إن انهيار الاتحاد السوفييتي، وتحول العالم إلى القطب الواحد وتراجع آفاق الثورة
والتحرر، وانحسار الأمل، كل ذلك أدى إلى تمسك قوى المجتمع العربي بما يعتبره صورًا
مشرقة في تاريخه من أجل مواجهة حاضر مهزوم.
كما أن الميل الأميركي وبعض الأوروبي إلى جعل الإسلام عدوًّا أيديولوجيًّا بديلًا،
وسعيه من خلال هذا العداء إلى حشد قوًى مرتبطة به لحماية مصالحه الاقتصادية في بلاد
العرب خاصةً والمسلمين عامة. وكذلك العمل على تكريس هيمنة تصل إلى حد التلاعب بكل من
القوى السياسية الحاكمة والقوى المعارضة في وقتٍ واحد، قد شكل أسبابًا لنمو الحركات
العنيفة، وأجج نار الصراع داخل المجتمعات العربية إلى حد الاقتراب من حدود الحرب
الأهلية، على مستوى الفكر إن لم يكن السلاح.
(١) الطائفية: انقسام الفرد
الطائفية فعل تفتيتي، لا يتوقف عن ممارسة فعاليته عند نقطة محددة، قد تبدأ من
نقطة ما، لكنها تنفجر ما لم تتم محاصرتها بأسرع وسيلة. وحين انفجرت في أوروبا
الفاشية والنازية كادت تذهب بكل شيء. ولسنا هنا بصدد تحديد نقطة البداية في عالمنا
العربي: هل هي من الداخل أم من الخارج؟ فالواقع أن نقاط الانفتاح والتلاقي عديدة.
المهم أن هذه الطائفية التي تولدت في تجلياتها الأولى من أزمة الهزيمة تمارس
تفتيتها لكل ما هو بناء ونظام حتى تصل إلى الفرد ذاته فتشطره. وكما تنشطر الذرة
فينفصل الإلكترون عن النواة مولدًا طاقة مرعبة إذا خرجت عن حدود التحكم، فإن
الطائفية تشطر الإنسان نصفين، قوتين متقاتلتين تنتجان تبادلًا للسيطرة والعنف في
عَلاقة يهيمن فيها الذكر على الأنثى هيمنة تامة مطلقة.
شيء من هذا القبيل حدث بعد هزيمة ٦٧ مباشرة وظل يتنامى وينتشر حتى وصلنا إلى
انشطار الإنسان الفرد. في البداية ارتدت الجماعة إلى أصولها وجذورها، إلى «التراث»
الذي مثل للبعض حماية من عراء الهزيمة، وكان عند البعض الآخر موضوعًا للتأمل
والدراسة والتساؤل. ومع تنامي فعل التفتيت الطائفي انحسر كل تيار في خندق خطاب مغلق
لا يعترف بالخطاب الآخر ولا يدخل معه في حوار مباشر. وهكذا يمكن القول — مع بعض
التبسيط الضروري والمخل في نفس الوقت — أنه قد صار هناك خندقان فكريان: الأصولية
الإسلامية بكل تياراتها واتجاهاتها، والاتجاهات العلمانية بمختلف شرائحها وتدرجاتها
وظلالها. مضت الذهنية الأصولية — التي نهتم بها هنا بصفة أساسية — في خوض معاركها
ضد خصمها اللدود من جانبين: الجانب الأول يتمثل في تشويه الأطر المرجعية الفكرية
والثقافية الخارجية — فيما تتصور — لهذا الخصم، وهذا أمر قام به في مصر مثلًا خطاب
«سيد قطب»، وهو خطاب يمتح — كما هو معروف — من خطاب مفكر أصولي آخر هو «أبو الأعلى
المودودي». وهذا الخطاب الأخير يُعَد ثمرةً من ثمار «الفتنة الطائفية» التي زرعها
الاستعمار البريطاني في القارة الهندية بين المسلمين والهندوس، وهي الفتنة التي دفع
المناضل الهندي «غاندي» حياته في أتونها.
لم يشغل سيد قطب نفسه كثيرًا بقضية المرأة إلا من جانب «الجنس» و«العري»
و«الاختلاط» الذي تسمح به الحياة الأوروبية بين الجنسين. كان نقده موجهًا أساسًا
لنمط الحياة الأوروبية التي حدث فيها «انفصام الفكر» بين الدين والحياة، فابتعدت عن
منهج «الله» وخضعت لمنهج «البشر». من هنا نقده للفرويدية التي وضعها في خانة «وحل
الجنس». كما اشتد نقده للداروينية «وحل الحيوان» التي تأسس عليها التفسير الجنسي
للنشاط الإنساني. ولم يكن نقده للماركسية أقل من نقده لكل من الداروينية
والفرويدية.
