الفصل الأول
المسلمون والخطاب الإلهي
حقوق الإنسان بين المثال والواقع
في هذا الفصل نتناول موضوع حقوق الإنسان، ذكرًا كان أم أنثى، رجلًا أو امرأة، لأننا
نرى أن مجتمعًا لا تترسخ فيه قيم الحرية واحترام حقوق الآخرين، لن يكون قادرًا على
تجديد مفاهيمه وقوانينه بما يتناسب مع تبدلات التاريخ وتحولات المجتمع، وبما يؤسس
لثوابت تجعل للمكتسبات التي تتحقق للفئات المغبونة فيه قوة الثبات والاستمرار.
إن مجتمعًا يتعرض للظلم والاستغلال والتمييز كالمجتمع العربي ويواجه قوة كإسرائيل
بكل
ما تمثله من سياسة اغتصاب، أو قوة كأميركا تفرض، كما يشهد كل العالم، كل قرارات الأمم
المتحدة، إلا تلك المتعلقة بإسرائيل؛ إن مجتمعًا هذا حاله مطالبٌ في سياق هذه المواجهات
بتكريس قضية الدفاع عن حقوق الإنسان كقضية رئيسية في خطابه. وذلك ليس من موقع الإرضاء
والنزول عند الطلب، كما تفعل الحكومات. ولا كما يفعل دعاة الهوية المنغلقة في إطلاق
خطاب متعصب ممن يدَّعون التحدث باسم الإسلام، ويستندون على نصوصه التي يؤوِّلونها كما
يشتهون مستندين إلى كل ما هو ضيِّق الأفق وصل إلينا في مراحل مثَّل فيها السلاطين
والأمراء والولاة سلطات تتحكم بالنصوص المنتَجة لتكريس هيمنتها وتبرير سلطتها.
وفي صلب الدفاع عن حقوق الإنسان يقع موضوع حقوق المرأة، ولذلك اخترنا أن نتناول في
الفصل الأول من هذا القسم موضوع حقوق الإنسان على العموم لننتقل في الفصل الثاني إلى
حقوق المرأة على الخصوص، وسيكون التحليل هنا
مُنصبًّا بصفة أساسية على الخطاب الإسلامي في بُعده الإنساني، أي على طرائق فهم
المسلمين للخطاب الإلهي، آملين أن ننتهي إلى تقديم صورة لمكانة «الإنسان» ولحقوق المرأة
في الفكر الإسلامي كما تتجلى في العلوم الأربعة التي سبقت الإشارة إليها. وليست هذه
العلوم في الواقع إلا محصلة تفاعل بين «الخطاب الإلهي» والواقع الاجتماعي التاريخي، فهي
الصياغة الفكرية لذلك «التوتر» المستمر بين المثال والواقع.
أولًا: علم الكلام
لعل النزعة الإنسانية لا تتجلى أشد وضوحًا كما تتجلى في الفكر الاعتزالي، حيث
الإعلاء من شأن «العقل» لم يكن مجرد أثر من آثار الاحتكاك بالثقافات الأخرى عمومًا،
والتأثر بالفلسفة اليونانية على وجه الخصوص، بل كان — إلى جانب ذلك، وربما قبله —
نابعًا من الموقف الاجتماعي السياسي للمعتزلة الأوائل — وهو أن
العقل أعدل الأشياء قسمةً بين البشر — وشعارًا مضادًّا
للعصبية التي بدأت تطل برأسها عقب وفاة الرسول مباشرة، ثم تنامى خطرها في أواخر عصر
بني أمية، ووصلت أقصى درجات تطرفها في عصر الدولة العباسية.
١ كان الفرس يفخرون على العرب بحضارتهم وفلسفتهم وتراثهم، وكان العرب
يفخرون على الفرس بأنهم أشرف الأمم لأن الوحي الإلهي نزل على نبي منهم … إلخ ما
نجده مبثوثًا في كتابات «الجاحظ». هكذا يمكن القول إن إعلاء المعتزلة من شأن العقل
وقيمة المعرفة كان عنصرًا جوهريًّا من عناصر حداثتهم، إذا صح لنا استخدام هذا
المصطلح. كان محاولة منهم لإنهاء التفاخر بالأنساب والعصبيات والأجناس، وإحلال قيم
«العقل والمعرفة» لتكون معيارًا موضوعيًّا لتحديد قيمة الإنسان اجتماعيًّا
ودينيًّا. ويجب أن نذكر في هذا الصدد أن كبار رجال المعتزلة ورؤساءهم كانوا ينتمون
اجتماعيًّا إلى «الموالي»،
٢ وهي شريحة عرقية اجتماعية أقل شأنًا
وقيمة من «العرب» الخُلَّص أو الأقحاح، كما يمكن أن نفهم من هجاء الشاعر «بشار بن
برد» لعالم النحو واللغة «عبد الله بن إسحق الحضرمي»، لأنه لم يكن يرى في شعره سوى
أخطاء النحو:
فلو كان عبدُ الله مَولًى هَجَوتُه
ولكن عبدَ الله مَولَى مَواليا
وقد كان هذا الموقف الاجتماعي الحداثي للمعتزلة هو كذلك الذي جعلهم
يصرون على تأكيد «حرية» الإرادة الإنسانية، لا لأنها دليل على «العدل» الإلهي — وهو
المبدأ الجوهري المؤسس لنسقهم الفكري — فحسب، بل لأن البرهان على وجود «الله»
مستحيل دونها. إنها بمثابة «الفرع» الذي بدونه لا يقوم «الأصل»، لأنه هو الذي يؤسسه
معرفيًّا، وإن كان «الأصل» هو الذي يؤسس «الفرع» وجوديًّا. هكذا يذهب القاضي عبد
الجبار (ت. ٤١٥ هجرية/١٠٢٥م) إلى أنه:
لو كان تعالى هو الخالق والمحدِث لأفعال العباد لأدى هذا الاعتقاد (بعدم قدرة
الإنسان على خلق فعله وحريته في الاختيار) إلى أنه لا يُعرف القديم (الله) أصلًا،
لأن طريق معرفته هو الاستدلال بفعله عليه. فإذا لم يُثبت هذا القائل في الشاهد (أي
في الواقع العيني المشهود) حاجة المحدَث إلى محدِث لم يُمْكنه حمل (قياس) الغائب
(عالم ما وراء الحس والشهود) عليه، فلا يُمْكنه أن يستدل على حاجة المحدَثات التي
يتعذر وقوعُها من جهتنا على أن لها محدِثًا. فقد صح أن ذلك يمنع من معرفة القديم
أصلًا، فكيف يقال إنه الخالق لأفعالهم؟ وكيف يصح اعتقاد فرع يؤدي إلى هدم أصله؟»
٣
ومن الطبيعي والمنطقي أن يكون مفهوم «العقل» مفهومًا مؤسِّسًا لمفهوم الحرية في
كل تجلياتها، إنْ على مستوى المعرفة أو على مستوى الفعل. على المستوى المعرفي يصل
العقل بأدلته وحدها إلى معرفة وجود الله، وإلى معرفة صفاته (التوحيد والعدل) ومعرفة
ما يجب عليه من واجب الشكر لهذا الإله الذي خلقه ومنحه نعمة الحياة، كما يميز العقل
بين «الحسن» و«القبيح» في الأشياء والأفعال.
ويبقى دور «الشريعة» مختصًّا بالكشف عن الطرائق التي تمكِّن الإنسان من أداء تلك
الواجبات العقلية، فتُعرِّف الإنسان مقادير الطاعات — كالصلاة والصيام والزكاة —
ومواقيتَها، وهي الأمور التي لا يستطيع العقل أن يعرفها تفصيلًا وإن توصل إليها
مجملة. هذا «العقل» يبدو مفهومًا مطلقًا متحررًا من قيود «الزمان» وعوائق «المكان»،
لأنه عقل شاغلُه الكون وخالقه من ناحية، ولأنه من ناحية أخرى عقل «الإنسان» المتحرر
من قيود الجنس والعرق والثقافة واللغة، أي عقل «الإنسان المطلق». هذا الإنسان
المطلق الكوني قادر بعقله المطلق الكوني مثله أن يخترق حُجُب الكون بلا دليل من
خارجه على الإطلاق، ذلك أن:
«العلم بالمدح والذم واستحقاقهم على الأفعال … من كمال العقل، وليس بموقوف على أن
ذلك قد وقع، بل لو خالط الناس ولم يقع من أحد معصية لما وقع ذم. ولو لم يقع منهم
طاعة لما وقع المدح على جهة، ولم يؤثر ذلك في كون ما ذكرناه من كمال العقل. وكذلك
القول فيه
لو خُلِق في أرض فلاة في أنه يَحسُن أن يُكلَّف
متى كَمُل عقله وعَلِم مكان الحمد والذم وإن لم يعلم فاعلًا لهما.»٤
لكن هذا الإعلاء من شأن العقل الإنساني
معرفيًّا لا يعني في نظر المعتزلة الإعلاء المطلق من شأن الإنسان في سُلم الكائنات
العاقلة التي خلقها الله. إن البشر لا يتمايزون فيما بينهم إلا بالقدرة على استثمار
تلك «القوة» التي هي «العقل الضروري» — والذي هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس —
والوصول إلى مرحلة «العقل النظري» القادر على الوصول إلى معرفة الله ومعرفة صفات
عدله وتوحيده وضرورة شكره. وإذا كان الملائكة يتمتعون بتلك المعرفة وهبًا من الله
سبحانه فإنهم يقعون في مرتبة أعلى من مرتبة الإنسان. ولكن علينا أن نكون مدركين
دائمًا لحقيقة أن المعتزلة يصوغون مفاهيمهم وفي ذهنهم الإنسان «الاجتماعي» لا
الإنسان المطلق بالمعنى الميتافيزيقي، هذا رغم أنهم جعلوا «العقل» قوة مطلقة متحررة
من الشروط الاجتماعية، من مكان وزمان وثقافة ولغة، كما سبقت الإشارة. وفارق آخر بين
الملائكة والبشر يجعل المعتزلة يؤكدون مفهوم «أفضلية» الملائكة، ذلك هو أنهم
مطبوعون على «الطاعة»:
لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (التحريم: ٦). وهذا يعني أن عين
المعتزلة في أحكامهم كانت على الكائن الاجتماعي
القادر على المعصية ومخالفة الأمر الإلهي لأنه الكائن الوحيد الذي خُلق حرًّا غير
مُجبر. بل لعله الكائن الوحيد الذي يتطاول في الدفاع عن معاصيه بدعوى أنه «مُجبر»،
وأن إرادة الله سبحانه هي التي توجه أفعاله كما زعم حكام بني أمية.
