عدو صميم، أم ولي حميم؟ …١
حضرة …
«فلان» لقد حيرني وأقلق فيه منطقي وأزعج تفكيري، وأفسد عَلَيَّ حسي، فما عدْتُ أدري أأُحِبُّه أعظم الحب، أم أبغضه أشد البغض، ولا أعلم أَأُكْبِرُه غاية الإكبار، أم أنني لا أَجِنُّ له إلا أَبْلَغَ الازدراء والاحتقار، فإني والله لا أعرف أكان هو أَصْدَق أصدقائي، أما كان هو أعدى أعدائي، إنه لَأحد هذين على أي حال، أما أنه ليس هذا ولا هذا فذلك المحال كل المحال!
إنه يحفظ غيبي، ولا يَأذن لأيٍّ كان بأن يبسط فِيَّ لسانه بمقال سوء، ولو جَشَمَهُ ذِيَادُه عني في غيبتي ما جَشَمَهُ، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
وإني لقد يعتريني المرض، ولقد يَحزُبني من أمر الدنيا حازب، وتعتريني الأيام ببعض المكروه، فيكون هو أولَ من يَطَّلِع علَيَّ، ويَسْتَطِبُّ لدائي، ويَتَفَقَّد علاجي، ويستوثق من مواظبتي على دوائي، ويكون هو أشدَّ الناس اهتمامًا بمواساتي، وأَعْظَمَهم اجتهادًا في تسليتي والتسرية عني، ولا يزال هذا شأنه حتى أَصِحَّ وأَبْرَأَ، وتعود إليَّ طمأنينتي، ويُذْهِب الله عني ما أَجِدُ مِنْ وَجْدٍ وأَسًى، ما في ذلك شك، ولا إلى جحوده سبيل!
ولقد ترق حالي، ويلح العسر علَيَّ، فما إن يكاد يعرف هذا ولو من طريق التفرس، فليس من خلقي التشكي، حتى يجمع همَّه ويركب رأسَه، لا يسكن ولا يفتُر ولا يهمُد له سعيٌ، أو يصيب لي عملًا كريمًا يُجرى عليَّ ما أعود به على شملي، ولقد يفعل هذا على غير علمي وفي سرٍّ مني، ولقد يغلو في أن يكتمني سَعْيَهُ لكيلا يَجْرَحَ شعوري، أو يُحْرِجَ نفسي بما يجهد في شأني، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
ولقد ينتهي إليه أن خَلْقًا من الناس يأتمرون بي، فإذا لم يستطع أن يَكُفَّ بادئَ الرأي كَيْدَهُم، ويدفع عني أذاهم من حيث لا أعلم، باداني بأمرهم، وحَذَّرَنِي مَكْرَهم، وقد كنت على شَرَف الوقوع في حبالهم، فينجني الله تعالى به من كيد عظيم، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
وإني لقد أخطئ الرأي، ولقد يُضِلُّني الهوى عن سبيل الحكمة في بعض الأمر، حتى يكاد هذا يُزْلقني إلى ما تُكْرَه عَوَاقِبُه، فيزعجني بكل الوسائل عنه، ويردني برغمي معافًى منه، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
وإني لا أذكر أنني غِبْتُ عنه قط إلا تفقدني، وجعل يتعاهدني في جميع مظاني، ويقصني جاهدًا حتى يصيبني، ولو كنت في قَواصي الأرض، ليجالسني ويقضي أَجَلَّ الوقت معي، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