لم يكن نقد أوروبا في خطاب «قطب» — في أحد جوانبه ولعله أهمها — إلا نقدًا للخطاب
«العلماني» العربي والمصري بصفة خاصة في جذوره وأصوله الأوروبية. وهذا هو الخطاب
الأول في محاولة الأصولية نفي نقيضها. ويتمثل الجانب الثاني في نقد الخطاب النهضوي
العربي بصفة عامة، والمصري بصفة خاصة، بوصفه «التراث» التاريخي للخطاب العلماني
المعاصر. والمقصود بالخطاب النهضوي ذلك الخطاب الممتد من «تخليص الإبريز» لرفاعة
الطهطاوي حتى خطاب زكي نجيب محمود في وضعيته المنطقية.
هذا النقد للتراث العلماني قام به أتباع سيد قطب بدءًا من «صالح سرية» — جماعة
التكفير والهجرة — إلى الشيخ عمر عبد الرحمن وأتباعه. هذا النقد يعتمد مقولات سيد
قطب عن «الحاكمية» وعن «جاهلية» النظم القائمة في العالم كله، لأنها تعتمد حاكمية
البشر بدلًا من حاكمية الله. من هنا لا يتردد في أن يصم بالكفر والإلحاد كل خطاب
النهضة الذي ينتظم طه حسين وسلامة موسى وعلي عبد الرازق. ويتساءل بعضهم بمناسبة
إعادة نشر كتب التنوير في الهيئة المصرية العامة للكتاب تحت يافطة «المواجهة»
بأسعار زهيدة وفي طبعات شعبية: «إذا أردتم التنوير حقًّا فلماذا لم تنشروا مع هذه
الكتب المؤلفات التي ردت عليها ودحضتها؟ … لماذا لم تنشروا رد الشهيد سيد قطب على
طه حسين في «نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر»؟ ثم يعلق على عملية النشر تلك قائلًا:
«إنهم يريدون أن ينفخوا في نار تكاد تنطفئ، ويسكبوا البنزين على النار لكي تحرق
عقائد المسلمين، ولكن الله بالغ أمره.» بل يذهب المؤلف إلى تتبع سلسلة الكفر، فيرى
أن طه حسين قد سلم الشعلة إلى «أمين الخولي» الذي نقلها إلى محمد أحمد خلف الله»:
«ثم يتلقف الحلقة أخيرًا من سُمي بنصر أبو زيد.»
١
هذا الخطاب السجالي في جوهره يقوم بعملية «سلب» للتراث التاريخي لنقيضه، كما قام
بعملية تشويه للأصول الأوروبية المفترضة للخطاب الأخير. وليست عملية «السلب» هذه
متخارجة من عملية التفتت الطائفي الداخلية والخارجية. هي عملية قامت أولًا بإنتاج
خطاب طائفي نقيض للخطاب العلماني الذي أقر مبدأ «الدين لله والوطن للجميع» إبَّان
النضال الاجتماعي والسياسي ضد الاستعمار والإقطاع الذي تجلى في ثورة ١٩١٩م. من هنا
ثارت مشكلة الأقليات الدينية فيما عُرف بأحداث «الفتنة الطائفية» في مصر في بداية
الثمانينيات. وتزامن مع الخطاب الطائفي ضد الأقليات المسيحية خطاب طائفي ضد المرأة،
مناديًا بعودتها للمنزل والحجاب، والتخلي عن كل مكتسباتها التي حققتها استثناء في
مجال التعليم محدَّدٍ بمجالات بعينها تتصل بطبيعتها الأنثوية.
٢ هكذا بدأ الانشطار على مستوى المجتمع وانسرب إلى مستوى الفرد، فانشطر
الإنسان إلى ذكر وأنثى، العَلاقة الوحيدة المحتملة بينهما هي العَلاقة التي تتحدد
بغاية التناسل وحفظ النوع التي تستهدف قيام المجتمع الذي يحكمه «الله» وليس
البشر.
(٢) خطاب النهضة: مقاومة الانقسام
حين تبلور مبدأ «الدين لله والوطن للجميع» كان يتبلور لحماية المجتمع من طائفية
تهدده من الخارج. كان ذلك حين رفض المسلمون والمسيحيون معًا في المجتمع المصري ما
أعلنه الاستعمار البريطاني من حق «حماية الأقليات»، نفس المبدأ الذي رسَّخ به
الاستعمار ركائز الطائفية في شبه القارة الهندية. ولم يكن من قبيل المصادفة أن
أحداث ثورة ١٩١٩م هي ذاتها التي شهدت بدايات سفور المرأة بعد أن شاركت الرجل في
التظاهر والهتاف ضد الاستعمار، وبعد أن واجهت رصاص القوات البريطانية. كانت دعوة
قاسم أمين لتحرير المرأة قد أحدثت أثرها رغم الهجوم الذي تعرض له هو وكتابه من جانب
المحافظين والرافضين لرياح التغيير.
