الواقع الاجتماعي بُعد مفقود في الخطاب الديني
في سياق حركة الردة العامة — الاقتصادية والاجتماعية والفكرية — التي ظهرت بوادرها في الواقع المصري خاصة، وواقع مجتمعات العالم العربي عامة، عشية هزيمة يونيو/حزيران ١٩٦٧م، تم التراجع عن كل المنجزات التي تحققت في التاريخ العربي الحديث والمعاصر. ولعل من مظاهر التراجع، التحول الذي أصاب الخطاب العربي الذي انتقل مثلًا من أن يكون خطاب «نهضة» وتحوَّل ليكون خطاب «أزمة». وبدلًا من البحث عن كيفيات النهوض وآلياته، عكف الخطاب على تحليل أسباب «الأزمة» محاولًا الوصول إلى «مخرج» منها. وفارق كبير بين حيوية المقبل على النهوض وبين عجز المأزوم الذي يحاول البحث عن مخرج من أزمته الخانقة. فالمقبل على النهوض مدرك لغايته لا يخشى المبادرة والمغامرة؛ لإحساسه بالقدرة على مواجهة الآتي، والرغبة في التعامل مع المستقبل. وليس كذلك المأزومُ الذي تسيطر عليه دائمًا خشيةُ تعقد الأزمة، فيميل إلى الحلول الجاهزة المجربة سلفًا دون أن يدرك أن أزمته تكمن في تلك الحلول المعبأة المجهزة.
ويمكن القول بأن الحلول المطروحة للخروج من الأزمة في الخطاب العربي المعاصر تتركز كلها حول التراث/الإسلام. لكن بينما يذهب السلفيون إلى أن «الإسلام هو الحل» يذهب الإبستمولوجيون إلى أن «القطيعة مع التراث هي الحل» في حين يذهب التجديديون إلى أن «تجديد التراث هو الحل».
لكن الردة لم تقتصر على تحول الخطاب العربي من خطاب «نهضة» إلى خطاب «أزمة»، بل كانت لها تجلياتها على مستوى التحولات الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية. تم التراجع اجتماعيًّا عن مشروع العدل الاجتماعي الذي حاولته الاشتراكية الناصرية، بصرف النظر عن طبيعة نواقص هذا المشروع وسلبياته. وتم التراجع كذلك — أو نتيجة لذلك — عن مشروعات التنمية المخططة ذات التوجه الاجتماعي الشعبي، وأُفسحَ المجال للمشروعات الفردية الخاصة تحت مِظلة قوانين «الانفتاح الاقتصادي» المعروفة. وكانت هذه التراجعات جميعها مصحوبة ومتزامنة مع تحول في اتجاه «قبلة» الطبقة المهيمنة عن صيغة «تحالف قوى الشعب العامل» إلى صيغة التحالف مع المستغلين الداخليين من قدامى الإقطاعيين وأباطرة الانفتاح المحدثين من جهة، والتحالف مع قوى الاستعمار والصهيونية، المناهضة لتقدم الشعوب، من جهة أخرى.
وإذا كان عبور الجيش المصري للجانب الآخر من قناة السويس في أكتوبر ١٩٧٣م — العاشر من رمضان ١٣٩٣ﻫ — قد أحدث لدى المواطن العربي عامة، والمواطن المصري خاصة، إحساسًا هائلًا بالخلاص جعله يعيش للحظات عابرة الحلم بالمستقبل الأفضل، فإن ما تلا ذلك اليوم من أحداث ووقائع كشفت الغطاء عن المستور في توجهات الطبقة الحاكمة. أُحكمَ الحصار الخانق لأزمة الانفتاح حول رقبة المواطن المصري — تكررت التجرِبة حرفيًّا تقريبًا في كثير من البلدان العربية — فارتفعت أسعار السلع الضرورية، الأمر الذي أدى إلى الصدام الهائل فيما عُرف بمظاهرات الانتفاضة في يناير ١٩٧٧م. ولقد أصر النظام المصري آنذاك على أن يخلع عن هذه الانتفاضة الشعبية صفتها الوطنية ويخنقها كما خنق المواطن في صيغة «انتفاضة الحرامية». وفي نهاية العام نفسه — نوفمبر ١٩٧٧م — انكشف جانب آخر من المستور بمبادرة السلام التي بدأت بزيارة رئيس جمهورية مصر العربية للقدس وانتهت بتوقيع اتفاق «كامب ديفيد» الذي أخرج مصر نهائيًّا من ساحة الصراع العربي-الإسرائيلي، وفتح المجال أمام إسرائيل للعربدة الكاملة في الفضاء العربي سواء في ذلك بيروت أو تونس أو بغداد. وهكذا بدأ عصر الشتات العربي بكل ما يمثله مفهوم «الشتات» من تشرذم وطائفية وضياع.
هل يمكن أن نفصل بين ذلك كله وبين ردة التراجع في وضع المرأة العربية عامة، والمصرية خاصة، في الواقع الاجتماعي والثقافي؟! وهل يمكن أن يكون من قبيل المصادفة العمياء كون العام السابع والسبعين ذاته هو العام الذي شهد بداية الدعوة — التي انطلقت بكل أسف من تحت قبة مجلس الشعب المصري — لعودة المرأة إلى بيتها حفظًا لكرامتها وصونًا لعفتها واحترامًا لآدميتها؟! من المستحيل أن يكون هذا التزامن في أحداث العام السابع والسبعين تزامنًا عشوائيًّا: أزمة اقتصادية طاحنة، نظام سياسي يكشف عن توجهاته ضد مصالح الشعب، مطالبة بعزل المرأة عن الحياة العامة والعودة بها إلى عصر الحريم.
(١)
تأسيسًا على المقدمة السابقة نستطيع أن نقول إن مناقشة قضايا المرأة بمعزل عن سياق الواقع الاجتماعي العام — المحدِّد لمكانة الإنسان في سياقه — قد يغري في كثير من الأحيان إلى الانزلاق في هوة الحديث عن المرأة بوصفها مقابلًا للرجل ونقيضًا له. وبعبارة أخرى نقول إن مناقشة قضايا المرأة بعيدًا عن ذلك السياق يوقع في خطيئة الحديث عن الأنثى، الأمر الذي يستدعي — طبقًا لآلية التداعي — المقارنة بينها وبين الذكر. وتدخل المناقشة كلها من ثَم في إطار المفاهيم المطلقة عن الفروق البيولوجية، وما يترتب عليها من فروق — تبدو ضرورية وحاسمة — عقلية وذهنية وعصبية. وهذا هو الإطار العام الذي يتحرك فيه الخطاب الديني عادة في مناقشة قضايا المرأة: إنه خطاب يستحضر الرجل/الذكر أساسًا، ويجعله في بؤرة الاهتمام وفي مركز الحركة.
