الفصل الأول
(صالة جميلة مؤثثة تأثيثًا حسنًا، للصالة باب كبير يظهر
منه جزء كبير من الدرابزين وبضع سلمات رخامية وزاوية من حديقة في ليلة مقمرة،
وفي زاوية الصالة منضدة صغيرة عليها مصباح كهربائي على شكل تمثال يمكن تحريكه
باليد.)
المشهد الأول
فؤاد – كمال – نبوية
فؤاد
(بملابس ضابط بوليس مضمد الذراع برباط يتدلى من
عنقه)
:
أتقولين إنهم في غرفة الأكل؟ أفي هذا الوقت المتأخر من الليل
يتناولون طعام العشاء؟ هيه، إنه سحور وليس عشاءً.
نبوية
:
تأخروا لأنهم كانوا ينتظرون البك زوج الهانم الضيفة، هل أخبرهم
بحضوركم؟
فؤاد
:
لا ضرورة لذلك، سوف أنتظرهم هنا.
كمال
(يدخل من باب إلى اليسار. تخرج نبوية)
:
أهلًا فؤاد، كيف حالك؟
فؤاد
:
لا، لا يا كمال، أنا عاتب عليك، وقد كنت عازمًا على مقاطعتك
بتاتًا، لكنني لم أحتمل تنفيذ هذا القرار، هيَّا عانقني برفق دون أن
تلمس ذراعي.
كمال
(يعانقه)
:
علمت أخيرًا بما أصابك، لكن ألم تتماثل ذراعك إلى الشفاء
بعد؟
فؤاد
:
هي اليوم أحسن من الأمس، ولو لم أصطدم بها من حين لآخر لشفيت منذ
أمد، لكن آه يا عزيزي إنها مغناطيس تجتذب أنواع المصادمات؛ فما من يوم
يمر دون اصطدام، هكذا قُدر عليَّ أن أكون كالدادة التي تحمل ربيبها على
ذراعيها أينما سارت وحيثما توجهت، لكن ما لنا ولهذا؟ إليَّ يا كمال
نتعانق مرة أخرى، سنتان يا عزيزي لم أرك خلالهما.
كمال
:
أتظن ذلك؟
فؤاد
:
نعم، ربما أزيد، فإنني عندما أكون في القاهرة تكون أنت في
الإسكندرية أو غيرها، وعندما تعود إليها أكون أنا في سوهاج أو أسوان،
أنت في تفتيشك المالي وأنا في تنقلاتي الإدارية كضابط بوليس، أنت في
الوجه البحري وأنا في الوجه القبلي، فكيف لنا أن نتقابل؟ (يأخذ بيد صديقه إلى مقربة من النور) أرني
وجهك يا كمال لأتملى من مشاهدته، آه يا عزيزي ما كان لنا أن نفترق عن
بعض!
كمال
:
هو ما تقول، لكن مقتضيات الحياة وظروفها العاتية.
فؤاد
:
هي الحياة، أجل، هي الحياة التي فرقت بين شابين ترعرعا معًا كأخوين
يأكلان من إناء واحد، ويسرقان لفائف التبغ من علبة واحدة (ضاحكًا) أتذكر يا كمال لفائف التبغ التي
كنا نسرقها سويًّا من غرفة الضيوف؟ أتذكر أيضًا أننا كنا زملاء في
مدرسة واحدة وفي فرقة واحدة؟
كمال
(يضع يده على منكب فؤاد ضاحكًا)
:
لكن زمالة الفرقة لم تدم أكثر من عام واحد.
فؤاد
(بعد تفكير قليل)
:
نعم نعم، سنة واحدة؛ لأن المسيو غارنييه أستاذ اللغة الفرنسية ذلك
الأحمق الثرثار عارض في نقلي ونجاحي تلك السنة.
كمال
:
كنتَ ترسب في كل فرقة سنتين على التوالي يا عزيزي فؤاد.
فؤاد
:
إنك لعلى صواب؛ كان جميع الأساتذة حمقى، لكن المسيو غارنييه كان
يفوقهم في الحماقة والثرثرة.
كمال
:
لأنه أبقاك ثلاث سنوات على التوالي في فرقة واحدة.
فؤاد
:
دعنا من ذلك الآن وأخبرني، هل أنت باقٍ هنا في القاهرة بضعة
أيام؟
كمال
:
كلا، سأعود إلى مقر عملي غدًا في الصباح.
فؤاد
:
أبهذه السرعة؟ تأتي اليوم وتسافر غدًا؟
كمال
:
إنما جئت لأمرٍ هام اقتضى أن أقابل من أجله وزير المالية، ويدعوني
العمل إلى العودة حتمًا إلى مقر وظيفتي في صباح الغد.
فؤاد
:
إذن أنا سعيد الحظ جدًّا؛ لأنني حضرت إليك في الوقت
المناسب.
كمال
:
ماذا؟ أتريدني في مهمة أقضيها لك؟
فؤاد
(في حيرة)
:
إذا قلت نعم، أو قلت لا، أكون صادقًا في الحالتين، فرحت أولًا
لرؤيتك، وفي نفس الوقت …
كمال
(مقاطعًا)
:
وفي نفس الوقت تريد مني خدمة أقضيها لك، أليس كذلك؟
فؤاد
:
لا أريد منك خدمة يا كمال، وإنما هي مسألة دقيقة للغاية أريد أن
أفضي بها إليك إذا سمحتَ لي بنصف ساعة من وقتك العزيز في هذا المساء،
وإنه لوقت عزيز بلا ريب؛ لأن لديك ضيوفًا (يضحك) من الجنس الذي لا يمكن إهماله، لكن لا بأس، هذا لا
يمنعني من تكرار التوسل إليك في طلب مقابلتك على انفراد.
كمال
:
لا بأس.
فؤاد
:
بارك الله فيك أيها الصديق، سمعت أن شريف بك والسيدة زوجته في
ضيافتكما هذه الليلة، ما سبب هذه الزيارة؟ لا سيما في الأسبوع الذي
ارتقى فيه شريف بك إلى منصب مساعد الحكمدار، ماذا ترى في ذلك؟
كمال
:
أظن أن لهما مسألة يريدان قضاءها.
فؤاد
:
أهي مسألة تستحق الاهتمام؟
كمال
:
أتعرف الخالة بهية مرضعة زينب هانم؟ للخالة بهية ابن يشتغل كمحصل
في محافظة الإسكندرية، ارتكب اختلاسًا ظهر منذ أيام فأُلقي القبض عليه
توطئةً لمحاكمته أمام القضاء.
فؤاد
:
آه فهمت، وحضرا إليك الليلة للتوسط في أمر المختلِس لدى سعادة مفتش
المالية، كم مقدار المبلغ المختلَس؟
كمال
:
يقرب من الخمسمائة جنيه.
فؤاد
(بصوت تشوبه رنة الاستغراب)
:
خمسمائة فقط! لو كنت مكانه لاختلست ألفًا.
كمال
:
ولمَ ذلك؟
فؤاد
:
أتسألني السبب؟ لأنك من كبار مفتشي المالية، ولأن زينب هانم
الواسطة في الشفاعة.
كمال
(محتدًّا)
:
دع الثرثرة جانبًا يا فؤاد، زينب هانم بنت خالتي ورفيقة طفولتي ولا
ريب أن لها في قلبي مكانًا كبيرًا من التجلَّة والاحترام، لكن هذه
الأشياء لا تدعوني كموظف مصري في أي حال من الأحوال إلى الإخلال بشرف
الوظيفة.
فؤاد
:
لا تغضب فإنني أمزح يا عزيزي … ما لنا ولهذا؟ (مقتربًا من كمال وبصوت خافت) هل أُحدِّثك
يا كمال عن أمر يُدخل السرور إلى قلبك؟ لقد رأيت زينب منذ عهد قريب
فألفيتها آية في الحُسن والجمال، نعم، كانت على شيء من الجمال أيام
الصغر إلا أنها كانت نحيفة، يضيع جانب من معاني جمالها في تلك النحافة،
أما اليوم فقد أينع ذلك الجمال فغدت ترفل في حلة قشيبة من الحُسن
والبهاء.
كمال
(متظاهرًا بعدم الاكتراث)
:
ما زلتَ يا فؤاد ثرثارًا كسالف عهدك.