٥
من هنا يمكن أن نشرح الخلاف الذي نجده بين مفسري المعتزلة وبين خصومهم ممن أطلقوا
على أنفسهم مصطلح «أهل السنة والجماعة» في تعليل أمر الله سبحانه للملائكة أن تسجد
لآدم، حسب ما ورد في القرآن الكريم في أكثر من موضع (سورة البقرة: ٣٤، وسورة ص: ٧٥
على سبيل المثال لا الحصر). يذهب الطبري (٣١٠ هجرية/٩٢٢م) مثلًا إلى أن أمر الله
للملائكة بالسجود لآدم كان «تكرمة» له، وكان امتثال الملائكة «طاعة لله»، وليس في
هذا شبهة «عبادة».
٦ والزمخشري وإن كان لا يختلف مع الطبري في ذلك الاعتبار فإنه يحاول أن
يجد مسوغًا عقليًّا لكلٍّ من الأمر الإلهي وامتثال الملائكة، فيقول:
«الذي لا يُسَوَّغ هو السجود لغير الله على سبيل العبادة، فأما على وجه التكرمة
والتبجيل فلا يأباه العقل إلا أن يعلم الله فيه مفسدة فينهى عنه.»
٧
وعلى ذلك يكون الأمر الإلهي «مصلحة»، ويكون فعل الملائكة «طاعة»، ورفضُ إبليس
السجود «معصية». إن تصور إبليس أنه أفضل من آدم لأنه مخلوق من النار، والنار أفضل
من الطين الذي خُلق منه آدم، تصور فاسد في رأي الزمخشري؛ لأن الأمر الإلهي بالسجود
لا يتعلق بالأفضلية. هكذا غاب عن إبليس، فيما يقول الزمخشري، أن الله
سبحانه:
«حين
أمر أعز عباده عليه وأقربهم منه
زلفى — وهم الملائكة — وهم أحق بأن يذهبوا بأنفسهم عن
التواضع للبشر الضئيل ويستنكفوا من السجود له من غيرهم … (لكنهم) لم
يفعلوا، وتبعوا أمر الله وجعلوه قدام أعينهم،
ولم
يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له تعظيمًا لأمر
ربهم وإجلالًا لخطابه.»
٨
ويتضح الموقف الاعتزالي أشد جلاء في مسألة تفضيل الملائكة على البشر حين يستخدم
الزمخشري «التمثيل» أداة بلاغية لشرح دلالة معصية إبليس في الخطاب القرآني:
«ومثاله أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سُقاط الحشم؛ فيمتنع اعتبارًا لسقوطه.»
٩
ودلالة هذا الشرح التمثيلي، والتي تجعل من «بعض سُقاط الحشم» مثالًا لآدم، تثير
ممثل «أهل السنة والجماعة» — أحمد بن محمد المنيِّر السكندري المالكي، فيهاجم
الزمخشري قائلًا: إنه «شديد العصبية» في تفضيل الملائكة لا على البشر فحسب بل على
الأنبياء كذلك. ويرى أنه:
«أجرم في بسط كلامه على آدم عليه السلام، فمثَّل قصته في انحطاط مرتبته،
على زعمه، عن رتبة الملائكة بقول الملك لوزيره: زُر بعض سُقاط الحشم، فجعل
سُقاط حشم الملك مثالًا لآدم الذي هو عنصر الأنبياء عليهم السلام.»
١٠
من الواضح هنا أن المسألة من منظور أهل
السنة هي المفاضلة بين «الأنبياء» والملائكة، وهي مفاضلة لا بد أن تجنح لتفضيل
الأنبياء؛ لسبب بسيط هو أنهم «معصومون» من الخطأ ناهيك بارتكاب
المعاصي. أما المعتزلة فشاغلهم الأساسي هو
الإنساني الاجتماعي المعرَّض للوقوع في الخطأ، ومقارفة الخطايا والذنوب، وذلك بحكم
«الحرية» الممنوحة له في «التفكير» وفي «الفعل» على السواء. من جهة أخرى، ليس
الأنبياء في منظور المعتزلة معصومين من الأخطاء؛ فقد عصى آدم أمر ربه وأكل من
الشجرة التي نهاه عنها. إنما هم معصومون من ارتكاب «الكبائر» التي من شأنها أن
تنفِّر الناس من دعوتهم، وتشوه من ثَم مصداقيتهم. هكذا نرى أن الفكر الديني —
ممثلًا هنا في علم الكلام — يختار من النصوص ما يتفق مع منظوره وما يدعم وجهة
تفكيره، وما خالف هذا التفكير وعارض ذلك المنظور من نصوص يصبح مجالًا للتأويل
والتفسير. وهكذا أفضى تركيز المعتزلة على الجانب «المعرفي» للإنسان، بهدف محاربة
«الطائفية» و«العنصرية»، إلى وضعه في مرتبة أدنى من مرتبة الملائكة. وتلك صارت إحدى
إشكاليات الفكر الفلسفي الإسلامي، إن لم تكن واحدة من إشكالياته المحورية.
ثانيًا: الفلسفة
عند هذا الجانب المعرفي في الإنسان وقف الفلاسفة، سواء الفلاسفة العقليون مثل
«الكندي» و«ابن رشد»، أو الفلاسفة الإشراقيون مثل «الفارابي» و«ابن سينا». والمعرفة
عندهم جميعًا هي السبيل الوحيد لبلوغ السعادتين: سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
وتتحقق المعرفة بالوصول إلى إدراك «ماهية» الوجود عن طريق التأمل العقلي في
المدركات الحسية من أدناها إلى أرقاها من ناحية، وفي إدراك ماهية «الإنسان» بالتأمل
الباطني الذاتي من ناحية أخرى. وسواء كانت المعرفة «كسبية» — أي يصل إليها الإنسان
اكتسابًا بالتعلم والنظر والاستدلال — أم كانت «وهبية» — أي يهبها الله للإنسان
إلهامًا — فإن مصدر المعرفة عقل كوني كبير يطلق عليه الفلاسفة اسم «العقل الفعال»
أو «العقل الأول»، وسُمِّي «الأول» لأنه أول الفيوضات، أو أول المبدَعات، التي ظهرت
في الوجود عن الله المبدِع سبحانه وتعالى. وسُمِّي كذلك فعالًا لأنه يمثل «العلة
الفاعلة» لكل ما يحدث في العالم، ومن محتوى معرفته يستمد كل عقل من عقول الكواكب
التسعة (من العقل الثاني إلى العقل العاشر) العلوم اللازمة له لتدبير أمر الكوكب
الذي يختص به. وبعبارة أخرى، تجمع هذه العقول العشَرة بين القوتين: «العلمية»
المعرفية من جهة و«العملية» الوجودية من جهة أخرى.
ومن الجدير بالذكر في هذا السياق ذلك الحديث المنسوب إلى النبي، وإن كان بعض
الباحثين يرى أنه من أقوال أفلوطين، والذي احتفت به الأوساط الدينية الإسلامية
أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني احتفاء ملموسًا، حتى أصبح محور تأويلات
عديدة واكتسب معاني ودلالات يصعب حصرها.
١١
«أول ما خلق الله العقلُ، فقال له: أقبِل، فأقبَلَ، ثم قال له: أدبِر فأدبَرَ، ثم
قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا أكرم عليَّ منك، بك آخُذ، وبك أُعطي،
وبك أُثيب وبك أعاقب.»
وسواء عن طريق التأمل العقلي الاستدلالي عند فلاسفة العقل، أو عن طريق
«المخيِّلة» في أرقى مستويات صفائها عند فلاسفة الإشراق، يتصل الإنسان بالعقل
الفعال ويستمد منه المعرفة التامة الكاملة.
١٢ وإذا كان الطريق الأول، طريق العقل والاستدلال «نادرَ الوجود وخاصًّا
بعظماء الرجال»، فإن الطريق الثاني، طريق المخيِّلة والإلهام، خاص بالأنبياء وحدهم؛
«فكل إلهاماتهم وما ينقلون إلينا من وحي منزَّل أثر من آثار المخيِّلة ونتيجة من نتائجها.»
١٣ لكن الطريقين يفضيان في نهاية المطاف إلى نفس الغاية. وإذا كان
المعتزلة قد انتهوا إلى أنه:
«ليس في القرآن إلا ما يوافق طريقة العقل، ولو جُعل ذلك دلالة على أنه من
عند الله، من حيث لا يوجد في أدلته إلا ما يَسلم على طريقة العقول
ويوافقها، إما على جهة الحقيقة أو على المجاز، لكان أقرب.»
١٤ فإن ابن رشد وصل إلى نفس النتيجة تقريبًا حين قرر، استنادًا
إلى وَحدة المصدر المعرفي، أن «الشريعة» و«البرهان» كالأختين في الرضاع —
ولاحِظ دقة التشبيه ودلالته — لا تعارض بينهما ولا تضاد؛ لأن «الحق لا يضاد
الحق بل يوافقه ويشهد له.»