ولا أذكر أنه تَهَيَّأَتْ له قط نزهة جميلة، أو مجلس غناء وتطريب، أو نحو هذا مما يُنَعِّم النفس ويلذذها إلا أسرع فدعاني إليه وآثرني به، وأَلَحَّ علي في حضوره، وقد يستكرهني إذا تعذرت عليه في ذلك استكراهًا، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
ومهما يكن من شيء فإنه في كل هذا الذي ذَكَرْتُ لك يُؤثرني — فيما أعلم — أَشَدَّ الإيثار، ويَعْقِدُ في عنقي من المِنَنِ ما لا تسخو به إلا أَنْفُسُ أَصْدَق الأصدقاء وأصفى الأولياء، حتى إنني لأتمثل في شأنه هذا معي بقول الشاعر:
على أنه قد ذَهَبَ عني أن أَذْكُرَ لك في صدر هذا الكلام الصفات البارزة لصديقي أو عدوي هذا «فلان»، ولكن الفرصة لَمَّا تَزَلْ حاضرةً، والحمد لله، إلى الآن: هو رجل في أعقاب الشباب، انحدر من أسرة إن لَمْ يُمَدَّ لها في غنًى عريض، فإنها تجري على عرق من الفضل والكرم، ومن النُّبل والشمم، وهو بَعْدُ على حظ غير قليل من العقل والذكاء والعلم والثقافة جميعًا، حاضر البديهة، حسن الرأي في الجملة، يجيد الحديث ويحذق النكتة، وقد يبرع في إدارة مجلس السمر، وهو وإن لم يكن أديبًا فإنه يتذوق الأدب، مرهف الأعصاب، لقد يثيره التافهُ من الأمر، وتارة يسرف في الحمل على النفس لِيُصَبِّرها على مكروه عظيم، لرأي يراه هو ولكن يكتمه الناس، ولقد نجد فيه أحيانًا أدبًا جمًّا وظرفًا عظيمًا، ولقد ترى فيه حينًا عنجهية شديدة وسلاطة لا تَطمئن إلى الصبر عليها رواسخُ الجبال!
ثم إنه لرجل مرح في غالب شأنه يطرب على الغناء، ويتبسط في مجلس الأنس واللهو، ولا يعلق يدَه عن الإنفاق على أسباب التنعيم والتسلية والترفيه.
•••
بعد هذا أرجو منك يا سيدي أن تسمع كيف يصنع لي هذا الولي الحميم، أو هذا العدو الصميم: إنني ما غشيت قَطُّ مجلسًا هو فيه إلا تغير وجهه، وحال لونُه، وتقلَّصَتْ شفتُه، وبانَ الغيظُ والحنق عليه، فإذا حَيَّيْتُ تَثَاقَلَ في رَدِّ التحية، وجَعَلَ يَتَكَلَّف مصافحتي تَكَلُّفًا حتى كأنما يضطلع بعبء ثقيل، بل لقد يَبْتَدِرُنِي من القول بما أكره، فأنطلق من فوري مُغْضَبًا مَغيظًا، وأنا أستشعر اغتباطه بهذا واستراحته له!
ولقد يَضُمُّني به المجلسُ ومعنا من الصحب مَنْ يَعْرِف أنني أحبهم وأوثرهم وأتقي غضبهم، فلا يزال يغريهم بي، ويغرس الحفظية علَيَّ في صدورهم بما يَدَّعِي علَيَّ مِنْ قَوْل مُنْكَر قُلْتُهُ فيهم، أو سَعْيٍ خبيث سَعَيْتُه لكيدهم وإيصال الأذى إليهم، فإذا حاوَلْتُ البراءة إليهم مما اتهمني، زاد في لجاجه، وألحَّ في احتجاجه، وربما عَزَّزَ قوله باليمين يُرْسِلُها غموسًا غير مُتَحَرِّج ولا مُتَأَثِّم، ولقد يجيئني بمن يشهد الزور بين أيديهم علَيَّ ليبطل حجتي، ويُحِقَّ التهمة علَيَّ؛ فيفسد بيني وبين صحبي.