فؤاد
(ضاحكًا)
:
قاتل الله الأغراض، إنك لا تقول ذلك من صميم قلبك. إنني أعرفك حق
المعرفة.
كمال
:
ماذا تعني بقولك؟
فؤاد
:
ما أريد أن أعرضه على مسامعكم الشريفة يا مولاي (ثم يضحك)، أنك كنت مفتونًا بها أيام
صباك.
كمال
:
بالله دع عنك هذا الهذيان، ليس هناك شيء مما تظن، لو كنت أحبها فما
الذي كان يمنعني؟
فؤاد
:
نعم نعم، ما الذي كان يمنعك؟ لقد كانت المسكينة تنظر في عينيك على
الدوام تستمد منهما نور التشجيع، كانت دائمًا أتبَعَ لك من ظلك، تسير
وراءك أينما سرت، وقد لمحت إذ ذاك في حركاتها وسكناتها ذلك الميل نحوك،
وها أنت اليوم تأمرني بترك الهذيان.
كمال
(بشدة)
:
فؤاد!
فؤاد
:
أقول إنني كنت لمحت في نفسها روح الميل إليك، وما زلت على هذا
الرأي. كنتُ ذات يوم من أيام الصبا في مصيفكم بالرمل، وكنتُ إذ ذاك في
الحديقة منهمكًا في إخراج صورة شمسية، فرأيت زينب الصغيرة مختبئة في
خميلة تزينها زهور الياسمين والقرنفل، فظننت لأول وهلة أنها هناك بقصد
جمع الزهور فلم أحفل بالأمر، لكن تبين لي قصدها بعد قليل؛ فقد تأكد لي
أنها لم تختبئ في ذلك المكان إلا بغية التمتع بمراقبتك من على كثب …
كنت أنت إذ ذاك جالسًا تحت الشجرة الكبيرة تقرأ في كتاب، ومنذ ذلك
الوقت أدركت السر في علامات الاضطراب وشواهد القلق التي كانت ترتسم على
محيَّاها عندما يقترب ميعاد عودتك من المدرسة، إنها في ذلك الميعاد
كانت تترك اللعب وتترك صويحباتها وكل شأن من شئونها، فتصعد إلى الطابق
العلوي من المنزل لتراقب الطريق من محطة الترام إلى المنزل.
كمال
:
لكن يا عزيزي كل ذلك لا يدل على شيء، إنك ما زلت أبلهَ كسالف عهدي
بك.
فؤاد
:
قل ما شئتَ فإنك لن تستطيع أن تزحزحني قيد شبر عن اعتقادي في أنك
كنت مفتونًا بتلك الصبية … لكنك لسببٍ ما زلتُ أتحرَّاه إلى اليوم
هجرتها ولم تكترث بها.
كمال
:
أقسم لك بما بيننا من صداقة أنه لم تجرِ بيننا كلمة واحدة عن هذه
الأمور التي تظن وقوعها.
فؤاد
:
إنك لصادق فيما تقول؛ إذ ما الداعي إلى الكلام في شئون قد تؤديها
الألحاظ بإشارة واحدة وقد تفشيها العيون بنظرة فحسب؟
كمال
:
بالله دعنا من هذا.
فؤاد
:
وبعد سفرك إلى أوروبا ذبل ذلك العود الناضر واعتراه الاصفرار
والنحول، زينب التي كانت زينة المجالس بنكاتها الظريفة وأحاديثها
الشهية انقطعت عن الكلام، وصامت عن اللغو وأصبحت لا تنطق الكلمة إلا
بتكلف، لكنها اليوم قد انتقمت لنفسها منك، فمن لي بمن يجعلني الساعة في
قرارة نفسك لأرى مبلغ شعورك بالألم عندما تراها كما هي اليوم في إبان
جمالها ونضارة شبابها وهي ملك غيرك، فما أشد حمقك أيها المسكين!
كمال
:
أرجوك أن تسكت يا فؤاد.
فؤاد
:
لو كنت مكانك لانتحبت كالأطفال.
كمال
(بشدة ظاهرة)
:
إنك لتؤلمني وتستفزني إلى الغضب مع علمك تمامًا بأخلاقي، لو شئت أن
أقترن بها لما حال بيننا حائل، أما اليوم فهي بنت خالتي وأنا ابن
خالتها لا أكثر ولا أقل، هل فهمت؟
فؤاد
:
نعم فهمت، سوف أسكت تمامًا لا سيما وأنه ليس من مصلحتي أن أستفز
غضبك الليلة.
كمال
:
عفوًا، لحظة قصيرة ريثما أعطي البواب بعض تنبيهات.
(يخرج من الباب إلى الحديقة ويُسمع صوته وهو ينادي:
«يا عم عثمان، عثمان».)
المشهد الثاني
فؤاد – شريف بك – الآنسة علية
(شريف بك طويل القامة مفتول الشارب على الطريقة
الولهلمية، يدخل المسرح مرفوع الهامة بملابسه العسكرية برتبة قائمقام وشكله
يلقي إلى الأذهان شيئًا عن نفسيته العسكرية الصلبة، وتدخل معه الآنسة علية
وهي شابة في مقتبل العمر، طروب، ضاحكة السن.)
شريف
:
هذا مؤكد يا آنسة، نعم مؤكد بلا ريب.
علية
(بصوت تدل نبراته على الحدة في مناقشة سابقة
بينهما)
:
هل كل شيء عندك صريح ومؤكد يا شريف بك؟ لقد وهبك الله لسانًا
حادًّا كسيفك يقطع كل شيء دون مبالاة.
شريف
:
نعم، إنني لأقطع كل شيء وألقيه بلا رحمة، لكنني لا أقطع سوى
الأشياء المؤذية الضارة التي ليست لها قوة ولا مناعة.
(يريد فؤاد أن يهرول نحوهما ليقطع ما بينهما من
حديث، لكن شدة المناقشة تَحُول دون ما يريد؛ إذ يلتفت كلٌّ منهما إليه
ويبادرانه على التوالي وبسرعة بكلمة بونسوار.)
شريف
:
بونسوار فؤاد أفندي.
علية
:
بونسوار فؤاد (وتلتفت إلى شريف
بك) أرجوك يا شريف بك أن تُنعِم النظر فيما تسميه مؤذيًا
ضارًّا، إنها لأمور معنوية تزين لنا الحياة، وتبعث فيها روح النشاط،
أجل فمن ينكر أن الرحمة والعاطفة والحب والفن …
شريف
(مقاطعًا)
:
كلمات جوفاء لا معنى لها، والذين يسيرون في تيار تمجيدها إنْ هم
إلا أناس يفرون من الواجب ليسرقوا خبز الفلاح وأجر العامل، إنْ هم إلا
أناس يقفون في سبيل ذلك الدولاب العظيم، دولاب العمل — أي الدنيا —
لولا تلك الكلمات الجوفاء لما كان في الدنيا ذلك الجيش الجرار من
المجانين والمجرمين والمنتحرين والسفهاء والبلهاء والمعتوهين، نعم هذا
مؤكد.
فؤاد
(يريد أن يتدخل مرةً أخرى)
:
بالله ما هذه الحرارة والحدة في المناقشة عقب الأكل مباشرة!
(إلا أنهما لا يحفلان به فيستمران في
مناقشتهما.)
علية
:
أكاد أتمرد يا شريف بك، أتقول إن الدنيا دولاب للعمل لا أكثر ولا
أقل؟
شريف
:
الأولى أن نسميها مصنعًا، وما الناس فيها إلا آلات مختلفة تقوم
بأعمال متباينة، ليس لنا أن نبحث في علة إنشاء هذا المصنع أو الغاية
التي يتحرك من أجلها؛ لأن معرفة ذلك فوق مقدور العقل، وما أفهمه هو أن
يقوم الإنسان بوظيفته كجزء من أجزاء المصنع وأن يؤدي واجبه بلا خوف ولا
تردد ولا إمهال.
علية
:
ما أسخف هذه الغاية!
شريف
:
الإنسان الكامل هو من يقوم بهذا الواجب، نعم هذا مؤكد.
علية
(مستهزئة)
:
وأقرب مثل للإنسان الكامل، أنتم مثلًا.