١٥
هكذا يمكن القول إن «الإنسان» الذي يتحدث عنه الفلاسفة، ويضعونه في مستوًى قريب
من مستوى النبي هو الإنسان الفيلسوف وليس الإنسان الاجتماعي العادي. وهكذا تتحدد
قيمة الإنسان طبقًا لمستوى وعيه المعرفي. وينقسم البشر إلى عامة وخاصة، للخاصة
سعادة الدارين، وعلى العامة «تقليد» الخاصة لينعموا ببعض السعادة. للخاصة مستوًى من
المعرفة «البرهانية» أو «الإلهامية» مضنونٌ به على العامة؛ حتى لا تفسد عقائدهم.
هذا التقسيم للبشر إلى خاصة وعامة اتفق عليه أشهر خَصمين في تاريخ الثقافة العربية
الإسلامية: أبو حامد الغزالي صاحب كتاب «تهافت الفلاسفة» وأبو الوليد ابن رشد صاحب
«تهافت التهافت». ومعنى ذلك أن الفكر الإسلامي أخذ يميل بالتدريج إلى «تبرير» تقسيم
البشر في الواقع الاجتماعي، خاصة مع تنامي قوة العقل بين «المثقف» والسلطة
السياسية، وهي عَلاقة اعتماد واستناد من الجانب الأول، وتوظيف واستخدام من الجانب
الثاني. ولعل تبرير الفروق العقلية، ومن ثم المعرفية، بين البشر كان وسيلة من
الوسائل التي حاول بها المثقف أن يفسح لنفسه — بسلطة المعرفة — موقعًا في النسق
الاجتماعي إلى جوار سلطتي «المال» و«الشوكة»، أو القوة العسكرية.
١٦
ثالثًا: التصوف
صار الإنسان الاجتماعي العادي غير المؤهل للمعرفة أو للعرفان محكومًا عليه بأن
يسلك طريق «التقليد» والاتِّباع أو يهلك في طريق الضياع. وهذا الهالك هو «الإنسان
الحيوان» في مطلع الصوفي الأندلسي الشهير «محيي الدين بن عربي» الذي صاغ نظرية
«الإنسان الكامل». ومن الهام هنا تأكيد أن هذا المفهوم الذي صاغه ابن عربي مفهوم
مؤلف من عناصر وتأثيرات فكرية عديدة لا مجال لاستعراضها هنا، خاصة والدراسات التي
تناولتها عديدة، وسنشير لبعضها فيما يلي. لكن أهم تلك العناصر وأولاها بالاهتمام،
وهو القرآن الكريم، لم ينل من عناية الدارسين ما يكشف عن دوره الجوهري المؤسس لهذا
المفهوم. ولقد نعى المستشرق ماسينيون على أقرانه من المستشرقين أنهم في دراستهم
للفكر الإسلامي يقفون عند عناصر التأثير الخارجي، فيعجزون عن النفاذ إلى جوهر
الإسلام ذاته. ويفسِّر هذا العجز بعدم قدرة أولئك المستشرقين على:
استثمار القرآن للنفاذ للفكر فهمًا وتحليلًا … فهذا النص بالنسبة للمسلم
يمثل معجمًا شاملًا ممتازًا، إنه جِماع علومه ومفتاح رؤيته للعالم.
١٧
لقد خاطب القرآن الإنسان مبلِّغًا إياه أن
الله سخر له مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
(لقمان: ٢٠، والجاثية: ١٣)، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ
لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً
لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ
لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ
رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
* وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ
(النحل: ١٢–١٦). هذه النصوص، ومثلها كثير في القرآن، تؤكد للعقل المسلم أن العالم
كله مخلوق ومسخر لخدمة الإنسان ومصلحته؛ الأمر الذي يعني أن الإنسان في الخطاب
الإلهي هو مركز الكون وغاية الوجود. وتلك هي الفكرة المحورية التي تطورت في الفكر
الصوفي في نظرية «الإنسان الكامل». يقول ابن عربي:
ليس شيء من العالم إلا وهو مسخَّر لهذا الإنسان لما تعطيه حقيقة صورته …
فكل ما في العالم تحت تسخير الإنسان، علم ذلك من علمه — وهو الإنسان الكامل
— وجهل ذلك من جهله، وهو الإنسان الحيوان.
١٨
لكن ما هي «حقيقة الصورة» التي جعلت الإنسان يستحق هذه المرتبة العليا في نسق
الوجود؟ القرآن أيضًا هو الذي استلهمه المتصوفة المسلمون في صياغة نظريتهم عن
الإنسان؛ فالطين — المادة التي منها خُلِق الجسد — مكون من العناصر الطبيعية — أو
الأسطُقُسَّات — الأربعة، وهي التراب والهواء والماء والنار.
١٩ هذا علاوة على تشريف الله لآدم بمباشرة خلقه بيديه (انظر: سورة ص: آية
٧٥)، سواء تم تفسير معنى «اليدين» على الحقيقة أو تأويله على المجاز، الأمر الذي
اعتُبر تكريمًا لآدم وتشريفًا للإنسان على كل ما سواه من المخلوقات؛ لأنها لم تنل
هذا الشرف وخُلِقتْ بالأمر «كن». وتكتمل الصورة الإنسانية بالروح، التي هي قبس من
«النفخة الإلهية» (انظر: الحِجر: ٢٦ والسجدة: ٩ وص: ٧٢). هكذا يجتمع في الصورة
الإنسانية كلٌّ من «الطبيعي» و«الإلهي»؛ فيصبح الإنسان هو «الكون الجامع الصغير»،
كما يمكن أن يقال إن «الكون إنسان كبير»؛ لأنه في الإنسان تجتمع كل حقائق العالم الكبير.
٢٠
يضيف القرآن إلى ذلك كله ما تميز به آدم على الملائكة، وصار تعليلًا لاستحقاقه
«الخلافة» دونهم، ألا وهو أن الله علَّمه وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ
أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ
لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا
تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (البقرة: ٣١–٣٣). وقد أول
المتصوفة «الأسماء كلها» تأويلًا عرفانيًّا بأنها «الأسماء الإلهية»، كما أولوا
«التعليم» تأويلًا وجوديًّا بمعنى ظهور الأسماء الإلهية، التي كانت «باطنة» في
«الذات الإلهية» قبل خلق آدم، وتجليها في روح آدم. وكما احتفت الأوساط الفكرية
أوائل القرن الثاني بحديث «العقل» الذي أوردناه فيما سبق، فإن حديثًا عن «الصورة»
لقي احتفاء مماثلًا، ولكن في الأوساط العرفانية بصفة خاصة، حيث يُنسب إلى النبي أنه
قال: خلق الله آدم على صورته. وقد فسَّر
العرفانيون مرجعية ضمير «الهاء» في كلمة «صورته» بأنها الاسم «الله»؛ وعلى ذلك يكون
المعنى أن آدم مخلوق على صورة الله. لكن البعض حاول أن ينفي عن الحديث الدلالة
الصوفية المستنبطة من ذلك الاعتبار، فقالوا إن مرجعية الضمير هي كلمة آدم؛ وعلى ذلك
يكون المعنى: إن الله هو الذي خلق آدم على صورته التي هو عليها، أو بعبارة أخرى: إن
الله هو الذي منح آدم صورته. والحقيقة أن هذا التأويل الأخير يفرغ الحديث من المعنى
تمامًا؛ فلا خلاف بين المسلمين على حقيقة أن الله هو الذي خلق آدم، ومن المنطقي أن
يتضمن فعل «الخلق» إعطاء الصورة. (انظر على سبيل المثال، وليس على سبيل الحصر:
الأعراف/١١ وغافر/٦٤ والتغابن/٣). والحديث على أية حال صياغة أخرى لما ورد في سفر
التكوين؛ فلا سبيل للتأويل الذي يُفقده معناه.
وهكذا يفضي التأويل الصوفي إلى تقرير أفضلية آدم على الملائكة، ولكن من زاوية
تختلف اختلافًا جوهريًّا عن تلك التي تناول المتكلمون الموضوع من خلالها. يمثل آدم
على المستوى الوجودي التجلي الأكمل والأشمل لكل من الطبيعي والإلهي؛ وذلك بسبب ظهور
الأسماء الإلهية وحقائق الكون في صورته؛ وهو لذلك الكائن الوحيد القادر على الوصول
إلى المعرفة الكاملة الشاملة. إن الوجود كله عند ابن عربي، فيما يقرر أبو العلا
عفيفي:
بناء منطقي من أعلاه إلى أدناه، فيه يحتل الإنسان مكان الصدارة بحكم
طبيعته المتميزة، والتي لا يشاركه فيها من الموجودات شيء. وفي رأي ابن عربي
أنه لا يدرك مرتبة الإنسان في الكون ولا يقدره حق قدره إلا من تحقق بمعرفة
الله معرفة تامة. ولا يعرف اللهَ هذه المعرفة إلا الإنسانُ؛ لأنه بالإنسان
عرف اللهُ نفسَه، إذ الإنسان هو المجلى الكامل لحقائق الألوهة. وما سوى
الإنسان الكامل من الموجودات إنما تعرف من الله بقدر معرفتها بنفسها؛ فليست
الموجودات إلا صفاته، فمعرفتها ناقصة إذا قارناها بمعرفة الإنسان الذي
اجتمعت فيه كل الصفات الإلهية. حتى الملائكة معرفتهم ناقصة؛ لأنهم لا
يعرفون من «الحق» إلا «التنزيه»، الذي لا يتعلق بالوجود الظاهر. الإنسان
وحده يعرف جانبي «الحق»، لأنه هو نفسه الحق والخلق.
