الفصل الرابع

المرأة والأحوال الشخصية

(نموذج الخطاب التشريعي التونسي)

القانون التونسي بين العلمانية المفترضة وجذور التراث الإسلامي

من أهم ركائز أطروحات ما يُطلق عليه اسم «الصحوة الإسلامية» في عالمنا العربي الادعاء بأن النخبة الحاكمة التي قادت حركات الاستقلال السياسي قد استسلمت للتأثير الغربي ثقافيًّا وفكريًّا وحضاريًّا. بمعنى أن معركة الاستقلال قد حققت نتائجها على المستوى السياسي الشكلي، في حين تمت إعادة هيكلة المؤسسات الاجتماعية والقانونية والثقافية طبقًا للنموذج الحضاري الغربي. وقد أدى هذا — فيما يرى مفكرو «الصحوة» — إلى نوع من التبعية الأكثر وحشية من التبعية السياسية السابقة. ذلك أن محاولة تحقيق النهضة طبقًا للنموذج الغربي قد أدت إلى إسقاط الهوية الثقافية والحضارية للشعوب العربية الإسلامية، الأمر الذي أدى إلى فشل هذه المحاولات فشلًا ذريعًا ملموسًا على جميع المستويات.

وقد يتم التعبير عن الأطروحة السالفة بطريقة ديماغوجية إعلامية بالقول إن النخبة الحاكمة العربية هي نخبة «عميلة» في الأساس، لأنها حاولت استيراد «العلمانية» الغربية وحاولت فرضها على مجتمعات إسلامية في حقيقتها وجوهرها. وبما أن الإسلام يضاد العلمانية ويلفظها لأنها تقوم أساسًا — على ما يرى مفكرو الصحوة أيضًا — على الإلحاد وتفصم العرى الوثيقة بين الدين والمجتمع، فقد انتهى أمر مشروعات التحديث والتنمية إلى الفشل المحقق. بل يواصلون القول بأن الهزائم التي تتوالى على الأمة العربية والإسلامية تجد تفسيرها في محاولات «العلمنة» التي تتعارض مع هويتنا الثقافية والحضارية.

وللتدليل على مشروعية الأطروحة يستند الإسلاميون المصريون إلى تجرِبة الستينيات — الحقبة الناصرية — ويتهمون عبد الناصر بالعلمانية والعمالة ومعاداة الإسلام والمسلمين. ويستند الإسلاميون التونسيون إلى تجرِبة بورقيبة في تونس. ويستشهدون بكثير من الوقائع الدالة على معاداته للرموز الإسلامية، مثل هجومه الساخر على الزي الإسلامي ومجاهرته بالإفطار في شهر رمضان … إلخ.

وليس من مهمتنا هنا مناقشة مدى صحة هذه الأطروحة، ولا الدفاع عن عبد الناصر أو بورقيبة. ويكفينا هنا محاولة اكتشاف مدى «العلمانية» المنسوبة إلى نظام بورقيبة، وذلك من خلال تقديم قراءة تحليلية محايدة قدر الإمكان لقانون الأحوال الشخصية في تونس لنرى مدى بُعده — أو قربه — من اجتهادات فقهاء المسلمين في مجال الشريعة.

ويتحدد القرب — أو البعد — من خلال حصر المتغيرات اللافتة للانتباه في قانون الأحوال الشخصية الصادر عام ١٩٥٧م، والذي بُدئ العمل به في شهر يناير من نفس العام. وكذلك بعض الإضافات الصادرة بالقانون ٤٦ لسنة ٦٤ الخاصة بالولاية والتبني من جهة، والمتعلقة بضرورة تقديم شهادة طبية بالخلو من الأمراض قبل الزواج من جهة أخرى. والمتغيرات التي سنتوقف أمامها تحديدًا هي تلك الخاصة بوضع المرأة من حيث عَلاقتها بالرجل من جهة ومن حيث تكييف دورها الاجتماعي ومكانتها الاقتصادية من جهة أخرى.

وليس التوقف عند المتغيرات الخاصة بالمرأة في قانون الأحوال الشخصية مجرد اختيار عشوائي، بل هو اختيار لمنطقة ذات حساسية خاصة في الهيكل الاجتماعي. وبحكم حساسية هذه المنطقة فإن الأحكام المتعلقة بها تكون كاشفة أكثر من غيرها لمؤشرات الحركة في السيرورة الاجتماعية. بمعنى أن القوانين والأحكام المحدِّدة لوضع المرأة ومكانتها تكشف أكثر من غيرها عن مدى تحقق «حقوق الإنسان» في المجتمع المعنِي. وهذا هو المؤشر الأكثر صدقًا لتحديد مدى «تقدم» المجتمع. لا عبرة هنا إذن بالشعارات، ولا بالقصائد والأغاني والأناشيد، ولا باحتفالات عيد الأم أو عيد الأسرة، ولا بالخطب السياسية أو الدينية أو الحزبية التي قد يكون بعضها كاشفًا عن موقف جزئي متقدم هنا أو هناك.

والمتغيرات الملحوظة في القانون المشار إليه يمكن تعدادها كالتالي:

  • (١)

    منع تعدد الزوجات. وكل من تزوج وهو في حالة الزوجية وقبل فك عصمة الزواج السابق يعاقب بالسجن لمدة عام وبخطية (غرامة) قدرها مائتان وأربعون ألف فرنك، أو بإحدى العقوبتين (ولو أن الزواج الجديد لم يُبرَم طبق أحكام القانون) (أضيفت العبارة الأخيرة في التعديل بالقانون ٧٠ المؤرَّخ في يوليو ١٩٥٨م).

(المادة الرابعة من الكتاب الأول: الفصل ١٨.)
  • (٢)

    في المادة السادسة، الفصل ٢٣ يحدد القانون واجبات الزوج في الإنفاق على الزوجة ورعايتها، ولكنه يضيف هذه الإضافة التي نراها مهمة: والزوجة تساهم في الإنفاق على العائلة إن كان لها مال.

  • (٣)

    في الفصل ٣٠ من الكتاب الثاني الخاص بالطلاق يسلب القانون الزوج حق الطلاق الحر: لا يقع الطلاق إلا لدى المحكمة. وهذا الطلاق إما أن يقع بالاتفاق بين الزوجين أو بناء على طلب أحدهما. وفي الحالة الثانية لا بد من تعويض الطرف الآخر. وبخصوص المرأة المتضررة من الطلاق يجري تعويضها بجِراية (بنفقة) تُدفع لها بعد انقضاء العدة مشاهرةً، وبالحلول على قدر ما اعتادته من العيش في ظل الحياة الزوجية بما في ذلك المسكن. هذه الجراية قابلة للمراجعة ارتفاعًا وانخفاضًا بحسب ما يطرأ من متغيرات. وتستمر إلى أن تُتوفَّى المفارَقة (المطلقة) أو يتغير وضعها الاجتماعي بزواج جديد أو بحصولها على ما تكون معه في غنًى عن الجراية. وهذه الجراية تصبح دَينًا على التركة في حالة وفاة المفارِق. وتُصفَّى عندئذٍ بالتراضي مع الورثة أو عن طريق القضاء بتسديد مبلغها دفعة واحدة يراعى فيها سنها في ذلك التاريخ. كل ذلك ما لم تَختر التعويض لها عن الضرر المادي في شكل رأس مال يُسنَد لها دفعة واحدة.

  • (٤)

    في قوانين الحضانة (الكتاب الخامس) ينص الفصل ٥٥ على «جواز امتناع الحاضنة من الحضانة ولا تُجبر عليها إلا إذا لم يوجد غيرها.» ومن السهل أن نفترض هنا أن إطلاق اسم الحاضنة يشمل الأم، فلا تجبر على حضانة الطفل إلا إذا امتنعت الحاضنات. وفي الفصل ٥٩ بشأن عدم جواز حضانة حاضنة على غير دين الأب — إذا لم يُتِم المحْضُون الخامسة من عمره — يستثني القانون «الأم» من عدم الجواز هذا، هذا الاستثناء يؤكد — أو يفيد — قراءتنا للفصل ٥٥ على أساس أن كلمة «حاضنة» تشمل الأم.

