الفصل التاسع
أعجوبة الدنيا
***
بعد أن وضعت الإمبراطورة «كونستانس
Constance» وليدَها في قرية «جيسي
Jesi» في اليوم التالي لعيد الميلاد عام
١١٩٤م،
١ بعدها بأيام قليلة أخذته وواصلت الرحلةَ إلى الشمال؛ وفي
باليرمو، بعد الموت المبكِّر لأبيه بعد ذلك بأربع سنوات، كان أن تم
تتويج الطفل — الذي حمل اسم فردريك على اسم جَديه — ملكًا على
صقلية.
أمضى فردريك طفولته هناك حيث تلقَّى تعليمًا أبعدَ ما يكون عن ذلك
الذي كان يقدَّم للأمراء الألمان عادةً. كان تعليمًا مختلفًا لدرجةٍ
كبيرة ربما تفوق الخيال. كانت اللاتينية واليونانية والعربية كلُّها
لغات رسمية في صقلية النورمندية، وإلى جانب تلك اللغات تعلَّم فردريك
الألمانية والإيطالية والفرنسية. منذ أيام جَده «روجر الثاني
Roger II»، كان هذا البلاط هو الأكثر
ثقافةً في أوروبا، وملتقى علماء وجغرافيين وعلماء رياضيات، سواء من
المسيحيين أو اليهود أو المسلمين؛ ولعل معلِّمه الشخصي «مايكل سكوت
Michael Scot» (مترجم أرسطو وابن رشد)،
المعروف عنه أنه أمضى عدةَ سنوات في باليرمو، أصبح صديقه المقرَّب. لم
يكن يمضي الساعات الطوال في الدراسة فحسب، بل وفي مناظرات عن الدين
والفلسفة والرياضيات. كذلك غالبًا ما كان ينسحب إلى إحدى الحدائق أو
أحد القصور التي يقال إنها كانت تحيط بالمدينة مثل العِقد، لكي يراقب
الطيور والحيوانات، وهو ما أصبح هوايةً ملازمة له. بعد عدة سنوات سيؤلف
كتابًا عن صيد الصقور،
٢ سيصبح أحدَ المصادر الأساسية النادرة التي تعبِّر عن معرفة
وفهم للحياة البرية في القرن الثالث عشر.
كانت طاقته الجسدية تضاهي طاقته الفكرية تمامًا. يصفه أحد المعاصرين
له فيقول:
لا تجده عاطلًا عن العمل أبدًا، وإنما يقضي اليوم كلَّه في عمل
أو آخر. ولكي يزيد طاقته بالممارسة، كان يقوي جسدَه الرشيق بكل
التمارين الرياضية بما في ذلك استخدام السلاح. يستخدم أسلحته أو
يحملها، يشهر سيفه القصير الخبير باستخدامه وكأنه يحمي نفسه من
هجومٍ ما. يستخدم القوس بكفاءة، وأحيانًا يمارس رمي السهام. يحب
الخيل الأصيلة السريعة، وأعتقد أنه ليس هناك مَن هو أفضل منه في
معرفةِ كيف يكبح جماحها باللجام، ثم إطلاقها لكي ترمح. هكذا يقضي
يومه من الصباح إلى المساء، ثم يبدأ من جديد في اليوم
التالي.
يُضاف إلى ذلك فخامةٌ وهيبةٌ وسيماءٌ ملكيةٌ، مع شكلٍ سمحٍ
وطلعةِ بهيةٍ، وعينان ذكيتان ووجه معبِّر، وروح متقدة وبديهة
حاضرة. إلا أنه يأتي أحيانًا أفعالًا غريبة وفظة، وليس ذلك لطبيعةٍ
فيه وإنما لصلته بالخشنين من العامة. بالرغم من ذلك فإنه يتحلى
بكثير من الفضائل التي تسبق عمره. وبالرغم من أنه لم يبلغ سنَّ
الرشد بعد، فإن لديه معرفةً واسعة، لديه موهبة الحكمة التي لا تأتي
إلا مع الزمن. عدد السنوات بالنسبة له ليس في الحسبان، وليس هناك
حاجة لانتظار النضج؛ لأنه كإنسان، غني بالمعرفة، وكحاكم غنيٌّ
بالعظمة والمهابة.
هذا الوصف كُتب في ١٢٠٨م عندما كان فردريك في الثالثة عشرة. بلغ سن
الرشد في عيد ميلاده الرابع عشر في السادس والعشرين من ديسمبر، وبعد
تسعة أشهر تزوَّج كونستانس، ابنةَ «ألفونسو الثاني
Alphonso II» ملكِ أراجون. كانت أرملة
… تكبُره بعشر سنوات. كان زوجها الأول هو «إيمري Imre» ملكَ هنغاريا. كان البابا إنوسنت الثالث هو الذي
اختار كونستانس لفردريك الذي يبدو أنه لم يكن متحمسًا مثله لهذه الزيجة
… على الأقل في الأيام الأولى من الزواج. جاءت كونستانس معها بخمسمائة
فارس مسلَّح في حاشيتها، على ضوء القلق المستمر في المملكة. كان فردريك
في حاجة إلى كلِّ ما يمكن الحصول عليه من مساعدة. كما أدخلت كذلك مع
فرسانها وحاشيتها وخَدَمها ثقافةً جديدة … دراية بشئون العالم والحياة
لم تكن معروفة في باليرمو. بالنسبة لفردريك، المدرِك دائمًا لكل جديد
ومثير، كان عالَمًا جديدًا يتفتح أمامه الآن … عالم الحب المتملق. ظل
الزواج نفسه زواجَ مواءمة سياسية … زواج مصلحة … — رغم أن كونستانس
أنجبت له طفلًا (هنري) بعد عام أو عامين — إلا أنه أزال الحوافَّ
الحادة وهذَّب الطباع. قبل أن يصل إلى العشرين بوقت طويل، كان فردريك
قد اكتسب الفضائلَ الاجتماعية والكياسة التي سيُعرف بها بقيةَ
حياته.
في وقتٍ باكر من يناير ١٢١٢م، وصلت بعثة سفراء من باليرمو حاملةً
معها رسالة من وراء الألب. مرة أخرى كانت أوروبا الغربية تتعرض لأخطار
الملكية الانتخابية؛ فمنذ وفاة «هنري السادس Henry
VI» كانت الحرب الأهلية قد مزَّقت ألمانيا، بين
مطالبين كُثر باللقب. كان أحدهم «أوتو الولف Otto the Welf» دوق «برنزويك Duke of Brunswick» قد توِّج إمبراطورًا بالفعل من قِبل البابا
إنوسنت في ١٢٠٩م، وبعد عامين استولى على الشمال الإيطالي، وهو الجزء
البري بكامله من أراضي مملكة فردريك. ولسوء حظه، كان أن تمادى في غيه:
كان قيامه بغزو إقليم توسكاني البابوي سببًا في حرمانه كنسيًّا، وفي
سبتمبر ١٢١١م اجتمع مجلسٌ من كبار الأمراء الألمان في نورمبرج وأعلنوا
عزله. كان أولئك هم الذين أرسلوا السفراء بدعوة فردريك لتولي العرش
الخالي.
جاءت هذه الدعوة مفاجأةً تامة، وأثارت قلقًا كبيرًا في البلاط
الصقلي. مستشارو فردريك الرئيسيون نصحوا — بقوة — بعدم القبول، وكذلك
زوجته. لم يكن هناك أيُّ شيء يربطه بألمانيا، والحقيقة أن قدَمه لم تطأ
الأرض الألمانية من قبل، ثم إن قبضته على مملكته لم تكن قد أصبحت قويةً
بعد، ولم يكن قد مرَّ عام على تهديد دوق برنزويك له عبر مضايق مسيني.
هل كانت تلك فعلًا لحظةً مناسبة يغيب فيها عن صقلية لفترةٍ قد تمتد عدة
شهور على الأقل من أجل مجدٍ، مهما كان عظيمًا، ربما يتضح في النهاية
أنه كان وهمًا؟ من ناحيةٍ أخرى فإن عدم القبول — كما يعرف — قد يبدو في
نظر الألمان رفضًا مباشرًا وازدراءً، وربما نجح في تقوية وضع خَصمه
الرئيسي. كان دوق برنزويك ما زال يحظى بتأييد كبير في كلٍّ من إيطاليا
وألمانيا. وحيث إنه لم يكن قد تخلى عن أيٍّ من طموحاته بعيدة المدى،
كان يستطيع القيام بحملة جديدة، ولن يرتكب الخطأ نفسه في المرة
القادمة. مرة أخرى، كانت هنا فرصة لتوجيه ضربة قاضية له، فرصة ما كان
له أن يضيعها.
بعد قليل من التردُّد وافق البابا إنوسنت. من المؤكد أن اختيار
فردريك ملكًا كان سيقوي القبضةَ الإمبراطورية في شمال وجنوب الولايات
البابوية؛ ولكي يؤكد استقلالَ مملكة صقلية عن الإمبراطورية — على الأقل
نظريًّا — كان أن أصرَّ البابا على أن يتنازل فردريك عن العرش الصقلي
لصالح ابنه الوليد الجديد، وأن تكون كونستانس هي الوصية. بمجرد
الانتهاء من هذه الإجراءات الرسمية ومن أمورٍ أخرى أقلَّ أهميةً، كانت
الطريق قد أصبحت واضحةً تمامًا أمام فردريك. في آخر فبراير، أبحر هو
وجماعة من الرفاق من أهل الثقة من مسيني. لم تكن وجهته المباشرة
ألمانيا، وإنما روما؛ وهناك … يوم أحد الفصح ٢٥ مارس، ركع أمام البابا
وأدَّى فروض الولاء له نيابةً عن ابنه الملك، باسم مملكة صقلية. ثم
أبحر من روما إلى جنوة، على سفينة من جنوة كانت تحاول أن تضلِّل
الأسطول الذي أرسله أهالي بيزا (المؤيدون الأشداء لدوق برنزويك) لكي
يعترض طريقه. كان أهالي جنوة، على خلاف منافسيهم من أهالي بيزا، كانوا
غيبلليين
٣ متحمسين مثل عائلتهم القيادية «الدورياس
The Dorias» الذين وضعوا قصرهم الرئيسي
تحت تصرُّف الإمبراطور إلى أن أُعيد فتح ممرات الألب ليتمكن من مواصلة
رحلته. في الوقت نفسه، تم التوصل إلى اتفاق بموجبه وعد فردريك — مقابل
دعم كبير — بالإبقاء على كل المزايا الممنوحة لجنوة بواسطة أسلافه،
عندما يصبح إمبراطورًا.
