أولادنا!١
تسألني يا سيدي في كتابك أن أَصِفَ لك حُبَّ الولد، وما مبلغه، ومن أي نحْوٍ هو، وهل يستوي فيه صغارهم صغارهم وكبارهم، وذكورهم وإناثهم؟ وهل صَدَقَ ذلك الذي قيل له: أيُّ بَنِيكَ أحب إليك؟ فقال: صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، ومريضهم حتى يبرأ؟
وتُرَى هل تختلف مَحَبَّةُ الولد باختلافهم في الصفات من الجمال والقبح، والنجابة والغباء، وحسن الخلق وسوء الطبع، والنشاط والكسل، والنجاح والخيبة؛ ونحو ذلك مما تختلف فيه الصفات وتَتَغَايَر الطباع؟
وتسألني يا سيدي أن أُوَضِّح لك شيئًا تَبَهَّم عليك في أمر الولد: ذلك بأن حبَّهم لا شك فيه؛ بل إن هذا الحب من الأشياء الموصولة بالطبع والغريزة، ومع هذا فإنك لترى أكثر الآباء إن لم تَرَهُمْ جميعًا يتمنون لو أنهم لم يكونوا قد رُزِقُوا أولادًا! فكيف يستقيم الجمع بين هذا الحب كله للولد، وبين هذا الضيق كله بالولد؟ أليس من أعجب العجب أن يضيق الإنسان بأحب الأشياء إليه، ويَبْرَمَ بأشد ما يكلف به في الدنيا، ويتمنى أنْ لَوْ لَمْ يكُنْ بعد ما قد كان؟
ثم تَعُود فَتُلِحُّ علي في أن أُصَوِّر لك هذا اللون من الحب تصويرًا صادقًا واضحًا حتى تَشْعُرَ بأن لك أولادًا تُحِسُّ حُبَّهُم وتتذوقه كما يُحِسُّه ويتذوقه الآباء!
•••
أما بعد، فلقد سألتني شَطَطًا وجَشَّمْتَنِي عسيرًا، بل ما أراك تُجَشِّمُني من الأمر إلا مُحالًا! فكيف لي بأن أَصِفَ لكَ ما لَمْ يَقَعْ قَطُّ عليه حِسُّكَ، وأن أجلو على نفسك من ألوان العواطف ما لا صِلَةَ لها به ولا سبب، وإن مَثَلَكَ في هذا لَكَمَثَل مَنْ يستوصف طَعْم الكمثرى، أو لَوْن البنفسج، أو نغمة العراق، أو رائحة الياسمين؛ لِيُدْرِكَها إدراك مَنْ قَدْ طَعِمَ أو رأي أو شَمَّ أو سمع! اللهم إن هذا الذي تُجَشِّمُني يا سيدي ليس في طَوْقي ولا في طَوْق اللغة؛ فإن هذه المعاني التي لا تُدْرَك إلا بالحس، لا يمكن أن يُغْنِي في تذوُّقِها الوصف!
بل إنني وإياك لقد نشترك في الشعور بمعنًى من هذه المعاني، ولقد تَتَرَقْرَقُ في نفوسنا بإزائه عاطفة واحدة، ومع ذلك يُعْيِي علينا كِلَيْنَا البيانُ في جَلْوِها والترجمة عنها، فإذا بدا لأحدنا في أي وقت أن يَذْكُرَهَا لصاحبه لَمْ يَزِدْ على أن يشير إليه بأن يَبْعَثَهَا في نفسه ويستحضرها استحضارًا، وتلك لُغَةُ الإحساس.
اللهم إنَّ جهد اللغة في هذا الباب أن تُقَرِّب هذه المعاني، لِمَنْ لَمْ يسبق له أن يُحِسها ويُلَابِسها، بفنون التشبيه والتمثيل: كأنه يُقَالَ: إنَّ طَعْمَ كذا شبيه بطعم كذا، أو إنه بَيْنَ الحلو والحامض مثلًا، وإن عبير هذه الزهرة شبيه بعبير ذلك النوع من الزهر لولا أنه أَشَدُّ أو أَلْطَفُ مثلًا، وكلُّ ما يُمْكِن أن يعطي هذا — مهما يَعْلُ بيان الواصف ومهما يَدِق وينفذ — إنما هو صورة تقريبية، أما أن يَنْفُضَه بالبيان على الحسِّ حتى كأنما يُذَاق حقًّا فذلك مما يُوصَل بالمُحال!