  • (٥)

    في مسألة إثبات النسب (الكتاب السادس) تنص المادة ٦٨ أنه «يثبت بالفراش (المعاشرة الزوجية) أو بإقرار الأب أو بشهادة شاهدين من أهل الثقة.» وما دمنا بصدد الشهادة فمن الضروري الإشارة إلى المادة رقم ٤ من الباب الأول (الحالة المدنية) في التعديل المشار إليه بأنه «يُشترط في الشاهد — في أي من الحالات المدنية أو الشخصية — أن يكون قد بلغ سن العشرين، ولا فارق بين الذكر والأنثى في الشهادة.»

(١)

تلك هي أهم المتغيرات الملحوظة في قانون الأحوال الشخصية التونسي، ولعل أهم تلك المتغيرات من منظور الذين يطالبون بتطبيق أحكام الشريعة تطبيقًا حرفيًّا أمران: الأول منع تعدد الزوجات، والثاني جعل الطلاق مرهونًا بحكم القضاء لا مرتهنًا بإرادة الزوج.

ويستند دعاة تطبيق أحكام الشريعة في اعتراضهم على الأمرين السابقين إلى أن القانون «يحرم ما أحل الله»؛ فإذا كان الله قد أباح تعدد الزوجات في قوله تعالى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فإن تحريم هذا المباح ومنعه يُعَد مناهضة لشرع الله. أما اعتراضهم على البند الثاني الخاص بجعل الطلاق مرهونًا بحكم القضاء فسنعود إليه بعد مناقشة هذا الاعتراض.

ولا سبيل أمامنا الآن لمعرفة الأسانيد والأدلة الشرعية التي استند إليها المشرِّع التونسي حين وضع مادة تحريم تعدد الزوجات، أو بالأحرى منعه. وهل يمكن أن يكون قد استند إلى بعض القواعد الفقهية الخاصة بالمصالح المرسلة أو «درء المفاسد» أو «الاستحسان» … إلخ؟ وفي هذه الحالة يمكن لدعاة التطبيق الحرفي للشريعة أن يدخلوا في سجال عنيف حول معاني تلك القواعد الفقهية ومجالات تطبيقها. بل يمكن لهم أن يدَّعوا أن «تعدد الزوجات» من المباحثات المنصوص عليها والتي لا يمكن أن تُعارَض بأي قاعدة من تلك القواعد الفقهية. ويبدو أن مسألة «تعدد الزوجات» تمثل عند بعض الاتجاهات السلفية — وخاصة في السعودية — أمرًا إيمانيًّا يقترب من حدود السنن الواجبة الاتباع، بل يرى البعض أنها من السنن التي أوشكت أن تندثر أو تموت — بحكم تعقد مسئوليات الحياة واستحالة الكفالة الاقتصادية لأكثر من أسرة بالطبع! — وأن واجب المسلم الحقيقي الحفاظ عليها وإحياؤها. ويبالغ البعض إلى حد الزعم بأن اختبار مدى إيمان المرأة/الزوجة ومدى صلابته يتحدد من خلال مدى قبولها — عن طيب خاطر — أن تشاطرها امرأة ثانية الزواج من زوجها، وربما ثالثة ورابعة.

وأيًّا كانت الحجج والأسانيد التي يمكن للمشرع التونسي أن يقدمها سيجد السلفي مجالًا للطعن فيها. ويكفي هنا أن يثير مبدأ «لا اجتهاد فيما فيه نص» فينتهي النقاش، ويمتلئ السلفي زهوًا بلذة الانتصار. لن يفُتَّ في عضُد السلفي هنا أن نقول له: ولكن عمر بن الخطاب تخطى حكم النص في عام الرمادة ولم يقطع أيدي العبدين اللذين سرقا سيدهما، بل وتَهدَّد السيد بأن يقطع يده هو إن عادا للسرقة. فعل عمر بن الخطاب ذلك والنص موجود قطعي الدلالة، فكيف أباح لنفسه الاجتهاد؟! وغاية ما يمكن للسلفي أن يرد به أن عُمرَ صحابي جليل، كان الوحي ينزل موافقًا لرأيه، وأن اجتهاده اعتمد — ولا بد — على قرائن وشواهد تجعل الحادثة غير واقعة تحت حكم النص.

وعلى أية حال لن يفيدنا السجال مع السلفي الحَرْفي، لأنه يحمل عقلًا لا يقبل النقاش أساسًا وربما يكفينا هنا — من باب أداء الواجب ليس إلا — أن نكشف له عن الحكم الحقيقي للنص في مسألة «تعدد الزوجات» تلك. وليس يعنينا هنا أن يكون ما نطرحه قد دار في عقل المشرع التونسي أم لم يدُرْ، ذلك أن القضية أهم من نص قانوني قد يتغير بين لحظة وأخرى في سياق الانقلابات السياسية والفكرية في العالم العربي. ونبدأ بالنص الذي يبيح تعدد الزوجات من منظور السلفي: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. وسيدور نقاشنا حول هذا النص في محاور ثلاثة:

(١) المحور الأول: سياق النص ذاته، والسؤال هو: لماذا يتمسك السلفيون الحَرْفيون بدلالة النص متجاهلين دلالة: «أو ما ملكت أيمانكم»؟! لماذا يتم تغييب إباحة معاشرة «ملك اليمين» مع أنها منصوص عليها بنفس الدرجة من الوضوح والقطع؟ الإجابة عن هذا السؤال تكشف للسلفي لا عن تهافت موقفه وضعفه إزاء هذا النص فقط، بل عن تهافته وضعفه في رؤيته للحياة بشكل عام، ناهيك بالنصوص الدينية. إن السلفي في الحقيقة لا يُغيِّب دلالة «ملك اليمين» عامدًا متعمدًا، بل إنه لا يكاد يرى هذا «الغياب» الذي فرضته سيرورة الحياة وتطور الواقع الإنساني من خلال نضال البشر من أجل استعادة حريتهم التي ارتهنها بعضهم في سياق نظام اقتصادي اجتماعي قديم. السلفي لا يكاد يحس هذا «الغياب» لأنه يرفض السيرورة والتطور ويعيش خارج التاريخ.

هذا «الغياب» يبرز لنا — ولاحظ المفارقة — ما هو غائب في وعي السلفي: أعني تاريخية النصوص الدينية، بما هي نصوص لغوية، وبما أن اللغة نتاج بشري اجتماعي ووعاء لثقافة الجماعة. وحتى يطمئن عقل السلفي نؤكد له أن الكلام الإلهي — القرآن — فعل تاريخي، حدَثٌ تحقق في التاريخ وارتهن بعقل المخاطبين وبطبيعة الواقع الاجتماعي والثقافي الذي تحقق فيه. ولا علينا أن يتمسك السلفي بأساطير الكلام الأزلي القديم المدون بأحرف أسطورية كل حرف منها يشبه جبلًا أسطوريًّا آخر — اسمه جبل قاف — يحيط بالأرض من أقطارها كافة. لا علينا لأن تاريخية الكلام الإلهي أمر لا يحتاج لدليل من خارج التاريخ ذاته. هل ثمة دليل من داخل النص أبرز من «غياب» حكم «ملك اليمين» لأن الظاهرة ذاتها تجاوزها التطور الاجتماعي للبشر؟!