شريف
:
نعم، إنني كذلك يا علية، أصرح بهذه الحقيقة دون أن أتوارى وراء
برقع من التواضع المزيف، أنا كذلك يا عزيزتي رغم ما أشعر به من عجز في
بعض الأحايين، أنا كذلك لأنني أقدر ما يمكنني أن أعمله، ولأنني لا أحمل
في ذهني أوهامًا جوفاء ولا يتسع عقلي للخيال الكاذب.
علية
:
ويوجد يا سيدي البك أناس أيضًا لا يرون رأيك ولا يفكرون مثل
تفكيرك.
شريف
:
أجل، خذي فؤاد أفندي مثلًا.
علية
:
دعك من فؤاد.
فؤاد
(بغضب)
:
هيه، دخلنا في دور الخطر، وما دخلي أنا في مناقشتكما؟
شريف
(بسرعة وبدون أن يلتفت إليه)
:
باردون فؤاد، حرارة المناقشة ألجأتنا إلى هذا المثل.
علية
:
عفوًا يا فؤاد ليست المسألة من الأهمية بحيث تستفز غضبك.
فؤاد
:
ما شاء الله! ما هذا المنطق يا عزيزتي؟
علية
:
إياك أن تغضب (ضاحكة) إنك طيب
القلب يا فؤاد.
فؤاد
:
أمري لله! ما الذي دفعكما إلى هذه الحدة في المناقشة؟
علية
:
هذه طريقتنا على الدوام في المناقشة، نحتد ونتحمس ثم لا نلبث أن
ننتهي منها كما رأيت.
شريف
:
وأجمل شيء في مناقشاتنا أنها لا تؤثر في علاقتنا، بل هي تزيدني
إعجابًا بصراحة الآنسة علية وجرأتها في بسط أفكارها.
فؤاد
:
لكنك يا سيدي تستطيع أن تكون لين العريكة مع من تعجب
بأفكارهم.
علية
:
آه يا فؤاد ليتك تعلم الدافع الحقيقي لمناقشتنا!
فؤاد
:
ما هو؟
علية
:
ستقف على الحقيقة في الصحف التي تصدر غدًا، أنت تعلم طبعًا أن
شريف بك ارتقى إلى منصب الحكمدار في القاهرة.
فؤاد
:
نعم، وكنت في مقدمة المهنئين.
علية
:
أتعلم ماذا كان أول عمل له في منصبه الجديد؟ إلقاء القبض على سيدة،
أتعرف من هي؟ إنها سنية!
فؤاد
(بدهشة)
:
سنية؟ أهي سنيتنا؟
علية
:
نعم، مطلقة عمنا.
فؤاد
:
إن كنت لا أعلم بعد كنه جريمتها، فإنني أكاد أعتقد بأنه لم يُلقِ
القبض عليها جزافًا، لا بد من سبب.
علية
:
بالله دع الهذيان، إنك لن تستطيع إدراك هذه الأمور.
فؤاد
:
ما لا أستطيع إدراكه هو دفاعك عن سنية، لا يستغرب الإنسان مثل تلك
العاقبة لامرأة في مثل أخلاقها.
علية
:
أنتما لا تعرفان سنية حق المعرفة، لم يعرفها إنسان بعد، هذه السيدة
من أطيب النساء قلبًا، إنني لمعجبة بها وأحبها كما لو كانت
أختي.
فؤاد
:
هس، حذار أن تسمعك والدتك، ما الفائدة في طيبة قلبها ما دامت سيئة
الخلق؟ ألم تلوث سمعة زوجها؟ ألم تمنعها خالتي من زيارتنا اقتداء بجميع
الأقارب الذين سمعوا بحادثة طلاقها؟ لقد أصابت بلا ريب في هذا
المنع.
علية
:
وما ذنب المسكينة في تلك الحادثة؟ أنتم لم تفهموا بعد نفسية تلك
المخلوقة وما زال تعصب الرجال يغلي في عروقكم رغم الثياب العصرية التي
ترتدونها، كان عمي أكبر منها سنًّا فقد تزوجها وهو في الخامسة
والأربعين، وكانت هي في الثامنة عشر من عمرها، يجب يا عزيزي فؤاد أن
تنتظر على الدوام أمثال تلك الحوادث في أسرتنا المصرية، ما دام الزواج
عندنا يقوم إلى الآن على تلك الأساليب البالية وهي الاتصال الأعمى على
يد الخاطبات، ما كانا ليريا بعضهما إلا ليلة الزفاف، ما كانا ليعلما
شيئًا عن طباعهما بل كلاهما مجهول من الآخر، عرفت هي تلك الحقيقة
المؤلمة في اليوم التالي للزواج، لكن الظروف القاهرة والتقاليد
المستبدة أكرهتها على الرضوخ والإذعان، وحالت دون إظهار رأيها في
صراحة، أربعة أعوام قضتها تتكلف فيها الحياة في ألم وحسرة إلى أن نفد
صبرها، فأظهرت رغبتها لعمي تطلب إليه الانفصال، فثارت ثورته وأخذته عزة
الرجال، فاعتصم بالحقوق الوهمية التي يظن أن الدين منحه إياها وليست من
الدين شيء، وأكرهها على النزول عند حد إرادته في صلابة وعناد، لكن
الطير الواقع في الأسر إنما ينزع دائمًا إلى الخلاص، لهذا لم تطق
المسكينة صبرًا إذ فزعت إلى بيت أهلها وكان الطلاق.
فؤاد
:
ما شاء الله، أراك تدافعين عنها فوق دفاع المحامي، ماذا تقولين إذن
عن سلوكها بعد هروبها إلى دار أبيها؟ ماذا تقولين عن الإشاعات التي
دارت حولها وعن علاقتها مع ابن عمها جودت ذلك الشاب المفتون؟
علية
:
محض اختلاق، إنها تقابله كأي كائن آخر من صاحباتها وأقربائها، ليس
كل ما يقال صحيح.
فؤاد
:
نعم، غير أن لكل إشاعة أصلًا كما أنه لا دخان بغير نار، ومن رأيي
أن من يضع نفسه محلًّا للشكوك والريب إنما يدفع الناس إلى الشك
والارتياب في أمره، (ملتفتًا إلى شريف
بك) ما هو السبب في إلقاء القبض عليها يا سيدي البك؟
شريف
:
لصلتها الوثيقة بحادثة الاعتداء الأخير، فقد تبين لرجال التحقيق
أنها كانت على اتصال دائم مع جودت أحد المتهمين الذي فر من وجه
العدالة، ولم تقف علاقتها عند هذا الحد بل ظهر من التحقيق أن المؤامرة
تمت في منزلها، وأن لها ضلعًا كبيرًا في تدبير تلك المؤامرة.
فؤاد
:
يا للداهية! لكن لا يبعد أن ترتكب سنية مثل هذه الجريمة، ولقد
أحسنتم بإلقاء القبض عليها.
علية
:
ما هذه السخافة يا فؤاد؟ إنك لتضايقني بمثل هذه الأقوال التي
ترسلها جزافًا بلا روية.
شريف
:
علية لا تقدر بعد مسئولية الواجب.
علية
:
أنا أفهم مسئولية الواجب يا شريف بك، لكنني لا أستطيع أن أفهم معنى
افتخاركم بتأدية مثل هذا الواجب، وأستميحكم العفو إذا قلت: إن إلقاء
القبض على سيدةٍ ما واجب مخجل، إنني مع استنكاري لفعل سنية.
شريف
(مقاطعًا)
:
الواجب لا يتغير في أي شأن من الشئون وإنه لمقدس جدير بالاحترام
على الدوام في أي عمل كان، وأستطيع أن أقول بصراحة: إن الواجب في
الأعمال التي لا تبهج النفس بل تؤلمها أجدر بالاحترام من غيره، ففي
الواجبات القاسية الأليمة قد يضطر الإنسان إلى تضحية عاطفة من عواطفه
إلى انتزاع قطعة من قلبه، وإلا فماذا تقولين فيمن يحكم على ابنه أو
يقضي على حياة زوجه في سبيل الواجب؟
علية
:
لا أجد وصفًا لمثل هذا الرجل القاسي المتحجر القلب.
شريف
:
أما أنا فأقول إنه جدير بكل إعجاب وتقدير؛ لأنه يضحي بقلبه في سبيل
الواجب.