حتى ذلك الحين، لم تكن الطريق إلى ألمانيا سالكة. في الثامن والعشرين
من يوليو استُقبل استقبالًا حارًّا في «بافيا Pavia»، ولكن سهلُ لومبارديا كان بشكل دائم تحت رقابة
دوريات عصابات من أهالي ميلانو الموالين ﻟ «جويلف Guelf»، وكانت إحدى تلك العصابات هي التي فاجأت الجانب
الإمبراطوري وهم يغادرون المدينة في الصباح التالي. كان فردريك محظوظًا
بالفعل؛ إذ تمكَّن من القفز فوق حصان يخوض به نهر «لامبرو Lambro» دون سَرج، ويشق طريقه نحو
«كريمونا Cremona» الصديقة. لا نعرف
أي الطرق سلك عبر الألب؛ إذ إن دوق برنزويك وجيشه كانوا عند
«ترنتو Trento». في أوائل الخريف، كان
فردريك قد وصل إلى ألمانيا بسلام.
•••
في الخامس والعشرين من يوليو ١٢١٥م، في كاتدرائية «آخن Aachen»، وعلى عرش شارلمان، قام رئيس أساقفة
«ماينز Mainz» بتتويج فردريك ملكًا
على الرومان، وهو اللقب التقليدي للإمبراطور المنتخب. كان في الحادية
والعشرين. كلُّ ما كان يريده الآن ليكتمل اللقب الإمبراطوري هو تتويج
آخر بواسطة بابا روما. قبل عام بالتحديد، في ٢٧ يوليو ١٢١٤م، كان جيش
فيليب أوجسطس ملك فرنسا قد هزم جيش أوتو ملك برنزويك وجون
John ملك إنجلترا في ساحة قتال
«بوفيان Bouviens» بالقرب من
«ليل Lille»، وقضى تقريبًا على كل
آمال أوتو في مقاومته. منذ ذلك اليوم أصبحت سيادته مؤكدة، والآن — ربما
شكرًا لله، وربما لكسب المزيد من رضا البابا — كان يعلن عن نيته
الاشتراك في حملة صليبية.
هناك بعض التصرفات أو المواقف في حياة فردريك تبدو لنا اليوم غيرَ
مفهومة. لم يكن تقيًّا أو ورِعًا على نحوٍ خاص، بالإضافة إلى أنه كان
قد شبَّ بين علماء ومفكرين مسلمين كما كان يحترم دينهم ويتحدث لغتهم.
كما أنه لم يكن في ذلك الوقت تحت ضغط من البابا أو أي شخص آخر. الحقيقة
أن هناك من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أنه سرعان ما ندم على وعده،
والمؤكد أنه لم يبدِ أيَّ رغبة في الوفاء به. كان عليه أن يبقى في
ألمانيا أربع سنوات أخرى أمضاها كلَّها تقريبًا في تأمين الخلافة
الإمبراطورية لابنه هنري الذي وصل من صقلية مع الملكة كونستانس في
١٢٧١م. في أواخر صيف ١٢٢٠م عاد والداه إلى إيطاليا تاركين هذا الصغيرَ
ذا الثماني سنوات خلفهم. بعد ذلك كانت هناك نهضة كبيرة في إيطاليا
كلِّها، وزَّع فيها فردريك العطايا والهِبات الملكية بما هو معروف عنه
من سخاء. في منتصف نوفمبر، وصل إلى روما، وفي اليوم الثاني والعشرين من
الشهر نفسه وضع البابا «أونوريوس الثالث Honorius
III» التاجَ الإمبراطوري على رأسه.
قبل خمس وستين سنة، كان جَده بربروسا قد اضطُر لقبول تتويج مهين
انتهى بشكل أقربَ إلى المذبحة.
٤ كانت تلك الأيام على أية حال ماضيًا انتهى أمره، والآن
كانت روما في حالة سلام — يشهد على ذلك كرَم فردريك الذي لا حدود له —
وعليه فقد كان حفل التتويج على درجةٍ عالية من الروعة، وربما لم تشهده
أي كاتدرائية من قبل. عندما تم، وظهر البابا والإمبراطور تحت شمس
الشتاء، لوحظ أن الإمبراطور — على خلاف بربروسا — كان ممسكًا، دون
تردُّد، برِكاب البابا وهو يمتطي حصانه، بعدها اقتاده من اللجام خطوات
قليلة قبل أن يمتطيَ حصانه هو الآخر. مثل تلك اللفتات لم تكن تعني
الكثير بالنسبة له. لم تكن الإمبراطورية إمبراطوريته فحسب، بل إنه كان
قد انتزع من البابا تعهدًا كان له قيمة كبيرة عنده، وهو إعادة مملكة
صقلية إليه. بعد ثماني سنوات في ألمانيا، كان فردريك يتوق للعودة إلى
باليرمو.
تلك السنوات حقَّقت له أكبرَ لقب علماني يمكن أن يخلعه العالم على
أحد، ولكنها كشفت له كذلك عن أنه كان جنوبيًّا في الصميم منه، كان
رجلًا من صقلية. كانت ألمانيا صادقة معه، ولكنه لم يكن يشعر بحبٍّ
نحوها، لم يشعر أنه في وطنه قط. على مدى سنواته الثمانية والثلاثين
كإمبراطور، لم يُمضِ سوى تسعٍ منها في شمال الألب، وعلى مدى حكمه
كلِّه، كان عليه أن يبذل قصارى جهده — رغم أنه لم يحقق في ذلك نجاحًا
واضحًا — أن يحوِّل بؤرة الإمبراطورية إلى إيطاليا، وكان في إيطاليا أن
أنجز أعماله الرئيسية. بدأها في أواخر ديسمبر ١٢٢٠م حتى قبل أن يعبر
مضايق مسيني، وذلك في أول مدينة مهمة في جبهته الشمالية؛ مدينة
«كابوا Capua».
أما بالنسبة لدولة صقلية فلم يكن لديه أيةُ أوهام، لمدة تزيد عن
الأربعين عامًا — منذ وفاة وليم الصالح في ١١٨٩م — كانت غارقة في
الفوضى. كان حكم والده الذي اتسم بالإرهاب قد زاد من العناد والسخط ثم
كانت هناك الأقلية التابعة له — لم تنجح أمه في الإمساك بزمام الأمور —
وتبِع ذلك غيابه الطويل في ألمانيا، الذي بقيت أثناءه الدولة كاسم
أكثرَ منها أي شيء آخر. كانت الأولوية لا بد أن تكون لإعادة النظام،
وكانت الخطوات الأولى لتحقيق ذلك هي البدء بما عُرف ﺑ «قوانين كابوا Assizes of Capua» التي جاءت فيما لا
يقل عن عشرين فصلًا، وهي سلسلة القوانين التي لا بد أنه كان يفكر فيها
قبل شهور. هذه القوانين وضعت أسسَ التجدُّد الوطني الذي كان ليستمر
بقيةَ سنوات حكمه. كانت تتضمن بالأساس عودةً إلى الأوضاع التي كانت
قائمة عندما مات وليم، وإعادة تركيز السلطة تحت التاج. كان أهم
القوانين الأبعد أثرًا قانون «استرجاع المزايا de resignandis privilegiis» الذي
نص على إعادة جميع المزايا التي مُنحت لأي شخص أو مؤسسة منذ ذلك الوقت،
مهما كانت صغيرة أو تبدو ضئيلة الأهمية، إلى المحكمة الملكية للتصديق
عليها، وذلك قبل ربيع ١٢٢١م. لا شك أن هذا المرسوم كان شديدَ الوطأة
على كبار الحاصلين على تلك المزايا من الذين كانوا يمثلون أكبرَ خطر
على سيادة التاج؛ طبقة النبلاء والكنيسة. بالنسبة لطبقة النبلاء، كانت
هناك ضربتان قويتان أخريان. لم يكن مسموحًا لأي مستأجِر لإقطاعية
بالزواج، ولا لأبنائه بالميراث دون موافقة عاهله، كما أن جميع القلاع
التي بُنيت في أي مكان من المملكة منذ وفاة وليم، تعود بشكل تلقائي
للتاج.
ما تم في كابوا تكرَّر، وإنْ على نطاق أضيقَ قليلًا، في الأشهر
التالية في مسيني وكاتانيا وباليرمو، ثم انتقل الإمبراطور إلى
«سيراكوزا Cyracuse» ليكون له شأن
آخَر مهم مع أهالي جنوة. كانت جنوة صديقةً دائمة، ولكن منذ ١٢٠٤م كان
تجار جنوة قد استحوذوا بالفعل على المدينة التي بسطوا نفوذهم منها على
كل الجزيرة. كان أحد أهم أسباب انهيار تجارة صقلية على مدى السنوات
الثلاثين السابقة هو أن معظمها كان قد أصبح في أيدي أجانب، ولم تكن
هناك أيُّ فرصة للعودة إلى الازدهار بينما الغرباء هم المتحكمون. وهكذا
بالرغم من المساعدات التي قدَّمها له أهالي جنوة أثناء رحلته إلى
ألمانيا، تصرَّف فردريك بحزم شديد كما كان معروفًا عنه. أسقطهم من
اعتباره تمامًا. أعطته قوانينه الجديدة كلَّ السلطات التي كان يريدها.