وجدير بالملاحظة في هذا الطرح الذي ظاهره الرحمة بالمرأة والإشفاق عليها أنه يتجاهل معاناة الرجل أيضًا. بل والأدهى من ذلك افتراض أن معاناة المرأة وحدها هي التي تؤثر على الأسرة وتربك حياتها — الإشارة إلى الأسرة في الواقع تعني الإشارة إلى الرجل/الزوج أساسًا — كأن معاناة الرجل في ظروف العمل والمواصلات العامة غير الآدمية معاناة لا شأن للأسرة بها. وبدلًا من أن يناقش السيد النائب مشكلة امتهان كرامة الإنسان في سياق السياسات الاجتماعية والاقتصادية للنظام الحاكم، يجد الحل في إثارة «عودة» المرأة إلى المنزل، وذلك بصياغة الحل صياغة تعتمد على تزييف الوعي بالمشكلة الحقيقية. وهذا التزييف للوعي يخاطب المرأة أساسًا، التي تجد في الحل المطروح خلاصًا من معاناتها دون أن تدرك أن عدم رفع المعاناة عن الرجل أيضًا سيضاعف من معاناتها على عكس ما يصوره لها الحل المقترح.
(١-١)
ينبني على مقولة احترام المرأة والحرص على حمايتها من الامتهان القول بأن المهمة الأساسية للمرأة هي تربية النشء ورعاية الزوج والحرص على الاستقرار العائلي. مرة أخرى نلاحظ مسألة محورية الرجل/الزوج في مثل هذا الطرح. هذا بالإضافة إلى تحميل الزوجة وحدها عبء تربية النشء حتى يكاد ينفي مسئولية المجتمع عن التربية والتنشئة. وإذا كان من المستحيل إنكار دور الأم والأسرة في عملية التنشئة، فإن مناقشة أهمية هذا الدور خارج إطار مسئولية المجتمع ككل — وخاصة في المجتمعات الحديثة التي تعتمد على بناء مؤسسي يتدخل كثيرًا في عملية التنشئة والتربية — يُعَد إهدارًا لدور تلك المؤسسات، وتعاميًا عن أثرها الخطير الذي يكاد يكون أعمق من دور الأسرة والأم.
إن عملية التنشئة تبدأ حقيقة منذ اللحظات الأولى للحمل، إذ بدون الرعاية الصحية الكاملة لكل من الأم والجنين تبدأ التأثيرات الضارة في ممارسة فعاليتها في شكل أمراض وتشوهات يمكن أن تلحق الجنين جسديًّا وعقليًّا. لنقُلْ مثلًا إن التلوث البيئي والضوضاء، وافتقاد النظام الغذائي الأمثل، والتوترات العصبية الناشئة عن طبيعة الحياة في مجتمع مثقل بالمشكلات والضغوط، تؤثر كلها على الأسرة اجتماعيًّا واقتصاديًّا ونفسيًّا. إذا كان كل ذلك يؤثر على الأم، ويؤثر بالتالي على الجنين — وهو ما زال داخل الرحم — فهل تُعَد هذه التأثيرات الضارة تأثيرات تتحمل الأم والأسرة مسئوليتها وتبعتها! ولنفترض أن أسرة من الأسر استطاعت نتيجة لحالتها الاقتصادية الميسورة أن تتجنب، وتجنب الأم، التعرض لكثير من هذه الأزمات وتلك الضغوط، بأن كفلت للأم رعاية صحية معقولة، فهل يمكن أن ينجو الجنين من تأثيرات التلوث البيئي والضوضاء؟ وعلى افتراض أنه أمكن عزل الأم في مجتمع خاص بعيد عن كل تلك التأثيرات، فهل يظل الطفل بعد ميلاده رهين الحياة في هذه البيئة الصناعية؟! وماذا تفعل الأسرة في حالة نقص الأغذية والأدوية الضرورية لحماية الطفل من المرض، ما لم تتحمل الدولة — الممثِّلة للمجتمع والمدبِّرة لشئونه — مسئوليتها لتوفير ذلك كله؟!
إن الخطابين السياسي والديني — في دفاعهما عن «حبس المرأة» داخل دائرة رعاية الأسرة وتنشئة الطفل — يتصور كلاهما الأسرةَ بنيةً اجتماعية مغلقة على نفسها، ومكتفية بذاتها. ويتجاهل كلاهما حقيقة أن الأسرة مؤسسة تمثل وَحدة في البناء الاجتماعي، وَحدة تتأثر بالوَحَدات الأخرى والمؤسسات الاجتماعية تأثرًا يصعب الإلمام بتفاصيله. هذا بالإضافة إلى أن كلا الخطابين يتصور التربية تصورًا جزئيًّا مبتسرًا، يكاد يقصرها على الجانب الأخلاقي الديني المرتهِن بثنائية الأمر والنهي — افعل، لا تفعل — متجاهلًا جانبها الصحي والنفسي والتعليمي. الأخطر من ذلك تجاهل كلٍّ من الخطابين لأهم جوانب التنشئة وأبرز عناصرها، وهو جانب تأسيس الوعي، الذي يحتاج بدوره إلى توفر الوعي لدى كلٍّ من الأب والأم، وهو وعي اجتماعي في الأساس.
إذا كان شأن التنشئة والتربية على هذه الدرجة من التعقيد، التي يفارق بها مجال الأسرة، ويتعدى مجال مسئولية الأم، فإن حبس المرأة داخل حدود البيت يُفقدها أهم عناصر الوعي الاجتماعي المكتسب. وبعبارة أخرى تؤدي الدعوة إلى عودة المرأة لبيتها إلى عزل الأم عن المحيط الاجتماعي، فيحرمها ذلك من التفاعل مع هذا المحيط، ويؤدي من ثَم إلى افتقادها فعاليتها في اكتساب الوعي اللازم لعملية التنشئة ذاتها. إن المرأة المحبوسة داخل حدود جدران المنزل تتلقى وعيها بشكل سلبي عبر أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية، دون أن يتاح لوعيها فرصة النضج الإيجابي الحر عن طريق التواصل الاجتماعي مع المحيط الخارجي. وتعليم المرأة، وحصولها على أعلى المؤهلات، لا يحميها من هذا المصير، حين تلوذ بجدران البيت بعد زواجها، لأن الخبرات المكتسبة من التعليم تحتاج إلى الممارسة التي تجددها وتمنحها حيوية الاستمرار. بدون تلك الممارسة تتآكل تلك الخبرات بالتدريج، وتحل محلها بالعادة والرتابة سلبية تطفئ وهج الخبرة، وتسدل على الوعي ستار البلادة والخمول.