٢١
هكذا نجد أن مفهوم «الإنسان» في الفكر الصوفي يدور في مجمله حول الإنسان
«العارف»، أي الذي تحقق بالمعرفة التامة الكاملة بنفسه وبالوجود والألوهة. هذا
الإنسان هو ميزان الحقيقة؛ لأنه هو الكمال بعينه. وهو الإنسان المحتفَى به، الرفيع
المنزلة والكريم المكانة، أما الإنسان «غير العارف»، الإنسان الاجتماعي البسيط، فلا
شأن له في ذلك النسق المعرفي. وهكذا يمكن القول إن الفكر الإسلامي في مجمله لا
يختلف كثيرًا من هذه الزاوية عن الفكر الوسيط بصفة عامة، وهو الفكر الذي يحدد قيمة
الإنسان من خلال هذا التقسيم الحاد للبشر إلى «خاصة» و«عامة». لذلك بجب دائمًا،
وقبل الانخراط في تدبيج عبارات التوقير والاحتفال التقليدية — والتي غالبًا ما تكون
عبارات مجانية — عن الإعلاء من شأن الإنسان، أن يتساءل الباحث عن دلالة «الإنسان»
في مجال الفكر الذي يدرسه أو الخطاب موضوع التحليل.
رابعًا: حي بن يقظان؛ أليجوريا العقل الخالص
بدءًا من العنوان الذي اختاره «أبو بكر بن طفيل» (ت. ٥٨١ هجرية/١١٨٥م) لقصته
الفلسفية، لا يستطيع الباحث إلا أن يتأمل دلالته: فحي يمثل «
الحياة» التي لا تتجلى إلا في «
يقظة» العقل. إن الله سبحانه وتعالى، سواء من منهج «الاستدلال» عند
المتكلمين، أو في «البرهان» عند الفلاسفة، يتصف بصفة «الحياة»؛ لأنه لا «علم» بلا
حياة. وكل صفات الذات، وهي «القِدَم» — تمييزًا للخالق من المخلوق المحدَث —
و«القدرة» — إثباتًا لعملية الخلق ذاتها — و«الحكمة» استدلالًا من إحكام الخلق
وانعدام التفاوت بين أجزاء العالم — تُفضي فيما يشبه الضرورة المنطقية إلى صفة
«العلم». هذا الاقتران بين الصفتين لدرجة التلازم الذي يجعل كلًّا منهما متضمِّنة
للأخرى نجده في الخطاب القرآني في أكثر من سياق، ففي سياق آية «الكرسي» من سورة
البقرة (٢٥٥) نجد التلازم واضحًا لا يحتاج إلى شرح أو تحليل.
٢٢ وفي سياق آخر تقترن صفة «الحياة» بتنزيل الكتاب (آل عمران: ٢-٣) أو
بالخلق (الفرقان: ٥٨-٥٩) كما تقترن بالإحياء والإماتة (غافر: ٦٥–٦٨). في ضوء هذا
التلازم يختار ابن طفيل اسم بطل قصته؛ ليشير إلى «مطلق» الإنسان؛ وليُحيل إحالة
رمزية إلى إمكانات هذا الحي بن «يقظان» الذي
لَا تَأْخُذُهُ
سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ربما بدلالة صيغة المبالغة «فعلان».
تتأكد تلك الطبيعة المطلقة لشخصية البطل حين يطرح ابن طفيل احتمالين لميلاده:
الاحتمال الأول، والذي يبدو من السياق السردي أنه الاحتمال الراجح عند ابن طفيل، هو
أنه ولد من الطبيعة من غير أب أو أم. والوصف التفصيلي لعملية «التولد» الطبيعي تلك
تبدو تصويرًا أو إعادة تمثيل لقصة خلق جسد «آدم» من عناصر الطبيعة أو الإسْطَقِسات
الأربعة، ثم بث الحياة في هذا الجسد بالنفخة الإلهية. فالطينة التي تولَّد عنها
«حي»:
تخمرت على مر السنين والأعوام حتى امتزج فيها الحار بالبارد، والرطب
باليابس، امتزاج تكافؤ وتعادل في القوى، وكانت هذه الطينة المتخمرة كبيرة
جدًّا، وكان بعضها يفضل بعضًا في اعتدال المزاج والتهيؤ لتكون الأمشاج.
وكان الوسط منها أعدل ما فيها وأتمه مشابهة بمزاج الإنسان، فتمخضت تلك
الطينة وحدث فيها شبه الغليان لشدة لزوجتها. وحدث في الوسط منها لزوجة
ونَفاخة صغيرة جدًّا منقسمة بقسمين بينهما حجاب رقيق، ممتلئة بجسم لطيف
هوائي في غاية الاعتدال اللائق به. فتعلق به عند ذلك الروحُ الذي هو «من
أمر الله» تعالى وتشبث به تشبثًا يعسر انفصاله عنه عند الحس وعند العقل.
٢٣
ويتزايد تأكيد صفة الإطلاق في البطل، أي من حيث دلالته على مطلق الإنسان، حين
يواجه البطل للمرة الأولى مواجهة مباشرة معضلة «الموت» متمثلة في موت «الظبية»،
التي كانت له بمثابة الأم. كان قد بلغ من العمر سنوات سبع، واستطاع أن يتأقلم مع
الحياة في الجزيرة بحيواناتها ووحوشها عن طريق «التقليد» أولًا، ثم بدأ في ابتكار
بعض الحلول التي عمَّقت وعيه بتميزه عن الحيوانات والوحش واستقلاله عنها. حاول أن
يكتشف «العلة» التي أفضت إلى الموت؛ فقام بتشريح جثة الظبية حتى وصل إلى التجويف
الأيسر من «القلب»، فلما وجده خاليًا أدرك أن خُلوَّه دليل على أنه موطن «سر»
الحياة لأنه:
ارتحل عنه وأخلاه. وعند ذلك طرأ على هذا الجسد من العطلة ما طرأ، ففقد الإدراك
وعَدِم الحَراك … فصار عنده الجسد خسيسًا لا قدر له، بالإضافة إلى ذلك الشيء الذي
اعتقد في نفسه أنه يسكنه مدة ويرحل عنه بعد ذلك. فاقتصر على الفكرة في ذلك الشيء ما
هو؟ وكيف هو؟ وما الذي ربطه بهذا الجسد؟ وإلى أين صار؟ ومن أي الأبواب خرج عند
خروجه من الجسد؟ وما السبب الذي أزعجه إن كان خرج كارهًا؟ وما السبب الذي كرَّه
إليه الجسد حتى فارقه، إن كان خرج مختارًا؟
٢٤
ويهتدي «حي» إلى عملية «دفن» جثمان الظبية بالتقليد، تقليد الغراب الذي صرع
غرابًا آخر وقام بدفنه. والمشهد في قصتنا هذه يكاد ينقل المشهد القرآني في قصة ابني
آدم «قابيل» و«هابيل»، باستثناء ما تضمنته القصة القرآنية من النص على أن الله هو
الذي «بعث» الغراب ليُرِيَ القاتل كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ
أَخِيهِ (المائدة: ٣١). لكن هذه الدلالة غير غائبة عن قصتنا؛ لأن إحساس
«حي» بأنه كان أحق من الغراب بالاهتداء إلى عملية الدفن يعمِّق في نفس القارئ
استدعاء الدلالات الموجودة في الأصل، على أساس أنها مضمرة في النص الراهن مهما كانت
غائبة. ومن هنا يمهد النص قارئه لإدراك أن العقل الإنساني في سعيه المخلص والدءوب
للمعرفة والفهم تحوطه العناية الإلهية وترعاه دائمًا.
هذا البطل الكوني المطلق، أو العقل الخالص، يعيش في جزيرة مهجورة من الجزائر
الموهومة أو المتخيَّلة. وهي جزيرة مثالية الموقع الجغرافي والمناخ «
أعدل بقاع الأرض هواء»، فليس بها «حر مفرط ولا برد
مفرط»، وهي بالإضافة إلى ذلك أتم الأماكن استعدادًا «
لشروق
النور الأعلى عليها».
٢٥ في هذه الجزيرة، ليس سوى الإنسان الذي لا يدرك القارئ ما إذا كان ذكرًا
أم أنثى إلا بدلالة الاسم المذكر «حي»، بالإضافة إلى جملة واحدة في النص كله.
٢٦ هذا الإنسان لا يحتاج مجتمعًا ولا لغة، فضلًا عن أن نقول تعليمًا أو
ثقافة، لكي تنمو مداركه أو تستيقظ حواسه أو ينشط عقله ويتحرك وعيه. إنه شديد الشبه
بالإنسان الذي يتحدث عنه المعتزلة كما سبق أن بينَّا، لكنه يتفوق عليه بأنه لم يكتف
بالوقوف عند حدود المعرفة الاستدلالية بوجود الله وبصفات عدله وتوحيده. لقد وصل عن
طريق الاستدلال إلى إثبات «حدوث» العالم؛ واستنباط حاجته إلى «محدِث» مغاير له في
الطبيعة والصفات:
ثم إنه مهما نظر شيئًا من الموجودات له حُسن، أو بهاء، أو كمال، أو قوة،
أو فضيلة من الفضائل — أي فضيلة كانت — تَفكَّر وعَلِم أنها من فيض ذلك
الفاعل المختار — جل جلاله — ومن وجوده، ومن فعله. فعَلِم أن الذي هو في
ذاته أعظمُ منها وأكمل، وأتم وأحسن، وأبهى وأجمل وأدوم. وأنه لا نسبة لهذه
إلى تلك. فما زال يتتبع صفات الكمال كلها؛ فيراها له، وصادرة عنه، ويرى أنه
أحق بها من كل ما يوصف بها دونه. وتَتبَّع صفات النقص كلها، فرآه بريئًا
منها ومنزهًا عنها. وكيف لا يكون بريئًا منها وليس معنى النقص إلا العدم
المحض، أو ما يتعلق بالعدم؟ وكيف يكون للعدم
٢٧ تعلُّقٌ أو تلمُّس بمن هو الموجود المحض الواجب الوجود بذاته،
المعطي لكل ذي وجود وجودَه. فلا وجود إلا هو؛ فهو الوجود، وهو الكمال، وهو
التمام، وهو الحُسن، وهو البهاء، وهو القدرة، وهو العلم، وهو هو، و
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.