كل الامتيازات والمزايا التي كانت قد مُنحت لجنوة وليس في سيراكوزا
فحسب، بل وفي باليرمو ومسيني وترابانب وغيرها من المراكز التجارية …
كلها تم سحبها فورًا، كما أُعلن عن مصادرة كل مستودعات ومخازن جنوة
بمحتوياتها لصالح التاج الصقلي. كذلك اتُّخذت إجراءات مماثلة في بيزا
رغم أن حضور هذه المدينة في صقلية كان ضعيفًا وخسائرها صغيرة
نسبيًّا.
ولكن … مِن أسفٍ أنْ كان هناك عدوٌّ أكبر من جنوة لكي يواجهه؛ مسلمو
غرب صقلية. قبل ثلاثة أرباع القرن، على أيام الملك روجر، كان المجتمع
العربي هنا جزءًا لا يتجزأ ومحترمًا من المملكة. كان منه موظفو الخزانة
بالكامل، كما كان منه معظم الأطباء والفلكيين والعلماء الذين بفضلهم
ذاعت شهرةُ صقلية وسُمعتها في مجال العلم. إلا أن تلك الأيام كانت قد
انقضت. كان جزء كبير من المنطقة العربية (حيث كان يوجد حكم ذاتي) قد
مُنح ﻟ «دير
مونريال Abbey of Monreal» أثناء حكم وليم الصالح. بعد السقوط النهائي
للقوة النورمندية، وجد العرب أنهم لن يعودوا مقبولين ولا حتى محترمين،
ومن ثَم تراجعوا ليتركَّزوا في البرِّية والمناطق الجبلية الغربية حيث
كان قُطاع الطرق والقراصنة منهم يُلقون الرعب في قلوب المجتمعات
المسيحية المحلية. أول حملة ﻟ «فردريك» ضدهم في ١٢٢١م لم تكن حاسمة، في
العام التالي فقط تمكَّنت قواته من الاستيلاء على قلعة العرب المسلمين
في «إياتو Iato» ومعها القائدُ المسلم
ابنُ عباد الذي سرعان ما انتهت أيامه على المقصلة.
حتى إعدامُ ابن عباد لم يكن حلًّا نهائيًّا للمشكلة. الحل النهائي
جاء فقط بين ١٢٢٢م و١٢٢٦م عندما اتخذ فردريك إجراءً أكثرَ تطرفًا.
قرَّر نقلَ كل السكان المسلمين من المنطقة الغربية المتمردة — نحو خمسة
عشر أو عشرين ألف نسمة — من الجزيرة نهائيًّا، وإعادةَ توطينهم في
الطرف الآخر من مملكته في أبوليا الشمالية، التي أصبحت بالفعل مدينة
مسلمة؛ حيث حلَّ محل كل كنيسة من كنائسها مسجد. لم تكن أبوليا — وهذا
أمرٌ لا بد من تأكيده — مستوطنةَ عقاب بأي معنًى. كان سكانها يتمتعون
بكامل حريتهم، يمارسون شعائر دينهم، كما أن فردريك الذي كان قد نشأ مع
مسلمين منذ طفولته الباكرة، بنى لنفسه قصرًا هناك على الطراز الشرقي،
وكان أحد الأماكن المفضَّلة لإقامته.
من جانبهم، أظهر مسلمو «لوكيرا Lucera» ولاءهم الجديد بتقديمِ حرس شخصي له. كانوا أيضًا
يعملون في مصنع الأسلحة، وكان الحدَّادون منهم يصنعون نصال الصلب
الدمشقية لسيوفه التي لم يكن ينافسها سوى سيوف طليطلة، كما كان
النجارون يصنعون المنجنيق وغيره من الأدوات الحربية التي كانت عمليات
الحصار مستحيلةً بدونها. في الوقت نفسه كانت نساؤهم يزودن الإمبراطور
بما يلزم من الحريم والقيان اللائي كن يعشن حياةً مترفة في جناح خاص من
القصر مع الخادمات والخصيان. عددٌ من أولئك البنات سوف يصاحب
الإمبراطور في أسفاره، وبالرغم مما كان يقال عن أنهن كن هناك لتقديم
التسلية البريئة للبلاط، هناك قدرٌ من الشك — كما يشير جيبون قياسًا
على ما كان لدى الإمبراطور جورديان — بأنهن كن هناك فعلًا بقصد
الاستخدام وليس على سبيل التباهي والتفاخر.
في وقت تتويجه الإمبراطوري في نوفمبر ١٢٢٠م، أكَّد فردريك للبابا
أونوريوس العهدَ الذي كان قد قطعه على نفسه بعد تتويجه ملكًا على
الرومان؛ سيقوم شخصيًّا بقيادة حملة جديدة إلى فلسطين لاستعادة الأراضي
المقدَّسة للعالم المسيحي. كان من الصعب أن ينكث بعهده، وبالرغم من ذلك
يظل هذا التأكيد مثيرًا للدهشة؛ حيث كانت حملة، جمعها البابا من مصادرَ
مختلفة، قد أبحرت بالفعل باتجاه الشرق تحت قيادة «جون البريني John
of Brienne» الذي كان في
الثامنة والستين من عمره، والذي كان يحمل اللقب الفخري «ملك أورشليم»،
ولكن بعد وصول الفريق البابوي بقيادة الكاردينال الإسباني «بيلاجيوس Pelagius» أمير «سانتا لوتشيا St
Lucia»، أصرَّ بيلاجيوس على أن
تكون له القيادة كاملة.
هذه الحملة الخامسة،
٥ كما يُطلق عليها، كان هدفها الاستيلاء على مدينة دمياط
المصرية، التي كان من المأمول أن تُستبدل بالمدينة المقدسة نفسها. كان
حصار دمياط أصعبَ مما كان متوقعًا بكثير. استمر نحو سبعة عشر شهرًا،
وقبل أن ينتهيَ مباشرةً عرض عليهم السلطان الكامل، يائسًا، كلَّ مملكة
أورشليم غربي الأردن مقابلَ رحيلهم؛ وبكل غباء — كما اتضح فيما بعد —
رفض الكاردينال بيلاجيوس هذا العرض؛ إذ كان مصمِّمًا على غزو القاهرة …
ومصر كلها. سقطت دمياط في الخامس من نوفمبر ١٢١٩م، ولكن الحرب استمرَّت
نحو عامين آخرين، وكان يمكن أن تستمر أطول من ذلك، لولا أن حاصر فيضان
النيل جيش الصليبيين، ولم يخلِّصهم منه سوى الاستسلام. الحملة التي
كانت قريبة من النجاح، تحوَّلت إلى كارثة بسبب عناد قائدها الذي وصل
إلى درجة الحماقة.
مع فشل الحملة، وجد الإمبراطور أنه كان لا يزال تحت ضغطٍ أشدَّ لكي
يقوم بحملة أخرى — وأن يتخذ زوجةً أخرى كذلك. كانت الإمبراطورة
كونستانس قد ماتت في يونيو ١٢٢١م، وبعد عام، وصل المعلِّم الأعظم
للفرسان التيوتون، «هيرمان فون سالزا» دوق سوابيا، حاملًا اقتراحًا من
البابا بضرورة أن يتزوج فردريك الآن من «يولاند دي بريان
Yoland de Brienne»، الملكةِ
الوريثة لأورشليم التي كانت في الثانية عشرة من العمر.
٦ كان اللقب قد انتقل إليها عن طريق أمها «ماريا
Maria»، حفيدةِ الملك أمالريك الأول، التي
كانت قد تزوَّجت في سن السابعة عشرة من «جون صاحبِ بريان
John of
Brienne»، الذي كان في
العقد السابع من العمر. كان جون قد حمل لتوه لقبَ ملك. بعد موت زوجته
الباكر بعد عام أو عامين، كانت مطالبته بالعرش أمرًا لا خلاف عليه،
ولكنه كان قد استمر في حكم البلاد وصيًّا على ابنته الصغيرة، يولاند،
وكما رأينا كان قد قاد الحملة الخامسة المنكوبة.
لم يكن فردريك متحمسًا في البداية. كانت الخطيبة المقترحة له مفلسة،
كانت طفلة تقريبًا وعمره ضعف عمرها، أما بالنسبة للقبها فكان بلا معنًى
تقريبًا؛ إذ إن أورشليم كانت في أيدي المسلمين منذ نصف قرن تقريبًا. من
ناحيةٍ أخرى، كان هناك على الأقل حجَّة واحدة قوية مع الفكرة. المنصب
الملكي الذي كان يبدو شرفيًّا، يمكن أن يدعم مطالبته بالمدينة عندما
يقوم في النهاية بحملته التي تأجَّلت طويلًا. وهكذا بعد أخذٍ وردٍّ
وافق فردريك على العرض، كما وافق أثناء مناقشة مع البابا على أن تبدأ
حملته — التي كان زواجه مرتبطًا بها — يوم «خميس الصعود Ascension Day» الذي كان يوافق الخامس
عشر من أغسطس ١٢٢٧م، وأوضح أونوريوس أن أيَّ تأجيل سينجم عنه حرمانه
كنسيًّا.