علية
:
إذن أنت لا تحجم — إذا اقتضت الظروف — عن تضحية ابنك أو
زوجك؟
شريف
:
أجل، لا أحجم عن ذلك يا علية في مواطن الشرف والواجب، ولا أتردد عن
تضحيتهما بل أفعل ذلك كما لو أكون مستغرقًا في الصلاة والعبادة.
علية
:
لا أستبعد منك ذلك يا شريف بك، نعم، لا أستبعده من ذلك الرجل الذي
أمر يومًا ما بإحراق قرية في السودان من أجل سرقة ماشية.
المشهد الثالث
الأولون – خديجة هانم – زينب هانم – وبعدها كمال
(خديجة هانم وزينب هانم تدخلان عقب الكلمة الأخيرة
مباشرة.)
خديجة
:
من تكون هذه الضحايا؟ ومن يكون هذا الرجل؟
فؤاد
(مطنطنًا)
:
شريف بك لا يحجم عن تضحية نجله العزيز سيف الدين بك.
علية
(تجاري فؤاد في التهويل)
:
وزوجته العزيزة زينب هانم.
خديجة
:
آه، ما هذه الأقوال يا علية؟ أصحيح ذلك يا شريف بك؟ لقد تولاني
الفزع من هول هذا المزاح.
زينب
:
ما أرق عاطفتك يا شريف بك؟ أكاد أذوب خجلًا.
شريف
(ضاحكًا)
:
بالعكس يا زوجتي العزيزة، أردت أن أقدم أعظم مثال لمن أعزهم في
الحياة فذكرتك وذكرت ابني في سياق التدليل فقلت: وحتى هما.
خديجة
:
دعونا بالله من هذه الكلمات التي تهيج الأعصاب، والتي ينقبض صدر
الإنسان عند سماعها مهما كان المقام.
زينب
:
كيف حالك يا فؤاد؟ هل تحسنت ذراعك؟
(يدخل كمال في هذه الفترة.)
فؤاد
:
إنها اليوم أحسن من أمس ولو كنت لا أصطدم بها ثمانين دفعة في
اليوم، ولكن القضاء والقدر قد تناصرا.
علية
(تقاطعه وتتم الجملة)
:
قد تناصرا على أذيتي وكأنما أنا دادة تحمل طفلها على ذراعها.
(ثم تضحك) هذه جملته التي يكررها
كالأسطوانة لكلِّ مَن يسأله عن حاله. (يضحكون
جميعًا.)
كمال
(مازحًا)
:
إنني لأشتم رائحة الإهانة يا فؤاد في كلمة «أسطوانة».
فؤاد
(بخجل)
:
لا تكفِّين السخرية والاستهزاء بالناس يا علية هانم.
علية
:
إنني أمزح معك يا فؤاد.
فؤاد
:
ليس الأمر مزاحًا يا علية هانم، وإنما كما قال عنكم شريف بك،
تتلذذون بالسخرية من جميع الناس في العالم.
كمال
:
برافو فؤاد، كنت على وشك أن أغضب لو لم تتحمس، إن الإنسان لَيشعر
بالغبطة إذا وجد من يشاركه الانتقام من الساخرين.
علية
:
ما هذا يا فؤاد؟ أراك تخاطبني رسميًّا بصفة الجمع وبلقب هانم، ما
هذه الرسميات؟ عهدي بك تكلمني بلا كلفة، أنحن في خصام؟
فؤاد
:
لا يا عزيزتي لا تفكروا، لا تفكري في شيء من ذلك. (ثم يأتي بحركة عصبية فتصطدم ذراعه فيصيح)
آه! آه! آه!
علية
(ضاحكة)
:
لقد وقع الطفل.
شريف
(لكمال)
:
أظن أنك كنتَ تحاول أن تقول شيئًا؟
كمال
:
كلا، أنتظر انتهاء فؤاد من حديثه.
فؤاد
(مخاطبًا علية)
:
أتسخرين مني وتنسَين نفسك ونقيدك ببعض ألفاظ ترددينها من حينٍ
لآخر، أنسيتِ قولكِ لي في كل لحظة؟ هل أقول؟ هل أقول؟
علية
:
لا يا سيدي، إياك أن تقول لأنني سأبدأ أقول أول حرف منها «ع»،
والثاني، والثاني «ل». (الجميع
يضحكون.)
فؤاد
:
علية! أرجوكِ أن تدعي الثرثرة جانبًا.
(تدخل الخادم وبيدها صينية القهوة.)
خديجة
(تخاطب الخادم نبوية)
:
اذهبي بالقهوة إلى كشك الحديقة؛ فإنها ليلة مقمرة زاهية الأنوار،
ألا توافقون على تناول القهوة في الحديقة؟
شريف
:
فكرة جميلة، نوافق طبعًا. (تخرج الخادم،
يأخذون في الخروج واحدًا بعد الآخر.)
علية
(تقترب من كمال)
:
أبلتي زينب تريد التحدث معك برهة.
كمال
:
حسنًا، ها أنا ذا قادم إليها الآن.
(يخرج الجميع ويتأخر فؤاد وكمال.)
فؤاد
:
لا تنس أنك وعدتني ببرهة من وقتك الثمين.
كمال
:
أفي هذه الساعة يا عزيزي؟ أيجوز للإنسان أن يتحدث في أمر جدي عقب
الأكل وقبل اهتضام الطعام؟
فؤاد
(بتعريض)
:
لا، لا يجوز ذلك فقد أشار جميع الأطباء بضرر ذلك، اللهم إلا إذا
كانت المسألة تتعلق بالبحث في مسألة مختلسين وسماع الشفاعات في
حقهم.
كمال
:
يا حفيظ يا فؤاد، هيا قل ما تريد، فإنني مصغٍ إليك.
فؤاد
(بتردد)
:
المسألة التي أريد أن أعرضها عليك يا كمال جدية وهامة في آن واحد
(ثم يسعل ويتنحنح مطرقًا برأسه)،
وقد كتبت لك بشأنها نحو عشرة خطابات.
كمال
:
أؤكد لك إنني لم أستلم منك خطابًا واحدًا، دعك من الهذيان.
فؤاد
:
مهلًا يا عزيزي، قلت لك بأنني كتبت ولم أدَّعِ بأنني أرسلت واحدًا
منها بعد؛ لأنني رأيت أنه من الأنسب والأوفق أن أقابلك بنفسي وأعرض
الأمر عليك شفاهًا.
كمال
:
آه، الآن فهمت أيها الماكر، تريد أن تسخرني في خدمة أقضيها لك،
ويلوح لي أنك جربتَ أن تكتب لي بشأنها، إلا أنك أدركتَ أن الكتابة قد
لا يكون لها الوقع المطلوب أو تأتي بالنتيجة المرجوة، فعولتَ أن
تواجهني ليسهل إقناعي باللسان، هيا تكلم.
فؤاد
:
ومن الغريب أن يصعب بيان الموضوع باللسان أيضًا.
كمال
:
لك أن تستعين بترجمان ماهر كعلية مثلًا. (يضحك.)
فؤاد
(يفتح عينيه بوجل)
:
لقد وجدت الشخص، بالله لا تضحك مني يا كمال، دع السخرية جانبًا فإن
الأمر خطير، وإذا كنت تسخر مني ولم أبدأ بشرح الموضوع فكيف أستطيع
إبداء غرضي وإيضاح غايتي؟ المسألة خطيرة يا عزيزي (وهنا يغير لهجته كأنما يلقي خطابة)، فإن
الحياة طريق طويلة شاقة تحف بها الأزهار والأشواك على الجانبين، ولا بد
لكلِّ مَن يحاول قطع تلك الطريق أن يستعين بآخر يعطف عليه ويواسيه
ويأخذ بيده، أو برفيقة كاملة الصفات تعينه وتشد أزره.
كمال
(يسترسل في الضحك)
:
بالله لا تظن أنني أسخر منك وإنما ضحكت ابتهاجًا وسرورًا لبيانك
العذب؛ فقد أصبحتَ يا عزيزي خطيبًا مفوهًا.
فؤاد
:
إذن اسمع الباقي فإنه مفعم بالأقوال الجميلة، ماذا كنت أقول؟
(مفكرًا) آه الرفيقة في الحياة،
لقد أنسيتني الباقي وقطعت عليَّ سلسلة أفكاري.