٢٨
هذا مستوى ما وصل إليه «حي»، في سن الخامسة والثلاثين، من معرفة عقلية أساسها
ومصدرها النظر في الأدلة الوجودية. وقد حركت تلك المعرفة لواعج شوقه إلى مشاهدة
جمال ذلك الموجود الذي أثبته عقله، وهذا ما يميز «حي» عن إنسان المعتزلة، فهو إنسان
الفلاسفة، البرهانيين والعرفانيين، كما هو إنسان المتصوفة. إنه باختصار «الإنسان
العارف»، الكامل والنَّموذج، الذي أنتجه الوعي الإسلامي. إن البراهين الوجودية لا
تكفي هذا الإنسان لتحقيق السعادة التي تتمثل في معانقة المطلق والاتحاد به. والسبيل
إلى ذلك هو إسقاط ما سوى الضروري من حاجات «الجسد»، الذي ليس إلا مختصرًا للكون كما
سلفت الإشارة، وذلك من أجل تطهير النفس وتنقيتها من الشواغل حتى تصل إلى حالة
الاستعداد للاتصال بمصدرها وأصلها الأول. هكذا واصل بطلنا مجاهداته منتقلًا من حال
إلى حال ومن مقام إلى مقام حتى فَنِيَ عن ذاته وعن جميع الذوات.
ولم ير في الوجود إلا الواحد الحي القيوم، وشاهد ما شاهد، ثم عاد إلى ملاحظة
الأغيار، عندما أفاق التي هي شبيهة بالسُّكر، خطر بباله أنه لا ذات له يغاير بها
ذات الحق تعالى، وأن حقيقة ذاته هي ذات الحق، وأن الشيء الذي كان يظن أولًا أنه
ذاته المغايرة لذات الحق ليس شيئًا في الحقيقة، بل
ليس ثَم
شيء إلا ذات الحق، وأن ذلك بمنزلة نور الشمس الذي يقع على الأجسام
الكثيفة فتراه يظهر فيها. فإنه وإن نُسِب إلى الجسم الذي ظهر فيه، فليس هو في
الحقيقة شيئًا سوى نور الشمس. وإن زال الجسم زال نوره وبقي نور الشمس بحاله لم ينقص
عند حضور ذلك الجسم، ولم يزد عند مغيبه.
٢٩
وتصل القصة إلى ذروتها وختامها، ونصل معها نحن القراء إلى «بيت القصيد» وبؤرة
الدلالة. يصل إلى الجزيرة «
أسال»، عابد متبتل
زاهد يطلب العزلة، واسمه دالٌّ على ما يعتمل بنفسه من «
أسئلة»؛ لِمَا «كان في طباعه من دوام الفكرة، وملازمة العبرة،
والغوص على المعاني» حسب عبارة الراوي.
٣٠ وهو من أتباع دينٍ منزَّلٍ تعمَّق في فهم أسراره وغاص في باطن معانيه
الروحية، ولم يكتف بظاهر الألفاظ التي وردت «في صفة الله — عز وجل — وصفات المعاد
والثواب والعقاب».
وكان في ذلك كله على خلاف مع صديق له من أتباع دينه وأهل موطنه، كان «أكثر
احتفاظًا بالظاهر، وأشد بعدًا عن التأويل، وأوقف عن التصرف والتأمل.»
٣١ من هنا يحمل هذا الصاحب اسم «
سلامان»
الدال على إيثار «
السلامة» بلزوم الجماعة والتمسك
بقولها — ولاحِظ بأي الصفات يصفه الراوي.
«لِمَا كان في طباعه من الجبن عن الفكرة والتصرف. فكانت ملازمته للجماعة عنده مما
يدرأ الوسواس، ويزيل الظنون المعترضة، ويعيذ من همزات الشياطين.»
٣٢
ويلتقي كل من «حي» و«أسال»، ويقوم «أسال» بتعليم بطلنا اللغة: «بأن كان يشير له
إلى أعيان الموجودات، وينطق بأسمائها، ويكرر ذلك عليه، ويحمله على النطق؛ فينطق بها
مقترنًا بالإشارة؛ حتى
علَّمه الأسماء كلها،
ودرَّجه قليلًا حتى تكلم في أقرب مدة.»
٣٣ ثم كانت المفاجأة المذهلة حين سمع «أسال» وصف «حي» لحقائق الوجود كما
شاهدها وعاينها؛ فتيقن:
أن جميع الأشياء التي وردت في شريعته من أمر الله عز وجل، وملائكته
وكتبه، واليوم الآخر، وجنته وناره، هي أمثلة هذه التي شاهدها حي بن يقظان.
فانفتح بصر قلبه (أي أسال)، وانقدحت نار خاطره، وتطابق عنده المعقول
والمنقول، وقربت عليه طرق التأويل، ولم يبق عليه مشكِل في الشرع إلا تبين
له، ولا مُغلق إلا انفتح، ولا غامض إلا اتضح. وصار من أولي الألباب. وعند
ذلك نظر إلى حي بن يقظان بعين التعظيم والتوقير. وتحقق عنده أنه من أولياء
الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
٣٤
ويقوم «أسال» بالمثل بإعلام «حي» بشأن الجزيرة التي جاء منها، ويعرِّفه بالدين
الذي يؤمن به، وبأوامره ونواهيه، بعباداته ومعاملاته … إلخ. وهنا لا يجد «حي» إلا
توافقًا كاملًا بين ما توصل إليه في توحُّده وخَلوته وبين ما جاء به «الوحي» جملة.
أما في التفاصيل فقد تملكته الحيرة في بعض الأمور؛ لأنه لم يَدرِ وجه الحكمة فيها.
من هذه الأمور: لماذا يعتمد الوحي في «
أمر العالم
الإلهي»، وفي «
أمر الثواب
والعقاب» على ضرب الأمثال دون المكاشفة بالحقيقة بلغة صريحة لا تحتمل
التأويل والاختلاف؟ أليس هذا الاعتماد على «التمثيل» في العبارة عن تلك الحقائق هو
الذي أوقع «الناس في أمر عظيم من التجسيم واعتقاد أشياء في ذات الحق، هو منزه عنها
وبريء منها»؟ والأمر الثاني الذي أثار حيرة «حي» هو أمر العبادات والمعاملات؛ إذ
رأى في الوحي «اختصارًا» في العبادات إذا قورن بما ورد من «تفصيل» وتطويل في المعاملات.
٣٥
ولقد سبق للمتكلمين أن تناولوا المشكل الخاص بالعبارات التمثيلية أو المجازية، في
القرآن الكريم، في سياق مناقشاتهم لقضية «المحكم والمتشابه»، وهي قضية أثارها
الخطاب القرآني ذاته (آل عمران: ٧). وكانت إجاباتهم تتلخص — رغم اختلاف اتجاهاتهم
وميولهم الأيديولوجية — في أن الحكمة الإلهية اقتضت من وراء ذلك إثارة العقل
الإنساني من أجل تحريكه للاجتهاد تعريضًا للمجتهد لمزيد من الثواب، وتمييزًا له عن المقلد.
٣٦ لكن الخطاب الفلسفي عامة، وانطلاقًا من التقسيم الحاد للبشر إلى خاصة
وعامة، أو إلى «ذوي الفِطَر الفائقة» و«ذوي الفِطَر الناقصة» — إذا استخدمنا عبارة
ابن طفيل — جعل من الوحي مجرد خطاب للعامة يتناسب مع نقص فطرتهم، لكنه يتضمن
«إشارات وتنبيهات» للخاصة والحكماء تمكنهم من تأويل عباراته المجازية والتمثيلية
تأويلًا يكشف الدلالات الحقة المقصودة من ورائها. واعتُبرت هذه التأويلات الكاشفة
عن الحقيقة «محرَّمة» على العامة «مضنونًا بها» على غير الخاصة، سواء كانوا من أهل
البرهان أم من أهل العرفان.
٣٧
هكذا يرحل «حي» مع صاحبه «أسال» إلى الجزيرة التي أتى منها، آملًا أن «تكون
نجاتهم على يديه» بإيضاح الحقيقة وتبيينها لهم. لكنه حين شرع «في تعليمهم وبث أسرار
الحكمة إليهم» وجد منهم انقباضًا واشمئزازًا وسخطًا؛ لأنه، كما يعلل الراوي ببساطة
متناهية، «لم يكن يدري ما هم عليه من البلادة والنقص، وسوء الرأي، وضعف العزم،
وأنهم
كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا»
(الفرقان: ٤٦).
٣٨
وأخيرًا يتحقق «حي» بأن شأن العامة التمسك بالظواهر والركون إلى التمثيلات
والتشبيهات بوصفها حقائق حرفية، فأدرك «أن الحكمة كلها، والهداية والتوفيق فيما
نطقت به الرسل، ووردت به الشريعة، لا يمكن غير ذلك، ولا يحتمل المزيد عليه.»
٣٩ وقبل أن يغادر الجزيرة هو و«أسال» عائدَين إلى جزيرة «حي» توجه إلى
الناس متظاهرًا بالتوبة عن الآراء التي سبق أن أعلنها لهم وأوصاهم بملازمة ما هم
عليه من التزام حدود الشرع والأعمال الظاهرة، وقلة الخوض فيما لا يعنيهم، والإيمان
بالمتشابهات والتسليم لها، والإعراض عن البدع والأهواء، والاقتداء بالسلف الصالح،
والترك لمحدثات الأمور.
٤٠
تلك هي النهاية التي يرسو عليها العقل الكوني للعارف: العزلة والتوحد، والتسليم
للعامة بجهلهم بدلًا من بذل الوسع في تعليمهم؛ وهل يجدي التعليم مع من لا تتقبل
فطرته؟ ولأنهم مفطورون على جهلهم، ومجبولون عليه في شبه «جبرية» صارمة، فما على
العارف إلا أن ينزوي بعيدًا عنهم محققًا خلاصه الفردي في أحضان المطلق، الذي قد
يتشاكل — أحيانًا — مع «مطلق» السلطة. وبهذا ينفرد العارف باستحقاق لفظ «الإنسان»،
أما العامة فهم كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
سَبِيلًا. وهنا تبدو مساحة التراجع واسعة في مفهوم الإنسان في الخطاب
الإسلامي بين القرن الثاني أو الثالث — حيث «العقل»، ومن ثَم القابلية للعلم
والمعرفة، أعدل الأشياء قسمة بين البشر — والقرن السادس، حيث العقل هبة ربانية يختص
الله بها قليلًا من المختارين المصطفَين.
