هو …١
لا يشغل من هذا الفضاء حيزًا كبيرًا، فإنه دقيقُ الجِرْم، لطيفُ الحجم، يُخَيَّل إليك أنه لا يُثْبِتُه لمهب الهواء إلا رجحانُ عقله ورسوخُ عزمه، وإلا فلو قد خُلِّيَ على هذا بينه وبين خِفَّةِ روحه ورِقَّةِ شمائله لاستحال معه نَسَمَةً من النسيم!
متواضع شديد التواضع لا يضيف فضلًا لنفسه، ولا يَدُلُّ على أثر لفضل، بل إنه لشديد الاجتهاد في أن يتمثل لك في صورة آحاد الناس، ولقد يجيد سَبْك هذا حتى يجوز أمْرُه عليك، فتحسب حقًّا أنه مِثْل سائر الناس، فإذا كان الحديثُ في علم أو في أدب أو في فن، أو في استجلاء وجهِ الرأي في العظيمات، فهنا لا يستطيع أن يكتمك نَفْسَه، فهيهات لامرئ أن يَكُفَّ ما تجري به الأقدار، على أن عبقريته إذا فضحته برغمه وكشفت عن حقيقة شأنه، فإنه لا يبرح يواريها بشدة التواضع والرفق في مضارب الحجة لكيلا يَرُوعَكَ عظم خَطَئِكَ، ولا يَهُولَنَّكَ مدى ما بينك وبين الصواب، وما إن تراه يقول لِمُحَدِّثِهِ أخطأْتَ أو عدَوْتَ الرأي، بل لقد يدارجه في بعض القضية، ثم يُلَوِّح له بالرأي في حواشي القول تلويحًا، حتى إذا شامه عدل إلى طريقه وكأنه تَهَدَّى إليه من تلقاء نفسه، ما قاده إليه أحد، ووالله لكأن أبا تمام كان يعنيه هو بظهر الغيب حين قال:
أخذ نفسَه بأعلى قواعد الأخلاق، فلا يصدر إلا عنها في كلِّ سعيه، يستوي في ذلك الدقيق والجليل من عامة شأنه، وإنك لتراه إلى هذا شديدَ التجَمُّل للناس، عظيم التَّصَبُّر على مكروههم، فلا يَجْبَه إنسانًا بكلمة السوء، ولا يُعَيِّرُه عيبه، ولا يُعَنِّف في العتاب — إن هو عاتَبَ — على مساءة لَحِقَتْهُ؛ بل لقد يصوغ هذا في الكلمات الخفاف اللطاف تَمْضي هَيِّنَة رفيقة ما تثير أذًى ولا تسيل جرحًا، وإنه حتى لَيَفْعَلُ هذا وهو مستحْيٍ غاض البصر، كأنه هو الذي أساء، وأنه هو الذي يَعْتَذِرُ!
رزقه الله عِفَّة النفس وعفة اللسان وعفة الرأي معًا، فلا يَحْدِرُ طَرْفَه إلى ما ليس له، ولا يستكثر نعمة دخلت على إنسان مهما يَجِل قَدْرُهَا ويَدِق قَدْرُهُ، ولم تُحْصَ عليه قط كلمة سوء رمى بها غائبًا، ولقد يجيئه أن فلانًا هَتَفَ به بما لا يحب، فلا يزيد على أن يَتَقَبَّض وَجْهُهُ، وتَتَقَلَّص شفته، ويومئ بالأسف إيماءة خفيفة دقيقة، ويعود سريعًا إلى طمأنينة نفسه واستراحة عَصَبِهِ؛ وهذا إذا كان من يَلْمِزُه ممن يُعْنَى شَأنُهم، وإلا فلا يكون منه شيء أبدًا!
•••
فإذا جاءك، بعد هذا، أنه أدقُّ الناس تفكيرًا، وأعمقُهُم بحثًا، وأكثرُهم إصابة، فلا يَرُوعَنَّكَ مع هذا أنه أَكْثَرُهُمْ إنتاجًا، وأَوْفَرُهُمْ آثارًا، فقد رَأَيْتُ أن عَبْقَرِيَّتَهُ لا تَعْيَا بشيء، ولا تَجْهَدُ في الطلب بطول الاستقراء والاستخبار، وما حَاجَتُهُ إلى هذا وقد راض اللهُ تعالى لذهنه الحقائقَ ويَسَّرَهَا له، حتى لكأنها هي التي تتزاحم لديه، وتَتَهَافَتُ عليه؟
•••
كريم الطبع، سمْح النفس، عالي الهِمَّة، ما عاذ إنسان بجاهه إلا أعاذه ما دام أهلًا للبر والعطف، وإنه لَيُسْأَلُ المعروفَ فَيَعِدُ وَعْدًا فاترًا متحيرًا بين الأسباب والعلل، فتنصرف عنه وقد يَئِسْتَ اليأس كُلَّهُ من بِرِّه بك وسَعْيِه لك، ثم لا يَرُوعُكَ إلا أن تَعْلَمَ مِنْ غيره أنه لم يُبْقِ في قوس الهمة والجِد في السعي منزعًا، حتى يَصِلَ شَأْنَكَ أو يَقْطَعَ برده القَدَرُ، يفعل هذا وهو حريص أَشَدَّ الحرص على كتمانه عنك، حتى لا يُثْقِلَ عليك بالشعور بالمنة لطول ما جَهِدَ لك وأبلى في شأنك، ولقد تتقدم إليه لتشكره، وقد تعتب عليه إسرافَه في بذل جهده، فيعاجلك بصرف الحديث إلى شيء آخر، فإذا أَلْحَحْتَ فيما كنْتَ فيه وأَبَيْتَ إلا ترديدًا له، هَوَّنَ الخطب عليك وأكَّدَ لك أن أَمْرَكَ لَمْ يُجَشِّمْه من الجهد كثيرًا ولا قليلًا! يقول هذا مقالَ الواثق المطمئن الذي لا يتكلف شيئًا في إخفاء يده وإنكار فضله!
•••
ألا ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.