إن إباحة «التعدد» حتى العدد ٤ يجب أن تُفهَم وتُفسَّر في سياق طبيعة العَلاقات الإنسانية — وخاصة عَلاقة المرأة بالرجل — في المجتمع العربي قبل الإسلام. في هذا السياق سنرى أن هذه الإباحة كانت تمثل «تضييقًا» لفوضى امتلاك المرأة وارتهانها، وخاصة إذا كانت من الطبقات الدنيا داخل القبيلة. والشواهد الكاشفة عن تردي وضع المرأة يمكن استشفافها من كثرة الأحكام الواردة بهذا الشأن في القرآن، وخاصة أحكام الزواج والطلاق والعِدة والنفقة والميراث … إلخ. ولماذا نذهب بعيدًا والرسول نفسه تزوج بأكثر من أربعة، ولا يستطيع مسلم اليوم أن يتزوج بأكثر من أربعة اقتداء بسنة النبي. والقول بأن إباحة الزواج بأكثر من أربعة حكم خاص بالنبي دون سائر المسلمين لا يتعارض مع كون ذلك السلوك كان هو السلوك الشائع قبل الإسلام بأشكال مختلفة وتحت مسميات متعددة. في هذا السياق نرى أن تحديد العدد بأربعة يمثل — تاريخيًّا — نقلة في طريق تحرير المرأة من الارتهان الذكوري. وهي نقلة تكتسب أهميتها من مجمل التشريعات الخاصة بالمرأة في النصوص الإسلامية. وبما هي نقلة نحو التضييق، فإن حصر الزواج في امرأة واحدة بعد خمسة عشرة قرنًا من تطور البشرية يُعَد نقلة طبيعية في الطريق الذي بدأه الإسلام. يتأكد هذا القول من المحور الثاني في مناقشتنا للنص الحالي.

(٢)

في هذا المحور نضع النص في سياق القرآن كله، بعد أن حاولنا في المحور السابق مناقشته في سياقه الداخلي. ووضع النص في سياقه الأوسع يكشف لنا عن بعد مهم من أبعاد الدلالة، هو البعد المضمر أو «المسكوت عنه» في الخطاب. في نصوص أخرى يتحدث القرآن عن نفس القضية — قضية الزواج والزوجات — فيقول: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً. هذا النص يؤكد استدلالنا في المحور السابق عن طبيعة الحركة التي يحدثها النص في وضع المرأة في الواقع الذي يخاطبه الوحي. لكن الآية التالية — في نفس الموضوع — تحسم الموقف تمامًا وتكاد تلغي «التعدد» الذي يتمسك به السلفي: وَلَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ. إن دلالة الآية بحسب منهج التحليل اللغوي يعني نفي العدل بين النساء — في حالة التعدد — نفيًا مطلقًا. يتبدى هذا من خلال بناء الجملة الشرطي أولًا، ومن خلال استخدام أداة الشرط «لو» ثانيًا؛ وهي الأداة التي تفيد امتناع وقوع الجواب لامتناع وقوع الشرط. ومعنى هذا التركيب أن الحرص على العدل — مجرد الحرص — لن يقع، وعلى ذلك يمتنع وقوع الجواب «العدل» امتناعًا كليًّا. لكن الأهم في التركيب القرآني للآية بدؤها بأداة النفي «لن» التي تفيد التأبيد، أي نفي حدوث الحدث في الحاضر وفي المستقبل معًا، هذا بالإضافة إلى تقديم جواب الشرط المنفي على فعل الشرط المنفي هو أيضًا بالأداة «لو». نحن إذن إزاء حالة من النفي المركب على مستوى الدلالة، نفي إمكانية العدل بين النساء نفيًا أبديًّا، بل نفي محاولة الحرص على تحقيق هذا العدل.

هذا النفي المركب المعقد للعدل في حالة تعدد الزوجات، إذا أضفنا إليه أن «العدل» مبدأ من المبادئ الجوهرية في الإسلام. يعني أن ثمة تعارضًا — من وجهة نظر القرآن — بين «المبدأ» وبين الحكم بالإباحة. والحكم لا يرقى إلى مستوى المبدأ؛ ذلك أن الحكم حدث جزئي نسبي مرتهن بشروط متغيرة بالضرورة، وهذا ما أثبتناه في المحور السابق، حين قلنا إن إباحة التعدد كانت في الواقع «تضييقًا» يمثل نقلة — مجرد نقلة — في وضع المرأة في ذلك الواقع الاجتماعي الذي خاطبه الوحي. وإذا تعارض الحكم مع «المبدأ» فلا بد من التضحية بالحكم. هكذا يكاد القرآن — في تطور سياقه الداخلي — يحرم بطريقة ضمنية — أو بدلالة المسكوت عنه — تعدد الزوجات.

(٣)

وهنا ننتقل إلى المحور الثالث والأخير من محاور مناقشتنا للنص الخاص بتعدد الزوجات. وهو محور منطقي مبني على المحورين السابقين ومؤكد لهما في نفس الوقت. إذا كانت إباحة التعدد هي في الواقع «تضييق» لتعدد أوسع سابق على حكمها، فإن اسم «الإباحة» لا ينطبق عليها. إن التقييد والتضييق أحكام تُعَد بمثابة إعادة صياغة قانونية لأوضاع لم تعد ملائمة للواقع الاجتماعي. ومعنى ذلك أن التقييد بأربعة كان صياغة قانونية معدلة لحكم اجتماعي لم يعد ملائمًا لتطور وعي الجماعة، أو لنقُلْ لم يعد ملائمًا لمستوى الوعي الذي أراد القرآن تحقيقه. وإذا انتقلت صفة «الإباحة» عن ذلك الحكم لا يندرج تحت باب «المباحات» في الفقه الإسلامي. وإذا خرج من باب المباح لم يعد إلغاؤه تحريمًا، بل الأحرى القول إن إلغاءه — وقصر الزواج على واحدة — يُعَد بمثابة تضييق آخر رأى المشرع أنه يناسب تطور المجتمع. وسواء كان رأي المشرع مصيبًا أم غير مصيب فالعبرة هنا أن ذلك التضييق لا يندرج تحت باب «تحريم المباح»، أي إنه يخرج من حيز الأحكام الدينية ويدخل في حيز الأحكام المدنية.

لقد صنف الفقهاء المسلمون أحكام الشريعة في خمسة أصناف متقابلة: فالواجب يقابله المحظور، والمندوب يقابله المكروه، وبين الصنفين يقع المباح الذي لا ثواب على فعله ولا عقاب على تركه. وإذا كان «المندوب» مما يثاب على فعله ولا عقاب على تركه. يقابله المكروه الذي لا عقاب على فعله ويثاب المرء على تركه، فإن دائرة العقاب تنحصر في فعل «المحظور» الذي هو المحرمات، وفي ترك فعل الواجبات. ومع التسليم بأن «تعدد الزوجات» حكم يقع في دائرة «المباح»، فإن عدم فعله — ولو بالمنع — لا عقاب عليه بحسب القاعدة الفقهية. ومع ذلك فهذا التقسيم الفقهي لأحكام الشريعة يحتاج في ذاته لإعادة النظر.