ومن المؤكد أن هذا النمط من الوعي السلبي البليد الخامل ينتقل إلى الطفل بطريق مباشر أولًا عن طريق الأم، ثم يتعرض له تعرضًا مباشرًا بعد ذلك حين تُلقى الأم بسببٍ من عدم وعيها في براثن تلك الأجهزة الإعلامية، والتليفزيون خاصة، دون رقابة أو توجيه أو اختيار. ولا يمكن تلافي هذا الخطر إلا من خلال أم ناضجة واعية، اكتسبت وعيها من خلال الاحتكاك المباشر اليومي بالحياة والمجتمع خارج إطار الأسرة. هكذا تتكشف الدعوة إلى «حبس المرأة» في بيتها حرصًا على تنشئة الطفل ورعاية الأسرة — في دلالتها العميقة — عن دعوة لرفع مسئولية المجتمع والدولة عن هذه المهمة، وتبرئتها من تبعاتها، هذا من ناحية، لكنها تتكشف من ناحية أخرى عن محاولة لتزييف الوعي بمشكلات التنشئة والتربية برمتها. ذلك أن الأم المتفرغة للبيت والأسرة، بما تحمله من وعي سلبي تنقله إلى أطفالها، تصبح أداة تساهم في خلق المواطن الطيِّع الصالح المذعن من منظور كلٍّ من الخطاب السياسي والديني معًا. وبعبارة أخرى تصبح الدعوة إلى تفرغ المرأة للبيت والأسرة وتربية الأطفال — في دلالاتها الأعمق — دعوة لجعل عملية التربية والتنشئة من مهمة أجهزة الدولة الإعلامية بقيمها السائدة والمهيمنة. وهي دعوة تتناقض مع منطلق الخِطابَين — المعلن على السطح — الحريص على مستقبل الطفولة وصلاح المجتمع.
(١-٢)
إذا كانت قضايا المرأة في جوهرها قضايا إنسانية اجتماعية، بمعنى أنها قضايا لا تنفصل عن قضايا الرجل، فهي من ثَم جزء جوهري أصيل في قضية الوجود الاجتماعي للإنسان في واقع تاريخي محدد. هذا هو الذي يحدد — بشروط عَلاقاته الاجتماعية التي هي تعبير عن شروط عَلاقات الإنتاج — وضعية الرجل ووضعية المرأة معًا في نسقه الاجتماعي والثقافي والفكري. ولسنا مع ذلك ننكر الجانب البيولوجي الطبيعي المميز وَفقًا للشروط المحددة للوضع الإنساني عمومًا. وإذا كان كل من الخطاب السياسي والديني يتجاهل هذه الشروط كلية لحساب التركيز على البعد البيولوجي الطبيعي، فإن علينا ألا ندخل مع أيٍّ من الخِطابَين في سجال تتحدد الحركة فيه من خلال هذا البعد الوحيد الذي يؤدي في الواقع إلى نفي المرأة كائنًا إنسانيًّا باستبدال الأنثى بها.
علينا في اشتباكنا مع الخطاب السياسي أن نكشف عن قناع أيديولوجية التزييف التي يمارسها عن قصد أو عن غير قصد، وذلك بالكشف عن حقيقة التوجهات التي تسعى إلى قمع الإنسان كلية، وإن كانت تبدأ بما تتصوره الحلقة الضعيفة في الإنسان، أي المرأة. إن قهر المرأة بعزلها عن المشاركة في صياغة الوجود الاجتماعي للإنسان المتمثل في المرأة حبيبة وزوجة وأمًّا. هكذا يخوض الرجل المعركة وحيدًا وضعيفًا ومتخاذلًا في معظم الأحيان. وإذا كان علينا القيام بنفس المهمة — مهمة كشف قناع أيديولوجيا تزييف الوعي — مع الخطاب الديني كذلك، فإن علينا بالإضافة إلى ذلك تحاشي السجال الأيديولوجي معه باللجوء إلى نفس سلاحه الأثير، سلاح تأويل النصوص والمواقف الدينية. إن قضية المرأة لا تُناقَش إطلاقًا إلا بوصفها قضية اجتماعية. وإدخالها في دائرة القضايا الدينية هو في الحقيقة تزييف لها، وقتل لكل إمكانيات الحوار الحر حولها.
إن مشكلة الحديث في قضايا المرأة — حريتها أو تعليمها أو مساواتها بالرجل، فضلًا عن زيها ومكانتها الإنسانية في المجتمع — من منظور النصوص الدينية والفكر الديني، أنه حديث يظل مرتهِنًا بآفاق تلك النصوص من جهة، وينحصر في آليات السجال مع أطروحات الخطاب الديني العميقة الجذور في تربة الثقافة من جهة أخرى. وكلا الأمرين يؤدي إلى حصر المناقشة في إطار ضيق، هو إطار الحلال والحرام. وهو إطار لا يسمح بالتداول الحر للأفكار. فضلًا عن أنه إطار يحصرنا في دائرة تَكرار الأسئلة القديمة المعروفة، الأمر الذي يفضي بنا إلى الاكتفاء بالوقوف عند حدود بعض الإجابات الجاهزة، المعروفة سلفًا في هذا التيار أو ذاك من تيارات الفكر الديني القديم أو الوسيط أو الحديث.
وحين تُناقَش المشكلات الاجتماعية عامة — ومشكلة المرأة خاصة — من منظور الدين والأخلاق تتبدد جوانب المشكلة، وتتوه في ضباب التأويلات الأيديولوجية النفعية للنصوص الدينية. الأهم من ذلك أن المناقشة من منظور الدين والأخلاق تُعَد إخفاءً متعمدًا للبعد الاجتماعي والاقتصادي من جهة، وتجاهلًا قصديًّا لعَلاقة المرأة بالرجل في سياقها الحقيقي وإطارها الفعلي. ولن تؤدي التأويلات النفعية الأيديولوجية للنصوص الدينية إطلاقًا إلى تغيير وضع المرأة — والوضع الإنساني عمومًا — سلبًا أو إيجابًا، إذ ليس بتأويل النصوص الدينية يحيا الإنسان. وإذا كان الخطاب الديني ينطلق دائمًا في مناقشة أي قضية من ثابت فكري لا يقبل النقاش — هو مرجعية النصوص الدينية وشمولها لكل جوانب الوجود الطبيعي والاجتماعي، وهو المبدأ المعروف باسم «الحاكمية» — فإن الاكتفاء بموقف السجال مع أطروحاته يعني التسليم بهذا المبدأ. لذلك لا بد من مناقشة المشكلة بعيدًا عن آلية السجال بالتأويل الأيديولوجي النفعي للنصوص.