وأنت ترى أنه لا سبيل حتى إلى جَلْو هذه الصورة التقريبية الناقصة لشيء من هذه المعاني إلا بردها إلى شيء سبق أن وقع عليه الحس ولابَسَه الشعور.
•••
على هذا سأتحدث إليك يا سيدي، عن حب الولد، سأتحدث إليك وأنا واثق أَتَمَّ الثقة بأنني عاجز أشَدَّ العجز عن أن أَنْفُضَ عليك كثيرًا من هذا الشعور الذي تَنْطِف به كبدي، فيَشِيع في جميع نفسي، ولقد تَعْلَم أن كلمة الحب تَنْطَوي على ألوان من الحس كثيرة قد تقترب اقترابًا شديدًا، وقد تفترق افتراقًا شديدًا، ومهما يكن من هذا الافتراق وذلك الاقتراب، فإن للحب في كل موضوع كيفًا خاصًّا وشعورًا مُسْتَقِلًّا لا يَشْرَكُه فيه سواه، فللحياة حب، وللجمال حب، وللذات حب، وهكذا، على أنك تُحِسُّ لهذا الضرب من الجمال غيرَ ما تُحِسُّه لذلك الضرب من الجمال، وتَشْعُر لهذا اللون من اللذة غيرَ ما تَشْعُر لذلك اللون، إذَنْ فاعلم أن حب الولد غير أولئك جميعًا.
حب الولد غير حب الزوج، وغير حب الوالدين، وغير حب الإخوة وأبنائهم؛ هو حب له طعم لا تذوقه في شيء من كل أولئك، هو مَزْج من الرحمة والحنان، ومن السعادة والجمال، ومن الطرب والشجى، ومن الطمأنينة والقلق، ومن الأثرة والإيثار، ومن الخوف والرجاء، هو مَزْج من هذا كله مختلط، يَمُوج بعضُه في بعض، فيخرُج له ذلك الطعمُ الخاصُّ الذي لا يكون إلا بمجموع هذه المعاني، وإن كان أَظْهَر عناصره الرحمة والحنان.
لعلك يا سيدي قرأْتَ قول الشاعر العربي:
لعلك قرأْتَ هذا البيت مرة ومرة، ولو قد قرأْتَهُ ألف مرة ما خرج لنفسك منه شيء مما يُحِسُّ له صاحب الأولاد!
نعم، هؤلاء هم أكبادنا، ما غابوا عنا إلا شعرْنَا بنقص في نفوسنا، بل بأحسن ما في نفوسنا، حتى يُرَدُّوا علينا؛ بل إنه ما اجتمع بهم شَمْلُنا إلا شعرْنَا بأنهم قِطَع قد فصلَتْ عن نفوسنا، ولو قد تهيأ لنا أن نَحْسُوها حَسْوًا لنملأ بها هذا الفراغ الذي نحسه فيها لفعَلْنَا!
ابني معناه أنا، ولست أريد «بأنا» كُلِّي، بل إنما أريد به عُصَارَةَ ما فيَّ من عطف ورحمة، وأملٍ وشعور بأسعد السعادة وأجمل الجمال! ليس لَحْمُ ابني ولا دَمُهُ وعظمه إلا هيكلًا لكل هذا، بلى ليس إلا رمزًا بل ليس إلا هذه المعاني قد تَجَسَّدَتْ فَسُوِّيَتْ على صورة الإنسان، بل إني أكاد لا أراه إلا تلك المعاني مُتَرَقْرِقَة لم تُمْسِكها صورةُ الإنسان!
•••
هذا ولدي الصغير يَلْعَبُ بين يَدَيَّ، فسرعان ما أنسى سِنِّي وأطرح كلَّ همي، بل سرعان ما أَخْرُج عن نفسي، فلا أراني إلا قد رُدِدْتُ طفلًا يَتَمَثَّلُ في خَلْقه، فأنا الذي يَلْعَب ويَعْبَث، وأنا الذي يُسَرُّ ويغتبط بهذا اللعب والعبث، حتى إذا تَعَرَّض لمكروه في بعض جَرْيِه ووَثْبِه، ودَفْعِه وجَذْبه، ثُبْتُ إلى نفسي فكَفَفْتُ المكروهَ عنه، ثم رُدِدْتُ من فوري إلى ما كُنْتُ فيه!