وكان أن وصلت أربع عشرة سفينة من الأسطول الإمبراطوري في أغسطس ١٢٢٥م
إلى عكا، آخرِ القواعد الأمامية المتبقية في الشرق اللاتيني، لكي تقوم
بتوصيل يولاند إلى صقلية. حتى قبل رحيلها، كان قد تم تزويجها من
الإمبراطور بالوكالة؛ وبعد ذلك تم تتويجها في صور كملكة على أورشليم،
بعد أن كانت قد بلغت سن الرشد. آنذاك فقط، بدأت الرحلة التي كانت
لتأخذها إلى حياة جديدة بصحبة حاشيةٍ كان من بينها ابنةُ عم لها، كانت
تكبُرها بعدة سنوات. كان فردريك، مع أبيها، في انتظارها في برنديزي؛
حيث تم زواج آخرُ في الكاتدرائية في التاسع من نوفمبر. من أسفٍ أنه كان
زواجًا مشئومًا. في اليوم التالي غادر الإمبراطور المدينة مع عروسه
فجأةً ودون أن يبلغ والدها، عندما لحِق بهم جون أبلغته ابنته باكية أن
زوجها كان قد أغوى ابنة عمِّها! وعندما وصل فردريك ويولاند إلى
باليرمو، تم صرف الفتاة المسكينة بجفاء شديد على الفور لتكون ضمن
الحريم، كما تم إبلاغ والدها في الوقت نفسه بأنه لم يَعُد وصيًّا … ولم
يَعُد له الحق في لقبِ ملك.
٧
وسواء أكان غضب جون يعود أساسًا لمعاملة الإمبراطور لابنته أو
لخسارته مملكته الشرفية، فالأمر ليس واضحًا. على أية حال، فإنه ذهب من
فوره إلى روما حيث كان من المتوقَّع أن يقف البابا أونوريوس إلى جواره،
ورفض أن يعترف باتخاذ فردريك اللقب الملكي. أدَّى ذلك إلى زيادة توتر
العلاقات الإمبراطورية البابوية التي كانت بالفعل عند أدنى مستوًى لها
بسبب تباطؤ فردريك المستمر في القيام بالحملة — التي كان قد وعد بها
قبل أحد عشر عامًا — ورفضِه الاعترافَ بسلطة البابا على شمال ووسط
إيطاليا. اتخذ الخلاف منحًى أعمقَ عندما مات أونوريوس في ١٢٢٧م ليخلفه
«هوجو
Hugo»، كاردينال أوستيا، الذي
اتخذ اسم «جريجوري التاسع
Gregory
IX».
٨ جريجوري الذي كان طاعنًا في السن بدأ كما كان يقصد أن
يسير. كتب إلى فردريك بعد تنصيبه مباشرةً يقول: «انتبِه ألا تضع فطنتك
التي تشترك فيها مع الملائكة، في مستوًى أقل من حواسك التي تشترك فيها
مع البهائم والنباتات.» بالنسبة للإمبراطور الذي كان فسوقه قد أصبح
أسطوريًّا في وقت قصير، كانت تلك طلقةً مؤثِّرة عبْر الأقواس.
في ذلك الوقت كانت الحملة تستجمع قواتها. كان سيلٌ لا يتوقف من
الفرسان الألمان يعبرون الألب ويتدفقون على طريق الحج في إيطاليا
للانضمام إلى الإمبراطور في أبوليا؛ حيث كان الجيش سوف يستقل السفن من
هناك متجهًا إلى الأراضي المقدَّسة. ولكن آنذاك، في الحرارة الشديدة في
أبوليا في شهر أغسطس، كان أن انتشر وباء، ربما كان تيفودًا أو كوليرا،
ليجتاح معسكر الصليبيين بقوة. كان فردريك قد اصطحب يولاند إلى
«أوترانتو Otranto» أولًا، ثم إلى
جزيرة «سانت أندريا St Andrea»
البعيدةِ عن الشاطئ حرصًا على سلامتها؛ إذ كانت حاملًا؛ إلا أنه سقط هو
نفسه أمام الفيروس اللعين، كما سقط كذلك كونت «ثرنجيا Thuringia» الذي كان قد جاء معه بعدة مئات
من جنود الخيَّالة. ركب الرجلان المريضان السفينةَ بالرغم من ذلك،
وأبحرا من برنديزي في شهر سبتمبر، ولكن بعد يوم أو يومين مات الكونت،
وهنا أدرك فردريك أنه هو نفسه كان مريضًا ولا يستطيع مواصلةَ الرحلة.
دفع الناجين من أفراد الحملة أمامه، مع تعليمات بالقيام بكلِّ ما
يمكنهم من استعدادات على أن يتبعهم عندما يصبح قادرًا … وعلى أكثر
تقدير، قبل مايو ١٢٢٨م؛ كما أرسل في الوقت نفسه السفراء إلى روما
لإطلاع البابا على الموقف.
إلا أن جريجوري رفض أن يستقبلهم، وبدلًا من ذلك أصدر منشورًا
بابويًّا مقرعًا يتَّهم فيه الإمبراطور — صراحة — بحنْثه بقَسمه
بالنسبة للحملة. لم يحدِّد هو شخصيًّا موعدًا جديدًا لانطلاقه، بعد
تأجيلٍ أكثرَ من مرة. ألم يكن قد وافق على حرمانه كنسيًّا إن لم يفِ
بوعده؟ ألم يتصور أن يكون انتشار الوباء حتميًّا بسبب تكدُّس كل تلك
الألوف من الجنود والحجاج في حر الصيف الشديد؟ ألم يكن هو شخصيًّا
مسئولًا عن هذا الوباء وعن حالات الوفاة الناجمة عنه بما فيها وفاة
الكونت؟ ولكن مَن ذا الذي يستطيع أن يؤكد إصابته هو نفسه؟ ألم تكن تلك
محاولة أخرى للتملص من تعهداته؟ في التاسع والعشرين من سبتمبر، أعلن
البابا حرمان فردريك كنسيًّا.
بهذا الفعل، كان أن خلق فردريك لنفسه مشكلة جديدة. كان من الواضح
بذاته أن المحرومين كنسيًّا لا يمكن أن يقودوا حملاتٍ صليبية، وبمرور
الأيام كان يتضح أكثرَ فأكثر أن ذلك تحديدًا هو ما كان فردريك ينوي
فِعله. كانت هناك حقيقةٌ أخرى بدأت تظهر؛ لقد بالغ البابا في استخدام
سلطته. ردَّ فردريك برسالة مفتوحة موجَّهة إلى كلِّ مَن حملوا الصليب،
يشرح موقفه بهدوء وروية متوسلًا التفهم والاسترخاء، ضاربًا بذلك مثالًا
للأسلوب الذي كان ينبغي على الأب الأقدس أن يتبعَه. كان للرسالة أثرها.
عندما قام البابا جريجوري يوم عيد القيامة ١٢٢٨م بعظة ضمنها غضبه على
الإمبراطور، ثار عليه جميع المصلين، وطاردوه ليخرج من المدينة ويلجأ
إلى «فيتيربو Viterbo». واصل حملته من
هناك. إلا أنه، بينما كان قبل أشهرٍ قليلة يحث فردريك على القيام
بالحملة، كان هو الآن في الوضع المثير للسخرية … كان يعارض الحملة … إذ
كان يعرف أن عودة الإمبراطور منها منتصرًا، ستكون ضربةً موجعة لمكانة
البابا، لن تبرأ منها قبل وقت طويل.
•••
يوم الأربعاء الموافق للثامن والعشرين من يونيو ١٢٢٨م، أبحر
الإمبراطور فردريك الثاني من برنديزي بأسطولٍ قوامه نحو ستين سفينة
متجهًا إلى فلسطين. كان الآن قد استعاد صحته، إلا أن علاقته بالبابا لم
تكن قد تحسَّنت بالقدْر نفسه. الحقيقة أن البابا عندما اكتشف أنه كان
يستعد للمغادرة، أصدر حرمًا كنسيًّا آخر في الثالث والعشرين من مارس.
(وآخر في الثلاثين من أغسطس). كان فردريك قد أصبح أبًا مرة أخرى. قبل
شهرين كانت يولاند قد وضعت طفلًا ذكرًا، «كونراد Conrad»، ماتت بعد أيام قليلة من ولادته بسبب حمَّى
النِّفاس. مسكينة! لم تتمنَّ قط أن تكون إمبراطورة، وعندما كان عليها
أن تغادر فلسطين بكت بمرارة. فكريًّا، لم يكن لديها ما يمكن أن تقدِّمه
لزوجها واسع الثقافة؛ وبدوره لم يكن هو أيضًا يوليها اهتمامًا كبيرًا …
على الأقل إلى أن عرف أنها كانت حاملًا في طفل منه. يبدو أنها كانت قد
أمضت الثلاثين شهرًا البائسة من زواجها وهي تتوق لرؤية الشرق اللاتيني،
فهل يسمح لها فردريك بذلك لو أنها عاشت؟ هل شعر نحوها بأي درجة من
الحزن؟ يبدو أننا لن نعرف. ربما كان فكره مشغولًا بحقيقةِ أن موتها قد
أضعف بشدة من موقفه لكي يطالب بمملكة أورشليم؛ لأنه كان الآن — بالضبط
— في نفس وضع جون البريني العجوز؛ إذ كان جون يحتفظ باللقب باعتباره
زوجًا للملكة الشرعية … وهكذا كان هو أيضًا. بوفاتها، سينتقل اللقب إلى
ابنها، كونراد الصغير.
