قصة١ حياء!
وحين أترجم لموضوع اليوم بكلمة «قصة» لا أعني الروايةَ ولا ما يُشْبِه الرواية؛ فإنني لا أشيع فيها خيالًا، ولا أخترع لها أبطالًا، ولا أخلق مفاجآت، ولا أبتكر مواقف، ولا أَمُدُّ لها مَغْزًى يُصِيبُ غرضًا، ولا أعالِج تحليلَ نَفْس أو فكرة، لأنني لا أجيد هذا الضرب من البيان ولا أَحْذِقُه، بل إنني لَمْ أحاوله قَطُّ طول حياتي الكتابية، وإنما أَقُصُّ حادثة وَقَعَتْ بسمعي وبصري، فإن هي أصابت غرضًا أو اتصل بها مَغْزًى، فذلك مِنْ صُنْعِها نَفْسِها، لا فَضْلَ لي من ذلك في كثير ولا قليل.
كان لي صاحب شابٌّ نشأ في الحسّب، وتقلب في شيء من النعمة، وأصاب حظًّا من العلم، وكان يَكْلَف كَلَفًا شديدًا بالأدب، فلا يخلو بنفسه إلا أَكَبَّ على ديوان شعر لواحد من متقدمي الشعراء، فإذا سَقَطَ على كلام جَيِّد رائع جَعَلَ يَتَرَنَّم به، وإذا وَقَعَ له في نَثْرِ النُّثَّار أو في خُطَبِ الخطباء كَلَامٌ بليغ راح يُشِيعُ فيه نفسَه ويُقَلِّب به لسانه، وكان رحمه الله إلى هذا عَذْب الروح، جم التواضع حاضر البديهة، حُلْو الحديث، ولكنه مع هذا كله كان شديدَ الحياء حتى لَتَرَى فيه خَفَر الفتاة الكَعاب، يتحامى مجالس الناس ولا يتهافت عليها، فإذا قضت عليه الأسباب بأنْ يَدْخُل في غَمْرِهِمْ عَقَد الحياءُ لِسَانَه، ومَلَكَ عليه بيانَه.
وكان عَصَبِيَّ المِزَاج يثيره التافه من الأمر فيغضب، ولكن الغضب لا يصل من نفسه إلى أبعد من السطح، فهو كالغدير تثير صَفْحَتَه العاصفةُ، ولكن باطنه كله سهْلٌ وادِعٌ رفيق.
ولقد جرى عليه القدر، فعَلِقَ فتاة يصل أهلَهَا بأهله بعضُ السبب، وكانت حلوة نجلاء العينين، لها فم دقيق بديع، إذا افْتَرَّ افْتَرَّ عن مِثْل حَبِّ الغمام، أو عن عِقْد مِنْ الدُّر بديع النظام، مُدَمْلَجَة الجسم، ممشوقة القد، مشرقة الوجه، حتى لَتَحْسَب أن وَجْنَتَيْهَا تجول فيهما الشمس، وكانت إلى هذا مَرِحَةً لَعُوبًا تكاد من خِفَّة الروح ومن شِدَّة المَرَاح تَطِير.
وهو يرتصد لها في مَغْداها ومَرَاحها، ولربما استهلك في ذلك يَوْمَه الأطول، حتى إذا جازت به أَسْبَلَ عينيه، أو لَفَتَ النظرَ إلى شيء آخر من الخجل والاستيحاء!
ولقد حدثني أنه جاز في رُفْقَة من صحبه ببيتها صباح يوم، فإذا هي في ثياب التفضل تَقْطِفُ من الحديقة أزهارًا، فلما رَأَتْهُمْ توارت منهم في بعض الشجر، قال: فَتَشَجَّعْتُ وأرْسَلْتُ نظري، فإذا غُصْنٌ تَتَدَلَّى منه وردة لَمْ يَرَ الراءون شبهًا لها في الزمان!
•••
وأَخَذَ فيه الهوى، وأَلَحَّتْ عليه الصبابة، ولَحِقَه من الولَه عليها ما نقرأ مِثْلَه في الكتب فلا نُصَدِّقه.