لقد وصلنا إلى أن حكم «تعدد الزوجات لا يخضع لمقولة «المباح» الفقهية، لأن كل ما سكت عنه الشرع فهو مباح، وهذا الحكم نوع من التقييد والتضييق لحكم عرفي سابق عليه. وقلنا قبل ذلك إن هذا الحكم يمكن أن يتعارض مع مبدأ أعم وأشمل هو مبدأ «العدل»، وهذا يؤكد أنه حكم نسبي مشروط بشروط مؤقتة، ونريد هنا أن نتوسع في هذه النقطة من أجل مزيد من الإضاءة لمسألة تصنيف الأحكام الشرعية، أو لنقُل الشريعة. نستعير هنا تفرقة عادل ضاهر بين المبدأ والقاعدة والحكم، وذلك في دراسته المهمة جدًّا بعنوان «اللامعقول في الحركات الإسلامية المعاصرة» (مَجلة «مواقف»، العدد ٦٧، ربيع ١٩٩٢م، دار الساقي، لندن). العدالة/الحرية/حق الحياة/السعادة … إلخ من المبادئ العامة، والقواعد أقل شمولًا من المبادئ العامة، «ومن أمثلتها: لا تسرق، لا تزْنِ، لا تشهد بالزور، لا تستغل سواك … إلخ.» القواعد، لا شك، تجد أساسها في المبادئ. وإن الحض على عدم السرقة أو عدم الزنى أو عدم شهادة الزور وما أشبه ذلك يجد مسوغه الأساسي في أن الأفعال التي تحض على عدم فعلها هي إما من النوع الذي يتعارض القيام به مع تحقيق الخير العام، أو يشكل خرقًا لمبدأ العدالة أو أي شيء آخر من هذا القبيل. وإن عدم فعل ما نحض على عدم فعله في القاعدة ليس ذا قيمة كامنة (أي ليس غاية في ذاته) (ص٩٤-٩٥). وإذا كانت القاعدة تستمد مشروعيتها من المبدأ، فإن قيمتها ليست لها في ذاتها، بل في ما تحققه من اتساق أو عدم تعارض مع المبدأ.

وإذا سمحنا لأنفسنا بنقل هذه التفرقة من مجالها الفلسفي إلى مجال الفقه لقلنا إن المقاصد الكلية للشريعة تمثل المبادئ، لكن الذي نعنيه بالمقاصد هنا يجب أن يتجاوز حدود ما وقف عنده الشاطبي مثلًا من الحفاظ على الدين والمال والعقل والعِرض والحياة … إلخ، يجب البحث مجددًا من خلال دراسات عينية وتفصيلية عن المقاصد الكلية التي تُعَد بمثابة المبادئ العامة. في مقابل المبادئ تقف القواعد، التي هي بمثابة «المحظورات أو الواجبات»، في الفقه الإسلامي. وهي تتمثل في القواعد النابعة بشكل مباشر عن المبادئ العامة أو المقاصد الكلية.

لكن، وكما وضع الفقهاء مبدأ: «الضرورات تبيح المحظورات»، قد تتعارض القاعدة مع قاعدة أخرى في موقف محدد. أي قد يؤدي التمسك بالامتناع عن فعل محظور إلى الوقوع في محظور آخر. وهنا لا بد من وضع الموقف المعطى في الاعتبار حتى نصل إلى «حكم» محدد يفرض علينا اتباع قاعدة دون أخرى، أو اختيار محظور دون آخر. هذا «الحكم» الأخير نسبي بالضرورة، ومرتهن بشروط الموقف المحدد، وهو ما يُطلَق عليه في الفقه اسم «الضرورات» التي تجعل المحظورات مباحة.

وهكذا إذا كان الفارق بين المبدأ والقاعدة هو بمثابة الفارق بين الكلي والجزئي، فإن الفارق بين القاعدة والحكم هو بمثابة الفارق بين المحظور والضرورة. وإذا عدنا للمفاهيم المستعارة من عادل ضاهر نجد أن الفارق بين القاعدة والحكم يتمثل في أن الحكم «يقرر ما هو واجبنا الفعلي في وضعٍ معطًى، بينما القاعدة، كما رأينا، لا تقرر سوى واجبنا للوهلة الأولى» (ص٩٥)، والواجب من الوهلة الأولى هو الواجب الذي يتحتم قيامنا به لاعتبار خلقي، هو بمثابة «المبدأ» «ولكن قد يوجد اعتبار خلقي آخر لا يستوجب مع السابق قيامنا بهذا الواجب. إن الواجب للوهلة الأولى إذن هو واجبنا الحقيقي مالم يثبت العكس» (ص١٠٠-١٠١). على أساس هذا التصنيف الثلاثي «المبدأ/القاعدة = الواجب للوهلة الأولى/الحكم» يندرج «تعدد الزوجات» في باب الأحكام، ولا يرقى أبدًا إلى مستوى القواعد، أو واجبات الوهلة الأولى. ومعنى ذلك أن العدل مبدأ عام يجب مراعاته في كل القواعد والأحكام، والحكم مسألة نسبية مرتهنة بشروط خاصة، فهو غير ملزم في كل الأحوال. وحين يكون التمسك به مُلغيًا لمبدأ مهم يسهل التخلي عنه.

لقد أبحرنا بعيدًا جدًّا جدًّا عن استشراف نوايا المشرع التونسي التي ليست مهمة لنا هنا، بقدر ما يهمنا تحديد سلامة التشريع من النواحي النصية والفقهية والمنطقية. وإذا تحققت سلامة التشريع من تلك النواحي الثلاث، انتقل من كونه قانونًا مرتبطًا بواقع اجتماعي وثقافي محدد، وارتقى ربما إلى مستوى «المبدأ»، هذا بصرف النظر — أكرر — عن نوايا المشرع وعن مقاصده، علمانية كانت أم إسلامية.

(٤)

ننتقل الآن إلى مسألة «الطلاق»، ولا أظن أن للسلفي في الاعتراض على هذا التشريع أسلحة نصية من النصوص الأساسية في الإسلام. أعني ليس لديه نصوص يستند إليها تحدد كيفية وقوع الطلاق. إنها مسألة مدنية تنظيمية في الأساس. وكما أن قوانين «عقد» الزواج قد تطورت — مع تطور بنية المجتمع — من مجرد الإعلان وصيغة التزويج الشفاهية إلى «التوثيق» التحريري في السجلات والوثائق. فإن تنظيم مسألة الطلاق — بجعلها أمام القاضي — يقع في دائرة التنظيم المدني لأحكام الشريعة. بل هي في الواقع نوع من التنظيم المحقِّق بشكل أفضل لبعض مقاصد الشريعة. وخاصة في مجال الحفاظ على الأسرة، الخلية الأولى في بناء المجتمع.

إن ترك الطلاق لمجرد اليمين يتفوه به الرجل في حالة نزاع مؤقت، أو خلاف عارض مسألة تؤكد بُدائية العَلاقات الاجتماعية على مستوى الأسرة. وهي العَلاقات التي يتحدد دور الزوجة فيها في استرضاء الرجل بكل الوسائل المهدِرة لإنسانيتها، وذلك خشية الغضب المؤدي إلى الطلاق. والطلاق في مثل هذه العَلاقات يُعَد بمثابة السيف المُصْلَت على رقبة المرأة، وخاصة في مجتمعات لم تستطع حتى الآن أن تمنح المرأة حق الحياة مستقلة منفردة عن حماية الذكر، سواء تمثل في الأسرة أو تمثل في الزوج.