وإذا كان قد جاءك أن أعظم العظماء في هذا العالَم قد خرجوا في مُلاعَبَة أبنائهم عَمَّا ينبغي لهم من الجد والتَّوَقُّر؛ بل لقد يبلُغُون في هذا أشدَّ ما يَبْلُغ الصبيان من ألوان العبث، فاعلم أنهم لا يتكلفون هذا تكلفًا لمجرد إدخال السرور عليهم؛ بل إنهم لكثيرًا ما يَرَوْنَ أنفسهم في بنيهم فيستشعرون هذه الحداثة، ولا يجدون حَرجًا من أن يصنعوا ما يَصْنَع الأحداث؛ بل إنهم لَيَجِدُون في هذا لَذَّة لا تَعْدِلُهَا لذة، ومَراحًا دونَه كُلُّ مَراح!
وإذا كان قد جاءك أن أعظم العظماء في هذا العالَم قد اتخَذوا من أنفسهم مَطَايا لصغارهم، فأركبوهم ظهورهم، لا يَرَوْن بهذا بأسًا ولا يَجِدون فيه حرجًا، فاعلم أنهم، وقد عجَزوا عن أن يَرُدُّوا كُبُودَهم إلى مواضعها بين ضلوعهم، سواء عليهم أَوَضَعُوهَا على الصدور أم وضعوها على الظهور!
ولقد ترى الرجل يُؤْثِر وَلَدَه على نفسه بالحلوى والفاكهة مثلًا، فلا تظُنَّنَّ أنه إنما يَفْعَل هذا لمجرد تفكيهه وتلذيذه؛ بل إن نفسه هو لَتَتَذَوَّقها بهذا أحلى مُتَذَوَّق، وتُسِيغها أحسن مَساغ، بما لا يُقاس به احتلابها بالشفاه، وتقليبها في الأفواه.
•••
ها أنا ذا أُقَبِّل ولدي، وإني لأجد لِقُبْلَته من اللذة ما لا أجده لشيء من لذائذ الدنيا، هي لذة فيها شدة وفيها رِفْق، وفيها عنف وفيها لين، وفيها حر وفيها برد، وفيها وراء ذلك حلاوة لا يتعلق بها وصف الواصفين، أرأيتَ هذا الذي أَلَحَّ عليه الظمأُ في اليوم القائظ حتى استحال الظمأُ في حَلْقِه أوارًا، ثم أقبل على الشَّبِم الزُّلال فجعل يَعُبُّ منه عبًّا حتى يَنْقَع غُلَّتَه نقعًا؟ اللهم إني لأجد في تقبيل ولدي أشد من هذا وأحلى وأَرْوَحَ، لولا أن اللذة فيه لا تنقضي، والغُلَّة إليه لا تَنْقَع، على كثرة العَبِّ وعلى توالي الرشيف!
وإذا كان الماء يروي أوارَ الجسم، فإن هذه القُبْلة إنما تَرْوي أوارَ النفس، وشتانَ بين هذا وهذا في مذهب الشعور!
هذه قبلة تتظاهر الحواس كلها على إصابتها وإدراكها، وتتجمع النفْس من جميع أقطارها لتَشْهَدَها وتلتذ بها، فلا يبقى شيء منها غائبًا عنها ولا مخطئًا لها؛ حتى لَتَشْعُرَنَّ بأن هذه النفْس تَتَقَطَّر كلها على وجهه، ولا يبقى منها إلا رَمَق هو الذي يُشْعِرُك ما أنتَ فيه من اللذة ومن النعيم!
وإنني لأسمع صوتَ ولدي الصغير في لغْوِه أو في كلامه أو في ضَحِكِه، فيُشِيع فيَّ من الطرب ما لا يُشِيع أندى الأصوات، ولا نَغَم عُود في يد أحذق الضاربين! بل إني لأجد منه ما يَجِدُ الشجر إذا نزل عليه الماء فاهتز العود وضَحِك الزَّهر!
ولقد تَخْبُث نفسي بما يَشِبُّ فيها من الغيظ والاضطغان، حتى أُحِسُّها تكاد تتمزق تمزقًا، فما إن أرى ولدي وأنا على هذه الحال إلا رأيتُها قد تطامَنَتْ وسَمَحَتْ حتى توشك أن تَصِيرَ نارُها إلى خمود!