وعلينا أن نكون على وعي دائم بأن تحرر المرأة المتمثل في ممارستها لحقوقها الطبيعية والإنسانية لا يفارق تحرر الرجل المتمثل في قدرته على ممارسة حقه الطبيعي على المستويات والأصعدة المختلفة كافة. وعلينا أن نكون على ذكر دائم بأن هذا التحرر الإنساني مرتهِن بسياق تحرر اجتماعي وفكري عام في مرحلة تاريخية محددة، وذلك حين تكون حركة المجتمع حركة صاعدة في اتجاه التقدم. في هذه الحركة تنفتح كل عناصر الوجود الاجتماعي بهواء الحرية النقي، وتمتلئ كلتا الرئتين — المرأة والرجل — بمناخ الحرية المشبع بقيم الحق والعدل. ومعنى ذلك أن التحرر حالة اجتماعية عامة مرتهِنة بتحقيق شروطٍ لا تتحقق إلا بكل أشكال النضال، التي يعد النضال الثقافي الفكري بعدًا من أبعادها. لكنه يظل بعدًا واحدًا لا يؤتي ثماره إلا بالتوافق المتزامن مع الأبعاد الأخرى النضالية كافة.
(١-٣)
لكن إدراك الإطار الاجتماعي لتدني وضع المرأة، لا يمكِّن الخطاب الديني من تعديل منظور رؤيته لإشكالية قضايا المرأة؛ وذلك لسبب بسيط هو أنه إدراكٌ مرتهِن بموقف الدفاع عن الإسلام. وإذا كان المهاجمون للإسلام ينطلقون بدورهم من منظور أحادي يفسر التخلف بالدين فمعنى ذلك أنهم يتبنون نفس المنطق الأيديولوجي للخطاب الديني؛ منطق هيمنة النصوص الدينية وشمولية مرجعيتها. ومعنى ذلك أن الخطاب المهاجم يقع في سجالية تحجب عنه الرؤية الصحيحة للإشكالية. والخطاب الديني في موقفه الدفاعي عن الإسلام، وبذلك الفصل بين الجوهري والعارض في حركة المجتمعات الإسلامية، يتجاهل حقيقة أن تدني وضع المرأة — وكذلك الرجل — يتم تبريره عادة — في المجتمعات المتخلفة التي تدين بالإسلام — باسم الإسلام وتأويلًا لبعض النصوص الدينية.
والسؤال الذي لم يتطرق إليه أحد بشكل مباشر هو: لماذا حين يصبح الركود والتخلف من سمات الواقع الاجتماعي والفكري، يصبح «وضع المرأة» قضيةً ملحَّة؟!
لا يتنبه الخطاب الديني المعتدل إلى أن النصوص التي تُعَد الأساس في قضايا المرأة نصوص تشير كلها إلى المساواة في أمر الثواب الديني الأخروي، وأن النصوص القليلة الشاذة التي تمثل الاستثناء هي النصوص التي تشير إلى عدم التساوي في شئون الحياة الدنيا. وبدلًا من أن يحاول فهم النصوص الاستثناء بوصفها نصوصًا ذات دلالة تاريخية اجتماعية مباشرة، وأنها يجب أن يعاد تأويلها من ثم على ضوء نصوص التساوي الأساسية. بدلًا من ذلك يلجأ الخطاب الديني المعتدل إلى التبرير — بدلًا من التفسير والتأويل — الذي يرده إلى مسألة «الاختلاف البيولوجي»، وهكذا ينتهي الاعتدال — المتمسك بأهداب التقدم — إلى الالتقاء مع خطاب التراجع، لأن الأساس المعرفي لهما واحد في الحقيقة.
والحقيقة أن اللجوء للنصوص الدينية الاستثنائية، بل وقراءتها قراءة حرفية يمثل في ذاته علامة دالَّة في سياق تساؤلنا الأساسي في هذه الفقرة: لماذا تمثل قضية المرأة الحلقة الضعيفة التي يبدأ منها الانكسار والتراجع الاجتماعي والفكري؟ في سياق التقدم الاجتماعي تسيطر على المجتمع روح الانسجام والتلاؤم، ويتحرك البشر من خلال عَلاقاتٍ موَحدة النسيج إلى حدٍّ بعيد. نشير هنا بصفة خاصة إلى عَلاقة الجماعات المختلفة، دينيةً أو عرقية أو ثقافية، ولا نستثني من ذلك العَلاقةَ بين الرجل والمرأة، لكن هذا النسيج الموحد المتجانس يصاب بالتشقق مع تحول حركة المجتمع من النهوض والتقدم إلى الركود والتخلف. وعلينا ألا نتجاهل أن العام السابع والسبعين — الذي شهد كثيرًا من مظاهر الردة والتراجع على كثير من المستويات في واقع المجتمع المصري — هو الذي شهد كذلك بدايات التشقق والانكسار في عَلاقة الأغلبية المسلمة بالأقلية المسيحية فيما أصبح يطلَق عليه «الفتنة الطائفية». وتزايد في تلك الفترة تقريبًا كم النكات والنوادر التي يتبادلها القاهريون وأهل الشمال عمومًا عن أبناء الصعيد، وبعبارة أخرى بدأت عوامل التفتت الطائفي تطل برأسها لا في مصر وحدها، بل في العالم العربي كله تقريبًا. من هذه الزاوية يمكن النظر إلى إثارة قضايا المرأة بوصفها جزءًا من ذلك التشقق في النسيج الاجتماعي العام، وهو التشقق الذي يبدأ في الظهور في أضعف أجزاء هذا النسيج.