كمال
(ناظرًا إلى جهة الباب بقلق)
:
لا بأس، لقد كنت بليغًا إلى حد الإفصاح عن غرضك في أربع كلمات،
وجعلتني أفهم النتيجة من سياق المقدمة، بالإجمال تريد أن تقول لي أنك
تطلب يد أختي علية، أليس كذلك؟
فؤاد
(متحيرًا)
:
كيف علمت ذلك؟
كمال
(بسرعة)
:
لو أن الأمر متوقف على رضاي فإنني أقبل بكل سرور.
فؤاد
(مذهولًا)
:
ما كنت أتصور أن يتم الأمر بمثل هذه السهولة، لقد شحذت القريحة
أشهرًا طويلة، وأحضرت في ذهني جعبة من الأجوبة لأفند بها الاعتراضات
المحتملة (يعانق كمال بلهفة ويستمر في
كلامه) آه يا أخي كمال، يا عزيزي كمال، قد أنقذتني من
اضطراب كبير.
كمال
:
كانت لديك وسيلة أسهل من هذه؛ إذ كنت تستطيع أن ترسل خالتي إلى
خالتك فيتم الأمر.
فؤاد
:
أفي هذا العصر الذي نسمع فيه انتقاد الناس على الزواج من طريق
الأمهات والخاطبات! أردت يا عزيزي أن أكون عصريًّا فأخطب التي أراها
أهلًا لمشاركتي الحياة بنفسي على الطريقة الحديثة، ولكنك قد أدهشتني
بفطانتك وسرعة خاطرك وقراءة الأفكار قبل أن يفصح عنها اللسان.
(تظهر علية وزينب عند عتبة الباب.)
علية
(من بعيد)
:
لقد طال انتظار زينب هانم.
كمال
:
ها أنا ذا قادم إليها (ملتفتًا إلى
فؤاد) أنا موافق من جهتي، فيمكنك أن تفاتح علية رأسًا في
الموضوع (يمشي نحو علية) اسمعي يا
علية.
فؤاد
(يلحق به مضطربًا)
:
انتظر بالله ريثما أتمالك نفسي.
كمال
(دون أن يعبأ به)
:
اسمعي يا علية، فؤاد يريد مفاتحتكِ في مسألة، (وعندما يمر بجانب شقيقته يهمس في أذنها)
لقد ظهر نصيبك في الزواج (علية تحاول أن تكتم
ما في نفسها من الضحك).
فؤاد
(متجولًا في الغرفة جولات عصبية)
:
هيه، هيه، هيه.
علية
(تضغط على شفتيها لتكتم ابتسامتها)
:
أمركم يا حضرة فؤاد بك.
فؤاد
(متحيرًا)
:
أستغفر الله، أستغفر الله.
علية
:
ما هذا؟ أتوبة واستغفار؟
فؤاد
(محاولًا أن يجمع نفسه)
:
كلا، وإنما هناك مسألة هامة، مسألة حيوية!
علية
:
أتحاول أن تكلمني بجد؟
فؤاد
:
نعم، في مسألة جدية، (ثم يأخذ بيدها
ويُجلسها على المقعد)، والآن أرجو أن تلفتي وجهك إلى الجهة
الأخرى.
علية
:
لماذا؟ أتخشى أن تنظر إلى وجهي؟
فؤاد
:
كلا، ولكن يحسن ألا تنظري إليَّ برهة من الزمن (تدير علية وجهها لتخفي ابتسامتها ويبدأ هو
بجد) الحياة طريق طويلة شاقة تحف بها الأزهار، والأوحال.
باردون، والأشواك على الجانبين، ولا بد لكلِّ مَن يحاول قطع تلك الطريق
أن يستعين برفيق يأخذ بيده ويشد أزره.
علية
:
آه فهمت يا فؤاد، تريد أن تعرض عليَّ أمر الزواج مني.
فؤاد
(متحيرًا وقد نسي خجله)
:
ما شاء الله! ما هذه الفراسة الفطرية في جميع أفراد الأسرة!
علية
:
أهذا كل ما في الأمر؟
فؤاد
:
طبعًا لا، هذا القسم الرسمي، (يخفض
عينيه) ويبقى القسم القلبي الشعوري، (يضع يده على قلبه) كنت إلى اليوم أعيش في
هدوء وسكون، دون أن يكون في خيالي شاغل يعذب القلب ويلهب الذهن.
علية
:
نعم، فقد كنتَ تنام ملء جفونك، فتغط غطيطًا بينما كنت أحشو فمك
بالورق.
فؤاد
(بغضب)
:
أفي مثل هذا الموقف الجدي يا علية هانم تسخرين بي أيضًا؟ نعم، كنت
مطمئن النفس مستريح القلب ولكن عينين عسليتين تألقتا كالنجمتين في سماء
فؤادي على حين غرة، فغيرتا صفائي إلى اضطراب وقلق، آه لقد بزغت في
قرارة الروح شمس تلك الشعور الذهبية، أتعلمين يا عزيزتي علية، من هي
تلك الغادة صاحبة هذه النعم السماوية؟
علية
:
كنت أظن أنني أنا، ولكنك ما دمت تذكر العينين العسليتين وتحدثني عن
الشعر الذهبي فقد أخطأ ظني؛ لأن عيني سوداوان وشعري كذلك.
فؤاد
:
هذه نظرة العاشق يا علية هانم.
علية
(متضجرة)
:
اسمع يا فؤاد، لم تكن سخيفًا قبل اليوم (تسترسل في الضحك) من أي كتاب حفظت هذه القطعة
المنثورة؟
فؤاد
(بتواضع وخجل)
:
لا أنكر عليك أنني عثرت بها في كراسة تحتوي على طائفة من القطع
المنثورة، كان يمليها علينا مدرس اللغة العربية لحفظها واستعمالها وقت
اللزوم.
علية
:
لقد كان مدرسك حكيمًا فها هي قد أفادتك اليوم.
فؤاد
(بحدة)
:
كلا، فقد كانت سببًا في سخريتي.
علية
:
لا، لا يا فؤاد، قد أحسنتَ الإلقاء، لكنك لم تحسن الاستعمال؛ لأنك
غيرت مواضع الكلم.
فؤاد
:
نعم، إنني مقر بخطئي، لكن …
علية
:
لنفرض جدلًا أن الخيال جمح بك إلى حد الاسترسال في وصف ما بيننا من
تعارف كالنجمتين اللتين تألقتا في سماء قلبك على حين غرة مع أننا
متعارفان منذ الصغر، فما عذرك في العيون العسلية مثلًا؟ وما عذر الخيال
يا سيدي الشاعر في الشعور الذهبية؟
فؤاد
:
كفى، كفى، بدأت أشعر بسخافتي لكنك لو كنت في مثل موقفي.
علية
(مقاطعة)
:
اسمع مني يا فؤاد، ليس من الحكمة أن نتمادى في المزاح إزاء مسألة
جدية كهذه (خافضة بصرها وبصوت رزين)
أشكرك أولًا على كبير اهتمامك بي، لكنني أقول بصراحة أنه لا سبيل إلى
زواجنا.
فؤاد
(بحزن)
:
لماذا يا علية؟ أترينني قبيح المنظر؟
علية
:
كلا يا عزيزي، فإنك وسيم الطلعة بهي المنظر.
فؤاد
:
إذن فأنا لا أروق في نظرك لسوء أخلاقي ونقص تربيتي.
علية
:
حاشا لله، أنت كالجوهرة المتألقة في حسن الأخلاق وجمال
الخصال.
فؤاد
:
إذن، إذن، خبريني عن وجه العذر، لأعلم السبب في حرماني من أكبر
أمنية لي في الحياة.
علية
:
ليس فيك عيب مادي أو نقص معنوي، وإنما أرى أن امتزاجنا صعب عسير
وأن الأسرة التي نؤلفها تكون مضحكة للغاية.
فؤاد
:
مضحكة؟ ولماذا؟
علية
(بحدة ونزق)
:
ستُلجئني إلى الإفصاح بأقوال يسوءُك سماعها، إننا لا نصلح أن نمتزج
معًا؛ لأننا لا نستطيع أن نتَّحِد في الفكر.