خامسًا: الفقه
في الفقه القانوني عمومًا يكون الإنسان موضوعًا للواجب والممنوع، وكلاهما وجهان
لغاية واحدة: هي منع التصادم بين الإرادات والحريات الفردية. إن الذي يفرض قانون
المباح والممنوع إرادة تعلو على إرادات الأفراد، وهي إرادة المجتمع التي عبر عنها
بعض الفلاسفة بمصطلح «العقد الاجتماعي». لكننا نعرف من علم الاجتماع أن ما يسمى
بالعقد الاجتماعي ليس إلا الشروط التي تفرضها إرادة القوى الاجتماعية المسيطرة
والمهيمنة، أي التي تمتلك أدوات السيطرة والهيمنة، والتي تبدأ من ملكية أدوات
الإنتاج ولا تنتهي عند إنتاج الأيديولوجيا، والقانون أحد أدواتها للسيطرة والحكم
وتسيير شئون المجتمع.
الفقه في تاريخ الفكر الإسلامي هو القانون أو القوانين التي صاغها المجتمع
اعتمادًا على مرجعية النصوص التشريعية التي وردت في القرآن الكريم. لكن النصوص
التشريعية التي تضمنها القرآن تمثل نسبة ضئيلة لا تكاد تتجاوز واحدًا من ستة أجزاء
من مجموع القرآن كله. ومعظم هذه النصوص التشريعية تتناول شئون الأسرة من زواج وطلاق
وميراث، ويتناول بعضها جزئيات من مسائل التعامل التجاري في البيع والشراء، وينصَبُّ
بعضها على أمور العبادات والأخلاق. ولذلك احتاج الفقهاء إلى بلورة وسائل استنباط
واجتهاد دقيقة؛ ليتمكنوا من إقامة بناء قانوني كامل مستمد من النصوص الدينية.
فقاموا أولًا بإدماج القوانين والأعراف والممارسات الاجتماعية السابقة، والتي لم
يتعرض لها الإسلام بالنهي أو التحريم، داخل بنائهم الفقهي، وذلك في إطار «شرع من
كان قبلنا» أو «الاستحسان» أو «المصالح المرسلة» … إلخ. وبلور أهل «الرأي»، ومنهم
الإمام «أبو حنيفة النعمان»، مبدأ «القياس» لتطبيق الأحكام التي وردت بها النصوص
على الوقائع الشبيهة أو المماثلة بوجه من الوجوه للواقعة الأصلية التي ورد فيها
الحكم. وهو المبدأ الذي أقره «الإمام الشافعي» ووضع له الضوابط والشروط، وجعله
مصدرًا من مصادر التشريع يأتي بعد «القرآن» و«السنة» و«الإجماع».
٤١
من الطبيعي في هذا الإطار القانوني أن يكون البُعد الذي يتم التركيز عليه في
مفهوم الإنسان هو بُعد «الطاعة»؛ فالمشرِّع سلطة
عليا مقدسة لا تتطاول إلى مستواها كل السلطات الدنيوية الأرضية. إنه «الله»
المكلِّف، والإنسان هو «المكلَّف» الذي لا خلاص له إلا في الطاعة. وقد ميز الفكر
الفقهي بين ثلاثة مستويات أساسية من الأفعال: «الواجب» وهو الذي يعاقَب الإنسان على عدم فعله، ويقابله «المحرَّم» وهو الذي يعاقَب الإنسان إذا فعله، وما سوى
هذين فهو «المباح»، سواء جاء ذكره في النصوص أو
سكتت عنه، أي إنه مجال يقع خارج التقنين الفقهي ويدخل في مجال «الحريات» الفردية
والاجتماعية. وقد بلغ من دقة الفقه الإسلامي في عصر الازدهار أن أضاف للتقسيم
الثلاثي الأساسي قسمين من الأفعال الاختيارية: أولهما هو «المندوب» وهو الأفعال التي من شأنها أن تقرب الإنسان من فعل
«الخير»، وهي مرغوبة من المشرِّع ويثاب الإنسان إذا فعلها، لكن ليس هناك عقاب على
عدم فعلها. والقسم الثاني هو «المكروه» وهو
الأفعال التي تُغري الإنسان بمقارفة الخطيئة والمعصية، وهي غير مرغوبة من المشرِّع
ويكافأ الإنسان على تركها، ولكن لا يوجد عقاب على فعلها.
ومعنى ذلك أن «الإلزام» إنما يقع على مجالين فقط من المجالات الخمسة المذكورة،
وما سوى هذين المجالين لا يتمتع بأي قدر من الإلزام خارج نطاق «الالتزام» الفردي
الأخلاقي النابع من «التقوى» الباطنية. وفي جميع الأحوال يكون معيار القيمة في
الفقه هو «الطاعة»، وعلى أساسها وحدها تتحدد قيمة الإنسان، بل تتحدد إنسانيته في
المجتمع المحكوم بهذا الإطار القانوني. ورغم أن الفقهاء في العصور الأولى ميزوا
كذلك بين «حق» الله على الفرد والجماعة وبين الحقوق والواجبات المتبادلة بين
الأفراد داخل المجتمع، فإن متأخري الفقهاء قد مالوا إلى الخلط وعدم التمييز بين
«الاجتماعي» و«الديني»، الأمر الذي أفضى إلى «التمييز» بين البشر بسبب الدين. وكانت
النتيجة تلك الأحكام المشددة الغليظة ضد غير المسلمين، والتي ظلت لحسن الحظ مجرد
آراء لم يأخذ المسلمون بها في ممارساتهم العملية؛ فلم يسجل تاريخ المسلمين في
فتوحاتهم وقائع قتل جماعي أو تطهير ديني. لكن الأحكام الفقهية استُخدمت في الغالب
لتصفية الخصوم بعد وصمهم باتهامات «الإلحاد» و«الزندقة» و«الكفر».
سادسًا: الإنسان بين «الفكر» و«الواقع»
من خلال هذ الاستعراض لمفهوم «الإنسان» في الفكر الإسلامي يمكن القول إن الإنسان
الذي احتفى به القرآن والسنة في كثير من نصوصهما قد خضع لتحديدات شتى في مجال
الفكر، فهو الإنسان «المفكر» عند المعتزلة، «العارف» عند الفلاسفة والمتصوفة، وهو
«المكلَّف» المطيع عند الفقهاء. وفي معظم هذه التحديدات غاب الإنسان «الكائن
الاجتماعي» — غير العارف أو غير المطيع — عن هذا الفكر. وهذا هو الذي أدى إلى نفي
غير المسلم وإلى نفي المسلم «غير المطيع». فإذا كان هذا الأخير «عارفًا» تم تصنيفه
«زنديقًا» يستحق الذبح أو الإحراق. فحين ينتقل النص من مثاليته وطوباويته إلى مجال
الفكر تتدخل الانحيازات الفكرية والتعصبات الأيديولوجية لتمارس الإقصاء والاستبعاد.
وحين يمارَس الفكرُ على أرض الواقع الاجتماعي والسياسي تتزايد حدة الاستبعاد
والإقصاء لأسباب سياسية اجتماعية تتخفى وراء مبررات دينية وفكرية.
في السياق الاجتماعي يميل السياسي — المسيطر والمهيمن — إلى استثمار الفكري
لصالحه مستخدمًا كل الوسائل والطرق من الترغيب والترهيب — سياسة الجزرة والعصا —
التي تمارَس في المجتمعات الديكتاتورية بطريقة فذة لتطويع «العارف» وإدماجه في
منظومة السلطة؛ وعن طريقه يَسهُل توجيه العامة إلى سبيل الطاعة والإذعان، ويتمتع
ذلك العارف المطيع بالرضا السامي ويُمنح ألقاب «الإمام» و«الحُجَّة» و«الثقة». أما
إذا استعصى «العارف» على الدخول في حيز الطاعة صار «زنديقًا» عاصيًا خارجًا عن
الملة؛ فاضطُهد وسُجن وعُذِّب وقُتِل صلبًا أو بتقطيع أطرافه، أو يُكتَفى بإحراق
كتبه في أحسن الأحوال. ويمكن هنا الاستشهاد على سبيل المثال لا الحصر بأسماء
«مَعبَد الجُهَني» و«الجَعْد بن دِرهم» و«غَيلان الدِّمَشقي» و«ابن المقفَّع»
و«الحلَّاج» و«السُّهْرَوَردي» و«ابن رشد». كما يمكن الإشارة بالمثل إلى محاولات
التشويه المستمرة حتى الآن لفكر بعض الاتجاهات والفرق الإسلامية التي كانت معارضة
للسلطة الرسمية، مثل «الخوارج» و«الشيعة» و«القرامطة».
إذا انتقلنا من مجال «العارف» و«المعارض» السياسي إلى «الإنسان» العادي، فسوف
نلاحظ فورًا أنه الإنسان الذي أهمل المؤرخون شأنه وأضربوا عن ذكره؛ لأنهم شُغلوا
أساسًا بتاريخ «الرسل والملوك».
