذهبية) أيقظته (بزغزغة أصابع قدميه كما يقول أحد المصادر)
ونقلت له الأخبار. لم يصدِّق في البداية، وعندما سلَّموه تاج وصولجان
بلدوين اللذين كان قد تركهما خلفه في القصر، كان أن اقتنع. بعد ثلاثة
أسابيع، في الخامس عشر من أغسطس، مرَّ فعلًا من البوابة الذهبية
وتقدَّم سيرًا على قدميه بطول المدينة حتى كنيسة سانت صوفيا، وهناك كان
حفل تتويج ثانٍ أقامه البطريرك له ولزوجته «تيودورا Theodora» وابنهما الرضيع «أندرونيكوس Andronicus»، الذي أُعلن وريثًا
محتملًا.
منذ البداية، كانت إمبراطورية القسطنطينية اللاتينية أشبه
بالهُولَة.
٧ كانت نبتًا بائسًا للخيانة والجشع، لم تحقِّق شيئًا على
مدى السبع والخمسين سنة لوجودها، لم تسهم بشيء، لم تتمتع بلحظة واحدة
من المجد أو التميز. لم تقُم بأي غزو بعد ١٢٠٤م، وقبل ذلك بوقت طويل
كانت قد انكمشت في المحيط المباشر للمدينة التي دُمرت وخُربت لكي
تُولد. من بين حكامها السبعة كان هناك واحد فقط أكبر من الآخرين
متواضعي القيمة، هو هنري الهاينولتي، لا أحد منهم حاول — ولو بقدرٍ
يسيرٍ — أن يفهم الرعايا اليونانيين أو يتبنى عاداتهم، ناهيك عن تعلُّم
لغتهم. كان سقوط الإمبراطورية أكثرَ خزيًا من بداياتها، قهرتها في ليلة
واحدة، في لحظة، مجموعةٌ صغيرة من الجنود.
لو أن تلك الحالة المضحِكة المبكية قد قصرت أعمالها السيئة على
نفسها، لكنا قد مررنا عليها بما يزيد قليلًا عن نظرة رثاء. من أسفٍ أن
ذلك لم يكن. الموروث الأسود الذي خلَّفته لم يؤثِّر في بيزنطة فحسب،
وإنما امتد في كل العالم المسيحي. لم تتعافَ الإمبراطورية اليونانية
مما لحِق بها من ضررٍ على مدى تلك السنوات المشئومة. كان ضررًا روحيًّا
وماديًّا. ولا بَعد أن جُردت من الكثير من الأراضي التي بقيت معها بعد
كارثة مانزيكرت، بكثير من مبانيها الرائعة التي تحوَّلت إلى أنقاض،
وأعمالها الفنية البديعة التي دُمرت أو نُهبت وحُملت إلى الغرب. لم
تنجح في استعادة روحها السابقة. كما سُرق منها شيء آخر مهم. قبل الغزو
اللاتيني كانت وحدة واحدة تحت حاكم واحد يقف في منتصف الطريق إلى
السماء ويضاهي الرسلَ مكانةً. الآن ذهبت الوحدة. صحيح أن إمبراطورية
نيقية لم تَعُد مندرجة أو مستوعَبة — كما كانت تتوق دائمًا — في
إمبراطورية القسطنطينية، ولكن كان هناك أباطرة التربيزوند الذين كانوا
ما زالوا مستقلين بعالمهم البيزنطي الصغير على شاطئ البحر الأسود الذي
تجتاحه الأمطار، كما كان هناك حكام إيبيروس، الذين كانوا يصارعون دون
توقُّف لاستعادة سنوات القوة القديمة، المستعدون دائمًا للترحيب بأعداء
القسطنطينية وتقديم مركز للمقاومة. كيف، وهي على هذه الدرجة من التشظي
تستطيع الإمبراطورية الرومانية مواصلةَ أداء مهمتِها التي قامت بها
طويلًا، مهمةِ أن تكون حصن العالم المسيحي الشرقي المنيع ضد المد
الإسلامي؟
إلا أن العالم المسيحي كذلك كان قد تغيَّر كثيرًا بعد الحملة
الصليبية الرابعة. بعد أن انقسم طويلًا، كان يتم استقطابه الآن. على
مدى قرون قبل وبعد الشقاق الكبير في ١٠٥٤م، أصبحت العلاقات بين
الكنيستين الشرقية والغربية متذبذبة بين البعيد بكياسة والمر بلذوعته.
كانت خلافاتهما لاهوتية. بعد نهب القسطنطينية بأيدي الصليبيين
الغربيين، لم يَعُد ذلك صحيحًا. في أعين اليونانيين، كان من المستحيل
اعتبار أولئك الذين دنَّسوا مذابحَ كنائسهم ونهبوا منازلهم واغتصبوا
نساءهم، كان من المستحيل اعتبارهم مسيحيين بأي معنًى. كيف يمكن الآن أن
يقبلوا فكرةَ الوحدة مع روما؟ كانوا يقولون «عمامة السلطان خير من قبعة
الكاردينال» … وكانوا يعنون ما يقولون.
هوامش