وجَعْل الطلاق مرتهِنًا بحكم القاضي يحرر المرأة إلى حدٍّ ما من جحيم الحياة تحت تهديد سيف الطلاق الماثل دائمًا، لكنه وحده ليس كافيًا. لذلك وجدنا المشرع التونسي يجعل الطلاق من حق المرأة كما هو من حق الرجل. وجعل على طالب الطلاق من الطرفين واجب تعويض الطرف الآخر. وهذا معناه أن المشرع ينظر إلى العَلاقة الزوجية من منظور التكافؤ المبني على التعاقد الحر بين طرفين كلاهما حر. هذا الحق لم تنله المرأة في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية، خاصة في مصر. ليس من حق المرأة المصرية أن تطلب الطلاق وتناله في يسر إلا في حالة واحدة هي زواج الزوج من أخرى. باستثناء هذه الحالة على المرأة دائمًا أن تثبت «الاستحالة الشرعية» للحياة الزوجية. وقضايا الطلاق أمام المحاكم المصرية تستمر سنوات لمجرد رغبة الزوج في إيذاء زوجته نفسيًّا وعصبيًّا. قد يثير السلفي هنا اعتراضًا على حق المرأة في الطلاق، أو على سلب الرجل حريته المطلقة في ممارسة هذا الحق، مستندًا إلى النص القرآني الخاص بقِوامة الرجال: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ. لكن هذا الاعتراض يكشف عن بنية وعي السلفي أكثر مما يكشف عن حكم ديني، ذلك أن «القِوامة» شأنها شأن «تعدد الزوجات» وشأن حكم معاشرة «ملك اليمين» تعبير عن وضع تاريخي في عَلاقة الرجل بالمرأة، وهو وضع تجاوزته الخبرة الإنسانية وتطور المجتمعات البشرية. الحياة الإنسانية من زاوية عَلاقة الرجل بالمرأة أضحت قائمة على التكافؤ، وتقسيم العمل أصبح من القواعد الأساسية في تنظيم الحياة. والرجل الذي ينظر لرعاية المرأة لشئون البيت والأطفال بوصفها وظيفتها الأساسية التي لا تجيد غيرها ينظر للحياة من منظور ضيق، فقد أثبتت المرأة كفاءتها للعمل في كل المجالات. في سياق هذا التطور تصبح «القِوامة» أمرًا مشتركًا بين الرجل والمرأة. إنها نوع من توزيع الاختصاصات بينهما، فتكون «القِوامة» للرجل في بعض الشئون، وتكون للمرأة في بعضها الآخر. بل إن بعض النساء في العصور القديمة كانت لهن القِوامة في كثير من الشئون على الرجل. وليراجع السلفي موقف «هند بنت عتبة» زوجة أبي سفيان ومشاركتها في الصراع ضد المسلمين إلى حد اتهام زوجها أحيانًا بالتخاذل والضعف. إن السلفي حين يثير مسألة «القِوامة» للاعتراض على تلك التشريعات إنما يقف في وجه حركة التاريخ كما هو شأن التفكير الجامد.

وكما حرص المشرع على تحقيق مبدأ «التكافؤ» من حيث الحق في طلب «الطلاق»، حرص بنفس الدرجة على ضمان حق «المطلقة» في حياة كريمة من حيث المسكن وتكاليف الحياة. وخيَّرها بين الحصول على «رأس مال» ثابت يضمن لها حياتها، وبين النفقة الشهيرة القابلة للزيادة بحسب حركة الغلاء. بل جعل من حقها ذلك بعد وفاة مطلِّقها بأن يُنتزع من التركة ويُستبعد بطريقة يتفق عليها الورثة فيما بينهم. القانون المصري — فيما أعلم — لا يعطي للمطلقة أكثر من نفقة عام (نفقة المتعة)، تُترك بعدها نهبًا للضياع والتوسل. ومن المؤكد أن المشرع قد راعى في هذه الضمانات لحقوق المطلقة بصفة خاصة واقع المرأة المتردي في المجتمعات العربية. بمعنى أن الحرص على تثبيت عَلاقة التكافؤ بين الرجل والمرأة لم يغفل واقع عدم التكافؤ الاقتصادي بينهما في الواقع الاجتماعي. المشرع هنا حريص على عدم الوقوع في المثالية المفارقة لحدود قوانين الواقع الذي تصوغه القوانين. وحريص في نفس الوقت على أن لا يجعل من الواقع سجنًا تؤيده القوانين وتكرس تخلُّفه وتستسلم لتردِّيه.

من هذا الحرص على التكافؤ اعتبار شهادة المرأة كشهادة الرجل، وأن سن الرشد عند كليهما والمسئولية هو سن العشرين. ولعل لهذه المساواة في الشهادة أن تثير حفيظة السلفي المتزمت الذي يستند في تبريره للدلالة الحرفية للنصوص إلى الواقع الاجتماعي الذي كان يخاطبه النص، متجاهلًا المسافة التاريخية، والتطور الاجتماعي الذي يفصل مجتمعاتنا عن ذلك المجتمع الأول. خروج المرأة للتعليم والعمل أصبح حقيقة يحبها من يحبها، ويكرهها من يكرهها، واكتساب المرأة لشخصية وحضور خاص، أصبح قائمًا حتى في محيط شديد المحافظة. وقد أعطى هذا الحضور للمرأة خبرات لم تتمتع بها المرأة في عصور ما قبل الإسلام، وتمكنت المرأة من الاندماج في الحياة الاجتماعية بمعناها الشامل. وبذلك أصبحت مؤهلة — رغمًا عن السلفي — للإدلاء بشهادتها والمساهمة في صنع الحياة. إن حنان عشراوي تمثل وطنها في الصراع الديبلوماسي الدائر ضد مغتصبيه، ولن يوقف مسيرتها هتاف بعض المتعصبين ضد كونها امرأة، أو ضد كونها مسيحية.

ويبقى السؤال الآن: هل هذا الحرص على عَلاقة التكافؤ بين المرأة والرجل خروج على قواعد الشريعة وعلمنة للمجتمع؟! لا نريد الآن أن نبدو كما لو كنا نتخذ موقف الدفاع عن قانون يبدو ما حققه حتى الآن في هذا المجال جزئيًّا وناقصًا إلى حدٍّ كبير. لكن هذا الناقص والجزئي يثير حفيظة البعض لأنه يريد أن يعود بعقرب الساعة إلى الوراء، وأن يثبِّت حركة الواقع بسلاسل من النصوص والاجتهادات التي عفى عليها الزمن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يبدو هذا الناقص والجزئي متقدمًا إذا ما قورن بما هو قائم في بلدان أخرى عربية وإسلامية.

وكما قلنا من قبل يبدو حرص المشرع التونسي على تأكيد حق المرأة في طلب الطلاق، وفي الحصول عليه، متقدمًا بالنسبة للتشريعات المصرية الحالية. وحتى في حالة النص في عقد الزواج على أن تكون العصمة بيد الزوجة، فمن حق الزوج — طبقًا للقانون المصري — أن يرد الزوجة إذا طلقته، وذلك خلال فترة العدة ودون إذن منها. ومع كل هذه الحقوق الممنوحة للرجل تجعل من كون العصمة في يد الزوجة نكتة سخيفة. وعلى الزوجة التي تريد أن تطلق زوجها أن تتحايل بالسرية والكتمان، وبكل أساليب الدهاء والمراوغة، حتى تمر فترة العدة دون أن يعلم الزوج أنها قامت بتطليقه. المقارنة بين التشريعات المصرية والتشريع التونسي ستكون بلا شك في صالح الأخير. ونفس الحكم يصح على التشريع الخاص بضمان حياة المطلقة بعد طلاقها، بل حتى بعد وفاة طليقها.

كل ذلك حسن، ولكن كل هذه الإنجازات تظل في حدود الناقص والجزئي، بمعنى أنها تشريعات لم تحقق بشكلٍ كافٍ المساواة القائمة على التكافؤ الحقيقي في عَلاقة المرأة بالرجل. في قوانين الميراث — مثلًا — احتفظت التشريعات التونسية بمبدأ «للذكر مثل حظ الأنثيين»، كما منعت البنت الوحيدة من الحجب عن الميراث. ومعنى ذلك أن التشريعات في مجملها تظل واقعة داخل دائرة الاجتهادات الفقهية السلفية، الأمر الذي ينفي عنها صفة العلمانية المفترضة.

(٥)

تبقى من إنجازات التشريعات التونسية — التي لا ندخلها في إطار العلمانية — مجموعة من التشريعات الجزئية التي نود الإشارة إليها ومناقشتها قبل أن نختم هذه المقالة بمراجعة عامة للأطروحة التي يروج لها مفكرو «الصحوة» والتي أشرنا إليها في مفتتح مقالتنا عن علمانية النخبة الحاكمة العربية، خاصة في مصر وتونس.