هذا الترابط بين «الوَحدة الوطنية» و«حرية المرأة» ترابط البعد الطائفي لمسألة
المرأة في الخطاب الإسلامي المعاصر على الأقل. والهجوم على خطاب النهضة ومحاولة
النيل منه على جميع المستويات والأصعدة وجد في خطابه عن المرأة مجالًا للتشكيك
والإثارة والتشهير. وعلينا ألا ننسى أن الجذر المغذي لحملة الهجوم المزدوِجة المشار
إليها نجده في أرض الواقع المأزوم المهزوم. وإن كانت المسألة تبدو على السطح مسألة
نزاع بين خطابين يسعى كل منهما لمحاولة الخروج من الوضع المأزوم.
الفارق بين خطاب النهضة وخطاب الإسلام المعاصر هو الفارق بين الجمع والتشتيت، بين
مفهوم «الوطن» المعتمد على وَحدة الأرض والتاريخ والمصالح المشتركة وبين مفهوم
«القبيلة» المعتمد على وَحدة الدم، أو مفهوم الدين المعتمد على وَحدة العقيدة. هذا
على مستوى القضايا الوطنية والمحلية، أما على مستوى العَلاقة بالآخر الأوروبي فخطاب
النهضة خطاب مفتوح يرى الآخر في تقدمه وعقلانيته كما يدرك أطماعه الاقتصادية
والسياسية، لذلك يتعلم منه لكي يحاربه بنفس السلاح. الخطاب الإسلامي يقف من أوروبا
موقف «العداء» المطلق، وإن لم يمنع العداء ممثليه السياسيين من الاعتماد على
استيراد التكنولوجيا واستثمار الأموال في بنوك الغرب. وهذا الخطاب يعتصم في المقابل
بالتراث الذي صار رداء «الهوية» و«الخصوصية» التي تعني التمايز. وموقف خطاب النهضة
من التراث هو موقف التأمل والتساؤل والفحص ورفض التماهي معه، أو مع أحد تياراته
واتجاهاته بعد إدراك تعدديته وتاريخيته.
ويمكن لنا تلمُّس تلك الفروق من خلال خطاب النهضة حول قضية المرأة، حيث نجد
الخطاب مشدودًا إلى بُعدين لا يفارقان بنيته: البُعد الأول هو وطأة التطور متمثلًا
في الاحتكاك المباشر بالمجتمعات الأوروبية المتقدمة، سواء عن طريق التعرف على
منجزاتها من بيئاتها الأصلية، والتعرف على سلوك أهلها وعوائدهم في بلادهم، أو في
الاحتكاك بهم داخل أقطار الوطن العربي. أما البُعد الثاني فهو بُعد التقاليد
والتراث متمثلًا في مبادئ الإسلام وتشريعاته. يشير قاسم أمين إلى البُعد الأول —
الاختلاط وما أحدثه من تأثير — على أساس أنه واقع لا بد من مواجهته بدلًا من الهرب
منه وتجاهله. وهو واقع له إيجابياته كما له سلبياته، فعلينا معالجة السلبيات لا
التضحية بالإيجابيات. وفي هذا التمييز بين السلبيات والإيجابيات، في ما طرأ على وضع
المرأة من سفور واختلاط بالرجال، يكاد قاسم أمين يكرر أطروحات رفاعة الطهطاوي عن
المرأة الباريسية التي لم يمنعه إعجابه بجسارتها وخفة حركتها ونشاطها من ازدراء
مسألة ملامستها للرجال في حركات الرقص. يقول قاسم أمين:
طرقت ديارَنا حوادث، وداخلَنا ضربٌ من الاختلاط مع أمم كثيرة من
الغربيين، ووُجدتْ علائق بيننا وبينهم علمتنا أنهم أرقى منا وأشد قوة. ومال
ذلك بالجمهور الأغلب منا إلى تقليدهم في ظواهر عوائدهم، خصوصًا إن كان ذلك
إرضاءً لشهوة أو إطلاقًا من قيد. فكان من ذلك أن كثيرًا من أعليائنا
تساهلوا لزوجاتهم ومن يتصل بهم من النساء، وتسامحوا لهن في الخروج إلى
المتنزهات وحضور التياترات ونحو ذلك، وقلدهن في ذلك كثير ممن يليهن، وعرض
من هذه الحالة بعض فساد في الأخلاق. تلك حالة طرأت للأسباب التي تقدمت،
وتبعها من العواقب ما بيناه. ولكن ليس في مصلحتنا، ولا من المستطاع لنا،
محوُ هذه الحالة والرجوع إلى تغليظ الحجاب، بل صار من منمنمات شئوننا أن
نحافظ عليها، ونتقي تلك المضار التي نشأت عنها، وذلك هو ما نستطيعه.»
٣
هكذا نجد خطاب النهضة مدركًا لقوانين الاجتماع البشري كما أسسها ابن خلدون. أول
مبادئ هذه القوانين اعتماد المصلحة وتحقيقها أساسًا أوليًّا. ثاني تلك المبادئ أن
المغلوب يقلد الغالب دائمًا، في سلوكه وزيه وشارته، وهذا هو الذي حدث في المجتمعات
العربية من تقليد لبعض عوائد الغرب، خاصة ما اتصل منها بتحقيق شهوة أو الانفكاك من
قيد. المبدأ الثالث، وهو الأهم من منظور تحليلنا، أن التغيير قد يأتي معه ببعض
المفاسد، لكن هذه المفاسد لا يجب أن تجعلنا نقاوم التغيير أو نقف ضده حتى لا نحرم
المجتمع من إيجابيات التغيير.