فؤاد
:
في الفكر؟ أقسم لك بأنني سأحاول أن أكون صالحًا للامتزاج، أقسم لك
بشرفي أنني سأكون لك كما تريدين، أيعجبك أن أغير فكري، إنني لأغير جميع
نظرياتي وأفكاري في الحال، أعندك اعتراض بعد؟
علية
:
ظريف منك هذا التعبير أيضًا، إذا تم الأمر، عليَّ إذن أن أوصي لك
بطقم أفكار مع ملابس العرس.
فؤاد
:
كل ما في الأمر أنك تتهمينني بعدم الميل إلى المطالعة وقراءة الكتب
والمجلات، أعطيني قائمة بأسماء الكتب التي تختارينها وأقسم لك بأنني
أخصص أربع عشرة ساعة من وقتي للقراءة والمطالعة، وإذا أردت فإنني أحفظ
ما تريدين عن ظهر قلب، مع العلم بأنني كنت لا أطيق في المدرسة حفظ قطعة
من أربعة أسطر فقط.
علية
(بضجر)
:
كل هذا مفهوم، لكن لا سبيل إلى ذلك يا فؤاد، لا سبيل إلى امتزاجنا
لأنه يستحيل وقوعه، ألا توجد مسائل في الحياة يستحيل نفاذها فهذه
المسألة من هذا القبيل؟ أترى هذه المنضدة؟ أيمكنك الآن رفعها عن الأرض
بذراعك المضمدة؟
فؤاد
(بحزن)
:
يكفي أن تطلبي ذلك فيكون، (يقوم فيرفع
المنضدة بذراعة المضمدة ولكنها تسقط فتبدو منه صيحة ألم)
آه، آه.
علية
(بصوت مرتفع)
:
ماذا فعلت يا فؤاد؟ آه ماذا فعلت؟
فؤاد
:
أردت أن أكتم صياحي لكنني لم أتمالك. (كمال وزينب يظهران في الباب أثر الصيحة.)
كمال
:
ما هذه الجلبة؟ ما الذي حدث؟
علية
:
اصطدم فؤاد بذراعه.
كمال
:
آه منك أيها المصاب، سوف لا يرتاح بالك إلا إذا تسببت في بترها
(ينظر إلى المنضدة المنقلبة على
الأرض) ما هذا أكنتما تتراكضان؟ كيف أوقعتما هذه المنضدة
الكبيرة؟
علية
:
هل تتألم يا فؤاد؟ مسكين، مسكين تعال لأصلح لك لفافاتك.
(يخرج الاثنان من باب على اليمين.)
المشهد الرابع
كمال – زينب
كمال
(ضاحكًا)
:
ما أجنهما!
زينب
(تستأنف حديثًا سالفًا)
:
إذن ليس في الإمكان إيجاد أي وسيلة يا كمال بك؟
كمال
:
كلا، بكل أسف يا زينب فقد بسطت لك المسألة بجلاء تام.
زينب
:
وهل من الإنصاف أن يصبح مستقبل عائلة بأكمها مهددًا بالخراب من أجل
وشاية؟
كمال
:
هذه هي النغمة التي يرددها جميع من كانوا على شاكلة ذلك المختلس
تبريرًا لما يرتكبونه، ليس في الأمر وشاية يا زينب هانم بل اختلاس
جريء.
زينب
(بصوت تنم نبراته على التأثر)
:
ولكن ما ذنب المسكينة زوجته؟ وما هي جريرة الأبناء؟ تصوَّر يا كمال
بك عائلة مؤلفة من خمسة أولاد صغار، وتصوَّر مصيرهم بعد الحكم على
عائلهم.
كمال
:
وما الذي نصنعه نحن؟ أو بالأحرى ما الذي تصنعه الحكومة في مثل هذه
الحالة؟ إنه مسئول عنهم أدبيًّا وعليه وحده تقع مسئولية شقائهم
وبؤسهم.
زينب
:
إذن سوف أخبر والدته المسكينة أن لا وجه للخلاص.
كمال
:
ولكنك يا زينب تكلفين نفسك مجهودًا عظيمًا في سبيل الإشفاق عليه
وعلى أولاده، (مبتسمًا) لقد أصبحت
سيدة كاملة ومع ذلك لا تزالين كما أعهده فيك منذ الصغر تندفعين في تيار
المؤثرات لأقل الحوادث التي تحرك عاطفة الشفقة في النفس، بل ما زالت
عيناك هما هما ترتجفان لأقل حادث، أتذكرين عصفورتك الصغيرة؟ لكم بكيت
من أجلها عندما افترستها هرة شريرة ذات يوم!
زينب
:
آه (برقة وتحسر) نعم، بكيت
يومئذٍ كثيرًا وجزعت لموتها أشد جزع.
كمال
:
ألا تذكرين كذلك أني أحضرت لك عوضًا عنها عصفورة أخرى في سبيل
التعزية؟ أوَتذكرين أيضًا كيف تولاني الشغف أنا الآخر بتربية العصافير
بعد هذه الحادثة؟ إنني ما زلت أذكر أقفاصنا الصغيرة في الحديقة، تلك
التي تكاثرت حتى غدت الحديقة كأنها حديقة الدواجن، وما زلت أذكر إلى
اليوم كيف كنت تقفين أمام تلك الأقفاص بشعرك المرسل على الأكتاف وبثوبك
الزاهي اللون.
زينب
(تأتي بمحاولة تنم عن التملص من ذكريات
الصبا)
:
نعم، سأقول لوالدته: إنه لا سبيل إلى إنقاذه (تحاول الخروج) لقد صدعتك قليلًا؟
كمال
:
أيضايقك التحدث قليلًا مع صديق الصبا وزميل الطفولة؟
زينب
:
كلا، ولمَ ذلك؟ (بشيء من
التكلف) هل أنتم مرتاحون في مركزكم الجديد بثغر
الإسكندرية؟
كمال
:
الإسكندرية ثغر جميل يا عزيزتي كل ما فيها ساحر جذاب، غير أنني
أقيم في الناحية الهادئة منها، الناحية التي كان والدي شخصية معروفة
فيها حيث انتُخب عنها عضوًا في الجمعية التشريعية.
زينب
:
إذن يحق لي أن أقول بأنكم لا تشعرون فيها بشيء من السرور.
كمال
:
بالعكس فإنني مغتبط بوجودي في الإسكندرية، ومسكني فيها محاط بحديقة
فيحاء لا تقل عن حديقة قصر العائلة بحدائق القبة.
زينب
:
أكاد لا أصدق يا كمال بك، أتغتبط اليوم بالإسكندرية وقد كنتَ في
مقتبل صباك لا تحتمل المكث بها يومًا بعد انتهاء العطلة المدرسية، كانت
نصائح والدك في الالتحاق بمدارسها لتكون على مقربة منه تذهب مع الهواء،
ألم تقل لي يومئذٍ إن الإسكندرية كئيبة حزينة مقبضة للصدر؟
كمال
:
ذلك عبث الشباب، يكاد المرء لا يعرف حقيقة الأشياء الجميلة في مثل
ذلك العمر، لقد كان لأوروبا خيال جذاب في ذهني فطرت إليها كما تطير
الفراشة نحو المصباح، ولكنني ما لبثت أن عدت إلى بلادي بنفس متعطشة إلى
استنشاق هوائها؛ ذلك لأنني تقدمت في السن فصرت لا أرى بريق ما كنت أراه
خلابًا.
زينب
:
والأجدر أن تقول: إن أوروبا أحرقت جناحي الفراشة.
كمال
:
لم تحرقها أوروبا فحسب، لكن ما لنا ولهذا حدثيني عن نفسك، عند
أوبتي من أوروبا علمت بخبر اقترانك من شريف بك، وكنتما إذ ذاك في
الخرطوم ويلوح لي بأنك تجولت معه كثيرًا.
زينب
:
نعم، تسعة أعوام، جبنا فيها أرجاء السودان إلى أن أصابني
المرض.
كمال
:
من أي مرض تتألمين؟
زينب
:
الأعصاب، فالحمى، وأظن أنني مصابة بضعف القلب أيضًا، إلا أن
الأطباء يكتمون عني ذلك، وبالإجمال فقد جمعت تذكارات شتى من كل إقليم
حللت به، وها نحن اليوم في القاهرة حيث انتقل زوجي من الحربية إلى
الداخلية.