تتعلق تلك التشريعات الجزئية بمسائل الحضانة — حضانة الطفل — والتبني. وهي مسائل تثير كثيرًا من الخلاف الذي تمتلئ به أروقة المحاكم، وخاصة مسألة حقوق الحضانة وشروطها … إلخ. أما مسألة التبني فهي من المسائل الخلافية الحادة، حيث يرى كثير من العلماء أن التبني مرفوض في الإسلام، وذلك استنادًا إلى ما ورد في القرآن من تبني الرسول لزيد بن حارثة. ويأخذ هذا الفريق من العلماء الآية القرآنية: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وكذلك من الآية: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ دليلًا على تحريم التبني، وعلى مخالفته لقوانين الشريعة الإسلامية، التي تحرص — فيما يزعمون — على الحفاظ على عَلاقات النسب واضحة لما يترتب عليها من أحكام خاصة في مسألة المواريث.

التشريعات التونسية تبيح التبني وتضع له شروطًا تدور كلها حول مراعاة مصلحة الشخص المتبنَّى. من ذلك مثلًا ما تنص عليه المادة ١٤ من جواز أن يحمل المتبنَّى لقب المتبنِّي، وجواز أن يحمل اسمه. ولكن يشترط لذلك أن يتحقق بناء على طلب المتبنَّى نفسه. وبديهي أن إجراءات التبني وتوثيقه يجب أن تتم كلها في المحكمة أمام القاضي. وتجعل التشريعات التونسية المتبنَّى بمثابة الابن وتعطيه نفس حقوق الابن كاملة، وتجعل عليه من الواجبات إزاء الشخص الذي تبناه ما يماثل كل واجبات الابن إزاء الأب. هكذا تنص المادة ١٥ من قانون التبني صراحة أن: «للمتبنَّى نفس الحقوق التي للابن الشرعي وعليه ما عليه من الواجبات. وللمتبنِّي إزاء المتبنَّى نفس الحقوق التي يقرها القانون للأبوين الشرعيين، وعليه ما يفرضه من الواجبات عليهما.»

ومن السهل أن نستنبط من هذه المادة أن الحقوق والواجبات المتبادلة بين المتبنِّي والمتبنَّى تشمل حق الميراث، بما هو حق أقره القانون التونسي ونص عليه نصًّا مباشرًا. ذلك أن عبارة أن لكل منهما «نفس الحقوق التي يقرها القانون» لا بد أن تتضمن «قانون الميراث». ولعل في هذه المادة تحديدًا، وفي شمول الحقوق لحق الميراث، ما يمكن أن يثير اعتراضات حادة، خاصة وقد صيغ الحفاظ على «المال» بندًا من بنود «المقاصد الشرعية» عند الأصوليين، أقصد علماء أصول الفقه.

وقد كانت هذه المسألة تحديدًا — مسألة الميراث — هي محور اعتراض المعترضين على التبني الذي قد يؤدي — فيما يزعمون — إلى أن نورث من لم يورثه الله تعالى في كتابه وشريعته.

ومسألة الميراث بشكل عام من المسائل الشائكة التي تحتاج إلى مراجعة، هي مسألة شائكة لأن الاقتراب منها — وخاصة في فترة التراجع التي تعيشها المنطقة العربية عن مشروع العدل الاجتماعي — يثير كثيرًا من الزوابع ويعرِّض المجتهد لسيل من الاتهامات والتجريح. وليس بعيدًا عن أذهاننا سيل الردود على ما أثاره أحمد بهاء الدين في عموده اليومي بالأهرام (٢٨ /١٢ /١٩٨٨م) من اقتراح الأخذ بالاجتهاد الفقهي الشيعي الذي يكون جائزًا بمقتضاه أن تحجب فيه البنت عن الميراث كما يحجب الذكر في الفقه السني سواء بسواء. وليس بعيدًا عن الأذهان النضال الذي خاضه الإسلاميون في مجلس الشعب ضد الضريبة على التركات حتى تم إلغاؤها. وكان من أهم حججهم في هذا الصدد أن تلك الضريبة تدخل «الدولة» وارثًا ضمن الورثة الذين حددهم الله. وفي هذا ارتكاب لجريمة مخالفة حدود الله. في سياق هذا الدفاع المستميت عن حق «الملكية»، بوصفه أحد مقاصد الشريعة الكلية، لا بد أن تثير مسألة توريث المتبنَّى زوبعة مخالفة أحكام الشريعة.

لقد حاول بعض الباحثين تقديم حلول لمشكلة المواريث في الإسلام، خاصة لما تنطوي عليه من تفرقة بين الذكر والأنثى حيث جعلت نصيب الأنثى نصف نصيب الذكر. لكن لأن الغاية من الاجتهادات كانت محدودة بإطار محاولة إقرار التساوي بين الذكر والأنثى في الإسلام، دار الاجتهاد كله حول تأويل معنى «الحد» في القرآن كله. وانتهى الباحث محمد شحرور في كتابه «القرآن والكتاب: قراءة عصرية، دار الأهالي، دمشق، ١٩٩٠م» مستعينًا ببعض النظريات الرياضية المعاصرة إلى أن «الحد» يمثل حركة بين نقطتين: إحداهما تمثل الأدنى والأخرى تمثل الأقصى. ورتب على ذلك أن توريث الأنثى نصف نصيب الذكر يمثل الحد الأدنى الذي يمكن تحريكه إلى أقصاه وهو حد التساوي. ومعنى ذلك أن نهي القرآن — في هذه المسألة كما في غيرها — عن تعدي حدود الله هو النهي عن تجاوز الحد الأدنى إلى ما تحته، وأن هذا النهي لا ينصرف إلى التحرك من الأدنى لما فوقه حتى نصل إلى التساوي. لكن أي خلاف مع هذا التأويل الرياضي لمفهوم «الحد» — بالتمسك بالدلالة الحرفية للتداول القرآني للفظ — يسقط التأويل كله من الأساس، ويلغي الاجتهاد الناتج عنه، بصرف النظر عن كل النوايا الحسنة المحركة لمثل هذا الاجتهاد.

مثل ذلك الاجتهاد يجابهه تراث طويل ممتد، من الحرص على الدلالات الحرفية للنصوص، بل ومن التمسك بالمغزى الناتج عن مثل تلك الدلالات الحرفية. وليس يُشترط في تلك النصوص المشار إليها أن تكون نصوصًا قرآنية، بل يمكن أن تكون أقوالًا تُنسب إلى النبي قالها في سياق يصعب أن يكون تشريعيًّا. نضرب مثالًا على هذا الضرب من الاستنباط غير المشروع إطلاقًا الفتوى أو الحكم الذي أطلقه الإمام الشافعي بعدم جواز توريث العبيد. يستند الشافعي في حكمه هذا إلى قول للنبي جاء فيه: «العبد وما مَلَك مِلك للمشتري إلا أن يشترط البائع» وهذا قول يدخل في باب أحكام البيع والشراء في المجتمع العربي. حيث كان العبد وكل ما يتعلق به ملكًا لسيده. فإذا باع السيد العبد، فإن كل ما يتعلق بالعبد من أملاك تنتقل بالبيع إلى السيد الجديد إلا في حالة اشتراط البائع غير ذلك. هل كان محمد يضع تشريعًا دينيًّا بهذه العبارة، أم كان يقرر قانونًا من قوانين التعامل السارية في السوق؟! هذا سؤال لم يسأله الشافعي ولم يشغل نفسه به. لأن «كل» أقوال النبي — أكرر «كل» — اعتُبرت من السنن الواجبة الاتباع، دون تفرقة بين أقوال الوحي وأقوال الحديث العادي الجارية.