نلاحظ هنا في هذا المبدأ الثالث أن خطاب النهضة يعارض مبدأ هامًّا من مبادئ
الخطاب الديني القديم والحديث على السواء، وهو المبدأ الذي صاغه بعض الفقهاء، والذي
فحواه أن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح». يناهض خطاب النهضة هذا المبدأ على
أساس أن علاج «المفاسد» ومواجهتها هو الحل بدلًا من إيقاف ريح التغيير بما تحمله من
تحقيق للمصالح، للجماعات والأفراد، ولتقدم البشرية. والحل الذي يطرحه خطاب النهضة
عمومًا كعلاج للآثار الجانبية للتقدم (الفساد) هو التربية والتعليم اللذان من
شأنهما حماية المرأة، بل والرجل كذلك، من تلك الآثار.
٤ ومن خلال مناقشة هذا المبدأ الأخير يتعرض خطاب النهضة للبُعد الثاني
الذي يتجاذبه بنيويًّا مع البُعد السالف، بُعد «الدين» والتقاليد والتراث.
لم يكن من الممكن لخطاب النهضة أن يناقش مسألة مرجعية الشريعة، خاصة وقد تأسست
بنيته على أساس «عدم التعارض» بين التقدم وبينها. إن من أهم أطروحات خطاب النهضة —
كما يتمثل في خطاب محمد عبده الذي يعد أستاذًا مباشرًا لقاسم أمين — أن «الإسلام»
هو دين الحرية والمدنية والتقدم. إن التعارض بين التقدم الذي تمثله أوروبا وبين
الإسلام ينشأ عن «الجهل» بالإسلام وعن التقاليد البالية التي أُلصِقتْ خطأً
بالإسلام. من هنا يتقدم قاسم أمين ليقرر أن تدني وضع المرأة في المجتمعات العربية
الإسلامية وما فُرض عليها من حجاب وقيود لا يجد تفسيره في الإسلام، وإنما تفسيره
الوحيد حالة «التخلف» التي تعيشها تلك المجتمعات. وعلى عكس الخطاب الديني الذي يفسر
«التخلف» بالبعد عن قيم الإسلام ومبادئه، يرى قاسم أمين أن البعد عن قيم الإسلام
ناشئ عن حالة الجهل والتخلف، وهي حالة من شأنها أن تجعل فهمنا للإسلام فهمًا
متخلفًا. وللتخلف أسباب في واقع المجتمعات الإسلامية وفي تاريخها، يُجملها قاسم
أمين في الاستبداد والديكتاتورية مكررًا ما قاله الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي.
٥
إن الأمة تحركها عوامل كثيرة تُفضي بها إلى التقدم والمدنية أو تُفضي بها إلى
التخلف والتوحش. هذه العوامل تؤثر بذاتها في «الدين» ذاته، أي في عملية فهمه
وتفسيره. «ولهذا الارتباط التام بين عادات كل أمة ومنزلتها من المعارف والمدنية نرى
سلطان العادة أنفذ حكمًا من كل سلطان، وهي أشد شئونها لصوقًا بها وأبعدها عن
التغيير، ولا حول للأمة عن طاعتها إلا إذا تحولت نفوس الأمة وارتفعت أو انحطت عن
درجتها في العقل. ولهذا نرى أنها تتغلب دائمًا على غيرها من العوامل والمؤثرات، حتى
على الشرائع. ويؤيد ذلك ما نشاهده كل يوم في بلادنا من أن القوانين واللوائح التي
توضع لإصلاح حال الأمة تنقلب في الحال إلى آلة جديدة للفساد. وليس هذا بغريب، فقد
تتغلب العادات على الدين نفسه فتفسره وتمسخه بحيث ينكره كل من عرَفه.»
٦
هكذا تتم تبرئة الإسلام — ردًّا على المستشرقين — من تبعة التخلف عامة، ومن تبعة
تدني أوضاع المرأة بصفة خاصة. لكن هذه التبرئة تمهد الأرض لخطاب النهضة لكي يقدم
قراءته للإسلام ولنصوصه، وهي قراءة تعارض القراءة السلفية أو الأصولية. إنها تبرز
ما منحه الإسلام للمرأة من حقوق تتجاوز في بعض الجوانب ما تحقق للمرأة الأوروبية
بعد عصر النهضة: «ولكن وا أسفاه! قد تغلبت على هذا الدين الجميل أخلاق سيئة ورثناها
عن الأمم التي انتشر فيها الإسلام، ودخلت فيه حاملةً ما كانت عليه من عوائدَ وأوهام
(الإشارة إلى الأتراك)، ولم يكن العرفان قد بلغ بتلك الأمم حدًّا يصل بالمرأة إلى
المقام الذي أحلتها الشريعة فيه. وكان أكبر عامل من استمرار هذه الأخلاق توالي
الحكومات الاستبدادية علينا.»