وإن أشد الناس جبنًا وفَرَقًا لَيَرَى ولدَه في خَطَر أو مُسْتَهْدَفًا لِخَطَر، فلا تراه إلا يَنْصَبُّ لاستنقاذه انصبابًا ما يبالي ما يصيبه، بل ما يبالي أَهَلَكَ معه أم هَلَكَ دونه!
•••
وهذا ولدي يمرض، فهذه كبدي تسيل مَسَالًا، وها أنا ذا أجن ولكنني لا أغفَل عن المكروه غفلة المجانين، ولا أجد ما يجدون من رضى بحالهم وارتياح، وهذا حِسِّي يضطرب اضطرابًا شديدًا بين الرحمة والألم، والحنان والخوف، والإشفاق والجزع، وإن وراء هذا كله لشيئًا هائلًا بَشِعًا يتراءى لي شَبَحه من بعيد، فأغمض عيني دُونَه حتى لا أراه ولا أتبينه، بل إني إذا خَلَوْتُ إلى نفسي لَأَطْلُبُهُ وأَتَفَقَّدُهُ، فإذا تَمَثَّل لي بَكَيْتُ حتى اسْتَعْبَرْتُ، فأجد لهذا البكاء راحةً مما يَغْمِز على كبدي ويُحْرِق صدري تحريقًا، بل إني لأتمنى على الله أن يَنْقُلَ ما به إليَّ، فإذا كان ثَمَّةَ حَدَثٌ لا بد من أن يَجْرِي به القَدَر، ودِدْتُ جاهدًا مخلصًا لو أنني أكون أسبقَ الاثنين.
وإني لأذكر في هذا المقام أنني احتسبْتُ ولدًا لي كان وحيدًا، فجُنَّ جنوني، وفَعَل بي الأسى الأفاعيل، وقد انتهى إلى أبي رحمة الله عليه بعضُ ما أصنع أو بعضُ ما يَصْنَع الوجدُ بي، فدعا بي وقال لي: بَلَغَنِي أن الجزع قد بَلَغَ منك إلى أنك تفعل كَيْت وكَيْت، أفلا آثرْتَ الاحتمالَ وتَجَمَّلْتَ بالصبر على هذا كما احتَمَلْتُ أنا وكما صَبَرْتُ؟ فسَكَتُّ لأنني لَمْ أُصِبْ قولًا أقوله، فأقبَلَ عليَّ رحمه الله وأخذ يدي كلتيهما في يديه، وقال: اسمع يا ولدي، إذا كنْتَ قد حَزنْتَ لموت فلان مرة فلقد حَزنْتُ لموته مرتين! فرفعْتُ وجهي إليه وقلْتُ له في شيء من الدعة والرفق يخالطهما كثير من الدَّهَش: وكيف هذا؟ فقال في لَوعة شَعَرْتُ بما يُعَانَى في مجاهدتها: لأنه إذا كان ابنَكَ مرة فإنه ابني مرتين! ورأيْتُ الدمعَ يترقرق في عينيه ولكنه لا يَأذَن له في أن يتجاوز المحجرين، ووالله لقد سَرَّى هذا الكلام عني كثيرًا إذ قد عَلِمْتُ أنني في هذه المصيبة صاحب أضعف السهمين!
وإن تَعْجَبْ لشيء فاعجب لهذا الإنسان الأثِر الشديد الأثَرة، الحريص على الحياة أبلغَ الحرص، والكَلِفِ بها أشد الكلف، والذي يودُّ لو يمتد عمرُهُ إلى ما وراء أعمار الناس جميعًا، هذا الإنسان يَفْرَق أشد الفَرَق من أن يتقدَّمه إلى الفناء ولدُه، وإن اللذة كلَّها والسعادة جميعَها لتتمثل له في تصوُّره أن ولده سَيُعَلِّلُه إذا شكا، ويقلبه إذا مَرِضَ، ويُغْمِض جفنيه إذا مات، ويسوي عليه التراب بعد أن يُفْضَى به إلى لَحْدِه!