لكن الشافعي يستنبط من هذا القول عدم جواز توريث العبيد، لماذا؟ يجيب الشافعي لأن الميراث الذي سيئُول للعبد — بحكم الشريعة — سيئُول للسيد بحكم القول السابق؛ ومعنى ذلك أن الميراث سيئول لمن لم يورثه الله في كتابه الكريم. (لاحظ أنه استدلال شبيه باستدلال المعترضين على ضريبة التركات). من المهم أن نلاحظ هنا أن استنباط الشافعي للحكم السالف يخالف مبدأ «المساواة» الذي أقره الإسلام بين الأحرار والعبيد على مستوى الأحكام الدينية. وأن الإسلام حين خفف بعض أحكام العقاب على العبيد إنما كان يراعي واقع الضغوط النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي يتعرضون لها من جانب الأحرار، هذا من جهة، ونلاحظ من جهة أخرى أنه استنباط يؤدي إلى تثبيت قوائم النظام العبودي بإعطائه أحكامًا لها قوة التشريع الديني النابع من الوحي المباشر. كان هذا الاستعراض لإشكاليات الميراث في الفكر الديني ضروريًّا لبيان حجم الاعتراضات المثارة أو التي يمكن أن تثار ضد قوانين التبني عمومًا، وضد توريث الابن أو البنت بالتبني على وجه الخصوص. ولن تحل هذه الإشكاليات بالتأويل أو بالتأويل المضاد، وإنما تجد حلها الحقيقي في فهم النصوص في سياق إنتاجها الاجتماعي والتاريخي. والواقع الذي يخاطبه الوحي ويتوجه إليه النص واقع يقوم على الاعتداد بعَلاقات الدم والنسب الأبوية على وجه الخصوص. إنه مجتمع العصبية الذكورية، والبناء الهيراركي للعَلاقات الاجتماعية يتم على هذا الأساس. وهو من جهة أخرى مجتمع يقوم على الصراع على منابع المياه ومنابت الكلأ — أدوات الإنتاج — وتُعَد «الحروب» إحدى وسائل السيطرة على أدوات الإنتاج. في مثل هذا المجتمع يتحدد دور الأنثى ومكانتها في الخلفية. إنها المستهلك والحَرَم الذي يُكلَّف الرجال بالدفاع عنه. من الطبيعي في مثل هذا السياق أن تئُول التركة إلى الرجل — الابن — في الأسرة.

يمكن أن نلحظ تقدمية النص الديني في استجابته — وتحريكه في نفس الوقت — لهذا الواقع حين جعل للمرأة في الميراث نصف نصيب الرجل. لذلك لم يكن غريبًا أن يثور اعتراض من جانب بعض المسلمين على هذا الحكم الشرعي. وهو الاعتراض الذي عبرت عنه العبارة التالية: «كيف نورث من لا يركب فرسًا ولا يحمل سيفًا ولا يَنكأ (يضر) عدوًّا؟» ومن السهل هنا أيضًا — كما قررنا في مسألة «تعدد الزوجات» — أن نعتبر هذا الحكم حكمًا مرتهنًا بالشروط الاجتماعية والتاريخية. ومن السهل أن نأخذ بالاعتبار التغيرات التي حدثت خلال خمسة عشر قرنًا، ونتحرك مع اتجاه حركة النص، فنقرر أن للمرأة مثل نصيب الذكر، دون أن نكون قد وقعنا في خطيئة مخالفة المبادئ الأساسية للشريعة، التي على رأسها المساواة.

غير أن لقضية المواريث بعدًا آخر يرتبط بمسألة «العصبية» أيضًا. لقد حاول الإسلام في تشريعاته ومبادئه خلخلة الأساس العصبي للوجود الاجتماعي، واستبدل به الأساس الديني. وكانت تلك إحدى معاركه الأساسية، حتى لقد قيل عن محمد إنه أتي بدين «يفرق بين المرء وزوجه». وفي تشريعات المواريث خاصة تم تحريم التوارث بين المسلم وغير المسلم ضد التقاليد السائدة التي تعتد أساسًا بعَلاقات الدم والقرابة. فالإسلام حين استبدل «الدين» بالعصبية العرقية كان ذلك حركة نحو تحريك الواقع إلى الأمام. وهي حركة في طريق أبعد، وليست غاية في ذاتها، نحو البعد الإنساني الذي لا يمكن تجاهله أو إنكاره في الإسلام: من مثل الحرص على حسن الجوار بصرف النظر عن الدين أو العقيدة «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُورِّثه.» هذا أحد أقوال محمد الكاشفة عن توقعات، وربما المعبرة عن تمنيات. الأهم من ذلك والأخطر في اتجاه حركة الإسلام النص على عدم وراثة الأنبياء «ما تركناه صدقة»، وهي الحركة التي يكتفي الخطاب الديني إزاءها بالقول إنها تعبير عن حكم خاص، دون أن يستنبط من ورائها المغزى.

بعد خمسة عشر قرنًا من حركة الإسلام، وتنبؤات تشريعاته، وتخلخل الروابط الإنسانية ذات البعد الواحد، سواء كان العرق أو الدين، واستبدال روابط أكثر اتساعًا وعمقًا وشمولًا بها. بعد هذا كله هل يُعَد الاجتهاد مجددًا في شأن أحكام المواريث مخالفة لمبادئ الشريعة ومقاصدها الكلية؟! وهل نقل الثروة إلى الابن والحفيد — أو الابنة والأخ — … إلخ، أهم من توجيهها للمنافع العامة: المستشفيات ودور رعاية المسنين ودور الحضانة، ناهيك بالمتاحف والمنتزهات العامة؟! لكن ذلك يتطلب أولًا تحقيق مجتمع العدل والحرية وحقوق الإنسان.

(٦)

السؤال الذي نختتم به هذا التحليل: هل حقق قانون الأحوال الشخصية التونسي النقلة العلمانية التي يوهمنا الإسلاميون أن بورقيبة حاولها؟ واقع الأمر أن أطروحة الإسلاميين حول بورقيبة وعبد الناصر عمومًا تنطوي على نوع من المغالطات التي يصعب تقبلها. أهم هذه المغالطات الربط — في حالة بورقيبة — بين سلوكه الشخصي وبعض آرائه وبين العلمانية، والربط — في حالة عبد الناصر — بين خلافه مع الإخوان المسلمين كحزب سياسي وبين موقفه من الدين.

ولا شك أن أحدًا لا يقبل السخرية — بأي طريقة وبأي شكل من الأشكال — من السلوكيات أو الأزياء التي يرى البعض أنها تمثل تعبيرًا عن عقيدتهم أو هويتهم الدينية، ما دام هذا البعض لا يسعى بأية وسيلة من وسائل الضغط أو العنف لفرض سلوكياته وأزيائه على الآخرين. إن مجاهرة بورقيبة بالإفطار في رمضان — إن صح أنه حدث — سلوك غير لائق من رئيس دولة يَدين مواطنوها بالإسلام دينًا وعقيدة. إنه سلوك يدل على مراهقة فكرية لا عَلاقة لها بأي منظور جاد حقيقي للحياة، ناهيك بأن يكون سلوكًا معبرًا عن علمانية في الفكر، تلك المغالطة الكبرى التي تسعى إلى تشويه العلمانية.

وفي حالة عبد الناصر يصعب أن يكون عداؤه للإخوان المسلمين وسجنه لهم، بل والتعذيب الذي لاقَوه في السجون، نابعًا من موقف علماني أو معادٍ للدين بالضرورة. وإلا فبماذا نفسر ما تعرض له الشيوعيون بنفس القدر من التعذيب في سجون عبد الناصر المتهم من جانب الإسلاميين بالشيوعية؟ ولا خلاف على أن مصادرة الديمقراطية ونفي الآخر كان واحدًا من الخطايا الكبرى لهذا النظام. وفي هذه الخطيئة الكبرى تحديدًا ينتفي وصف عبد الناصر أو نظامه بالعلمانية، التي هي رؤية شاملة تضاد مصادرة الرأي وتناهض نفي الآخر تأسيسًا على واحدة من أهم منجزاتها وهي «حرية العقل الإنساني». هذا بالإضافة إلى أن الخلاف السياسي مع حزب ديني لا يعني إطلاقًا معاداة للدين.