٧
هذا التجاذب بين بُعدَي الآخر الأوروبي — ممثل التقدم والمدنية — و«الدين» هو
الذي يمنح خطاب النهضة حيويته. وهذا السعي إلى التوفيق بين البُعدين — بصرف النظر
عن النتائج والإيجابيات — هو الذي يمنح خطاب النهضة صفة «الجمع»، ويبتعد به عن
الطائفية التي تتمحور حول الذات وتتغنى بفضائلها وتميزها الجوهري عن الأغيار. ومن
شأن الخطاب التجميعي أن يسعى للتقريب، بعكس الخطاب الطائفي الذي يسعى للتشتيت. في
قضية المرأة يسعى خطاب النهضة لجمع شتات الإنسان — رجلًا كان أو امرأة — في كلٍّ
موحَّد متجانس متشارك. قد يقال إن الغاية التي كانت تحرك خطاب النهضة غاية «نفعية»
تسعى إلى تنشيط الطاقة الإنتاجية في المجتمع باشتراك المرأة.
٨ وقد يقال إن خطاب النهضة أراد التوفيق، ولكنه انتهى إلى «التلفيق».
٩ وكل ذلك صحيح من المنظور النقدي، لكنه صحيح أيضًا أن الخطاب التجميعي
كانت له نتائجه الهامة جدًّا في مسألة المرأة على وجه الخصوص. وهي نتائج ظلت بذورًا
كامنة ولم تجد أرضًا صالحة تحضنها حتى تنبت وتزدهر. ولئن كان خطاب قاسم أمين قد وقف
عند حدود تبرئة الإسلام من تهمة الجناية على المرأة، فإن الطاهر الحداد قد تجاوز
منطق الدفاع والتبرئة إلى طرح فهم شبه تاريخي لدلالة النصوص الدينية الخاصة بقضية
المرأة.
(٣) الطاهر الحداد: تجاوز الثنائية
لئن كان «التأويل» العقلاني الذي أسسه محمد عبده هو مدخل النهضويين لفهم الإسلام،
فقد كان هذا التأويل بدوره محاولة لجعل الإسلام ينطق بقيم التقدم والمدنية
والحضارة. من هنا يرى قاسم أمين — متابعًا أستاذه محمد عبده — حاجة العقل في فهمه
للدين إلى مبادئ العلم والمدنية: «إن علوم الدين والفقه لا يمكن الانتفاع بها إذا
لم يسبقها الإلمام بالمعارف والمبادئ العلمية. أليس التوحيد هو خاتمة العلوم كلها
وخلاصة مجموعها؟ أليس الفقه علم شريعة كل نفس في ارتباطها بخالقها وفي معاملتها مع
بقية البشر، وكلاهما يحتاج إلى معرفة علم النفس وتشريح الجسم ووظائفه والتاريخ
والرياضة والعلوم الطبيعية وغيرها مما تسمو به الأفكار ويرتقي به العقل؟ أليس في
الحقيقة واحدًا يشبه شجرة ذات فروع وأفنان تتصل بأصلٍ واحد وتتغذى من جذر واحد
وتخدم حياة واحدة، وتنتج ثمرة هي معرفة حقيقة كل شيء في الوجود.»
١٠
وهذا التصور لوَحدة المعرفة — رغم تعدد العلوم وتفرعها — وتجذرها جميعًا في العقل
أفضى إلى جعل «العلوم الدينية» جزءًا من منظومة المعرفة الإنسانية، بمعنى أنها علوم
يجب أن تخضع لنفس الآليات والإجراءات المنهجية في الفهم والتفسير والتحليل. وهنا
مرة أخرى يثبت خطاب النهضة كفاءته بوصفه خطاب تجميع لا خطاب تشتيت، لأن نقيضه
السلفي يتبنى منظورًا يفصل بين «علوم الدين» و«علوم الدنيا»، على أساس أن النوع
الأول يتجذر أساسه المعرفي في «الإيمان»، بينما يتجذر أساس النوع الثاني في «العقل».
١١ هذا الفصل المعرفي بين مجالات العلوم يتوازى بالطبع مع كون الخطاب
السلفي خطابًا طائفيًّا بالمعنى الفكري والعقلي. وهنا مرة أخرى نقابل مسألة
«اجتماعية» المعرفة، ومسألة مسئولية «الاستبداد» و«الدكتاتورية» — بوصفهما نظم حكم
فاسدة — عن «الجهل» و«التخلف»، وعن حالة المرأة المتردية. والأهم من ذلك كله
مسئولية التخلف الاجتماعي عن التخلف العقلي، ومسئولية هذا الأخير عن انحطاط القيم
الدينية. يواصل قاسم أمين:
«ولا حاجة بنا إلى التطويل في شرح أمرٍ صار معلومًا عند الكل، وهو انحطاط
الدين اليوم في جميع مظاهره، حتى في العبادات. وإنما أردنا أن نبين أن
انحطاط الدين تابع لانحطاط العقول، وأن العلة الأولى التي هي مصدر غيرها من
العلل التي حالت بيننا وبين الترقي هي إهمال التربية في الرجال والنساء معًا.»