وكان إذا جَمَعَه المجلس، حتى المجلس الطَّلِي الظريف، اسْتَوْحَشَ واسْتَشْعَرَ الوحدة، فتَسَلَّلَ وانتَبَذَ بنفسه ناحية ليأنس باستحضار هواه، فكان في هذا يُذَكِّرُني قول الشاعر العربي يَصِفُ لِبِنْتِهِ ما يَجِدُ من فراق أهله:
ويُذَكِّرُني قولَ الآخر (ولعله مجنون ليلى):
وقُلْتُ له مرة في ذلك، فقال: اسمع يا فلان! لقد خَلُصَتْ حياتي كلُّها لها وتَجَرَّدَتْ نفسي فيها، وانقطعت حواسي إليها، وأصبحَتْ هي جميعَ مادتي وعناصرَ وُجُودي؛ فكيف تريدني على ألَّا أشتغل بها أو أحْتَبِس على التفكير فيها؟ والله يا فلان! إني لأراها طول يَقْظَتِي كما أراها طول نومي، فإنني ما رأيتُ دُرَّة قَطُّ إلا حَسِبْتُ أنها انْتُزِعَتْ من ثَغْرِها، ولا أَبْصَرْتُ مرآة قَطُّ إلا ظَنَنْتُ أنها اسْتُعِيرَتْ مِنْ صَدْرها، ولا طالَعْتُ وَرْدَة ناضرة إلا خِلْتُ أنها قُطِفَتْ من خَدِّهَا، ولا تَمَثَّلَ إلي غُصْن من الْبَان إلا أحْضَرَنِي صُورة قَدِّهَا، ولا سَطَعَ لي عبير إلا شعرْتُ أنه من شذاها، ولا فَصَحَنِي نور إلا قَدَّرْتُ أنه من إشراق مُحَيَّاها، ولا سمِعْتُ شَدْو القمري إلا سَمِعْتُها تتكلم وتلغو، ولا طاف بي النسيم إلا تَمَثَّلْتُها تلعب وتلهو، ولا طَلَعَت الشمس إلا رأيْتُها فيها، ولا اسْتَتَمَّ البدر إلا خِلْتُها تعلو على الدنيا كِبرًا وتِيهًا، وإني لأرفع بصري إلى السماء فأرى لها هودجًا في مَوْكِب السحاب، وأخرج إلى الفلاة فإذا هي التي يَتَرَقْرَق بها السَّراب، فهي سَعْدي وهي نَحْسي، وهي نَعِيمي وهي بُؤْسي، وهي لَذَّتي وأَلَمي، وهي صِحَّتِي وسَقَمي، وهي نِعْمتي وبلائي، وهي حياتي وفنائي، ثم أقبل علي وقال لي في خوف وَوَرَع: فما حاجتكم إلى أن تقطعوا ما بيني وبَيْنَ نَفْسِي؟!
•••
ولقد ظَلَّ صاحبي على شأنه قرابة عَشر السنين، وانتهى إليه في بَعْضِها أن الفتاة زُفَّت إلى بعل، وكانت هنالك في ظنه عواثير تحول دون خِطْبَتِها له وتزويجها منه، فاجتمع عليه أَلَمُ الصبابة وأَلَمُ الغَيْرَة معًا، واستوحش المسكين وآثر الوحدة، وألح على الشراب وأكثر من الخروج إلى الفلوات، ولَعَلَّه لَمْ يَكُن يُطَالِع بكل مَدَاخِلِهِ إنسانًا قَدْرَ ما كان يطالعني، ثِقَةً منه بإيثاري له وفرط مَحَبَّتِهِ، وكتمان مستوره، وكان رحمه الله إذا عَرَضَ الخاطرُ في هذا يَتَمَثَّل بقول جميل:
عَشْر سنين! وعَشْر سنين على مثل هذا كثير: رقة نفس، ودقة حس، وتَسَعُّر ذكاء، وغرام بالِغ، وشِدَّة وَلَهٍ، وانقطاع وطول مهاجرة، و«أَرَق دائم وحُزْن طويل»، ويأس فَارِهٌ وأَمَل هزيل، والخمر! الخمر فوق ذلك، تهيج في نفسه وتُعَرْبِد، وتُسْرِفُ في عمره وتُبَدِّد، ورُسُل الموت تَتَوَالى، ونُذُر الطِّبِّ تَتَدَارَك وتَتَتَالَى، وماذا يعني صاحبَنا من كل أولئك؟ أليس يعيش لها؟ فخير له أن يموت فيها!