لم يكن من المحتمَل، على أية حال، أن يبحث كونراد دعوى أبيه في
المستقبل المنظور، كما أن الإمبراطور كان لديه مشكلات دبلوماسية أخرى
تشغَل تفكيره. كانت إمبراطورية صلاح الدين آنذاك تحت حكم ثلاثة إخوة من
قبيلته؛ بيت أيوب: الكامل سلطان مصر، والأشرف الذي كان يُعرف بسلطان
بابل ومقرُّه بغداد، والمعظم حاكم دمشق مع سلطة مباشرة على أورشليم
والأراضي المقدسة. المعظم الذي كان يشكُّ في أخويه (وكانت هناك أسباب
كافية لذلك)، ويعتقد أنهما كانا يخطِّطان للاتحاد ضده، كان قد تحالف
مؤخرًا مع أتراك خوارزم، وحاصر الأشرف في عاصمته. أما الكامل في
القاهرة الذي كان يخشى أن يكون التالي على القائمة، فقد استنجد بفردريك
سرًّا؛ إذا تمكَّن الإمبراطور من أن يطرد المعظم من دمشق، فسيصبح هو
نفسه في وضعٍ يمكِّنه من أن يعيد له المنطقةَ المفقودة من أورشليم. جاء
ردُّ فردريك متعاطفًا. كان من الواضح أن من صالحه تشجيعَ مثل هذا
الانشقاق في الشرق الإسلامي قدرَ المستطاع، وحيث إنه كان قد أمضى شبابه
في بيئة شبه إسلامية ويفهم الذهنية العربية ويتحدَّث لغتهم، كان في
وضعٍ ممتاز لكي يفعل ذلك. وهو على وشْك المغادرة مع الحملة، جاءته
أخبار موت المعظم، وبدا الأمر وكأن حماسة الكامل للتحالف كانت
تذوي.
بعد ثلاثة أسابيع أو أكثر قليلًا، رسا الأسطول الإمبراطوري في ٢١
يوليو في ميناء ليماسول في قبرص. كان ريتشارد قلب الأسد قد استولى عليه
في ١١٩١م ويريد أن يبيعه فرسان الهيكل، وعندما وجد أنهم لا يستطيعون أن
يدفعوا ثمنه، أعطاه ﻟ «جاي»، ملكِ أورشليم المخلوع.
٩ أسَّس جاي مملكة إقطاعية، والغريب أنها بقيت حتى نهاية
العصور الوسطى. ربما كانت تلك المملكة إقطاعة من الإمبراطورية
الرومانية المقدسة؛ حيث أعلن «ألمريك
Almeric» — شقيقُ جاي وخليفته — الولاءَ ﻟ «هنري السادس»،
والدِ فردريك. إلا أنه كانت هناك صعوبات من بينها أن الملك الحالي كان
قاصرًا لم يبلغ سنَّ الرشد بعد، وأن الحاكم الفعلي بالوصاية وهو
«جون الإيبليني
John of Ibelin» كان
في الوقت نفسه حاكم بيروت، وواحدًا من أغنى وأقوى شخصيات الشرق
اللاتيني. كان كثيرٌ من أبناء طبقة النبلاء القبارصة يمتلكون إقطاعيات
وعزبًا كثيرة في فلسطين وسوريا، وكان عدم استعدائهم مهمًّا.
إلا أن فردريك تعامل معهم بما هو أسوأ من ذلك. كان في البداية ودودًا
ومجاملًا، دعا جون الإيبليني مع الملك الصغير والقادة والبارونات
المحليين إلى وليمة كبيرة في قلعة ليماسول. كان كل شيء يبدو هادئًا …
وفجأةً اقتحم جماعةٌ من الجنود القاعةَ واتخذوا مواقعهم حول جدرانها.
وفي الصمت الرهيب الذي خيَّم على المكان، قام الإمبراطور ليُبلِغ جون
الإيبليني، بصوتٍ أشبه بالرعد، أنه كان يريد منه أمرين، وكان ردُّ جون
بأنه كان يسعده الاستجابة ما دام يعتبر ذلك حقًّا. طلب فردريك: أولًا،
مدينة بيروت التي زعم أنها لم تكن من حق جون. ثانيًا، كل عائدات قبرص
منذ تسلَّم الملك الصغير العرش. لم تكن تلك المطالب معقولة، كما أن
الغطرسة التي أُعلنت بها ومحاولات الإكراه والتهديد الواضحة — بينما
كان ينبغي أن يكون كل المعنيين مشمولين بتقاليد كرم الضيافة — كل ذلك
جعل التأثير أكثر سوءًا. أجاب جون على قدرِ استطاعته في هذا الموقف.
سيحتفظ ببيروت من قِبل ملك أورشليم. لم يكن لها صلة بقبرص؛ وبالرغم من
اعترافه بسلطة الإمبراطور على الجزيرة، لم يستطِع أن يقر بسلطة مماثلة
على سوريا وفلسطين. أما بالنسبة لعائدات قبرص فقد كانت تسلَّم بانتظام
وعلى النحو الصحيح لأمِّ الملك، الملكةِ «آليس Alice»، باعتبارها الوصية.
غضب فردريك ولكنه لم يصمِّم. لم يكن الوضع القانوني للبَر الرئيسي
واضحًا. كانت مملكة أورشليم مقطَّعة الأوصال — يمكن أن نقول ممزَّقة —
بسبب غزو صلاح الدين للمدينة المقدسة، كما أنها كانت قد ازدادت ضَعفًا
بسبب الكوارث التي جرَّها عليها سلسلة من الأقليات. كان كثير من
البارونات بمن فيهم عائلة إيبلين، قد أصبحوا أكثرَ ثراء وقوة من
ملكِهم، وكانوا يتصرفون غالبًا على هذا الأساس. لم يكن فردريك يستطيع
أن يتدخل بقوة في أمور كثيرة. كان بالإضافة لذلك متعجلًا ويعرف جيدًا
أن البابا كان يضع عينه على مملكة صقلية، وأنه إذا بقي طويلًا في الشرق
فإن غزوها لن يتأخر كثيرًا. كان أمله الوحيد أن يتحرك بسرعة، يضرب
ضربته ويعود إلى بلاده بأسرعِ ما يمكن. من هنا لم يكن أمامه من خيار
سوى أن يكمل رحلته — مصطحبًا معه ملك قبرص الصغير.
رسا في صور بالقرب من نهاية العام ١٢٢٨م. كانت هناك وحدات من فرسان
الهيكل والإسبتارية لتحيته ولتزيد من حجم جيشه الذي كان قد أصبح
كبيرًا، ولكن فردريك لم يكن لديه أي نية للقتال … إن كان بالإمكان
تحقيق أهدافه عن طريق الدبلوماسية السلمية. أوفد سفيرًا للسلطان الكامل
الذي كان قد استحوذ بالفعل على أراضي شقيقه المتوفَّى، كما كان نادمًا
بشدة على عرضه السابق. أشار السفير إلى أن الإمبراطور قد جاء بدعوة من
السلطان، وحيث إن العالم كان قد عرف أنه هنا، فكيف له أن يعود خالي
الوفاض؟ فقدان الثقة قد يكون قاتلًا، ولن يكون بمقدور الكامل أن يجد له
حليفًا مسيحيًّا بعد ذلك. أما بالنسبة لأورشليم، فكانت في تلك الأيام
مدينةً عديمة الأهمية، بلا دفاعات، مهجورة تقريبًا؛ وحتى من وجهة النظر
الدينية كانت أقل أهمية بالنسبة للإسلام منها بالنسبة للمسيحية. ألن
يكون استسلامها ثمنًا قليلًا مقابل علاقات سلمية بين المسلمين
والمسيحيين، ومن ثَم لرحيله الفوري؟
لم تكن هناك أي تهديدات، صريحة على الأقل. ولكن الجيش الإمبراطوري
كان مستعدًّا وقوَّته كبيرة، وكان السلطان في وضعٍ مستحيل. كان
الإمبراطور هناك على عتبة بيته ينتظر الحصول على ما وُعد به، ومن غير
المرجَّح أن ينصرف قبل أن يحصل عليه. في الوقت نفسه كان الوضع في سوريا
يسبِّب له إزعاجًا على نحوٍ متزايد؛ حيث كانت محاولات الكامل الاستيلاء
على دمشق لا تحقِّق أهدافها. أخيرًا رضخ السلطان ووافق على اتفاقيةٍ
مدتها عشر سنوات بشروط معينة: بداية، تظل أورشليم دون حماية. جبل
الهيكل وقبة الصخرة والمسجد الأقصى المقابل لها تبقى في أيدي المسلمين
مع أحقية المسيحيين في زيارتها، وكذلك «حبرون Hebron» (الخليل). كذلك يحق للمسيحيين أن تكون لهم
مزاراتهم المقدسة الأخرى في «بيت
لحم Bethlehem»، و«الناصرة Nezareth»، مع تفاهمٍ على أن تكون مرتبطة بالمدن المسيحية
على الساحل بممر ضيق عبْر ما سوف يظل أراضيَ إسلامية.
يوم السبت الموافق السابع عشر من مارس ١٢٢٩م دخل فردريك أورشليم
رسميًّا، وكان ما زال تحت الحِرْم الكنسي. في اليوم التالي، وفي تحدٍّ
واضح للبابا حضر قداسًا في كنيسة «المذخر المقدس
The Holy Sepulcher» مرتديًا تاجه
الإمبراطوري. كان قد حقَّق بالفعل كلَّ ما يريد … فعل ذلك دون إراقة
قطرة دم واحدة … مسيحيًّا كان أو مسلمًا. كان المتوقَّع أن يعمَّ الفرح
المجتمع المسيحي، ولكن رد الفعل كان غاضبًا. فردريك الذي كان ما زال
تحت الحِرْم الكنسي جرؤ على أن تطأ قدمه الأراضي المسيحية المقدسة التي
فاز بها بالتواطؤ مع سلطان مصر؛ أما بطريرك أورشليم الذي كان قد تجاهل
الإمبراطور منذ وصوله، فكان الآن يعبِّر عن استيائه بوضع المدينة كلها
تحت الحِرْم الكنسي. تم حظر الطقوس الدينية في الكنائس؛ البارونات
المحليون كانوا غاضبين؛ لأنهم لم يُستشاروا، زاد غضبهم عندما وجدوا
الأراضي التي تم استعادتها في الجليل تُعطى للفرسان التيوتون
١٠ في حاشية الإمبراطور، وليس لمُلَّاكها التقليديين من
العائلات الكبيرة. كانوا يتساءلون كيف يمكنهم الاحتفاظُ بكل تلك
الأراضي التي استحوذ عليها فردريك بشكل مريب، بعد أن يكون الجيش
الإمبراطوري قد عاد إلى الغرب.