ولقد يراني أنقد بعض السلع، فيأبى هو إلا أن يختار لي، لأنه أَعْرَف بِجَيِّدها ورديئها، فلا يسعني إلا أن أنزل على رأيه راضيًا أو كارهًا، فإذا تَقَدَّمْتُ لمساومة البائع في الثمن، أسرع فدفعني وتولى هذا عني، فإذا خلصْتُ بالسلعة، وعَرَضْتُهَا على أصحاب الخبرة، بان أنني قد اشتريْتُ أردأ الأشياء بأغلى الأثمان!
ولقد يُزَيِّنُ لي المخاطرة على سباقِ الخيل، ويؤكد لي في قوة وشدة ثقة، أنه يَعْلَمُ علم اليقين أن الرابح في الشوط الأول هو الجواد الفلاني، وأن الرابح في الثاني هو الجواد الفلاني وهكذا، ولا يزال بي حتى يستخرج مني طوعًا أو كرهًا من المال ما يَثْقُلُ عَلَيَّ ويبهظني ليعقد لي رهانًا على بضعة جياد معًا (بارولي)، مُمَنِّيًا نفسي بربح المئات من الدنانير، فإذا كان آخر النهار، لم يظهر جواد منها ولو تفقدته بألف منظار، وأعلم أنه خالفني في خَطَرِهِ هو إلى غيرها من الجياد، وإنما آثرني أنا بما خُسْرَانُه مكفول، والربح فيه ألبتة غير مأمول!
ولقد يعلم أنني هيأت لنفسي بعضَ المتاع أتفرج به وأسلي عن نفسي، فلا يفتأ يَتَنَسَّم الأخبار، ويَتَرَسَّم الآثار، حتى إذا تم له الوقوف على كل شيء، جعل يُعْمِل الحيلة، ويتوسل إلى إفساد الأمر بكل وسيلة، فيدس علَيَّ من يزعم أنه من قِبَل الصحب، وأنهم قد أَجَّلُوا جلستهم لطارئ طرأ، وحادث فجأ، ولقد يَدُسُّه عليهم على أنه رسولي إليهم ليبلغهم عني مثل ذلك، فإذا تعذر ذلك عليه، وكُشِفَتْ لي ولصحبي حيلته، وظَهَرَتْ دَسِيسَتُهُ، استحدث لي من الأسباب ما يُنَغِّصُ عَيْشِي، ويُكَدِّرُ صَفْوي، ويُبَدِّل سروري قَلَقًا وغمًّا!
وإنه ليعلم أنني أخاف ركوبَ السيارة فلا أتخذها إلا مضطرًّا، فإذا رَكِبْتُهَا تفرقت نفسي بين يديها لعلها تَصْدِم أو لعلها تُصْدَم، فتَهْشِم أو تَتَهَشَّم، وأن لساني لا يَفْتُر عن سؤال السواق الهوْن والرفق في المسير طوالَ الطريق، وإنه كذلك لَيَعْلَم أنه ما من حدث من أحداث الدنيا يزعجني عن نومة الظهيرة، وخاصة في أيام الصيف، ومع هذا فلقد يقتحم علَيَّ غرفة نومي، وقد تَعَوَّدْتُ أن أنام وحدي، ويكون ذلك منه في بعض الساعة الثالثة بعد الظهر في يوم من أيام شهر يوليو مثلًا، وإنه ليبعثني من نومي وما عللت منه ولا نَهَلْتُ، فأهب منزعجًا مبهوتًا مكدودًا لَقِسَ النفس مُوَزَّع الفكر، فإذا بي أراه واقفًا بسريري، فأسأله الخبر في روعة وفَزَعٍ؛ فيسألني أن أُسْرِع في وضع ثيابي لأننا مسافران من فورنا في السيارة إلى بورسعيد في أمر جلل لا يُخَبِّرُني خبره إلا إذا بلغنا سالِمَيْن!
بورسعيد! بورسعيد! وفي هذه الساعة! وفي السيارة!
