الطفل الشريد١
وجْهٌ مُغْبَرٌّ شائِهٌ كأنه مَعْفُور بتراب قبر، وصُدْغان غائران كأنهما من أَثَر خَسْف، ووجنتان ناتئتان حتى أمستا كَرُكْبَتَيْ بعير، وقد لَصِقَ جِلْدُهُ بعظمه، حتى لا يَقْوَى قبْرُه على قَشْرِه، إلى يوم نَشْره، وهاتان عينان دائمتا التحيُّر والاضطراب، تتناهبان النظرَ من كل ناحية، ولو استطاعتا أن تنظرا إلى الأقطار الستة معًا في آنٍ، لَفَعَلَتَا على طول الزمان!
ليت شعري، أهذا شَبَح من أشباح الظلام، أم هو طيفٌ من أطياف الأحلام؛ تُنْكِرها الأيدي وإن تراءت للعيون، وتُرِيك ما لا تظن أن يكون كيف يكون!
ها هو ذا يَثِبُ من ها هنا، ويقفز من ها هنا، لا يَقِرُّ له على الأرض قرار، كأنما هو كُرَة تَتَقَاذَفُهَا الأقدار، سوادَ الليل وبياضَ النهار!
ها هو ذا دائم الاختلاج عن يمينك وعن شمالك، حتى يُشَتِّت شَمْل طَرْفك، ثم إذا هو قد امَّحَى كيف تَمَّحِي الأشباح، إذا أَشْرَقَتْ شمس الصباح.
هو دائم الخوف، مُتَّصِلُ الفزَع، يخاف من كلِّ شيء، ويفْزَع حتى من لا شيء، يَتَوَقَّع الأذى من كلِّ إنسان، ويَتَرَقَّب البطشَ به أنَّى كان، كلُّ ما في هذه الدنيا ساهرٌ على إيذائه، جاهدٌ في كَيْدِه وبلائه، فكيف له في هذه الدنيا بالقرار، وهل أمسى له من الأذى مَعَاذٌ إلا بطول الفِرار؟ حقًّا لقد باتت حالُه شرًّا من حال من عَنَى الشاعر:
ولكن أين المفر، وهو لا يُفْلِتُ مِنْ تَرَقُّبِ شَرٍّ، إلا إلى تَوَقُّع ضَرٍّ؟!
لقد حُرِمَ المسكينُ عَطْف الأب وحنان الأم، كما حُرِمَ رِفْدَ الخال وعَوْن العم، ولم يَجِدْ ما يُعَوِّضْه عن شيء من ذلك ولو بمزقة من رحمة الرحماء؛ بل ما أصاب من الناس إلا بلاءً وتَوَقُّعَ بلاء، فهل تظن أنَّ مِثْل هذا يَجِد لإنسان رحمة أو يُحِسُّ لشيء رِقَّةً وحنانًا؟ اللهم إنها لَكَبِدٌ قد تَحَجَّرَتْ فما تَطْرُقُها رحمة، وإنه لقلب يغلي غَلَيَان القِدْر من حقد ومن اضطغان، ولو قد صانعه القدر فاستطاع أن يَنْفُث ما في صدره، لاستحالت هذه الأرضُ فَحْمَةً سوداء!
ثم إنه لا يميز حلالًا من حرام، ولا يَفْرِق بين طريق الخير وطريق الإجرام، كل شيء مباح، لا يَصُدُّ عنه إلا بَطْشُ الظَّلَمة السُّلَطاء!
•••
ها هو ذا يَسْعَلُ سُعالًا رفيقًا مَسْمَعُه، لَيِّنًا مَوْقِعُه، لو أَرْهَفْتَ له الأذنَ لخرج لك منه نغم حزين يخُزُّ الحشا، ويخُدُّ الكبد خدًّا.
الله أكبر! لقد أقْبَلَ وشيكًا مقوض الرئات، وسفير الممات!
فيا معشر القادرين الأقوياء، ارحموا من في الأرض يرحمْكم من في السماء!