شعراؤنا والندابات!١
الحمد لله، لقد أصبح عندنا «طقم» شعراء لا يقل استعدادًا ولا سرعة إجابة في المهمات عن «موسيقى حسب الله» تمشي في «الزفف» كما تمشي في «الجنائز»، وتعزف دائمًا — على حسب الأحوال — بالمُطْرب والمحزن من الألحان!
أمسى «طقم» الشعراء من ضروريات الحياة عندنا، يخف للدعوة وينشط للشعر هناءً لكل مُعْرس، وترحيبًا بكل قادم، وتكريمًا لكل مُولَع بالظهور، ورثاء لكل ميت، ولا يبعد أن تتسع غدًا هذه المهنة فيحل شعراؤنا محل جماعة «شوبش» في «صبيحة» العرس، و«صلوا عليه سعيد» بين يدي موكب «المطاهر»!
ولعل شعراءنا المجيدين يتخذون لهم محلًّا مختارًا حتى يكونوا تحت طلب «الزبون» في كل وقت، فلا يتبعوا أصحاب «الأفراح» ولا أهل الموت في التماسهم، وطول البحث عنهم، وهم مخيرون بين أن يتخذوا لهذا الغرض قهوة «الآلاتية» بشارع محمد علي، أو حانوت السيد مصطفى علي بالسيدة زينب، ما داموا مطلوبين دائمًا للأعراس كما هم مطلوبون للمآتم، على أنه سيأتي — وقد يكون قريبًا جدًّا — ذلك الوقت الذي يُكَلَّف صاحب «المهم» الفراش بإحضار «طقم» شعراء، كما يستحضر عادة «طقم» الموسيقى، و«طقم» المولوية، وحملة المباخر والقماقم إلخ.
لقد مات كثير ممن لا شأن لهم ولا جليل خطر في هذه الحياة، بل لقد كان بعضهم ممن تعفُّ عنهم كل فضيلة، وتَكْبُر عليهم أحقر المزايا، ولم تَتَعَلَّق منى أهليهم ولا أصدقائهم بأن يعقدوا لهم يومًا للرثاء، ومع ذلك بادر «طقم» الشعراء أنفسهم فأعلنوا بلسانهم الدعوة إلى يوم الأربعين لاستماع مراثي فلان وفلان، وفي بعض الأحيان اضطلع هؤلاء «الشعراء» بما تقتضيه «الحفلة» من النفقات، حتى يُسْمِعُوا الناسَ أشعارهم، ويَتَبَارَوْا في إعلان بلاغاتهم!
والعجب العاجب — ولا يتَعَاظَمَنَّك الأمر أيها القارئ — أن بعض إخواننا الشعراء غلبوا جماعة «الموالدية» أمثال الشيخ الحمزاوي، والشيخ سطوحي، والشيخ الزربي، إذ أصبحوا يُؤَجِّرون عددًا من المرتزقة ليرفعوا الأصوات بالهتاف لهم كلما أنشدوا، ويَبْرُوا أيديهم من التصفيق كُلَّمَا انحطوا إلى موضع قافية، ولو كانت الحفلة حفلة رثاء لميت وتَفَجُّع على راحل!
إنهن لا ينقصن عن شعرائنا بديهةً ولا حضورَ قول، وأكثرهن كذلك تشتغل نائحة في المآتم و«عالمة» في «الأفراح»، يُشِعْن الطرب في هذه، بِقَدْر ما يَبْعَثْن الشجن والأسى، ويُثِرْنَ الدمع مِدْرارًا في تلك، إنهن في عامة الشعب قد يَكُنَّ أبلغ تأثيرًا وأعلى مكانةً من بعض شعرائنا في أشباه خاصته!
لقد دُعِين إلى مناحة المرحومية: منبوك، وكسلة، وبلحة، وإأه، وخليل بطيخة، وغيرهم وغيرهم من «عتر» البلد و«صَبواتها»، ويا طالما هَيَّجْنَ من زَفَرات، وأَجْرَيْن من عبرات، وبَعَثْنَ الأكف تُشْبِع الخدود لطمًا، واسْتَنْفَرْن الأظافير تَفْري الصدور لدمًا، وكم دققن الرءوس دقًّا، وشققن الجيوب شقًّا.
وإذا كان شعراؤنا لا يَعْدُون في وصف كل ميت بأنه أجمل من القمر، وأعلم من الجاحظ، وأشعر من زُهَيْر، وأكتب من ابن المقفع، وأبلغ فلسفة من ابن سينا، حتى لا نكاد نُمَيِّز ميتًا عن ميت — فإن في «الندابات» قصدًا في القول، وتحريًا في «الندب» لما هو أشكل بكل ميت!
يا للي ما لحقتيش تتهني يا حلوة يا للي ما لحقتيش تتمتعي يا عروسة! يا للي ملحقش أبوك يفرح بك يا شبة، ولا يجهزك من محل فلان، يا للي ما وعيتيش لما يشتريلك الطقم اللاكيه اللي على الشمال والواحد داخل يا حلوة، ياللي ما ستنتيش لما يجيب لك من «الكريب دي شين» الموضة اللي جه الجمعة دي بس يا ختي، يا للي خطفك الخطاف قبل «الكازيون» اللي فيه الحاجة هناك بتراب الفلوس يا عروسة!
ياللي … ياللي … حتى تستوفي «الكتالوج»، وتستقصي أسعار «الأكازيون» عن آخره.
وما يدرينا، فلعل تجارنا واصلون غدًا إلى أن يَأجُروا بعض شُعرائنا ليصنعوا لهم «ركلامًا» عن بضائعهم و«موداتهم» في حفلات الأربعين، فينشدوا مثلا فيما ينشدون من أبيات الرثاء والتأبين:
•••
•••
وبهذا يخدم شعراؤنا الأوطان، بما يسبقون فيه الأمريكان، من التفنن في وسائل الإعلان!