ولقد ضَرَبَه المرض بذات الجَنْبِ، فما بَرِح يَرِق ويَنْحُف، ويَهْزُلُ ويَضْعُفُ، ولكنه إذا تَحَدَّثَ عنها خِلْتَ أن أَرْمَاقَ نَفْسِهِ قد تَجَمَّعَتْ كلها في لسانه، فترى منه في ذاك أقوى القوة، وتَشْهَدُ منه أفتى الفتوة؟
ويدعوني إليه ذات يوم، فَوَافَقْتُهُ، فإذا هو مُشْرِق الوجه، مَرِح النفس، لولا المرض يُثْقِلُهُ لَمَا وَسِعَتْه الدنيا طربًا ومراحًا، فَأَقْبَلْتُ عليه بالهناء على مَدْخَل العافية، وسألْتُهُ الخبر، فضَحِكَ ضحكة طويلة مَزَّقَهَا عليه السعال، فلما سَكَنَ وتَطَامَنَ، قال: احزُرْ؟ فقلتُ: لا أَحْزُرُ إلَّا أن يكون جاءك خبَرٌ من عند صاحبتك فقال: إي والله، فلقد جاءتني جارية لها تقول لي: إن فلانة قد عادت إلى القاهرة واستقرت فيها، وهي تدعوك إلى زيارتها لِتَسْأَلَكَ في بعض شأنها، وإنها لفي انتظارك الآن لو تهيأ ذلك لك، وإلا ففي غد أو بعد غد، فَخَفَفْتُ من فوري مع الجارية، ولقد والله وَدِدْتُ لو أَسْتَحِيلُ في طريقي إليها حمامة، أو أَنْتَفِضُ نعامة، حتى أستمتع برؤيتها الوقتَ كله، فلا تزاحمني على هذا المتاع مسافة الطريق.
وتَلَقَّتْنِي مَرِحَة في جِدٍّ وتَوَقُّر، وسَلَّمْتُ عليها في أدب وتَحَشُّم، واتَّخَذَتْ لها مَقْعَدًا لا هو بالقريب مني، ولا هو بالبعيد عني، وتَحَدَّثْنَا ساعة في مثل أحاديث الناس، وجَعَلَتْ تَقُصُّ عليَّ بعض ما لَقِيَتْ في تلك السنين، وهي لا تفتأ الفينة بعد الفينة تسألني عن شأني وما تَغَيَّرَ بعدها من أسبابي، فَأَجُرُّ لها الجواب جرًّا، لأنني إنما كُنْتُ مشغولًا عنها بها! ثم أَفْضَتْ إلي بمسألتها، وزَعَمَتْ لي أنها فَكَّرَتْ فَلَمْ تَرَ لها مُسْعِدًا فيها غيري لما بين أهلينا من وثيق الصلة، إلا أن يكون علَيَّ في الأمر غضاضة أو أن تَلْحَقَني فيه مشقة، وأنا أَحْلِف لها بكل مُؤَثِّمة من الأيمان أنه ليس هناك أية غضاضة ولا أية مشقة، وأنها في تَحَرُّجِها جد مبالِغة، ثم استأذَنْتُها وانصَرَفْتُ.
فَقُلْتُ له: وهل مَنَعَكَ الحياء أيضًا من أن تُبَادِيهَا بحبك؟ فقال: كلا! فَلَمْ يَعُدْ للحياء علَيَّ من سبيل؛ ولكنني كَرِهْتُ أن أَفْعَلَ لكيلا أُتَّهَمَ عندها وعِنْد نفسي بأنني أقْتَضِيها على مسعاتي لها أجرًا، قُلْتُ: فماذا صَنَعْتَ؟ قال: سَعَيْتُ لها مَسْعًى صغيرًا رَدَّ الله به حَقَّها عليها، ولقد تعاظَمَها الأمرُ فأرسَلَتْ إليَّ جاريتها تَشْكُرُني وتَسْتَزِيرُني، قُلْتُ: فماذا أنت صانع؟ قال: سأظل أيامًا أُخَرَ أَتَقَلَّب على مثل جمر الغضى، وأعاني من الشوق واللوعة ما أعاني، حتى تتراخى الأيام بتلك المسألة؛ وحينئذ أزورها وأَسْكُبُ بين يديها كل غرامي وولهي، فلم يَبْقَ فيَّ فضْلٌ لصبر ولا لكتمان، ووَدَّعْتُهُ على أن يُطَالِعَنِي بما سيكون مِنْ أَمْرِهِ معها.