كانت القشَّة الأخيرة، سواء بالنسبة لرجال الدين أو العامة، هي
اهتمامَ الإمبراطور — وافتتانه — بعقيدة المسلمين وبالحضارة الإسلامية
عمومًا. لقد أصرَّ على سبيل المثال على زيارة قبَّة الصخرة — التي كتب
دراسة تفصيلية عن معمارها،
١١ وكذلك المسجد الأقصى حيث يقال إنه عبَّر عن خيبة أمل شديدة
لعدم سماعه الأذان (كان السلطان قد أمر المؤذِّن بالسكوت علامة على
الاحترام)، وكشأنه دائمًا كان يسأل كلَّ عالم مسلم يقابله عن دينه
وعمله وأسلوبه في الحياة … وعن كلِّ ما يعنُّ له. كان ذلك التوجه
صادمًا بالنسبة لمسيحيي الشرق اللاتيني. حتى لغة الإمبراطور العربية
الفصيحة كانوا يأخذونها عليه. كانت شعبيته تنخفض مع كل يوم يمضيه في
أورشليم، وعندما تحرَّك للذهاب إلى عكا — ونجا بصعوبةٍ من كمين كان قد
أعدَّه له فرسان الهيكل في الطريق — وجد المدينة على شفا تمرُّد
كبير.
في ذلك الوقت كان هو أيضًا في حالة نفسية سيئة، مصدومًا بسبب الجحود
الواضح من رفاقه المسيحيين رغم استعداده للعطاء قدرَ استطاعته. أمر
جنوده بمحاصرة عكا ومنْع أي شخص من الدخول أو الخروج. ضرب رجال الكنيسة
الذين كانوا يعظون ضده بالفلقة. كذلك لم تتحسَّن حالته النفسية بسبب
تقارير عن غزو مملكته الإيطالية بجيشٍ بابوي بقيادة العجوز جون
البريني، وكان ذلك سببًا إضافيًّا لكي يغادر تلك الأراضي الجاحدة
بأسرعِ ما يستطيع. أمر بتجهيز أسطوله لكي يبحر في الأول من مايو. بعد
فجر ذلك اليوم، وبينما كان مارًّا بحي القصابين إلى السفن المنتظرة كان
الناس يرشقونه بالنفايات. بصعوبة بالغة، استطاع جون الإيبليني الذي كان
قد جاء إلى رصيف الميناء ليكون في وداعه، أن يعيد الهدوء
للمدينة.
•••
بعد فترة توقُّف قصيرة في قبرص، وصل الإمبراطور إلى برنديزي في
العاشر من يونيو، ليجد إمبراطوريته في حالة فوضى شديدة. عدوه القديم
جريجوري التاسع استغل غيابه ليشن عليه حملةً شعواء، ويكتب لأمراء
وكنائس أوروبا الغربية يطلب المال والعتاد للهجوم على وضع فردريك في
ألمانيا وإيطاليا. في ألمانيا لم تترك محاولات البابا لتثبيت إمبراطور
منافس في شخص أوتو أمير برنزويك أثرًا كبيرًا؛ من ناحية أخرى قام في
إيطاليا بتنظيم غزو مسلَّح لطرد فردريك من الجنوب مرةً أخرى وإلى
الأبد، لكي يتم حكم المنطقة من روما مباشرة. كان القتال الضاري
مستمرًّا في ذلك الوقت في «أبروزي Abruzzi» وحول «كابوا Capua»، بينما كانت عدة مدن في أبوليا — ممتلئة بعملاء
البابا — قد صدَّقت الشائعات التي تردَّدت عن موت فردريك، وكانت في
حالة تمرُّد. ولكي يشجِّع مدنًا أخرى لكي تحذوَ حذوها، أصدر جريجوري
مرسومًا يعفي بموجبه كلَّ رعايا الإمبراطور من يمين الولاء.
كان الموقف خطيرًا، ولكن منذ لحظة وصول فردريك بدأ المد يغيِّر
اتجاهه. هنا كان الإمبراطور مرةً أخرى بين شعبه، لم يمُت، بل ومنتصرًا
بعد أن استعاد الأماكن المقدسة للعالم المسيحي دون إراقة دماء. ربما لا
يكون إنجازه قد ترك انطباعًا جيدًا لدى المجتمعات المسيحية في الشرق
اللاتيني، ولكن شعب الشمال الإيطالي وصقلية كان ينظر إلى ما تحقَّق في
ضوءٍ آخرَ. يضاف إلى ذلك أن فردريك نفسه بعودته إلى مملكته أصبح
إنسانًا مختلفًا على الفور. ذهب عنه الغضب والعنف ولغة التهديد. ذهب
عدم الشعور بالأمان وفقدان الفهم وعاد إلى الاتزان والسيطرة. أمضى ذلك
الصيف كله في الحملة لا يعرف التعب أو الكلل، وفي آخر أكتوبر كان الجيش
البابوي قد انكسر.
إلا أن جريجوري التاسع لم ينكسر. كانت المصالحة النهائية بينهما
طويلة جدًّا، كانت عملية صعبة ومؤلمة. في الشهور التالية سيقدِّم
فردريك التنازل بعد التنازل، وكان أثناء ذلك يعرف أن البابا العنيد ما
زال يحتفظ بسلاحه الأكثر تدميرًا. كان فردريك ما زال محرومًا كنسيًّا؛
عائق جسيم، وخزي دائم، ومسئولية دبلوماسية خطيرة. وكمسيحي أيضًا — على
قدرِ ما كان — لم يكن فردريك يريد أن يموت ملعونًا من الكنيسة. ولكن
جريجوري كان مستمرًّا في المراوغة حتى يوليو ١٢٣٠م، عندما وافق على مضض
على اتفاقية سلام — تم توقيعها في «كبرانو Ceprano»، في آخر أغسطس — ورفع حكمه. بعد شهرين كان
الرجلان يتناولان العشاء معًا في القصر البابوي في «أناجني Anagni». كان العشاء، كما قد نتصوَّر، لا
بد أن يكون بعيدًا عن مشاعر المودة على الأقل في البداية، ولكن فردريك
كان يتمتع بسحرٍ شخصي يستخدمه عندما يريد، ويبدو أن البابا كان يشعر
بالرضا بحقٍّ؛ لأن الإمبراطور الروماني المقدس تجشَّم مشقة زيارته بشكل
غير رسمي بعيدًا عن كل مظاهر الأبهة؛ وهكذا انتهى أحد الصراعات
الهرقلية بين إمبراطور وبابا، التي يبدو أن تاريخ العصور الوسطى يغفلها
عادة.
•••
في ١٢٣١م كان فردريك في وضعٍ يسمح له بإصدارِ ما أصبح يُعرف ﺑ
«دساتير
ميلفي Constitutions of Melfi»، بعد جمع وتنظيم وتصنيف كامل للقانون على نطاقٍ لم
يحاوله أحد منذ أيام جستنيان قبل سبعة قرون. أصبح الإمبراطور يتحكم
تمامًا في القضاء الجنائي، وأنشأ هيئةً من القضاة المتجولين تعمل
باسمه، وقلَّص حريات البارونات ورجال الدين والمدن، ووضع أسسَ حكمٍ
حازم لا مثيل له سوى في إنجلترا، مع تمثيل مماثل للنبلاء ورجال الكنيسة
والمواطنين.
الحقيقة أن «ريجنو Regno» (كما كانت
تُعرف مملكة صقلية) كانت الأقلَّ إزعاجًا من بين كل ممتلكاته. كان قد
وُلد هناك وكان يعرف كلَّ شبر منها ويفهم شعبها. كانت الأمور مختلفة في
المنطقتين الأخريين الكبيرتين الخاضعتين لحكمه؛ الشمال الإيطالي،
وألمانيا، حيث كانت القوة الإمبراطورية — التي لم يكن لها أساسٌ قوي
مثل ذلك الذي كانت إنجلترا وفرنسا ترسِّخه بفضل عروشها المتوارَثة — قد
انهارت بشكل كبير على مدى السنوات المائة السابقة. في الشمال الإيطالي،
على نحوٍ خاص، كانت المدن والبلدات الكبيرة في لمبارديا شوكةً دائمة في
خاصرة الأباطرة المتوالين — لم يعانِ منهم أكثر من بربروسا جَد فردريك،
الذي كان قد لقي شرَّ هزيمة في «ليجنانو Legnano» قبل أكثرَ من نصف القرن بقليل. للمحافظة على
استقلالها، كانت سياساتهم الأكثر نجاحًا دائمًا، هي الوقيعة بين البابا
والإمبراطور واللعب على هذا الوتر. أخبار المصالحة التي تمَّت في ١٢٣٠م
أصابتهم بالفزع. كان قد تم إحياء الرابطة اللمباردية
Lombard League على عجل، وكان أعضاؤها
ينظِّمون صفوفهم ضد الخطر القادم.
كانوا محقِّين في ذلك. لو أن فردريك كان على استعداد لتقسيم
إمبراطوريته، مخصصًا ألمانيا لنفسه وإيطاليا لابنه هنري — أو حتى فعل
العكس — كان لا بد من أن يترك الشمال الإيطالي لرغبته الخاصة، إلا أن
ذلك لم يكن توجُّه الإمبراطور. ولأنه كان مصرًّا على أن يحكم المنطقتين
بنفسه، كان يعرف أن طريقًا آمنة بينهما ضرورةٌ، كما كان هناك سبب آخر.