كمال
:
قضيت إذن زهرة شبابك بين الصحارى والأدغال وسط الأحراش والغابات،
وهل كان شريف بك يهتم بأمرك الاهتمام اللائق في تلك الأصقاع؟
زينب
:
لقد اهتم بأمري كثيرًا وبذل ما في وسعه في سبيل راحتي، ولم تبدُ
منه في يوم من الأيام حادثة تدعو إلى إيلامي غير أنه كان يغيب كثيرًا
عن المنزل بحكم وظيفته العسكرية، فتارة يكون في الثكنات لتمرين الجنود،
وتارة يكون في الجبال مقتفيًا أثر العصاة والأشقياء وما كنت أشعر
بالقلق لهذا الغياب إذ كنت أجد التسلية في تربية الدواجن، وبالأكثر كنت
أتسلى بأشغالي اليدوية.
كمال
:
نعم، نعم، ما أجمل تلك النفائس التي طرزتها يداك!
زينب
(بلهجة تنم عن ارتياحها للتحدث في أحب الأشياء
لديها)
:
آه، لو رأيت ما أصنعه الآن لأخذتك الدهشة بلا ريب؛ لأنني تمكنت من
هذه الصناعة وأتقنها كل الإتقان.
كمال
:
أعلم ذلك يقينًا فقد رأيت عند أختي علية مفرشًا من صنع يديكِ، وأظن
أنكِ كنتِ أرسلتِه إليها منذ عامين عندما كنتِ في «واد مدني».
زينب
:
هل رأيتَ ذلك المفرش؟
كمال
:
نعم، (بتردد) ولشدة إعجابي بتلك
القطعة الفنية توسلت كثيرًا إلى علية لتهديها إليَّ، وهي اليوم في
منزلي تكاد تكون أجمل زينة فيه.
زينب
:
لقد طرزت تلك القطعة في بلدة «أم درمان» حيث توفي ابني البكر إثر
المرض، لم يمهله أكثر من أسبوع واحد وكان شريف بك يعود من عمله الشاق
منهوك القوى، فأصبحت تلك القطعة سميرتي في الليالي الطوال.
كمال
(بصوت خافت عميق)
:
سميرة الهموم، تفضين إليها بمكنون قلبك وهواجس نفسك، أليس كذلك؟
لقد قرأت ذلك في تلك القطعة الفنية البديعة، يا لها من قطعة تكاد تنطق
بما أوحي إليها من ألم وأمل؛ ففيها مسالك الأمل المنتهية بأضيق السبل،
فيها ما يشابه أيام العمر الطويلة المملة التي تنساب في بحر الزمن على
نسق واحد، بالإجمال يا زينب هانم هي قطعة أودعتها الأنامل ثورة النفس
تكاد لفرط الإبداع تتحدث وتبكي وتضحك، وتظهر ألوانًا من الجلد والصبر،
هل كنت تشعرين بالسعادة في تلك التنقلات؟
زينب
(بتهيج)
:
ما الذي يدعوني ألا أكون سعيدة؟ لقد كنت في أتم سعادة، (بعصبية) ما الداعي إلى مثل هذه
الأسئلة؟
كمال
:
نعم، أنت على صواب فليس ما يدعو إلى ذلك، أتذكرين ليلة سفري إلى
أوروبا؟ أتذكرين كيف خرجنا معًا في نزهة قصيرة على القارب عند شاطئ
البحر؟ أتذكرين خوفك وجزعك من مرور باخرة على مقربة منا، وكيف انخرطت
في البكاء تلك الليلة لفرط ما نالك من خوف وجزع لتلك الحادثة؟ (يراها تلتفت إلى الجهة الأخرة لتكفكف
دموعها) ما هذا؟ ما الذي أصابك؟
زينب
:
لا شيء، نسيت أن أخبرك بأنني أصبت بمرض في عيني أثناء أسفاري، إنها
لتدمع على الدوام (تخفي عينيها
بالمنديل).
كمال
:
دعيني أنظر.
زينب
(باضطراب)
:
ليس ما يدعو للاهتمام (تحاول
الخروج) سوف أغسلها الآن بقليل من الماء فينتهي
الألم.
كمال
(مقتربًا منها بمصباح لمبة كهربائية على شكل
تمثال يأخذها من المنضدة)
:
اسمحي لي أن أرى، (عندما يرى الدموع في
مآقيها) آه لقد رأيت، لقد فهمت.
(يأخذ المنديل من يدها فيكفكف دموعها ثم
يدني منديلها إلى فمه بخفة ليقبله) آه لو تعلمين أثر هذه
القطرات في نفسي.
(تضع زينب يدها على وجهها فتجهش في البكاء، ثم لا
تلبث أن تعدو نحو الباب فيلحقها كمال ويعانقها في جنون.)
كمال
:
كلمتان فقط يا زينب، بالله اسمعي.
زينب
(وهي تحاول التملص من بين ذراعيه)
:
لا، لا، دعني، دعني.
كمال
:
دقيقة، لحظة، برهة صغيرة، لا تحرميني هذه النعمة.
زينب
:
أرجوك، أتوسل إليك أن تتركني، لا يلبث أن يدخل علينا أحد فيرانا
على هذه الحالة.
كمال
:
سوف لا يرانا أحد، سوف لا يسمعنا إنسان؛ لأنني سأتكلم بصوت
هادئ.
زينب
(بصوت تخنقه العبرات)
:
لا يا كمال، لا أريد أن تقول شيئًا، لا تحاول ذلك لقد انقضى الأمر،
حكمت على نفسي بأن أبتعد عنك حتى الممات.
كمال
:
لا تحاولي التملص من يدي، لن أتركك تذهبين قبل أن أقول كلمتي،
أحببتك يا زينب، أحببتك أعوامًا وما زلت محتفظًا بحبي إلى
اليوم.
زينب
:
لا تحاول أن تخدعني يا كمال، لم تحب، لكنك شئتَ أن تعذبني، أردت أن
تجرح قلبي وأن تتركه داميًا، أردت أن أبكي من أجلك.
كمال
:
هذه الفكرة التي تضمرينها نحوي هي التي تعذبني وتقطع نياط قلبي،
كنت أعلم أنك على هذا الظن، فكنت لا أملك وسيلة تبدد سحابة هذا الوهم
من نفسك، فيا لتلك الآلام يا لتلك اللوعة المضنية! يا لتلك الحسرات
والزفرات التي تتملكني كلما شعرت بالعجز أمام ذلك الوهم القائم في
ذهنك، دعيني اليوم أعترف لك بدخيلة نفسي، دعيني بالله هذه اللحظة أنثر
بين يديك حشاشة قلبي، وأطرح تحت قدميك سري الرهيب لأزيح ذلك الألم
الكامن في قرارة نفسي، لقد خفق قلبي من أجلك يا زينب — وأنت بعد صبية
صغيرة تمرحين وتلعبين في حديقة منزلنا — لقد كنت أنا أيضًا طفلًا
ناشئًا لا يفقه شيئًا من حقائق الحياة، كنت صبيًّا مغرورًا يرى السعادة
والشهرة والحب بل كل زينة خلابة في الحياة ملك يمينه، كبرت على الصبي
أن يقف حياته للصبية الصغيرة التي خفق قلبه من أجلها، غير أن الفضل في
بقائي، الفضل في نمو مداركي إنما يرجع إلى تلك الصبية التي نفخت في
نفسي أول شعور سماوي. نعم، إلى تلك التي همست في أذني أول نغمة موسيقية
من نغمات الحب، أدركت هذه الحقيقة بمرور الشهور والأعوام، لمست هذه
الحقيقة بعد أن كبرت، وبعد أن قاسيت كثيرًا في الحياة، ستضحكين مني إذا
أنا سألتك هل تحبين السماء؛ ذلك لأنها دائمًا فوق رءوسنا لا تحدثنا
الناس بفقدانها، أما إذا فقدناها إذا غابت عنا بشموسها وأقمارها
ونجومها فكم تكون اللوعة شديدة؟ ولقد غدوت اليوم كذلك في حبي المقفر من
الأمل، لم أعلم قدرك ولم أعلم مقدار حبي لك إلا بعد أن غابت السماء
التي كانت تشع أنوار شموسها فوق أرجاء قلبي، لا أنكر أنني سببت لك
الدموع والآلام كما تقولين، ولكنك لم تسألي هل أنا اليوم أسعد منك
حالًا؟
زينب
(وهي تبكي)
:
لماذا جئتني اليوم تحدثني عن هذه الأشياء التي ما كنت أرجوها وما
كنت أحلم بها في يوم من أيامي يا كمال؟ ما الذي تريده مني؟ لقد تعودت
على حياتي الجديدة (تخفض رأسها
بحزن) رباه، كيف أستطيع الصبر بعد اليوم؟
كمال
:
أنتِ إذن ما زلتِ مقيمة على حبي؟
زينب
:
نعم يا كمال، وإنه لحب عميق، أليس من العار لامرأة متزوجة أن تقيم
على حب لا غاية من ورائه، لا تلمني يا كمال، لقد تركتَ في قلبي أثرًا
لم تمحه الأيام، مكثت طوال السنين حانقة عليك أحاول النسيان بقلب جريح
ولكنك لا تعلم شيئًا عن حب النساء يا كمال، ذلك الحب الذي يدوم أبد
الدهر، بلا غاية ولا أمل لن تفهم ذلك ولن تدركه بتاتًا، لنفترق الآن،
لنفترق، وسوف أعاني كثيرًا، سوف أتعذب طويلًا، لكنني أصارحك القول
بأنني سأشعر بشيء من راحة القلب بعد اليوم.