وليس هذا الترابط الذي نقيمه بين قضية المرأة وقضايا التفتت الاجتماعي بصفة عامة ترابطًا تصوريًّا ذهنيًّا. فالخطاب الديني الذي يلح على قضية المرأة هو ذاته الذي يلح على قضية وضع الأقليات الدينية في النظام الإسلامي الذي يسعى الخطاب الديني لإقامته. والجماعات الإسلامية في صعيد مصر بصفة خاصة تجعل من مهامها الأساسية والجوهرية تغطيةَ المرأة وحجْبَها من جهة، والسيطرةَ على الأقليات المسيحية، بوصفهم أهلَ ذمة يتوجب عليهم دفع الجزية من جهة أخرى. وبعبارة أخرى يمكن القول إن تحول الخطاب إلى خطاب ديني سواء كان معتدلًا أو متطرفًا يُعَد هو في حد ذاته علامةً من علامات الانكسار. غاية الأمر أن الخطاب المعتدل يحاول أن يتظاهر بالتقدمية فيتمسك بدلالة النصوص الأساسية، ويبرر تبريرًا أيديولوجيًّا النصوص الاستثنائية. لكن هذا التبرير ذاته يفسح المجال لخطاب التراجع والتطرف ليقدم قراءته الحرفية التي تكرس الانكسار، وتساهم في تمزيق النسيج الاجتماعي للأمة.
الدليل على ذلك أن خطاب التراجع يتمسك وهو يناقش قضايا المرأة، بوضع فارق حاسم بين «المرأة المسلمة» و«المرأة المسيحية». بل ويرفض رفضًا حاسمًا أو شبه حاسم أن يدور النقاش حول وضع المرأة المصرية بصفة عامة. ومن البديهي أن يكون الأساس الذي يستند إليه الخطاب في مثل هذه التفرقة أساسًا طائفيًّا دينيًّا، ولو كان أساس النقاش كما يزعم الخطاب الديني هو الحرص على كرامة المرأة وحمايتها من الامتهان وحماية الأسرة من التشتت والضياع، فلماذا التفرقة بين «المسيحية» و«المسلمة»؟! لكن التفرقة وإن كانت تستهدف في الأساس اتهام المدافعين عن حرية المرأة بمعاداة الإسلام، فإنها تكشف عن المضمر والمستور في بنية الخطاب الديني بوصفه خطابًا تراجعيًّا طائفيًّا يقدم دليلًا على تراجع اجتماعي وفكري عام، ولا يمثل — على عكس ما يعلِن — محاولة للخروج من الأزمة بأي معنًى من المعاني.
(٢)
لإصرار الخطاب الديني على حصر قضايا المرأة داخل أسوار الفهم الحرفي للنصوص الدينية الفرعية أو الاستثنائية — على حد تعبير الغزالي — فإنه ينظر إلى خطاب النهضة — الداعي إلى تحرر الإنسان رجلًا وامرأة، والداعي إلى الاحتكام إلى العقل والواقع في شئون المجتمع والطبيعة — نظرة تشكك وارتياب. والأخطر من ذلك أنه ينظر إليه نظرة اتهام تقرن بينه وبين التآمر على مصلحة الأمة وتهديد كيان النساء الاجتماعي. إن فكر النهضة بشكل عام، والفكر الداعي إلى تحرير المرأة بشكل خاص، يُعَد في نظر الخطاب الديني جزءًا من مخطط صهيوني للقضاء على الإسلام ومقاومة مشروعه الحضاري. إن أصناف المنادين بحقوق المرأة في المجتمعات الإسلامية ينحصر في أنماط ثلاثة، تتحدد على الوجه التالي:
-
(١)
امرأة نحَّت دينها جانبًا، فأهملت واجباتها، وكل همها أن تكون كالأمريكية أو الإنكليزية، أو حتى الروسية، في كل شيء إلا الدين، ونسيَتْ أن المجتمع الذي يخلو من القيم ومن العقيدة الصحيحة، ليس للمرأة فيه أن تطالب بأي حق، فقد خلا قلبها ونفسها من كل القيم، فماذا تطلب بعد ذلك؟ لقد ظلمت نفسها ودينها ومجتمعها.
-
(٢)
رجل ذو غرض غير شريف، وقصد سيِّئ، وكل ما يحلم أن يكون اسمه على لسان كل امرأة أيًّا كانت هذه المرأة.
-
(٣)
رجل له رسالة ترتكز على هدم المُثُل وضياع القيم، وأخصب حقل لعمله الشائن هو المرأة. فإذا انهدم كِيانها، وانقلبت أوضاعها، انهدم تبعًا لذلك المجتمع الإسلامي، وهذا هو الهدف الذي من أجله استؤجر.١٢ لكن هذه الأنماط الثلاثة من البشر ليسوا في النهاية سوى دُمًى تحركها أصابع خفية: «وهي أصابع على اختلاف أنواعها، من ماسونية وشيوعية وماركسية، قد نجحت في إدخال المرأة كسلاح رهيب في معركتها ضد الإسلام، فزُجَّ بها في جحيم الشقاء تحت شعارات خادعة برَّاقة، بدعوة التحرر من عصور الظلام، ثم بيعت سلعة رخيصة، وقُدمت قربانًا زهيدًا على مذابح شهوات الصهيونية العالمية، ورُفعت الشعارات الخادعة لسحق هذا المخلوق الكريم. فمن لواء تحرير المرأة الذي رفع قاسم أمين صوته به، إلى اتحادات النساء التي ابتدأتها هدى شعراوي وشقيقتها أمينة السعيد، إلى بيوت البغاء التي تولت كِبرها أكبر العواصم العربية باسم الفن، إلى دُور الأزياء ودكاكين التجميل ومساحيق الوجه وعمليات جراحة الأنف والوجه من آي الحسن التي يشرف عليها يهود باريس وروما وهوليود، إلى انتخاب ملكات جمال العالم، وكذلك إدخالها المجالس النيابية والوظائف الرسمية. وتدخل الإعلام ليساهم في التدبير، فيسمي الفاحشة فنًّا والفجور علمًا، وأقام معاهد الفنون الجميلة، وهي بيوت لتعليم الرذيلة.»١٣
(٢-١)
من السهل أن نكتشف في هجوم الخطاب الديني على خطاب النهضة الحضور الأوروبي، وذلك رغم محاولة هذا الخطاب نفي هذا الحضور على المستوى الظاهر. يتصور الخطاب الديني أن نفي خطاب النهضة وإلغاء فعاليته يتم بمجرد وضعه في السياق التآمري لأوروبا في عَلاقتها بالشرق عامة وبالإسلام بصفة خاصة. لكنه عن طريق هذه الآلية في بنيته يكشف عن حضور مكثف — إلى حد الإرهاب والقمع — لهذا الشيطان الأوروبي الذي يحاول إدانته. هكذا يمكن القول إن الخطاب الديني في حقيقته خطاب مأزوم مقموع من داخله، لكنه يحاول التخلص من هذا القمع باللجوء إلى إزاحته وممارسته على كل خطاب عربي يتصوره نقيضًا له. ويتم ذلك عبر تلك المماهاة بين ذلك الخطاب العربي وبين الخطاب الأوروبي القامع أساسًا للخطاب الديني. إنه سلوك أشبه بسلوك كافور الإخشيدي كما صوره شاعرنا الراحل أمل دنقل؛ ذلك أنه أراد التظاهر بالعظمة التي تجعله مستحقًّا للمديح الذي استحقه المعتصم حين فتح عَمُّورية، فقال فيه أبو تمام بائيته الكبرى:
(٢-٢)
في مثل هذا التصور تمثل أوروبا — في جانبها العلمي الإنجازي — مرجعية مهمة من مرجعيات الخطاب الديني. لكنها تمثل — في جانبها الاجتماعي والإنساني — شيطانًا تتحتم منازلته. وحين ينازل الخطاب الديني أوروبا يقوم بإلصاق كل صفاتها الذميمة بالخطاب النهضوي العربي. وهذا التشويه يُعَد في زاوية منه محاولة للانتقاص — إن لم نقل الانتقام — من قهر الخطاب الأوروبي النهضوي للخطاب الديني. وهو القهر الضمني الذي سبق أن أشرنا إليه والمتمثل في حضوره الدائم في بنية ذلك الخطاب. لكن الانتقام لا ينصب مباشرة على الخطاب القامع بل ينعكس عليه من مرآته في العقل العربي؛ أي من خطاب النهضة العربي … موضوع الهجوم والانتقام المباشر.