•••
ثم إنك تسألني: أيكون حظ الأبناء من حب أبيهم واحدًا، وأنهم كلهم فيه بمنزلة سواء أم أنه يختلف باختلافهم بالصغر والكبر، والذكورة والأنوثة، فاعلم يا سيدي، أنك على إغراقك في حُبِّ أبنائك جميعًا، وشمولهم بلون من الحب لا يشركه في مذاقه سواه، فإنك واجد لِحُبِّ كُلٍّ منهم كذلك شعورًا خاصًّا لا يشركه فيه غيره ولا يزاحمه عليه سواه، فحبهم أشبه بالجنس عند أصحاب المنطق تحته أنواع، وإنك لتصيب من التفاح ومن الكمثرى ومن العنب والتين وغيرها من ألوان الفاكهة فتلتذها كلها فكلها حلو لذيذ؛ على أن ما تجده لهذا من الطعم غير ما تجده لذاك، ولله شوقي بكْ رحمةُ الله عليه حين يقول في وصف الخمر:
والواقع أن الإنسان لو قد حَدَّ حِسَّه، وأرْهَفَ شعوره، وراح يَتَدَسَّس في أعماق ضميره ليتفقد حقيقة هذا الاختلاف، ويتَعَرَّف وجهَه، لرأى أن مادَّة هذا الحب واحدة وجوهرَه غير مختلف، ولكنَّ سنَّ كل ولد، وظروفَه وأسبابَه وجِنْسَه تتناول صورةَ حُبِّه بالتشكيل والتلوين.
ولقد زعمْتُ لك في بعض هذا الكلام أن حبَّ الولد مَزْج من عواطفَ كثيرة أسْطَعُها الرحمة والحنان، فإذا كان الوليد في المهد فإنك لا تكاد تجد له إلا هاتين العاطفتين، فإذا تقدَّمَتْ به الأيام حتى دَرَجَ وجَعَلَ ينطق ببعض اللفظ، أُضِيفَ إلى هاتين شيءٌ من الأنس به والطرب له، فإذا تقدَّمَتْ به الأيام فجَعَلَ يثَبُ ويَلْعَبُ، ويقلِّد في بعض الأقوال، ازداد بك هذا الأنس وهذا الطرب، وأحسَسْتَ إلى ذلك جديدًا، هو أن هذا الغلام يشغل من لهوك صدرًا عظيمًا ما لك منه بدٌّ ولا لك عنه غناء، فإذا تقدمت به السنون حتى استوى للتربية والتعليم، دَخَلَ على كل أولئك شيءٌ من الإيثار له بإجماله بالطاعة والنجابة وحسن الأدب مع الناس، وشيءٌ من التأميل الرفيق في أن يكون في مُسْتَقْبَل شأنه من الناجحين، وكلما اطَّرَدَتْ به السن رَبَتْ هذه العاطفة له واشتدت حتى تكاد تغمر سائر ما تجد له من الأحاسيس، فإذا اغترب أو مَرِضَ أو أصابه مكروه من المكروه، عادت تانك الخِلَّتَان إلى سطوعهما حتى لا يكاد يشعر له إلَّا بالرحمة والحنان، لأن شأنه في ذلك أَوْلَى بالرحمة والحنان!
أرجو أن تكون قد فَهِمْتَ الآن حَقَّ الفهم الوجهَ في قول ذلك الذي زَعَمَ أن أَحَبَّ بنيه إليه صغيرُهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، ومريضُهم حتى يبرأ، ولعلك كذلك تكون قد اسْتَخْرَجْتَ من كلامي أنَّ أسطعَ العناصر في حب البنات إنما هو الرحمة والعطف والإشفاق، لأنهن ضعيفات ما لهنَّ بعراك الأيام يَدَانِ.
•••
ثم إنك تسألني: أَيَخْتَلِفُ حُبُّ الولد باختلافهم في الصفات من الجمال والقبح، والنجابة والغباء، وحسن الأدب وسوء الخلق، والنشاط والكسل، والنجاح والخيبة، وغير ذلك من الصفات.
لعله قد وَقَعَ لك يا سيدي في بعض ما تَقْرَأُ جوابُ ذلك الأعرابي الذي قيل له: ما بَلَغَ من حُبِّكَ لفلانة؟ فقال: «والله إني لأرى القمر على جدارها أحْسَنَ منه على جدران الناس!»