كمال
:
أتتركيني على هذه الحالة فريسة للآلام دون أن تلقي إليَّ بكلمة
واحدة أغالب بها الوحشة في وحدتي، بالله لا تكوني قاسية إلى حد حرماني
من الأمل، امنحيني ساعة واحدة من الزمن أتملى فيها بمشاهدة وجهك، اسمحي
لي بساعة واحدة في مكان نأمن فيه أعين الرقباء لأنثر بين يديك كوامن
النفس بلا خوف ولا وجل، هيا إنني لأنتظر من فمك العذب مثل هذا الوعد
الذي ينزل على قلبي بردًا وسلامًا.
زينب
:
إنك لتطلب المستحيل يا كمال، ستسافر إلى الإسكندرية غدًا وأسافر
أنا أيضًا بعد غد لزيارة والدي في دمياط.
كمال
:
بالله لا تفعلي، لا تهدمي صرح أملي، لا تتركيني على هذه
الحال.
زينب
:
لا سبيل إلى ذلك، أتريد أن أحضر لضيافتك بالإسكندرية؟
كمال
:
بالله لا تقولي ذلك، لا توقظي في نفسي مثل هذا الحلم المستحيل، إنه
لكثير منك أن تسخري مني إلى هذا الحد؟ كلا، كلا، لن أطيق احتمال هذا
الحلم، أيمكن أن يكون؟ تكلمي يا عزيزتي، قولي: إنه مستحيل.
زينب
:
ما قلت ذلك إلا لاستحالته، وإلا فهل كنت أجرؤ على التفوه به؟ لكنني
رأيتك اللحظة تلمع عيناك ببريق السعادة عندما ذكرت لك ذلك، وما كدت
أحدثك باستحالته حتى رأيت ذلك البريق ينطفئ سراعًا (بسكون ورزانة) سأنفذ بالفعل ما ظننته
مستحيلًا، سأصير الحلم حقيقة ملموسة، اعتزمت التضحية بكل شيء، سأحضر
إليك في منزلك بل في منزلنا بالإسكندرية.
كمال
:
أكاد لا أصدق، أيمكن ذلك؟! (يحاول أن
يترامى على يديها.)
زينب
(وهي تقاومه)
:
ابتعد الآن، أسمع وقع أقدام.
(تدخل الخادم نبوية.)
كمال
:
ماذا تريدين يا نبوية؟
نبوية
:
أبحث عن ستي علية (تتجه نحو الباب على
اليمين وتنادي) ستي علية ستي علية.
زينب
:
دعنا نخرج إليهم في الحديقة (يخرجان).
المشهد الخامس
علية – نبوية
(قبل أن تخرج الخادم نبوية تدخل علية إثر
صياحها.)
علية
:
ماذا يا نبوية؟
نبوية
:
سيدة تريد مقابلتك على حدة.
علية
:
على حدة؟ أمر غريب؟ أين هي؟
نبوية
:
عند باب الحديقة، وقد امتنعت عن الدخول.
علية
:
ما شكلها؟
نبوية
:
لم أر وجهها لشدة تحجبها بإزار قديم، لكن مظهرها يدل على أنها
هانم، وقد لمحت في إصبعها خاتمًا ثمينًا من الماس.
علية
:
من تكون؟ دعيها تدخل وأخبريها بأنني في مكان ليس فيه أحد.
(تخرج الخادم وتعود ومعها سنية متحجبة بنقاب
سميك.)
المشهد السادس
علية – سنية
علية
(متعجبة)
:
أخبرتني الخادم بأنك ترغبين في مقابلتي من تكونين يا هانم؟
(ترفع سنية نقابها.)
علية
(تصيح بدهشة)
:
آه آه سنية! أبلتي سنية؟ كيف جئت هنا؟
سنية
:
لا تضطربي يا علية، ألم تسمعي بما حدث لي؟
علية
:
نعم، سمعت كل شيء.
سنية
:
ألقوا القبض عليَّ هذا المساء، لكنني تمكنت من الفرار بعد بضع
ساعات من القبض علي، والتجأت أولًا إلى مكان في جهة العباسية غير أنني
أدركت أنه من الخطر الاختفاء هناك هذه الليلة؛ ولذلك …
علية
:
ولذلك ماذا؟ ما هذه الجرأة؟ كيف وصلتِ هنا؟ وما الذي جاء
بكِ؟
سنية
:
بالله أشفقي علي، أعلم يقينًا بأن الواجب كان يقضي عليَّ بعدم
المجيء إلى هنا، لكنني أكرهت على هذا العمل، لقد انسدت أبواب الأمل في
وجهي، لم أجد بين صديقاتي من أعتمد عليها في الالتجاء إليها، وفي
اللحظة التي فكرت فيها بتسليم نفسي للقسم مرة أخرى ذكرتك يا علية، نعم
ذكرتك في تلك اللحظة العصيبة وأنا في أشد الضيق والكرب، ذكرت حنانك
وعطفك وفكرت في مروءتك وعلو نفسك، فلم أرَ بدًّا من الالتجاء إليك يا
عزيزتي، أي إلى فتاة في السابعة عشرة، فإذا رفضت …
علية
:
لا أعلم ما أقوله، لا أدري، ولكن لا، إنه ليصعب عليَّ أن أتركك
وأنتِ في هذه الحالة، ولكنني لن أستطيع أن أفعل شيئًا من أجلك، إن أخي
كمال عندنا هذه الليلة وأنت تعرفينه، فإذا أخبرته بالأمر …
سنية
(تقاطعها)
:
أهو هنا؟ لا، لا قد رجعت عن عزمي، دعيني أنصرف (تعدو نحو الباب).
علية
(تلحق بها وتمسك يديها)
:
كلا يا عزيزتي، ما دمت التجأت إليَّ فلن أتركك.
(صوت فؤاد): علية هانم، علية هانم.
(تدفع سنية إلى باب في اليسار)
أسرعي، ادخلي هنا، ثم اصعدي توًّا إلى غرفتي فليس فيها أحد (سنية تغيب عن الأنظار).
المشهد السابع
علية – فؤاد
فؤاد
(يدخل)
:
أنت هنا؟ نسيت أن أقول لك مسألة.
علية
:
دع الآن ما تريد أن تقوله، واسمع ما أقوله أنا، لقد سنحت فرصة
جميلة من أجلك.
فؤاد
(بذهول)
:
فرصة؟ أي فرصة؟
علية
:
فرصة جميلة لإثبات شهامتك ومبلغ حبك لي، ولأرى إلى أي حدٍّ يمكنني
الاعتماد عليك.
فؤاد
(بذهول وتهيج)
:
أنا رهين إشارتك في أي أمر يا علية، كلمة واحدة من فمك اللطيف
كافية لإقدامي على إلقاء نفسي من أعلى نافذة في المنزل.
علية
:
سوف لا أطلب منك مثل هذا الأمر الجسيم، سأطلب إليك الأخذ بيد امرأة
بائسة وانتشالها من وهدة الضيق.
فؤاد
:
أمرك وما تريدين.
علية
:
إذن تعال معي (وتقوده إلى باب
اليسار).
(ستار)