وإنه ليسرف في الإلحاح علَيَّ بدعوى شدة حاجته إلى أن أكون معه في هذه الطَّلْبة، وإلا تَأَخَّرَتْ حاجته العاجلة إذا لم يَفْسُد الأمرُ كله، فإذا اعْتَلَلْتُ عليه، وأظهَرْتُ شيئًا من البرم بهذه الرحلة الشاقة الخطرة، أقبل علَيَّ في مثل صورة المتوسِّل يُذَكِّرني الود القديم والصحبة الطويلة، وهو وإن كان يتعفف عن أن يَذْكُر سوابقَ يده عندي، ويتعالى عن أن يمتن بها ويتطول، فإنني في هذا المقام لأذكرها وحدي من غير حاجة إلى مَنْ يُذَكِّرني، ولا شك أن هذا أوقَعُ في النفس وأبْعَثُ لداعية المروءة، وعلى هذا لا يَسَعُنِي إلا مطاوعته، ولقد أتكلف الاغتباط بهذه الرحلة الجميلة!
ولقد يتفضل المولى جل وعلا فيصل في الأعمار حتى نبلغ مدينة الإسماعيلية ولم نكلم كلمًا، فاسترحنا فيها ساعة، ثم واصَلْنَا المسير فصرنا على ذلك الصراط المتلوي المتأود الذي لا يَطَّرِد في استقامته عشرة أمتار سويًّا وقناة السويس عن أيماننا، والترعة الإسماعيلية عن شمائلنا، والسيارة تسلك ما بينهما مسلك الخيط من سَم الإبرة، فإذا كنا على هذا أومأ إلى سائقه الجبار فأطلق للسيارة العنان ووخزها وخزًا عنيفًا، فطارت كلَّ مطار، ما تخشى بأس الأرض ولا تَرْهَبُ سطوة البحار، وليس على يميننا إلا غَرَق، ولا على يسارنا إلا غَرَق، أما من قدام، فليس إلا الصدام والموت الزؤام، وللسيارة زفير وشهيق، وصهيل كصهيل الجواد العتيق، وإن بصري ليزيغ، وإن قلبي ليرقص في جوفي فأراه يَغْمِز جنبي مرة، ويصك حنجرتي مرة، وإذا استطَعْتُ أن أجمع نفسي فسألته الرفق، أومأ إلى السائق ليزيد، إذا كان في قوة السيارة فضل لمزيد!
وأقول له ذات يوم، ونحن على هذه الحال: إذا كان بك أن تُهْلِكَني، وتُعَجِّل اليُتْمَ لِبَنِيَّ، فما حاجتك إلى أن تَهْلِكَ أنت وتُعَجِّل اليُتْمَ لِبَنِيكَ؟ فأجابني من فوره بقول الشاعر، وقد أخذ التنمر والشهوة إلى افتراس العدو من خَلْفِه كُلَّ مأخذ:
هذا يا سيدي بعض ما يلحقني من كَيْدِهِ وشَرِّهِ، وذلك بعض ما ينالني من عطفه وبِرِّهِ، أفلا خَبَّرْتَنِي: أيكون هذا الرجل لي أعدى الأعداء، أم أصدق الأصدقاء؟
إنني في انتظار جوابك على مثل جمر الغضى، والسلام عليك ورحمة الله.
«تحرير المصور» يظهر لي يا سيدي أنك رجل طيب بَلَغْتَ من الطيبة غاية لا يُسْتَحَبُّ لك منها المزيد، أما صاحبك فيخيل إلي أنه ليس بالرجل المفطور على الشر، ولا بالذي يبتغي لك الأذى والكيد لاضطغان عليك، وعداوة يحملها لك، بل إنه لقد تشتد شهوته إلى مداعبتك، حتى بما قد يكون مظنَّةَ الخطر عليك وعليه معًا، والشهوات — لو عَلِمْتَ — فنون، وإني لأكاد أقْطَعُ بأنه يحبك ويؤثرك، ولا تَنْسَ في النهاية أن الحب بلاء كما يقولون، أسأل الله لي ولك العافية.