١٢ هذا التفسير الذي يبدأ بالمجتمع بوصفه منظومة كلية وليس مجرد
مجموعة من الأجزاء يمثل — رغم بُدائية التصور — المبدأ الذي تأسست عليه
مسألة وَحدة المعرفة، حيث تقوم المعرفة الدينية على العقل شأنها شأن
المعارف الأخرى سواء بسواء.
إذا كانت هذه المفاهيم متناثرة في خطاب النهضة بحيث يصعب أن تشكل نسقًا كليًّا،
فإن خطاب الطاهر الحداد عن المرأة بعد قاسم أمين بحوالي ثلاثين سنة (١٩٢٩م)، استطاع
أن يتجاوز إلى حدٍّ ما مسألة «التأويل المضاد» أو «القراءة الأخرى» للإسلام
ولنصوصه. ويطرح مفهوم «النسبية» أو «التاريخية» تفسيرًا لأحكام الإسلام عن المرأة.
إنها فيما يرى الطاهر الحداد ليست أحكامًا نهائية، بل هي أحكام نابعة من وضعية
المجتمع الذي أُنزلت فيه، وهو مجتمع كانت أحوال المرأة فيه أقرب إلى وضع العبودية
منه إلى أي وضع آخر: «في الحقيقة إن الإسلام لم يعطنا حكمًا جازمًا عن جوهر المرأة
في ذاتها. ذلك الحكم الذي لا يمكن أن يتناوله الزمن وأطواره بالتغيير. وليس في
نصوصه ما هو صريح في هذا المعنى. إنما الذي يوجد أنه أبان عن ضعف المرأة وتأخرها في
الحياة تقريرًا للحال الواقعة، ففرض كفالتها على الرجال مع أحكام أخرى بُنيت على
هذا الاعتبار. وقد علل الفقهاء نقص ميراثها عن الرجل بكفالته لها. ولا شيء يجعلنا
نعتقد خلود هذه الحالة دون تغيير. على أننا نجد الإسلام نفسه قد تجاوز هذه الحالة
التي وجدها أمامه في كثير من أحكامه اعتبارًا بضرورة تبدلها مع الزمن، فقرر للمرأة
حريتها المدنية في وجوه الاكتساب وتنمية المال بالتجارة وغيرها من التصرفات. وحقق
لها وصف الذمة فتُعامِل وتُعامَل مما يدفعها إلى أعمال لم تعهدها. وليس فيها في ذلك
العصر من أمارات الاستعداد لها ما يطمئن على نجاحها.»
١٣
ومع تغير الأحوال الاجتماعية، وتحسن وضع المرأة في المجتمع، يمكن قراءة النصوص
الدينية في دلالتها التاريخية من أجل استنباط الجوهري والثابت وراء العرَضي
والمتغير. إن القراءة الحرفية وحدها هي التي تقف عند العارض، لأنها قراءة تستبعد
السياق الاجتماعي للتنزيل ومن ثَم للأحكام التي يتضمنها. من هنا ينطلق الطاهر
الحداد من حديث الفقهاء عن «محدودية» النصوص و«لامحدودية» الوقائع، ولكنه لا يقف
مثلهم عند حدود «القياس» بمعناه الفقهي: إخضاع الوقائع الجديدة للأحكام بعلة
التناظر أو التشابه أو استنباط علة الحكم … إلخ، بما هو معروف في علم «أصول الفقه».