٤٢ يقابلنا هذا الإنسان العادي في سياق الأحداث الكبرى في التاريخ كَمًّا
مهمَلًا يشار إليه باسم «العامة» و«الطَّغام» و«الحَشْوية» … إلخ. وينكشف أمر تحقير
الإنسان العادي من طريقة تعامل الحكام معهم؛ فصرخة الخليفة الثاني — عمر بن الخطاب
— في وجه واليه على مصر — عمرو بن العاص — استجابة لشكوى من مصري قبطي: «متى
استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟» لم يكررها الخليفة الثالث «عثمان بن
عفان» حين شكا إليه ممثلو الناس مظالمَ بعض وُلاته، بل وأرسل إلى واليه في مصر
خطابًا يطلب منه فيه أن يؤدب هؤلاء الرعاع. وسواء كان أمر الخطاب معلومًا للخليفة
أم كان مرسلًا من وراء ظهره ودون علمه، فدلالة احتقار السلطة للعامة تظل قائمة
بدءًا من تلك المرحلة.
في عصر الدولة الأموية حاول الحكام بكل وسيلة توظيف العلماء والفقهاء، فقَبِل من
قَبِل ورفَض من رفَض، ودفع ثمن رفضه وحرصه على استقلاله سجنًا وتعذيبًا. وكان
«الخداع الأيديولوجي» سبيلهم إلى السيطرة على العامة. هكذا كانت مقولة «الجبر»
غِطاء دينيًّا وشرعيًّا لتبرير الظلم، وكان الحكم بالرياء على من دخلوا في الإسلام؛
فسقطت عنهم «الجزية»، تبريرًا لاستمرار فرضها عليهم رغم إسلامهم؛ وذلك حتى لا تتأثر
مواردهم المالية وتجف منابع الثراء والأبهة. وضاعت صرخة الخليفة
«عمر بن عبد العزيز»: «لقد جعلنا الله ولاة لا جُباة» سُدًى بعد وفاته. وإذ انبثقت
مقولة «الإرجاء» — أي ترك الحكم على عقيدة الإنسان لله سبحانه وحده يوم الحساب —
ردًّا فكريًّا لمناهضة التأويل الأموي لإيمان الناس واختيارهم الدخول في الإسلام،
سرعان ما تم استيعابها في نطاق أيديولوجيا الدولة؛ فتحول المرجئة من «الثورة» ضد
النظام إلى تبريره، وصار «الإرجاء» امتناعًا عن نقد الظلم والفساد السياسيَّيْن.
٤٣ ولم يختلف الأمر كثيرًا في عصر بني العباس؛ حيث حاول «المأمون» أن يفرض
عقيدة «خلق القرآن» بقوة السيف فقضى على الفكر الاعتزالي، وأفسح المجال لهيمنة
السلفية الحنبلية هيمنة شبه تامة.
وبالتدريج تحول الفكر الإسلامي من أن يكون «صياغة» للواقع وترشيدًا له إلى أن
يكون «تبريرًا» لهذا الواقع بمنحه غطاء أيديولوجيًّا ومشروعية دينية. هيمن نمط
«العارف المطيع» في مجال الفكر والثقافة والأدب في القرن الخامس تقريبًا، وتزايد
دوره في تحويل الفكر إلى غطاء يحجب عن الوعي آليات السلطة في السيطرة والهيمنة
والاستغلال والعنف. هكذا خاض «أبو حامد الغزالي» معارك فكرية لصالح النظام العباسي
على أكثر من جبهة: تأسيس الفكر «الأشعري» تأسيسًا فلسفيًّا، وتقنين التصوف المهادن
المذعن بديلًا للتصوف الثائر المعارض، وتبرير سلطة الخليفة العباسي ضد سلطة عدوه
الشيعي، وعلى الأسس الشيعية ذاتها، وأخيرًا مناهضة محتوى الفكر الفلسفي العقلاني
والحكم بكفر الفلاسفة.
٤٤ بعد ذلك تجمد الاجتهاد، وسيطرت نزعة الشروح والتلخيصات في كثير من
المجالات المعرفية. وتحول الاتجاه الفكري الأشعري الممتزج بالتصوف من كونه مجرد
اتجاه ضمن اتجاهات أخرى عديدة إلى أن يكون هو «العقيدة». وصارت أقاويل الأشاعرة
والحنابلة في أصول الدين تُذكَر في الكتب المتأخرة تحت عنوان «ما يجب اعتقاده ولا
يجوز الجهل به». وهيمن «التقليد» على العقل المسلم؛ فاكتفى بترديد أقوال القدماء
وتَكرارها. وصارت علوم الفلسفة والمنطق من المحرمات؛ فمُنع تعلُّمها وتعليمها،
وانعكس موقف التبعية للماضي، والإذعان لأقاويل القدماء دون فحص أو نقاش، إلى نوع من
«الإذعان» و«التسليم» و«الطاعة» لكل سلطة تتدثر بعباءة القديم أو تحتمي بمظلة
«التراث». وفي هذا الإطار يصبح المعيار الوحيد للإنسان هو «الطاعة»، وهو معيار لا
يترك مجالًا لإنسانيةٍ خارج المعيار، سواء للمسلم فضلًا عن غير المسلم.
سابعًا: الإنسان في خطاب الإسلام السياسي
إن ما يميز حركات الإسلام السياسي عن أصولها السلفية هو قدرتها على الحشد
والتعبئة السياسيتين؛ استثمارًا لفشل كل مشروعات التحديث والتنمية من جهة، وما
تعلنه من وقوفها ضد التبعية في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فضلًا
عن التبعية الثقافية والحضارية من جهة أخرى. ونجاحُها الملموس والبادي في انتشار
أقاويلها بين أوساط شعبية ومهنية، بل بين قطاعات يُعتد بها من النخبة، مردودٌ إلى
تأويلاتها السياسية البرجماتية للعقائد والنصوص الدينية، وتحويل الدين عن وظائفه
الأساسية — الروحية والأخلاقية — ليؤديَ دورَ أيديولوجيا «المعارضة» ضد أنظمة الحكم
القائمة، سعيًا للوصول إلى السلطة. لكن أيديولوجيا التأويل تلك لا تقدم في الحقيقة
بديلًا فعليًّا يتجاوز بالوطن أزمتَه أو بالأمة تخلُّفَها؛ لأنها تستمد مقولاتها
الأساسية من الفكر السلفي في عصور الانحطاط.
يكفي هنا أن نشير إلى مقولة «الحاكمية»، التي تعني ضرورة الاحتكام إلى الشريعة —
سواء في أصولها النصية في القرآن والسنة، أو في اجتهادات الفقهاء من مدرسة «أهل
السنة» بصفة خاصة — في كل تفاصيل الحياة وجزئياتها، على مستوى الفرد والمجتمع. وتلك
المقولة كما هو واضح تستبعد من مجال تنظيم الحياة الإنسانية أي مرجعية أخرى سوى
مرجعية الفقهاء والوعاظ؛ فهم وحدهم الذين يوجهون شئون الاقتصاد والسياسة والثقافة
والفكر والفن … إلخ. والوصول إلى السلطة السياسية هو السبيل الوحيد لاستقرار هذه
المرجعية في موقعها؛ لأن «الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» بمعنى أن القرآن
وحده ليس كافيًا، ولا بد من سلطة تفرض على الناس الالتزام بتعاليمه وتوجيهاته. هكذا
تنكشف مقولة «الحاكمية» عن نفس محاور الفكر السلفي في عصر الانحطاط، وهي: «الإذعان»
و«التسليم» و«الطاعة». ويحاول الخطاب الديني السياسي جاهدًا أن يصوغ هذه المحاور
صياغة مضللة، بحيث تتضمن دلالة مزدوِجة: الإذعان والتسليم والطاعة للمشروعية العليا
الأسمى — العبودية لله سبحانه وتعالى — و«الثورة» و«التمرد» ضد السلطة السياسية
التي لا تحكم بما أنزل الله. ويساعد تفشي الوعي الزائف الناتج عن مناخ من الغياب
الطويل للحريات، ولحرية التفكير والتعبير بصفة خاصة، على انزلاق ذلك التأويل المضلل
في الأدمغة واستقراره فيها.
في سياق هذا المشروع السياسي المسلح بمقولات ومفردات دينية، ما هو مفهوم
«الإنسان»؟ يمكن بالطبع لأي ممثل من مفكري هذا المشروع أو من كُتَّابه أن يجيب عن
هذا السؤال باستدعاء النصوص القرآنية والأقوال والممارسات النبوية، أي باستدعاء
المثالي والطوباوي.
٤٥ لكن الممارسة الفعلية لممثلي هذا المشروع السياسي على صعيد المعارك
الفكرية والاختلافات السياسية، والتي يخوضونها بفتاوى التكفير واستحلال الدماء أو
السعي للتفريق بين المرء وزوجه، تؤكد وجود فجوة واسعة بين «النصوص» التي يستدعونها
وبين فتاويهم وأحكامهم. والأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها أكثر من أن تحصى: شهادة
المرحوم الشيخ «محمد الغزالي» في محاكمة قتلة «فرج فودة»، والذي اغتالته بعض عناصر
الجناح المسلح في شهر يونيو ١٩٩٢م؛ وذلك بناء على بيان «لجنة علماء الأزهر» بأنه
علماني كافر. ذهب الشيخ الغزالي في شهادته إلى أن من لا يرى ضرورة تطبيق الشريعة
الإسلامية يُعتبر «مرتدًّا»، وأن الحكم عليه هو «القتل» إذا استُتيب ولم يتب، وأنه
إذا لم يقم أولو الأمر بتطبيق هذا الحد على المرتد فمن حق أي مسلم أن يطبقه ولا
عقاب له في شرع الله. وقد حاول أحد الكتاب المدافعين عن مقولات ذلك المشروع
السياسي، إن حقًّا وإن باطلًا، أن يجد للشيخ مخرجًا من «الورطة» التي عرَّت أكذوبة
«الاعتدال» المزعومة؛ فراح في مقالته الأسبوعية يميز بين مقام «الفتوى» ومقام
«الشهادة» في محاولة يائسة لستر عورة الخطاب المتطرف المتعصب.