لقد ترى أن هذا الأعرابي كَذَبَ أَشَدَّ الكذب، لأن القمر على جدار صاحبته كالقمر على جدران سائر الناس، ولقد تراه صادقًا أتمَّ الصدق لأنه يَرَى القمر على جدار صاحبته أحسنَ منه على جدران سائر الناس، وكذلك الولد فإنك لا تكاد ترى فيهم إلا جميلًا، أو على الأقل إنك لا تكاد تلمح عيوبَهم سواء أكانت خِلْقِيَّة أم نَفْسِيَّة إلا بعد شيء من التأمل والتفكير، أما ما دُمْتَ تُرْسِلُ النظر فيهم عفوًا بلا تَعَمُّل، فإنهم عندك أحسن الأولاد، ذلك بأنك إنما تنظر إلى كبدك، أو على الصحيح إنما تنظر إلى نفسك، وأنت خبير بأن المرء قلَّ أن يَتَفَطَّنَ إلى عيوبه، ولو قد تَفَطَّنَ إلى شيء منها فإن أَمْرَهُ لا يَتَعَاظَمُهُ كما يَتَعَاظَمُهُ مِثْلُهُ في غيره من الناس، وكذلك ترى الرجل لا يُنْكِر من بنيه بَعْضَ ما يُنْكِر مِنْ غيرهم من الأبناء، إذ كان يَقْدِر هؤلاء بالعقل والفكر، أما أولاده فإنما يَقْدِرُهُمْ بالعاطفة والهوى، ما يكاد يلابسهما تفكير ولا تدبير.
نعم، لقد يكون في الولد عيب خِلْقِي واضح، ولقد يصاب بالآفة من شأنها أن تُثْقِلَه عن السعي في الحياة، ولقد يَبْلغ من انحراف الطبع وفساد الخُلُق وسوء الأدب أقصى الغايات والعياذ بالله، فإن مَوْقِعَ ذلك من نفس أبيه، وحظَّهُ من التقدير عنده، أضْعَفُ مِنْ قَدْرِهِ في الواقع ومن قَدْرِهِ عند الناس، وإن ذلك لَيَسُوءُهُ بالضرورة، وقد يُكَدِّرُ عليه عَيْشَه، وقد يهيجه ويُثِير على الولد سَخَطَهُ، قد يَبْلُغ ذلك به كلَّ هذا، ولكنه لا يَحُطُّ من حبه لولده وإيثاره له على أي حال، بل إن ذلك منه لدليل على هذا الحب والإيثار، فما ساءه ولا كدَّر عيْشَه ولا أحْنَقَه ولا أسْخَطَه إلا الرحمة له، والشفقة به، والأسى على أنه لم يكن من أسعد الناس أو أنه لا يكون أسعدَ الناس.
بل إن الوالد لقد يتمنى الموتَ لولده في بعض الحين، لا بُغْضًا له ولا اضطغانًا عليه، ولكن رحمةً به وشفقة مما يجني عليه سوءُ أخلاقه، حيث لا رجاءَ فيه لخير ولا لصلاح؛ فشأنه في هذا شأنُ من تَضْرِبُ العلةُ أعَزَّ الناس عنده وأكرَمَهُمْ عليه، العلة المَعْنِيَّة الشديدة الإلحاح بآلامها وبُرَحها، والتي لا يَعْرِف الطب لها شفاء، ولا منها نجاء، وإنه لَيَتَعَجَّل له الموتَ رِقَّة له وإيثارًا له بالاستراحة مما يعاني من هذا العذاب الشديد، على حين أنه أشد الناس لموته جَزَعًا، وأعظَمُهُمْ منه وَرَعًا وإشفاقًا!
•••
وأخيرًا أراك تسألني: كيف يستقيم الجمع بَيْنَ حُبِّ الولد إلى هذا الحد وتَمَنِّي أكثر الناس لَوْ لَمْ يكن الولد بعد أن قد كان؟
ولسْتُ أشُكُّ يا سيدي، في أنك إذ كُنْتَ تصوغ هذا السؤال قد قَدَرْتَ الفَرْقَ الواسع بَيْن تَمَنِّي أن لو لم يَكُن الولد، وتمني هُلْكه بَعْد أن قد كان، فاعلم إذن أنه ما يُشِبُّه لهذه المُنْيَة إلا غُلُوُّه في حُبِّه، والرقة له، والشفقة به مما يَلْقَى أو مما عسى أن يلقى في هذه الحياة من عِلَل وأسقام، ومن بُرَح ومن آلام، على أنه وقد خرج إلى الدنيا فلا يكون له من أبيه إلا ما جَلَوْتُ عليك بعضَه في هذا الحديث، فلقد تَعَاصَى عليَّ أجَله.
•••