تقودنا هذه النقطة الأخيرة إلى المغالطة الثانية والأخطر في أطروحة الإسلاميين وهي الربط الميكانيكي بين «العلمانية» ومعاداة الأديان، وبينها وبين الإلحاد. ولا يستطيع أحد أن ينكر أنه حدث صراع تاريخي بين «العلماء» وما توصلوا إليه من نظريات وكشوف علمية وبين بعض رجال الكنيسة الذين وجدوا في تلك النظريات والكشوف ما يخالف فهمهم لبعض النصوص الدينية. وهو صراع دفع العلماء ثمنًا غاليًا فيه من دمائهم وأرواحهم. ولكنهم واصلوا الكفاح ضد رجال الكنيسة من أجل إقرار حق العقل في اكتشاف قوانين الطبيعة والمجتمع بمعزل عن سلطة التأويلات الحرفية للنصوص الدينية. لم يكن الصراع إذن ضد الدين، لكنه كان صراعًا ضد هيمنة التفسيرات والتأويلات الكنسية للنصوص الدينية على عقائد الناس، وعلى رءوس رجال الحكم. إنه صراع ضد محاكم التفتيش وقهر العقل وأسر المعرفة الإنسانية وارتهانها باسم الدين.

يختصر الإسلاميون العلمانية في مقولة «فصل الدين عن الدولة» وأحيانًا ما يختصرونها — على سبيل مزيد من التزييف والمغالطة — بأنها «فصل الدين عن المجتمع». وكلتا العبارتين مخادعتان إلى حدٍّ كبير، لأن الدين يظل على مستوى الأيديولوجيا جزءًا من جهاز الدولة، بما هي دولاب إدارة شئون المجتمع الذي يُعَد الدين أحد مكونات ثقافته ووعيه. وليس صحيحًا أن أوروبا قد نفت المسيحية نفيًا تامًّا داخل جدران الكنائس، لأنه لا أحد يملك ذلك ولا يستطيع. لكن هناك فارقًا كبيرًا بين هذا التداخل العضوي الطبيعي بين الدين والدولة، وبين اتحاد سلطة رجل الدين برجل الدولة في جهاز الحكم الثيوقراطي — الدولة الدينية — حيث يصبح أي خلاف مع رجل الدولة هرطقة وكفرًا عقابه الحرق أو الذبح.

أما «فصل الدين عن المجتمع» توصيفًا للعلمانية فهو مغالطة مضحكة. لأن المجتمع بناء مكون من مؤسسات تتمتع بدرجات متفاوتة من الاستقلال، إلى جانب عَلاقتها البنيوية ببعضها البعض. والسلفيون يتصورون المجتمع لوحة مسطحة ساكنة مركبة من أجزاء يستطيع الفرد أو مجموعة من الأفراد فك واحد أو أكثر من تلك الأجزاء واستبعاده، أو استبداله بجزء آخر من خارج اللوحة. الدين — أو الأديان — مكون بنيوي تاريخي في نسيج ثقافة أي مجتمع، أو بعبارة أخرى يمثل الدين ركنًا مهمًّا من أركان الذاكرة الجمعية، يحتل مساحة تاريخية عميقة في هذه الذاكرة. وبما هو كذلك فهو جزء من النسيج الاجتماعي والحضاري لأية أمة، لا يملك أحد ولا يستطيع أن يمد يديه هكذا وببساطة لينتزعه من ذاكرة تلك الأمة ومن وعيها التاريخي.

لقد اجتهد المفكر عادل حسين رئيس تحرير جريدة «الشعب» لسان حال حزب «العمل»، الذي تحول إلى حزب ديني إسلامي في ترجمة كلمة «علمانية» Secularism، وتوصل إلى أن أفضل ترجمة لها هو «الدنيوية» نسبة إلى «الدنيا». وبُني هذا الاجتهاد على أساس أن العلمانية حين تنفي الدين من مجال اهتمامها تصب اهتمامها على الشئون الدنيوية، في حين أن الإسلام يوازن بين شئون الدنيا وشئون الآخرة، فلا يفرق من ثَم بين ما لله وما لقيصر. من الواضح أن عادل حسين أراد أيضًا من وراء هذه الترجمة الجديدة أن ينفي العَلاقة الوثيقة بين «العلمانية» والتركيز على «العلم الإنساني» وهو ما يوحي به الاسم علمانية». وهناك مشكلات لغوية أثيرت حول قراءة الاسم، هل هو بكسر العين فيشير إلى «العلم» أم بفتحها فيشير إلى «العالم»؟ ومن الواضح أن عادل حسين فضل القراءة بفتح العين ليؤكد التعارض بين «الدنيوية» — حسب ترجمته — التي تهتم بشئون «العالم» فقط، وبين الدين الإسلامي — خصوصًا — الذي لا يفصل بين هذا العالم وعالم الغيب، أو بين الدنيا والآخرة.

إلى هذا الحد تمثل العلمانية — سواء قرأناها بفتح العين أم بكسرها — شيطانًا للخطاب الديني. والمسألة ليست في قراءة الكلمة أو ترجمتها، بل في فهم المنظومة الفكرية في سياقها واستنباط دلالتها. ولا سبيل لمهاجمة العلمانية بادعاء أن الإسلام لم يعرف الكهنوت أو الكنيسة التي تضطهد العلماء وتصادر أفكارهم، لأن هذا الادعاء إن انصرف إلى الإسلام من حيث هو منظومة من العقائد والمبادئ لا ينصرف إلى التاريخ الفعلي للدولة الإسلامية. وما لنا نذهب إلى التاريخ، والكنيسة والكهنوت ماثلان في محاولات التبشير بالعلوم الإسلامية: علم النفس الإسلامي، علم الاجتماع الإسلامي، علم الاقتصاد الإسلامي، علم الجمال الإسلامي … إلخ. أليس هذا خلطًا وتداخلًا بين مجالات معرفية متمايزة بالضرورة؟! ثم ما دلالة هذا السعار الفكري لاستنباط كل ما أنتجه العقل البشري من معارف من باطن النصوص الدينية، بل ولمحاكمة سلامة هذا النتاج الفكري على أساس مرجعية النصوص الدينية؟! هل الكهنوت والكنيسة شيء غير ذلك؟! إذا لم يكن تاريخ الإسلام قد عرف جدلًا مثل تلك الظواهر فإنها ماثلة الآن تمارس فعاليتها في مناهضة التقدم وتكريس التخلف.

في سياق هذه المناهضة يأتي الهجوم على بعض التشريعات التي حللناها فيما سبق رغم جزئيتها ونقصها. هل تندرج هذه التشريعات داخل إطار العلمانية، أي التحرر من سلطة التأويلات الحرفية للنصوص الدينية؟ الإجابة بالقطع هي النفي. ليس دفاعًا عن إسلامية هذه التشريعات، لأن التشريعات التي تحاول السير في اتجاه التقدم نحو إقرار حقوق الإنسان لا تحتاج إلى دفاع أصلًا، ناهيك أن تحتاج إلى تبرير. إن بين تلك التشريعات وبين العلمانية بونًا شاسعًا، هو البون بين توجهات النخبة الحاكمة في عالمنا العربي للتبعية للغرب في استيراد التكنولوجيا وآليات السوق، وبين الوقوف بحزم ضد التأثر بمنجزاته الفكرية الإنسانية التي تقف وراء إنجازاته العلمية والتكنولوجية، ﻛ «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان». تلك هي الغايات التي يجب أن نسعى إليها، ولا وصول إليها إلا من خلال «علمانية» حقيقية لا تنفي الآخر، ولا تحاكم الفكر، بل تحرر العقل من أسر الحلول الجاهزة، سواء استُوردَت تلك الحلول من الماضي/التراث، أم استُوردَت من الجانب الآخر من البحر المتوسط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