إنه يتأمل ظاهرة «النسخ» في النصوص الدينية — تغيير الأحكام — ويفهمها في سياقها
الحقيقي مستنبطًا دلالتها الخطيرة: «إن الحياة طويلة العمر جدًّا، وبقدر ما فيها من
الطول بقدر ما فيها من الأطر المعبرة عن جوهر معناها وأخصِّ ميزاتها. ونحو عشرين
سنة من حياة النبي
ﷺ في تأسيس الإسلام، كفت بل أوجبت نسخ نصوص بنصوص، وأحكام
بأحكام اعتبارًا لهذه السُّنَّة الأزلية. فكيف بنا إذا وقفنا بالإسلام الخالد أمام
الأجيال والقرون المتعاقبة بعدُ بلا انقطاع ونحن لا نتبدل ولا نتغير؟»
١٤
هذه الحياة لا تستوعبها النصوص لفرط طولها وتعدد أطوارها واختلافها، فما بالنا
وهذه النصوص ذاتها تحمل في دلالتها بصمات زمنها وتحيل بدلالتها المباشرة إلى واقع
الحياة — الواقع الاجتماعي — الذي تنزلت فيه. من هنا لا بد من التفرقة بين الجوهري
و«العرَضي»، بين «الثابت» و«المتغير» في دلالة تلك النصوص. هنا مرة أخرى لا يقف عند
«المقاصد» بالمعنى الذي تحدد عند الفقهاء والأصوليين — والشاطبي بصفة خاصة — في
الحفاظ على النفس والمال والدين والعرض … إلخ. يتجاوز الحداد هذا المفهوم الفقهي
للمقاصد الكلية ليجعل «العدل» مقصدًا كليًّا أساسيًّا، يستوعب الجزئيات والتفاصيل
بما فيها العقيدة والأخلاق: «يجب أن نعتبر الفرق الكبير البيِّن بين ما أتى به
الإسلام وجاء من أجله — وهو جوهره ومعناه، فيبقى خالدًا بخلوده كعقيدة التوحيد،
ومكارم الأخلاق، وإقامة قسطاس العدل والمساواة بين الناس، وما هو في معنى هذه
الأصول — وبين ما وجده من الأحوال العارضة للبشرية، والنفسيات الراسخة في الجاهلية
قبله دون أن تكون غرضًا من أغراضه. فما يصح لها من الأحكام إقرارًا لها أو تعديلًا
فيها باقٍ ما بقيت هي، فإذا ذهبت ذهبت أحكامها معها. وليس في ذهابها جميعًا ما يضير
الإسلام. وذلك كمسائل العبيد والإماء وتعدد الزوجات ونحوهما مما لا يمكن اعتباره
حتى كجزء من الإسلام.»
١٥
إن البحث عن «المقصد» من خلال العرَضي والمتغير هو الكفيل بتقديم قراءة مشروعة
للنصوص الدينية، قراءة موضوعية بالمعنى النسبي التاريخي. ذلك أنه مع تغير الظروف
والملابسات والأحوال — طرائق الحياة وأطوارها على حد تعبير الطاهر الحداد — نحتاج
إلى قراءة جديدة، تنطلق من أساس ثابت هو «المقصد» الجوهري للشريعة. من هنا تكتسب
الأسئلة ذات الطابع التقريري، والتي يطرحها الطاهر الحداد على نفسه وعلينا
مشروعيَّتَها، من حيث هي أسئلة جوهرية لكشف الثابت في دلالة النصوص. ويمكن أن يكون
للسؤال صيغة عامة: «هل جاء الإسلام لأجل كذا … فنقول مثلًا: هل جاء الإسلام لتزكية
نفوس المجرمين وتطهيرها من روح الشر والإجرام بما يضع لها من طرائق التزكية، أو جاء
ليقتص منهم بإقامة الحد تنكيلًا بهم وبما صنعوا؟ وهل جاء الإسلام بالمساواة بين
عباد الله إلا بما يقدمون من عمل، أو أنه جاء ليجعل المرأة بأنوثتها أدنى حقًّا في
الحياة من الرجل بذكورته؟ وهل جاء الإسلام بتمكين الزواج حتى يثمر هناء العائلة
ونمو الأمة، أو أنه جاء ليطلق يد الرجل فيه بالطلاق حتى يصبح اليوم كريشة في مهب
الريح؟ لا شك أن الفرق واضح في الجواب عن هذه الأسئلة لمن أنعم النظر في الإسلام
قليلًا. وبهذه الطريقة يمكننا أن نبحث عن الإسلام الخالص فنميزَه عن الأغراض
المحيطة به ونحميَ الخلط فيه.»
١٦
ومن البديهي أن هذه الأسئلة التي تستهدف الوصول إلى «جوهر» الإسلام لا تتعلق فقط
بالنصوص الخاصة بالمرأة، بل تتعلق بكل ما جاء في النصوص من أحكام، هذا من جهة، ومن
جهة أخرى فالأسئلة مرهونة بطبيعة الإطار الاجتماعي الثقافي والفكري الذي يحددها،
ولذلك يمكن أن تتغير الأسئلة، ويمكن أن تُطرح أسئلة جديدة. ومعنى ذلك أن «جوهر»
الإسلام ليس معطًى ثابتًا، بل هو جوهر قابل دائمًا للاستنباط وإعادة الاكتشاف بحسب
تطور الوعي الإنساني. وهكذا نعود للجذر الأصلي — جذر وَحدة المعرفة في خطاب النهضة
— الذي يسمح للعقل بالحركة الدائمة الحرة دون حدود فاصلة عازلة بين الثابت
والمتغير، أو بين الدنيوي والديني معرفيًّا. وإذا كان لا بد من البحث عن «الأصل»
فإنه في خطاب النهضة «الدنيوي» الذي يحيل إلى «الاجتماعي» الذي يحيل بدوره إلى
«المعرفي»، ليس في عَلاقة ديالكتيك هابط، بل في عَلاقة جدلية حقيقية.