هذه الازدواجية — التي تصل إلى التناقض — جزء من الازدواجية العامة في الخطاب الديني بما هو خطاب مأزوم. وهو خطاب مأزوم لأنه يسعى على مستوى الظاهر للمساهمة في إخراج الواقع من الأزمة — شأنه شأن مجمل الخطاب العربي — لكنه على مستوى الباطن يكرس الأزمة ويعمق التبعية. وكما أشرنا من قبلُ، لا نجد في هذا الموقف من قضية المرأة إلا صدًى لازدواجية الخطاب بشكل عام. تلك الازدواجية التي لمحناها في التفرقة بين العلمي والتكنولوجي من ناحية، وبين الإنساني والاجتماعي من ناحية أخرى … وهي التفرقة التي تتصور أنها تسعى للاستقلال إنسانيًّا واجتماعيًّا، وتتناسى أنها بتكريس التبعية على مستوى العلم والتكنولوجيا — وذلك بالدعوة إلى الأخذ والنقل دون المساهمة في الإنتاج — تكرس التبعية إنسانيًّا واجتماعيًّا، بل اقتصاديًّا وسياسيًّا.
(٣)
(٣-١)
تبدأ الدعوة إلى «عدم المساواة» إذن من حقائق بيولوجية عن الفروق النوعية بين الرجل والمرأة. أي إنها تبدأ من اختزال المرأة/الإنسان في «الأنثى». ويتناسى الخطاب الديني أن الدعوة إلى تهيئة ظروف عمل إنساني للعامل بشكل عام — رجلًا كان أم امرأة — يجب أن يكون هو الشاغل الأساسي. إن العمل الشاق — ما لم يكن ضروريًّا — نوع من الاستعباد، خاصة إذا كان الخطاب الديني يدور في عصر التقدم التكنولوجي الذي حرر الإنسان إلى حدٍّ كبير من قهر الضرورات ويسَّر عليه سبل العمل والإنتاج. إن قضية ظروف العمل وضرورة تحسينها بضمان الحد الأقصى من الأمن للعامل صارت إحدى قضايا حقوق الإنسان. من هنا لا يصح التسليم بالواقع المتردي لظروف العمل في المجتمعات العربية الإسلامية، والانطلاق منها بوصفها ظروفًا أزلية ثابتة غير قابلة للتغيير والتبديل للمطالبة بحماية المرأة من مكابدتها. إن الاستناد إلى الفروق النوعية بين الرجل والمرأة في هذا السياق يُعَد بمثابة تبرير لهذا الوضع، وتسليم بمشروعيته بوصفه وضعًا طبيعيًّا.
هذا الاستناد إلى الشريعة في تأكيد الفروق النوعية وفي تحقيق مشروعية عدم المساواة، يمهد الطريق إلى الحديث عن «الأنثى» وعن «الجنس اللطيف» الذي تتحدد مهمته في تخفيف العناء عن الجنس الخشن وتهيئة المناخ البيتي والأسري الذي يمكنه من ممارسة الحياة والعمل والإنتاج. هكذا لا يكون تقسيم العمل تقسيمًا لمجالات العمل الممكنة خارج البيت فقط، بل هو تقسيم يعتمد على ثنائية الداخل والخارج، حيث ينحصر وجود المرأة داخل حدود جدران البيت لرعاية الأسرة والأمومة، بينما يكون الخارج مجال فعالية الرجل وميدان ممارسة نشاطه. من هذه الزاوية علينا ألا ننخدع كثيرًا بالمقولة الشائعة في الخطاب الديني وخطاب التراجع بصفة عامة؛ أعني مقولة أن «المرأة نصف المجتمع»، ذلك أن الدلالة المطروحة لهذه المقولة والتي يكشف عنها تحليل الخطاب هي أن «المرأة نصف الرجل» بما أن وظيفتها الأساسية هي خلق الجو الملائم له نفسيًّا في الداخل ليستطيع ممارسة نشاطه في الخارج.
وعلينا أن نلاحظ التأكيد في نبرة الخطاب المذكور على نعومة الكائن الأنثوي ورقة حاشيته، وتمتعه فطريًّا بالقدرة على إشاعة الدفء، وإفاضة الحنان حوله: «كلنا يعلم أن المرأة نصف المجتمع، وهي شريكة الرجل، ورفيقة دربه، وصانعة حياته، وهي له نبع الحنان، وله عندها السكن والراحة والاطمئنان، تأخذ بيده إلى السعادة، وتساعده على النجاح، وتعينه على تحقيق إنسانيته وأداء رسالته. كما أنها تكون له الأم الرءوم، والأخت الحنون، والبنت الوديعة، والزوجة المطيعة. ولما كان لها هذا الدور المهم فقد أعطاها البارئ سبحانه وتعالى، الصبر وحب العطاء والإيثار والدفء والحنان، لتكون مصدرًا هامًّا لكل هذه الأشياء، لجميع بني الإنسان. وخصها كذلك بالجمال ورقة الحاشية ودفء الجسم ونعومته ليعشق الإنسان (لاحظ كيف يكون الذكر هو الإنسان) الجمال، فيراه في كل ما خلق الله تعالى، ويحترمه، وينفر من القبح — كل القبح — ويتجنبه. وليكتسب رقة الحاشية، فينسجم تعامله مع الآخرين، ولا يعرف الخشونة التي تلجئه إلى إشعال نيران الحروب والعدوان بينه وبين بني جنسه.
