تقديم
غالبًا ما يقف المسلمون عند قول الله تعالى في القرآن: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (سورة الإسراء: ٧٠)؛ وذلك لكي يؤكدوا أن القرآن، ومن ثم الإسلام، يعزز حقوق الإنسان ويساندها. وقد يذهب البعض إلى المبالغة والزعم أن الإسلام قد سبق حضارة القرن العشرين في تقرير حقوق الإنسان. ولا شك أن الإسلام بل والأديان كلها تجعل من الإنسان محور اهتمامها، وذلك من حيث إنها خطاب موجه له من الله. والخطاب إنشاء لعَلاقة بين الإلهي المقدس والإنساني الدنيوي، لكي يلامس الثاني الأول ويقترب من أفقه من خلال فعل «الطاعة» أو «السجود». هكذا نهى الله النبي ألا يطيع من ينهاه عن الصلاة، وأمره قائلًا: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (سورة العلق: ١٩).
لكن علينا ألا ننسى أن «الإنسان» الذي تكرِّمه الأديان وتضمن له كل الحقوق هو الإنسان المنتمي لهذا الدين أو ذاك، والذي يتبع طريق الخلاص الذي يحدده له. أما الإنسان الذي يقع خارج دائرة دين بعينه فهو من منظور هذا الدين «هالك» لا يتمتع بأية حقوق، وإن كان إنسانًا «كامل الحقوق» من منظور الدين الذي ينتمي إليه. وليس أمر الحرمان من الحقوق في هذا الدين أو ذاك مقصورًا على التهديد بالعذاب الأخروي، ذلك أن «التحقير» الدنيوي كفيل بسلب الإنسان إنسانيته التي بدونها يستحيل الكلام عن أية حقوق.
لكن النصوص الدينية تقرر دائمًا مبادئ مثالية ذات طابع إنساني، ويظل الأمر في النهاية مرهونًا بفعالية العقل الإنساني — المخاطَب — والذي يقوم من خلال عمليات «التفسير والتأويل» بتنزيل تلك المبادئ على أرض الواقع في صياغات فكرية محددة تتوقف على طبيعة «الإطار المرجعي» المعرفي لهذا المفسِّر أو ذاك، كما تتوقف بنفس القدر على مجمل السياق التاريخي الاجتماعي للعصر الذي تتم فيه عملية الفهم والتفسير. هكذا يمكن أن نجد صياغات متباينة — إلى حد التناقض — في إطار الفكر الإسلامي، سواء في سياقه التراثي الكلاسيكي أو في سياقه في العصر الحديث منذ بداية النهضة أوائل القرن التاسع عشر حتى اليوم. في إطار الفكر الإسلامي الكلاسيكي يمكن تلمس هذه الصياغات في مجموعة من العلوم، أهمها: علم الكلام وعلم أصول الفقه والفلسفة والتصوف.
وثم مسافة — أو مسافات — لا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها بين مستوى الصياغة الفكرية النظرية وبين مستوى التطبيق في الحياة الاجتماعية والممارسات السياسية التاريخية في المجتمعات الإسلامية المختلفة. إنه الفارق بين «المثال» والواقع، سواء تجسَّد هذا المثال في الخطاب الإلهي، كما أشرنا، أم تجسَّد في الصياغات النظرية للبشر تأويلًا للخطاب الإلهي. هذا الفارق بين المثال والواقع موجود في كل الثقافات والحضارات. فحتى الوثيقة الدولية لحقوق الإنسان في العصر الحديث — وهي الصياغة التي انبثقت من التجرِبة التاريخية الطويلة لصراع الإنسان ضد كل أنواع التمييز والتفرقة والاضطهاد، وأفادت دون شك من خطوات الإنجاز الفكري الإنساني في هذا المجال — هذه الوثيقة تضمن للإنسان حقوقًا لا تتحقق في واقع الممارسة الفعلية، بل هي في المجتمعات المتقدمة، التي بدأت منها مبادرة وثيقة حقوق الإنسان، أدنى كثيرًا جدًّا من المثال.
إن التحيزات العنصرية، الجنسية والثقافية، تمثل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان داخل كل مجتمع من تلك المجتمعات. وأبشع من ذلك وأفظع ما تمارسه الدول المتقدمة الكبرى ضد شعوب الدول المتخلفة الصغرى من إذلال وإفقار واستغلال، وحتى ليكاد الباحث يشك أن المقصود بمفهوم «الإنسان» في وثيقة الحقوق هو الإنسان الأوروبي دون غيره من البشر. بل قد يكون مفهوم الإنسان مقصورًا على الأوروبي الغربي دون الأوروبي الشرقي في بعض الأحيان. هكذا تتضاءل دلالة المفهوم في الممارسة السياسية طبقًا لعَلاقات القوة والسيطرة والهيمنة، التي تجعل من المصالح الاقتصادية غاية الغايات، وتجعل من المُثُل والمبادئ مجرد شعارات.
هذه المسافة بين المثال الذي تطرحه النصوص — دينية كانت أم دنيوية — وبين الواقع الفعلي هي محور الدراسة التي نقدمها هنا. وإذا كانت الدراسة ستتخذ من «الخطاب الإسلامي» مادة لتحليلها، فهذا لا يعني أنه خطاب «فريد» في بابه، كما لا يعني ذلك من جهة أخرى أنه خطاب «شاذ» في نمطه. إنه مثال ونَموذج لأزمة الوجود الإنساني منذ فجر التاريخ حتى الآن، أزمة الفجوة بين «المثال» الروحي والفكري وبين «الواقع» المادي الغليظ. والدراسة في سعيها لتحليل الخطاب الإسلامي تهدف إلى تعميق الوعي بالأزمة خطوة في اتجاه الحل، وذلك بدلًا من الاكتفاء بتبادل الاتهامات الذي من شأنه أن يعمق الأزمة بتسطيح الوعي بها.
«الآن وقد استقر مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن الدين واللون والجنس، لا يصح التمسك بالدلالات التاريخية لمسألة الجزية. إن التمسك بالدلالات الحرفية للنصوص في هذا المجال لا يتعارض مع مصلحة الجماعة فحسب، ولكن يضر بالكِيان الوطني ضررًا بالغًا، وأي ضرر أشد من جذب المجتمع إلى الوراء، إلى مرحلة تجاوزتها البشرية في نضالها الطويل من أجل عالم أفضل مبني على المساواة والحرية والعدل.»