هذا يشرح لنا تقسيم كتاب الطاهر الحداد بين «الشريعة» و«المجتمع». وإذا كان قد
بدأ بقسم «الشريعة» فلكي يبين أن أحكام الشريعة تجد تجذرها في الاجتماعي، هذا من
ناحية، ومن ناحية أخرى فإن البدء بالشريعة من شأنه أن يسحب البساط من تحت أقدام
ممثلي الخطاب النقيض الذين لا يجدون في الشريعة سوى أحكامها الحرفية فيطالبون
بتطبيقها، ويجعلون ذلك سبيل الخلاص والخروج من الأزمة. لكنهم في الحقيقة يساهمون
بخطابهم هذا في تعميق الأزمة عن طريق تثبيت الحالة بالقراءة الخاطئة للنصوص «لسوء
حظ المسلمين — ولا أقول الإسلام — إن غالب علمائهم وفقهائهم لم يراعوا الإسلام في
التدرج بذلك النقص البادي في المرأة واستعداد الرجل نحوها حتى يصير كاملًا. بل هم
أفسحوا لذلك النقص أن يعظم ليتسع الفرق بينهما في الأحكام، ويتضخم الخُلْفُ بينهما
في الحياة. وهنا يظهر جليًّا أن النفسية التاريخية للعرب وسائر المسلمين في اعتبار
المرأة قد تغلبت على ما يريد الإسلام لها من التقدير والعطف. وليست هذه أول مسألة
جرى فيها علماء الإسلام على غير ما يريده.»
١٧
هكذا نكتشف أن قضية المرأة وما يتعلق بها من نصوص دينية كانت حافزًا — ضمن حوافز
أخرى عديدة — لكي يقترب خطاب النهضة من حدود إنتاج وعي علمي بالدين وبدلالة نصوصه.
وخطأ علماء المسلمين في نظر هذا الخطاب نابع من العجز عن إدراك هذا الوعي، وخطؤهم
في مسألة الأحكام الخاصة بالمرأة ليس هو الخطأ الوحيد. إنه خطأ في مسألة واحدة،
لكنه يمثل نموذجًا للخطأ العام: فصل الديني عن الدنيوي معرفيًّا (أساس الديني هو
الإيمان، بينما أساس الدنيوي هو العقل)، في حين تتم المطالبة بالتسوية بينهما
سياسيًّا. والمفارقة التي تصل إلى حد التناقض هنا أن الشعار السياسي — الإسلام دين
ودنيا — يهدف إلى إخضاع الدنيوي للديني، أي للثيوقراطية. والثيوقراطية تعني
ديكتاتورية من أبشع الأنماط، لأنها ديكتاتورية يعني الخلاف معها الإلحاد والزندقة
وإقامة حد الردة … إلخ.
في خطاب النهضة يجتمع المشتت، فالجزء لا قيمة له خارج المنظومة، واحتقار المرأة
صورة لاحتقار الإنسان، ولا يُحتقر الإنسان إلا في مجتمع تحكمه قبضة يدعي صاحبها
حقوقًا ميتافيزيقية: «فإذا كنا نحتقر المرأة ولا نعبأ بما هي فيه من هوان وسقوط
فإنما ذلك صورة من احتقارنا لأنفسنا ورضائنا بما نحن فيه من هوان وسقوط. وإذا كنا
نحبها ونحترمها ونسعى لتكميل ذاتها فليس ذلك إلا صورة من حبنا واحترامنا لأنفسنا
وسعينا في تكميل ذاتنا.»
١٨ «وليس من المعقول أن تسقط المرأة ويرتفع الرجل. وهذه حقيقةً نبرةٌ لم
تتسع لها بعد أذهاننا.»
١٩ تلك هي الصورة المصغرة لخطاب النهضة، وهي صورة تتسع كلما تابعناها لتقف
ضد التفرقة على أساس الدين أو العرق أو الطائفة، بل وتتسع أكثر لتناهض ثنائية الأنا
والآخر بوصفهما نقيضين يمثل «الإسلام» الأنا، وتمثل «أوروبا» الآخر.
في الخطاب الطائفي النقيض — الذي يحمل شعار الإسلام – تنعكس كل الصور، تتضخم
الأنا تعويضًا عن الهوان والهزيمة والتبعية، وتتحدد الهوية على أساس «الدين»، ويتم
اضطهاد الآخرين، كما تتم محاصرة المرأة داخل «الحجاب» … إلخ. وإذا كنا قد شرحنا نمو
الخطاب الطائفي في ظل ظروف تغير المناخ العالمي وتأثيره على حالة الهزيمة المتواصلة
منذ ١٩٦٧م، فإن هذا الشرح يؤدي دور «التفسير» ولا يريد أن يجنح بأي شكل من الأشكال
إلى مستوى «التبرير». وإذا كان خطاب النهضة عانى ويعاني من تأثير كل ذلك، فليس حله
للخروج من حالة الحصار تقديم تنازلات من أي نوع، بل عليه أن ينهض نحو مزيد من
الإنجاز معتمدًا على «جوهر» إنجازات سلفه التاريخي من جهة، وإنجازات العقل الإنساني
في مجالات العلم كافة من جهة أخرى.