في هذا التصور يتم إلغاء المرأة/الأنثى لحساب الرجل/الذكر إلغاء شبه تام، إنها بمثابة ديكور، لوحة جميلة، أو قطعة موسيقية، تحفة فنية. كل مهمتها في الحياة تنصَبُّ في الحد من خشونة الرجل، وفي إضفاء لمسات من النعومة على مسلكه والدفء في عواطفه. وليس ثمة تبعات يتحملها الرجل في عَلاقته بالمرأة سوى أن يمنحها الغذاء والكساء والمسكن. إنها عَلاقة أشبه بعَلاقة التابع بالمتبوع والعبد بسيده. إن اللغة المستخدمة في النص السابق تتظاهر بالشاعرية، لكنها الشاعرية الفجة التي توهم القارئ بتبجيل المرأة وهي تحولها في الحقيقة إلى شيء، قد يكون ثمينًا، لكنه يظل مجرد شيء، كمٍّ مهمَلٍ تتحدد أهميته بنفعيته بالنسبة للمالك/الرجل. من هذا المنظور لا بد من فرض «حجاب» الملكية على هذا الشيء. وكما ينحبس في الداخل على مستوى الحركة ينحبس إلى الداخل أيضًا على مستوى الزي. وقبل أن نناقش مسألة الحجاب سنترك الخطاب الديني مؤقتًا لنكشف عن بعض مظاهر الخلل في مفاهيم خطاب النهضة بشأن الفرق بين الرجل والمرأة.
(٣-١-١)
مشكلة مثل هذا الخطاب أنه ينطلق من خصائص مكتسبة سببها الانحباس داخل جدران البيت وملازمة الطفل. لكنه يحول تلك الخصائص المكتسبة إلى جبلة ثابتة راسخة هي «لب» التكوين الأنثوي. والأخطر من ذلك أن تتحول هذه الخصائص للنفسية المكتسبة إلى صفات عقلية راسخة غير قابلة للتعديل. فتنحبس المرأة في سجن «العاطفية» وينطلق الرجل في آفاق العقل والرأي. لكن علينا على كل حال أن نضع خطاب العقاد في سياق «ارتداد» خطاب النهضة ذاته، وانتقاله من مرحلة الفتوة والنضارة إلى مرحلة الخفوت والاحتضار. هذا بالإضافة إلى ظاهرة ازدواج المثقف العربي بشكل عام فيما يتعلق بفهمه لقضية المرأة، إذ ارتهنت الدعوةُ إلى تحريرها لطابع نفعي مرتبط بحاجة المثقف إلى امرأة متعلمة تشاركه الحياة.
وإذا كان زكي نجيب محمود بذلك الإقرار والإعلان قد كرس مرجعية النصوص الدينية، فإنه قد منح بذلك خصمه سلاحًا فتاكًا للنيل منه. هذا هو الجانب الأول. والجانب الثاني الذي مكن للخصم من اغتيال خطاب زكي نجيب محمود إقراره لا بالفروق النوعية بين الرجل والمرأة فقط، بل وتسليمه بالنتائج المترتبة على هذه الفروق اجتماعيًّا وثقافيًّا ونفسيًّا. يقول زكي نجيب محمود: «الفروق الظاهرة بين الجنسين ثلاثة: أولها: فروق في شخصيات الأفراد، من حيث هم أفراد، ثانيها: فروق في أساليب التعامل مع المجتمع، ثالثها: فروق في موقف كل من الجنسين في العمل على استمرارية الحياة.» ثم يقول — ويوافقه الخطاب السلفي على ذلك تمامًا: «وإذا نحن بدأنا المقارنة بين الجنسين من النقطة الثالثة الخاصة باستمرارية الحياة الإنسانية، وقعنا على اختلاف بينهما. وقد يكون هو المصدر الرئيسي، أو أحد المصادر الرئيسية التي منها يتفرع سائر ما قد نراه بين الرجل والمرأة من أوجه التباين. وذلك أن للمرأة دورًا في جانب تلك الاستمرارية، لا يقاس إليه دور الرجل.
(٣-٢)
ويواصل أتباعه الحديث عن ضوابط التعليم بالنسبة للمرأة، فيفرقون بين ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية في تعليم المرأة. والمقصود بمصطلح «فرض عين» في الفقه الفرضُ الذي يتوجب القيام به على كل الأفراد دون إعفاء أحد منهم، إذن المسئولية في فروض العين مسئولية فردية بحتة، أما «فرض الكفاية» فهو الواجب الذي يلزم أن يقوم به بعض أفراد المجتمع، أي إنه ليس فرضًا عينيًّا على كل الأفراد، بل هو أقرب للواجب الاجتماعي. لكن هذا الفرض إذا لم يقم به بعض الناس تصبح المسئولية الأخروية فيه مسئولية جميع الأفراد. ومعنى تلك التفرقة في الحديث عن تعليم المرأة أن هناك نوعين من التعليم: تعليمًا يجب أن تتلقاه كل امرأة، وهو التعليم الخاص بكيفية ممارستها للعبادات والواجبات الدينية الشرعية الشخصية، وهذا هو فرض العين، وسنلاحظ على الفور أن هذا النوع الثاني من التعليم — فرض الكفاية — يتعلق بواجبات الزوجة والأم، أي أنه تعليم يرتبط بالدور المحدد لها داخل البيت، أو يتعلق بالحرص على منع الاختلاط بين الرجال والنساء، كأن تتعلم المرأة الطب، وخاصةً طبَّ الطفولة وطبَّ أمراض النساء. «وقد قال الفقهاء: إن ما تتعلمه المرأة نوعان:
-
(١)
فرض عين: وهو الذي تصح به عبادتها وعقيدتها وسلوكها، وتُحسن به تدبير منزلها وتربية أولادها.