•••
فَقُلْتُ لها: دعيني من هذا، فوالله ما أراك الآن إلا كما كُنْتُ أراك فتاة مَرِحة لعوبًا تَثِبِين في حديقة بيتك، تجمعين الأزهار، وتارة تلاغين الأطيار، وهل تَحْسَبِينَ أن الأيام أبقت مني على عين تَنْظُر جديدًا، أو عاطفة يُشِبُّها حديث؟ إنما أَنْظُر إليك بتلك العين، وأشب لك تلك العاطفة، وهما اللتان ادخرْتُهُمَا للحياة من ذلك العهد البعيد، ولو كانت لي عينٌ تنظر كما تنظر عيونُ الناسِ، وعاطفةٌ تَهُبُّ كما تَهُبُّ عواطف الناس، ورأيتك اليوم أحلى وأَنْضَرَ مما كُنْتُ، لانصرف حبي عنك، لأن هواي إنما يكون إلى غيرك، فهلم بنا نُسَافِرْ معًا إلى الماضي، تبعثين له حُسْنَكِ، وأبعث له قلبي، فعلى هذا الماضي نعيش ما قُدِّرَت لنا الحياة.
ثم كانت زَفَرَات تَنَفَّسَ بها الحشى، وترجم بها القلب عن كل ما أعيا على اللسان!
ولا أدري أَأَحَبَّتْهُ من تلك الساعة كما أَحَبَّهَا دَهْرَه الأطول؟ أم أنها أَسْعَدَتْه بالبكاء رحمة به، وشَفَقَةً عليه؟!
•••
وأَلَحَّت العلة على صاحبي، وأَثْقَلَتْه في فراشه، فلم يَرَ صَاحِبَتَه بعدها أبدًا، وكُنْتُ أعوده في كل يوم، فلما تراءت له المنية قال لي ذاتَ يوم؛ أنت أصدقُ أصدقائي وأَحْفَظُهُمْ لعهدي، وأَكْتَمُهُمْ لِسِرِّي، فهل لك في يَدٍ تُسْدِيها إلي؟ فقلت له: فَدَتْكَ نفسي فَمُرْ، وأنا لك فيما دون الدِّين والعِرض طائع، قال: فإني حين علقت فلانة وصَدَّنِي الحياء عن مكاشفتها بهواي كُنْتُ أَفِيضُ بمذكرات أَصِفُ فيها بعض ما أَجِدُ لها من الصبابة، فهل لك أن تَحْفَظَهَا عندك ولا تنشرها للناس — إنْ نَشَرْتَهَا — إلا بعد أن ينطوي خبري وخبرها، ويمحى أثري وأثرها؛ فما أُحِبُّ أن يَعْرِفَ على الزمان غَيْرُكَ من أنا ومن هي، فلنا من حكم العادة ومن حكم بيوتنا ما يكفنا عن هذا، فعاهَدْتُهُ على ذلك، فَمَدَّ المسكين يده الريقية الناحلة، واستخرج من تحت الوسادة رِزْمَةً دفع بها إلي، بعد أن كرر الوصيةَ تكرير الواثق لا المستريب.
وقضى بعد أيام، ولَكَمْ سَالَتْ لمصرعه كبود، ولكم لُطِمَتْ في رُزْئِه خدود، ولكم شُقَّتْ عليه جيوب، ولكم تَفَطَّرَتْ له قلوب!
•••
وشخَصْتُ في ضحَى يومٍ من الأيام إلى قبْر صديقي لأزوره، فإذا عليه ورْد ناضر وريحان جنى، فسألت سادن القبور عمن جاء بهذا؟ فقال لي: إن سيدةً تَنْتَاب هذا القبر حينًا بعد حين، فتَنْثُر عليه الرياحين والزهور، وتظل ساعة تبكي حتى تستعير ثم تنصرف، فسَأَلْتُهُ أن يَصِفَهَا لي، فعَرَفْتُ أنها صاحبته؛ رحمة الله عليهما جميعًا.