إذا كان هذا هو الموقف من المسلم الذي يجاهر بإسلامه ويعلنه، فإن الموقف من غير
المسلم تسيطر عليه نزعة الاستعلاء، إن لم نقل التحقير والازدراء. وليس بعيدًا عن
الذاكرة نصائح دكتور العلوم الزراعية «عمر عبد الكافي» للمسلمين بعدم إظهار البشاشة
والمودة للأقباط، والامتناع عن مشاركتهم الاحتفال بأعيادهم ولو بالتهنئة. وقد حاول
البعض أن يجد تأويلًا أو تبريرًا لتلك الفتاوى الخطرة على نسيج الأمة في حاضرها
ومستقبلها؛ ولكن كل مهارته المشهود له بها في التبرير وقلب الحقائق لم تتمخض إلا عن
ادعاء بأن هذه الأقوال لم تصدر عن صاحبه؛ فعنون مقالته الأسبوعية التي تناولت
الموضوع «شتمك الذي بلغك». ولكن لأن الإنكار كان بمثابة دفن للرءوس في الرمال على
طريقة النعامة، فقد ذهب «عبد الكافي» في صحبة وزير الأوقاف السابق لتهنئة «بابا»
الأقباط في الكنيسة بعيد ميلاد السيد المسيح. وهي زيارة اعتذار في شكل مبادرة، حرصت
أجهزة الإعلام على إبرازها؛ لتبرئة الدولة ممثلة في نظامها السياسي من شبهة
الموافقة على هذا العبث. لكن المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين في مصر — مصطفى
مشهور — فاجأ الناس جميعًا وصدم الشعور العام المسلم قبل القبطي بتَكرار الموقف
الفقهي القديم باستبعاد غير المسلمين من «الجيش» والخدمة العسكرية في «الدولة
الإسلامية» التي يسعى الإخوان لإقامتها. وتبرير ذلك عنده الخشية من أن ينحاز غير
المسلمين — الأقباط في مصر مثلًا — إلى الأعداء إذا كانوا من نفس دينهم. وهو تبرير
يشكك في الانتماء الوطني للأقباط لا لشيء إلا لتسويغ دفع «الجزية»، ثمنًا لتكفل
«جيش» المسلمين بحمايتهم.
وإذا تجاوزنا هذه المواقف الحدية الصارخة إلى المواقف التي توصف عادة بالاعتدال
بل و«الاستنارة»؛ فسنجد «يوسف القرضاوي»، مثلًا، يدافع عن وصف المخالفين في العقيدة
بأنهم «كفار»، نافيًا عن هذا الوصف أنه «تطرف» أو «تعصب»، قائلًا: «وقد رأينا من
يرى أن اعتبار الآخرين من غير المؤمنين بدينه كفارًا تعصُّبٌ وتطرُّف، مع أن أساس
الإيمان الديني أن يعتقد المؤمن أنه على حق وأن مخالفه على باطل ولا مجاملة في هذه الحقيقة.»
٤٦
كانت هذه مجرد أمثلة تُغني عن كثير مثلها، كلها تدل على عمق الهوة واتساعها بين
أيديولوجيا الإسلام السياسي وبين النصوص الدينية التي يزعم الاستناد إليها. من هنا
يمكن القول إن آليات الإقصاء والاستبعاد والقمع، سواء للمخالف في العقيدة أو للمسلم
المعارض لأيديولوجيا الإسلام السياسي، ليست من خصائص الدين والعقيدة بقدر ما هي من
خصائص الفكر وآلية من أشد آلياته خطرًا. إذا عدنا للإسلام ذاته في نصوصه الأساسية
تدهشنا قدرة ذلك الخطاب الديني على التزوير والتزييف من أجل التوجيه السياسي
والتوظيف الأيديولوجي للدين؛ إذ ليس في الإسلام عقوبة دنيوية للمرتد. إن الإسلام
الذي أطلق الحرية للإنسان في اختيار الإيمان أو الكفر يتناقض مع ذاته تناقضًا
منطقيًّا لو اعتبر اختيار الإنسان الإيمان أو الإسلام بمثابة النهاية لحقه الأصلي
في الحرية. أيُّ حرية تلك التي تحصر حرية الإنسان في اختيار وحيد، هو التخلي عن
الحرية؟
وإذا كان اتهام «العلمانية» في بيان «لجنة علماء الأزهر» هو الذي برر قتل «فرج
فودة»، وهو أيضًا الذي برأ قاتليه من المسئولية في شهادة الغزالي، فإن شيخ الأزهر
السابق — وهو أعلى سلطة دينية رسمية لا في مصر وحدها بل ربما في العالم الإسلامي
كله — أعلن في خطبة من خطبه أنه «لا مكان للعلمانيين في أرض مصر»، وهي عبارة يرددها
أحيانًا بعض المسئولين في الدولة وبعض قيادات الحزب الحاكم. هذا الإقصاء للعلمانية
والعلمانيين من حيز «الوطن» و«الوطنية» يعتمد أيضًا على آلية الخداع والتزوير
والتضليل، التي توجد بين «العلمانية» و«الكفر» ولا ترى فيها إلا معاداة الأديان.
وإذا كنا نفخر جميعًا بأن الإسلام لا يقر الكهنوت ولا يعطي لرجل الدين سلطة على
رقاب الناس؛ فأي دين أقرب للعلمانية من هذا الدين؟! وأي كهنوت أبعد عن الإسلام من
السلطة التي يسعى إليها ممثلو هذا الخطاب؟! إن هذا الخطاب يُفضي من هذه الزاوية
بالضرورة إلى إقصاء أقباط مصر لأنهم «علمانيون» يؤمنون بفصل الكنيسة عن السياسة
وشئون الحكم والسلطة. هكذا يَضمُر مفهوم «الإنسان» في خطاب الإسلام السياسي ويتضاءل
وينحصر في «المسلم» المستسلم المذعن والمنطوي تحت جناح التأويلات السياسية النفعية
للدين والعقيدة. وهكذا تتباعد المسافات، وتتعمق الاختلافات، بين «مثالية» النصوص
الدينية من جهة، وبين «واقع» الفكر الديني بشقيه الرسمي والمعارض من جهة
أخرى.
ليست هذه الفجوة بين «المثال» و«الواقع» في تصور الإنسان، أو في التعامل معه،
ظاهرة إسلامية بقدر ما هي ظاهرة إنسانية كما أشرنا في المقدمة. وانتهاك حقوق
الإنسان في كل مكان في العالم، رغم وجود وثيقة إعلان حقوق الإنسان منذ أكثر من نصف
قرن، هو الذي استدعى قيام منظمات حقوق الإنسان لكشف هذه الانتهاكات والتنبيه عليها.
وفي العقود الأخيرة من هذا القرن تنامي هذا الانتهاك وتصاعدت حدته حتى وصل إلى حد
حروب الإبادة، فضلًا التدخل السافر من جانب قوى الهيمنة والسيطرة الدولية للتحكم في
مصائر الشعوب وفرض الحكومات عليها باسم حماية حقوق الإنسان، وهو أمر مضحك ومخجل في
الوقت نفسه. ولأن «الأصولية» صارت نزعة كونية بتجلياتها الدينية والعرقية
والثقافية، وهي في مجملها نزعة تحصر مفهوم «الإنسان» في بُعد عنصري، فإن واجب
المفكرين والمثقفين والأدباء والفنانين — على اختلاف انتماءاتهم وأيديولوجياتهم —
أن يقاتلوا، كلٌّ منهم بأداته الخاصة، هذه «العنصرية» التي تكاد تلتهم العالم كله.
هذا بالإضافة إلى بلورة مفهوم للإنسان الذي لا يكتسب إنسانيته من الانتماء إلى عرق
أو جنس أو ثقافة بعينها، أو من انتمائه إلى طبقة بالمعنى الاقتصادي أو الاجتماعي أو
السياسي. وليست هذه مهمة سهلة؛ فالعوائق الثقافية والحواجز اللغوية قائمة، ورجال
السياسة والاقتصاد يعززون هذه العوائق والحواجز عن طريق حماية بعض التجمعات البشرية
من التفاعل مع تجمعات أخرى «أدني»، وذلك بإقامة «أسوار» حديدية مانعة بأسماء وشارات
عديدة. ولو كانت هذه التجمعات تحصر أهدافها في حدود التآلف السياسي والتعاضد
الاقتصادي لكان ذلك مرغوبًا، لكن هذه التجمعات تتحول إلى عوائق ثقافية وحواجز فكرية
تعوق إمكانيات التفاهم المشترك.
ولعل نقطة البداية تكون في البدء بفهم الذات ثقافة ولغة، ثم التحرك لفهم الآخرين
وتقييم ثقافتهم في إطار إنجازاتها في سياقها التاريخي الاجتماعي، دون أن تُفرض
عليها معايير «تقييم» من نسق ثقافي آخر يتصور نفسه أسمى وأرقى وأعلى. وبعبارة أخرى،
فإن من مهام المفكرين والمثقفين أن يؤكدوا استقلالهم برفض آليات الاستبعاد والإقصاء
التي يمارسها الاقتصاديون ورجال السياسة، وذلك من أجل خلق مجال للتفاهم والتعاون
المشترك بينهم بصرف النظر عن الانتماء القومي أو العرقي أو الثقافي أو اللغوي. وليس
في هذه الدعوة للقاء المثقفين والمفكرين في العالم كله حول أسس تعاون وتفاهم مشترك
أي محاولة لإلغاء عناصر الخصوصية في كل ثقافة؛ لأن عناصر الخصوصية تلك، إذا لم
يُخضِّبها التعاون والتفاهم المشترك، تتحول إلى «طائفية» تؤدي إلى الاستبعاد
والإقصاء بكل النتائج المعروفة. هذا التعاون والتفاهم من شأنهما أن يصهرا العوائق
والحواجز التي تكبل مفهوم الإنسان في إطار مغلق، إذ ينفتح مفهوم الإنسان ليستوعب كل
البشر، بصرف النظر عن أي اعتبار آخر.