-
(٢)
فرض كفاية: وهو ما تحتاج إليه الأمة، ونحن الآن في حاجة إلى طبيبات للأمراض النسائية والطفولة يكفين حاجة المجتمع، وهكذا تدعو الحاجة إلى مدرسات للبنات في مدارسهن وممرضات للنساء. أما إذا لم تكن ضرورات تفرض على الأمة إعداد النساء لثقافة معينة، فإن المسلمة تعرف أن ثقافتها يجب أن تتجه إلى ما يخدم وظيفتها الطبيعية، وهي رعاية البيت، من طهوٍ وحياكة وحضانة وعلم التغذية، ومبادئ الصحة العامة والوقائية، ودراسة علم نفس الطفل.»٤٢
هكذا تنتهي دلالة النصوص الدينية التي تجعل العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة — في تأويلات الخطاب الديني — إلى الدخول في باب «العلم الضروري» اللازم فقط لمساعدة المرأة في القيام بوظيفتها الطبيعية كما حددها الخطاب الديني نفسه. وبانتقال العلم من باب الإباحة الحر — الذي يصل إلى حد الفريضة — إلى باب «الضرورات» يصبح العلم نفسه مسجونًا داخل السور الذي تنحبس المرأة فيه، فإذا كان خروجها للعمل ضرورة، فإن تعلُّمها كذلك ضرورة تحتِّمها واجباتها البيئية والأسرية، أو تحتمها ضرورة حماية المرأة من الاختلاط بعالم الرجال. ومعنى ذلك كله أن الهاجس الأساسي في كل أطروحات الخطاب الديني عن المرأة هو هاجس تغطيتها وسترها؛ تغطية العقل أولًا بحجبه عن آفاق المعرفة الحرة، وحجب وجودها الاجتماعي، ثانيًا: بحبسها داخل أسوار البيت، والأهم من ذلك كله ستر وجودها الفيزيقي بالحجاب الذي يُعَد تجسيدًا رمزيًّا لكل معاني التغطية العقلية والاجتماعية.
وكثيرًا ما يتستر الخطاب الديني، في دفاعه عن «تغطية المرأة» على المستويات السالفة كافة، وراء قاعدة فقهية مستقرة — لم يراجعها أحد حتى الآن — هي قاعدة «درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح». هي قاعدة تفترض أن اختلاط النساء بالرجال — حسب فهم الخطاب الديني — يؤدي إلى كثير من المفاسد. وفي سبيل درء المفاسد لا بأس من تعطل كل المصالح الناتجة عن تحرر الإنسان رجلًا وامرأة. ولن نناقش هذه القاعدة ودلالة طرحها هنا، فلذلك النقاش مجال آخر، لأن الذي يهمنا هنا كشف التطابق بين خطاب الاعتدال وخطاب التطرف فيما يتعلق بقضية المرأة عامة، وبمسألة التغطية خاصة. الشيخ محمد الغزالي قطب الاعتدال يعتمد على بعض المرويات التي تقول إن النبي ﷺ منع رجلًا من الجهاد — أو بالأحرى أعفاه — ليصحب زوجته في سفرها إلى مكة لتأدية فريضة الحج. ويستنبط الشيخ الغزالي من هذه الرواية دلالتها، فيوافق الجماعات الإسلامية في تحريم الرحلات الجامعية المختلِطة. يقول:
وإذا كانت «بنت الشاطئ» تجد تبريرًا — ولا نقول تفسيرًا — لقضايا تعدد الزوجات والطلاق والميراث وشهادة المرأة، فإنها عندما تتعرض لقضية الحجاب تقول:
(٤)
لم ندخل مع الخطاب الديني هنا في أي سجال حول مشروعية النصوص الدينية التي يستند إليها؛ لأن الدخول في إشكالية النصوص الخاصة بالمرأة وبكل قضاياها يحتاج لدراسة أخرى. كل ما حرصنا عليه في هذه الدراسة هو إبراز القضايا الآتية:
- أولًا: إن الخطاب الديني يزيف قضية المرأة حين يصر على مناقشتها من خلال مرجعية النصوص متجاهلًا أنها قضية اجتماعية في الأساس. ولأنه خطاب مأزوم فهو يساهم في تعقيد الإشكالية في حين يزعم أنه يساهم في حلها، ونعني بالإشكالية أزمةَ الواقع العربي والإسلامي المعاصر.
- ثانيًا: ولأنه خطاب مأزوم فهو يعتمد على النصوص الشاذة والاستثنائية ويلجأ إلى أضعف الحلقات الاجتماعية سعيًا لنفي الإنسان. وهو من هذه الوجهة يتعامل مع المرأة تعامله مع الأقليات الدينية الأخرى، المسيحية خصوصًا. فهو إذ يسعى لحبس المرأة داخل أسوار البيت، وداخل زي الحجاب، يهدف إلى إخفائها وتغطيتها، بنفس القدر الذي يسعى فيه إلى إلغاء وجود الأقليات المسيحية بحبسهم في سجن مفهوم «أهل الذمة». إن ولاية المسلمين على المسيحيين أو غيرهم من الأقليات الدينية الأخرى يساوي في آلية الخطاب الديني مفهوم ولاية الرجل — أو بالأحرى قِوامته — على المرأة. ومهما كانت عمليات التجميل التي يحاولها الخطاب الديني في طرح المفهومين — أهل الذمة وقِوامة الرجل — فإن مفهوم «الإلغاء» — إلغاء الآخرين وإلغاء المرأة — يظل هو المفهوم «المحايث» للخطأ.
- ثالثًا: إن هذا الخطاب — رغم سلفيته — يستند إلى جانب مرجعية النصوص الدينية، إلى مرجعية أخرى من خارجه، هي مرجعية أوروبا المزدوِجة: أوروبا العلم والنهضة والإنجاز من جهة، وأوروبا العري والشذوذ والتفكك من ناحية أخرى، ولأنه لا يستطيع مناهضة الجانب الأول فإنه يلجأ لإسقاط الجانب الثاني على خطاب النهضة العربي من أجل إدانته وتشويهه. ويتصور أنه بذلك يشوه الإنجاز الأوروبي بطريقة غير مباشرة، إنها آلية الانتقام غير الواعي للإنجاز الذي يكشف له عجزه وتهافته وضعف منطقه.
وأيضًا: عبد الحي الفرماوي: صحوة في عالم المرأة، رد على الدكتور زكي نجيب محمود، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة، ١٩٨٤م، ص١٠٢-١٠٣.
وانظر كذلك: محمود الجوهري: الأخت المسلمة، سبقت الإشارة إليه، ص٢٦، ٧٥.