بالنسبة له كانت إيطاليا دائمًا أهمَّ من ألمانيا. إنها، في النهاية،
الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وليست ألمانيا المقدسة. كانت عاصمتها
روما، ولا بد من أن ينقلها إلى روما مرة أخرى.
كخطوة أولى نحو تحقيق هذا الهدف، قام الإمبراطور باستدعاء ابنه هنري
وكلِّ الأمراء الألمان الكبار وممثلي المدن الكبرى في الشمال الإيطالي
لمجلس «رافينا Ravenna» يومَ «عيد
جميع القديسين All Saints’ Day»
الموافق الأول من نوفمبر ١٢٣١م. بذل كلَّ ما في وُسعه لكي يزيل مخاوف
اللمبارد. تعهَّد بألا يأتيَ معه بأي حراسة عسكرية، حاشية شخصية فحسب،
وأن تتم كل الإجراءات «على شرف الرب والكنيسة والإمبراطورية وصالح
لمبارديا». كان بلا أي شك يعني كلَّ كلمة، ولكن علامات الخطر ما كانت
لتخفى على اللمبارد. لم يكونوا يريدونه، ولا يريدون جماعة من البارونات
الألمان المشاكسين. قاموا على الفور بإغلاق ممرات الألب. لم يكن ذلك
الإجراء ناجحًا تمامًا (تمكَّن كثير من المندوبين من الدوران حول
الحصار وشقُّوا طريقهم عبر مسار شرقي يمر ﺑ «فريولي Friulii»)، ولكن المجلس تأخَّر نحو شهرين.
على الرغم من ذلك احتفلت الوفود بعيد الميلاد، وأقاموا العروض بما في
ذلك عرضُ مجموعة حيوانات الإمبراطور الشهيرة التي كانت ترافقه في كل
أسفاره، بما فيها من الصقور الفريدة والأسود والفهود والجمال والقردة
والنسانيس … وفيل، كان تأثيره على المزارعين المحليين يفوق الخيال. كان
فردريك ماهرًا في التباهي ويحبه. كان يدرك أن هناك مندوبًا غائبًا، هذا
المندوب وهو الأهم كان ابنه هنري ملك الرومان. لم يكن هنري قد أرسل
أيَّ تفسير لغيابه — ناهيك عن اعتذاره — وسرعان ما اتضح أنه لم يحاول
حتى الاستجابة لاستدعاء والده.
ربما كان السبب مجردَ ارتباك. ليس هذا هو المكان لمناقشة الإدارة
الإمبراطورية في ألمانيا، يكفي القول إن هنري كان قد تُرك بواسطة والده
كصاحب لقب فخري وهو في الثامنة؛ ومن ثَم عندما بلغ سن الرشد في الثامنة
عشرة لم يكن يشعر بكثير من الحب والولاء نحو أبٍ لا يربطه به سوى
ذكريات شاحبة من الطفولة. وباتباعه سياسةَ مواجهة مع الأمراء الألمان
عكس تلك التي كان يتبعها فردريك، نجح في استعدائهم عليه؛ ولذا عندما
بلغ السيل الزبى في ١٢٣١م، انتزعوا منه سلسلة كاملة من الحقوق والمزايا
فأضعفوا القوةَ الإمبراطورية في ألمانيا.
وهو في حالة غضب شديد، دعا فردريك لمجلس آخرَ في الصيف التالي في
«أكيليا Aquilea»، موضحًا أن ابنه سوف
يتجاهل الدعوةَ ويعرِّض نفسه للتهلكة. هذه المرة لم يجرؤ هنري على
العصيان واضطُر للقسم على أنه من الآن فصاعدًا سوف يدافع عن موقف وحقوق
الإمبراطور، وقام بطرد المستشارين الذين كانوا قد شجَّعوه على سياساته
الكارثية السابقة. ولكن إذا كان فردريك قد تصوَّر أنه بابن مطيع وأمراء
مستعدين للمساعدة يمكنه أن يُخضِع لمبارديا، فلا بد أن يكون قد أخطأ.
معظم السنوات التسع عشرة الأخيرة من حياته ما كان ليقضيها في حروب في
أرجاء شبه الجزيرة الإيطالية محاولًا بقوة، كما حاول جَده من قبل،
ترسيخَ سلطانه. كان هناك على أية حال فارقٌ كبير مهم بينهما. كان
فردريك بربروسا ألمانيًّا قلبًا وقالبًا، إمبراطوريته كانت إمبراطورية
ألمانية، أما بالنسبة لفردريك الثاني فقد كانت إيطاليا تأتي أولًا
دائمًا، وبالرغم من المصالحة العارضة المؤقتة، فإن ذلك كان يضمن عداء
البابا الذي كان يشعر أنه مضغوط بين المنطقتين الإمبراطوريتين:
لمبارديا وريجنو.
على مدى تلك السنوات الأخيرة، كان هناك عدد كبير من الشخصيات
القيادية لا بد من استبدالهم. هنري، ملك الرومان أُزيح عن العرش في
١٢٣٥م بعد عدة بوادر تدل على عدم الطاعة، ليخلفه بعد عامين أخوه غير
الشقيق: كونراد.
في ذلك العام نفسه، تزوَّج فردريك مرة أخرى، وستكون زوجته الثالثة
هذه المرة هي «إيزابيللا Isabella»
شقيقة هنري الثالث ملكِ إنجلترا. البابا جريجوري، بعد أن حرم فردريك
كنسيًّا مرةً أخرى في ١٢٣٩م، مات في ١٢٤١م. ولو أن خليفته — العجوز
البائس «سيلستين الرابع Celestine IV»
— كان قد بقي على قيد الحياة، فلربما كانت متاعب فردريك قد انتهت، ولكن
بعد سبعة عشر يومًا تبِع سليستين البابا جريجوري إلى العالم الآخر. على
مدى العام ونصف العام التاليين، وبينما كان الإمبراطور يجهِّز أسطولًا
ضخمًا ليبحرَ به ضد جنوة وفينيسيا، كان في نفس الوقت يبذل كلَّ جهده
ليسيطر على الانتخاب القادم … ولكن دون جدوى؛ فالكاردينال الجنوي
«سينيبالدو دي
فيشي Sinibaldo dei Fieschie»، الذي أصبح إنوسنت الرابع في يونيو ١٢٤٣م، ثبَت أنه
كان أكثرَ عداء من جريجوري. بعد عامين فحسب من توليه المنصب، وفي مجلسٍ
عامٍّ في «ليون Lyons»، أُعلن عزل
فردريك الذي كان محرومًا كنسيًّا، وتم تجريده من كل ألقابه
ومناصبه.
إلا أن الأباطرة لا يُلقى بهم بمثل هذه السهولة. كان اسم عائلة
«هوهنشتوفن Hohenstaufen» ما زال
يحتفظ بمكانةٍ رفيعة في ألمانيا، بينما كانت جولات فردريك التي لا حصر
لها قد حقَّقت له سُمعة رفيعة، لدرجةِ أنه كان يبدو كليَّ الحضور وكأنه
جزء من الحياة نفسها. تجاهل القرارات البابوية بكل كبرياء وواصل
الصراع، كان ما زال مستمرًّا في ذلك عندما دهمته أزمةُ ديزنطاريا
مفاجئة في ديسمبر ١٢٥٠م في «كاستل فيورنتينو Castle Fiorentino» في أبوليا. مات بعد أيام قليلة، وكان
ذلك يوم الثلاثاء الثالث عشر من ديسمبر، قبل عيد ميلاده السادس
والخمسين بثلاثة عشر يومًا. حتمًا، كانت هناك شائعات عن سُم، ولكن لم
يكن هناك دليل على ذلك. تم نقل جثمانه إلى باليرمو؛ حيث دُفن في
الكاتدرائية بناءً على رغبته، وفي التابوت الحجري السماقي الرائع الذي
كان قد أُعد لجَده روجر الثاني في مؤسسته في «سيفالو
Cefalù»، وبقي غير مستخدم.
•••
كان فردريك قد سمَّى كونراد، ابن يولاند ملكة أورشليم، وريثًا له في
ألمانيا وريجنو، وأثناء غياب كونراد في ألمانيا كان قد عهِد بحكم
إيطاليا وصقلية ﻟ «مانفريد Manfred»
الابنِ المفضَّل بين أبنائه الأحد عشر غير الشرعيين. أثبت مانفريد أنه
كان سليلًا جديرًا بوالده. أعاد إحياء بلاط فردريك الرائع وأنشأ ميناء
مانفريدونيا الرائع في أبوليا، وزوَّج ابنته «هيلينا Helena» لمايكل الثاني حاكمِ إيبيروس، وهو
التحالف الذي أكسبه جزيرةَ كورفو ومساحة كبيرة من الأراضي ممتدةً على
الساحل الألباني، تضم مدينة (وميناء) «دورازو Durazzo» التاريخية، كما أصبحت ابنته الثانية
«كونستانس Constance» زوجًا ﻟ
«بيتر Peter»، وريثِ عرش
أراجون.
حتى بعد وفاة أخيه، غير الشقيق، كونراد في ١٢٥٤م، لم يسعَ مانفريد
للسيطرة على شمال أو وسط إيطاليا، الأمر الذي كان يسبِّب ارتياحًا
شديدًا للبابا. إلا أن سلطته المتزايدة في الجنوب أثارت القلق في روما،
وزادت المخاوف عندما ضغط على جماعة البارونات في صقلية في أغسطس ١٢٥٨م
لكي يعلنوه ملكًا. منذ خلع فردريك وإبعاده نظريًّا في ١٢٤٥م، كان
البابا إنوسنت يبحث عن «بطل مسيحي» يمكن أن يخلِّص الشمال الإيطالي
مرةً وإلى الأبد من كل آل هوهنشتوفن، ويقود جيش الكنيسة إلى النصر في
شبه الجزيرة. في مرحلةٍ معينة كان «ريتشارد إيرل
كورنول Richard Earl of
Cornwall»، شقيقُ هنري الثالث وأغنى أغنياء إنجلترا (كان قد
انتُخب ملكًا على الرومان في ١٢٥٧م) كان يبدو الشخصَ المناسب للاضطلاع
بالمهمة، ولكن إنوسنت لم يتمكَّن من إقناعه بقبول التحدي؛ وعندما مات
البابا في ١٢٦١م، ليخلفه «أوربان الرابع Urban
IV» (أول فرنسي يشغل العرش البابوي)، كان ما زال يحاول
أن يجد المرشح المناسب. ووقعت عينا أوربان على مواطنه «شارل الأنجوي Charles of Anjou».
شارل هو شقيق لويس التاسع، وكان آنذاك في الخامسة والثلاثين. في
١٢٤٦م، كان قد حصل عن طريق زوجته على مقاطعة «بروفنس Provence»، التي جلبت له ثروةً طائلة
بالإضافة إلى أشياءَ أخرى كثيرة، كما أنه كان مديرًا لميناء مرسيليا
المزدهر. كان البابا يقدِّم الآن لهذا الشخص الطَّموح … الانتهازي
البارد … القاسي … فرصةً لا بد من اهتبالها. كان لا بد من أن يكون
الجيش الذي سيقوده شارل ضد مانفريد، والذي كان قد بدأ يتجمَّع في
الشمال الإيطالي في خريف ١٢٦٥م، كان لا بد من أن يكون حملةً بالمعنى
الرسمي؛ أي أن يكون — كالعادة — جماعة مختلِطة من المزيج المعتاد؛ من
المغامرين الذين يأمُلون في الحصول على إقطاعيات في الشمال الإيطالي،
من الحجَّاج الذين يرجون الغفران لخطاياهم، من قُطاع الطرق الذاهبين
للسلب والنهب ليس إلا. كان معهم — برغم ذلك — عددٌ من الفرسان من كل
أرجاء أوروبا الغربية: فرنسيون وإسبان وطليان وبروفنسال … كما زج بعدد
قليل من الإنجليز، وكان شارل يعتقد أنهم سيكونون أكثرَ من ندٍّ لأي شيء
قد يلقي به مانفريد ضدهم.
في السادس من يناير ١٢٦٦م توَّج البابا أوربان شارل الأنجوي بتاج
صقلية، وبعد أقلَّ من شهر عبَر جيش شارل الحدود في الثالث من فبراير
ودخل ريجنو. لم تكن هناك حملةٌ طويلة هذه المرة. التقى الجيشان يوم
السادس والعشرين خارج المدينة الرومانية القديمة «بنيفنتو Benevento» وانتهى كل شيء بسرعة. مانفريد
شجاع كعهده دائمًا، صمد وقاتل، ولكن جنوده الذين كانوا أقلَّ عددًا
سرعان ما فروا من الميدان. كانت المعركة حاسمة؛ انتهت الحملة، وكذلك
انتهى — تقريبًا — بيتُ آل هوهنشتوفن. بعد عامين، قام كونراد الرابع،
ابنُ الملك كونراد (المعروف ﺑ «كونراندين Conrandin») والأمير «هنري القشتالي Henry of Castile»، قاما بمحاولةٍ
أخيرة لإنقاذ الموقف، فقادا جيشًا من الألمان والطليان والإسبان إلى
ريجنو. أسرع شارل وقابلهم عند حدود قرية «تاجلياكوزو Tagliacozzo». هذه المرة، كانت المعركة
التي وقعت في الثالث والعشرين من أغسطس ١٢٦٨م، أكثرَ صعوبةً ونتج عنها
مذابحُ رهيبة في كلا الجانبين، وفي النهاية كان النصر مرةً أخرى من
نصيب «الأنجويِّين The Angevins». هرب
كونراد من الميدان ليقع في الأسرِ بعد وقت قصير. بعد ذلك كانت هناك
محاكمة صورية في نابولي. في التاسع والعشرين من أكتوبر تم اقتياد
الأمير الصغير (كان في السادسة عشرة) وعدد كبير من رفاقه إلى ساحة
السوق حيث قُطعت رءوسهم فورًا.
كان مانفريد وكونرادين بطلين … كلٌّ على طريقته. لم يكن ذنبهما أن
الأب والجَد كانا قد ألقيا بظلهما عليهما فحجبا صورتيهما … هكذا كان
الكثير من العالَم المعروف. كانت إجادة ست لغات إنجازًا نادرًا في
القرن الثالث عشر، أكثرَ مما هو اليوم. أضف إلى ذلك أن فردريك كان
شاعرًا غنائيًّا شديدَ الحساسية، وفي بلاطه تم اختراع «السونيتة
The Sonnet».
١٢ كان راعيًا كريمًا للفنون ورجلَ دولة ماهرًا وأعظم علماء
التاريخ الطبيعي في زمنه. حبُّ الاستطلاع الفكري وفَّر له معرفة كبيرة
بالفلك والهندسة والجبر والطب والعلوم الطبيعية. كان من أبرزِ صفاته
كذلك موهبته الكبيرة في فن الاستعراض. قوة شخصيته وما لها من سحر خاص
تؤكِّد أنه كان يترك أثرًا في كلِّ مَن له صلة به، إلا أنه كان قادرًا
على بناء صورة ذهنية أبعدَ من ذلك بكثير، بتلك المجموعة النادرة من
الوحوش … بمجموعته الشخصية من المسلمين … حتى بمجموعة حريمه. كان
الأمران الأخيران (المسلمون والحريم) مما يأخذه عليه أعداؤه دائمًا،
إلا أنهما كانا يحملان رسالةً واضحة: الإمبراطور ليس كغيره من الرجال …
كان عملاقًا، نصف إله، لا يمكن أن تنطبق عليه قواعد السلوك
المعروفة.
بكلمة واحدة، كان له أسلوبه، وقد كان الأسلوب دائمًا، ومثلما هو
اليوم، خصيصة إيطالية. ربما كان فردريك أحدَ الأوائل، وما أقلَّهم في
التاريخ، الذين وضعوا قَدمًا في كلا العالَمين الإيطالي والألماني،
والذين كانوا يشعرون بالاطمئنان على كلا جانبي الألب. إلا أن قلبه ظل
في إيطاليا حيث أمضى معظم حياته، ولعله يجد مكانه هنا — في هذا الكتاب
— كإيطالي. ثقافيًّا، أعطى البلاد الكثير، ولو لم يفرَّ
التروبادور
١٣ البروفنسال من فظائع الحملة الألبيجسية ليجدوا ملاذًا
دافئًا في بلاط باليرمو، ويلهموا الشعراء المحليين بقصائد الحب، فلربما
كان الأدب الإيطالي قد اتخذ مسارًا مختلفًا، ولما كانت «الكوميديا
الإلهية». في مجال العمارة كذلك، كان فردريك مبدعًا. المدخل الحصين
الهائل لمدينته الحدودية «كابوا
Capua»، الذي شيَّده للدفاع عن جسرها على نهر
«فالتورنو
Vulturno»، والذي قام
بتصميمه بنفسه، لم يَعُد له وجود، إلا أن الكثير من منحوتاته ما زال
محفوظًا في المتحف المحلي، ويتضح منه أن الإمبراطور كان يعتمد لغةَ
الديكور في روما القديمة، وهي التي كانت إرهاصًا بالنهضة قبل قرون من
حدوثها. المثلثات الكلاسيكية التي تعلو واجهات المباني، الأعمدة ذات
التيجان والقواعد الناتئة من الجدران … كل ذلك موجود في استراحة الصيد
في «كاستل ديل
مونتي
Castel
del Monte»، ذلك المبنى الواسع ثماني الأضلاع المشيد من الحجر
الجيري، الذي يتوِّج قمةَ أحد تلال أبوليا. لكن … لعلنا مخطئون في
شعورنا بالدهشة؛ حيث إن فردريك في آخرِ الأمر إمبراطور روماني … وكان
مصرًّا على ضرورة ألا ننسى ذلك.
إلا أنه كان فاشلًا من الناحية السياسية. كان حُلمه أن يجعل من
إيطاليا وصقلية مملكةً متحدة داخل الإمبراطورية، عاصمتها روما؛ إلا أن
الأهداف الملحَّة للبابوية التي كانت تدعمها مدن وبلدات لمبارديا، كل
ذلك كان ليؤكد استحالةَ تحقيق هذا الحلم. كان من سوء حظ الإمبراطور أن
ينافس اثنين من القادرين الذين كلهم إصرار مثل جريجوري وإنوسنت، إلا أن
الصراع لم يكن له نتيجة أخرى على المدى الطويل. كانت الإمبراطورية قد
فقدت قوَّتها وتماسُكها حتى في ألمانيا، ولم يَعُد بالإمكان التعويل
على ولاء الأمراء الألمان. أما بالنسبة للشمال الإيطالي، فلن تخضع
المدن اللمباردية مرةً أخرى للتهديد الإمبراطوري. لو أن فردريك قبِل
بهذه الحقيقة فقط لكان الخطر قد زال عن البابوية … ولبقيت ريجنو التي
كان يحبها. من أسفٍ أنه رفض ذلك، وبذلك لم يفقد إيطاليا فحسب، بل إنه
وقَّع شهادة وفاة سلالته.
هوامش