الشباب المولي!
هذه هي المرة الثانية التي يهتف فيها «فلان» بِسِنِّي، ويزعم أنني أتشرف الآن على الخمسين، إذا لم أكن قد جُزْتُهَا بقليل! وترى ما خيره في أن يباديني بهذا ويؤكده ويُلِحَّ فيه، وأنا أنفيه جاهدًا فلا يُصَدِّقُ، وأَرُدُّهُ عنه فلا يَرْتَدُّ، وأزجره فلا يزدجر! وتالله ما أُرَاه يَطْلُب بهذا إلا غَيْظي وإحناقي بإظهاري وإظهار الناس على أنني قد عَلَتْ بي السِّنُّ، وأنني أَنْشَأْتُ أُمْعِنُ في الشيخوخة المضنية للأجسام، والداعية للأسقام، والمهرولة بالأحياء إلى الموت الزؤام!
اللهم إنه لسمج به أن يَطْلُب لي هذا ويتمناه على الله، ثم لا يستحي أن يصارحني بهذه المُنْيَة ويصارح بها الناس، على حين أنني — شهد اللهُ — ما أسْلَفْتُ إليه إساءة، ولا تناوَلْتُهُ قَطُّ بمكروه!
سبحان الله! ما أعظم كَدَرَ النفوس، وأشدَّ اضطغانَ القلوب، حتى على من هو غيرُ حقيق منها إلا بالعطف والإيثار!
•••
وكيف أكون قد بَلَغْتُ الخمسين ولَمَّا أَبْلُغْ من آثار هذا الشباب شيئًا؟ ولم أُصِبْ بَعْدُ من مُتَعِهِ كثيرًا ولا قليلًا؟
اللهم إنني ما بَرِحْتُ أَسْتَشْرِفُ لهذه الأيام التي طالما تَمَثَّلَتْ لأحلام الفُتُوَّة جَمِيلَةً جَمَالَ صفحة البدر، ناضرةً نَضْرَةَ الورد قد طَلَّهُ القَطْر، هذه الأيام الحلوة اللذيذة التي طالما تراءى لي بها المستقبل، فأتعزَّى بقرب لقائها عما أَجِدُ في حاضري مِنْ هَمٍّ وأَسًى، ومِنْ وَجْدٍ وشَجًى.
لقد طال بي انتظارُك يا هذه الأيام، فليت شعري متى تُحَقَّقُ الآمالُ وتَصْدُقُ الأحلام؟
أنت آتية أيامَ الشباب لا ريب فيكِ، وإنني ما زلت في الانتظار …
•••
ما لي أجد غمزًا على كبدي، وأكاد أُحِسُّ بأن شُعْبة قد انْخَلَعَتْ من قلبي، وأن ذهني تطايَرَ عني كُلَّمَا لاح شَبَح الخمسين، فلقد بَلَغْتُ الخمسين، وا رحمتاه، حقًّا! …
لا تأْسَيْ يا نَفْسُ ولا يتعاظَمَنَّكِ الأمر، فإنني إن كُنْتُ قد بَلَغْتُ الخمسين عددًا، فإنني لم أَعْلُ بها قَطُّ سنًّا، وكيف تعلو بي السِّنُّ وأنا لَمَّا أزَلْ في انتظار الشباب الذي لم أَخُضْه بَعْدُ، ولَمْ أَلْهُ به لَهْو من يخوض الشباب؟
لا! لا! ليست المسألة عددًا في السنين، وليست الحياة مِسَاحَةً تُقَاسُ بدورة الفَلَك، فَلْتَعُدَّ علَيَّ السنون ما شاءت أن تَعُدَّ، ما دُمْتُ — في الواقع — لَمْ أَزَلْ فَتِيَّ الروح مُسْتَشْرِفًا لعهد الشباب! وليس مِنْ سُنَن الطبيعة أن يَسْبِقَ الجِدَّةَ القِدَمُ، ويتَقَدَّمَ على الشباب الهَرَمُ!
إذن فأنا لَمَّا أَزَلْ على شَرَف الشباب الغَضِّ، وأَنْفُ هذه الخمسين العَدَدِيَّة راغم!
وليت شعري ما الدليل على أنني قد بَلَغْتُ هذه الخمسين لو أنني عِشْتُ في بداوة لا تُتَعَقَّب فيها السنون؟
إذَنْ لم أُصْبِح بعد شيخًا، ولتَعُدَّ عليَّ الأيامُ ما تشاء!
•••
ولكنني مع هذا أرى الشيبَ يصيح في رأسي، فكيف لعمري لحقني قبلَ الشباب المشيبُ؟!
لا تأسَيْ يا نَفْسُ ولا تُشْفِقي من بياض الشعر، فلكم رأيْتُ فتيانًا باكَرَ رءوسَهُم هذا النصولُ وعَجَّل إليها، فما كان بياضُ الشعر يا نفس دليلًا على المشيب! ومع هذا ففي الصِّبْغ إصلاح لخطأ الطبيعة، وتصحيح لما يَدَّعِي علَيَّ بعض الناس من كَذِب وزور!
هذا كلام صحيح، ولكن ما لي أُحِسُّ في عيني فتورًا، وأجد في نظري قصورًا، حتى أصْبَحْتُ لا أتبين الشخوص إلا بمقدار، ولا أستطيع القراءة إلا بمعونة المنظار؟
لا شك أن هذا من مَرَض طارئ، أو مِنْ عَرَضٍ مفاجئ، وما كان جهد العيون وتقاصُر الأنظار، دليلًا على انطواء الشباب والطعن في الأعمار!
وهذا أيضًا كلام صحيح، ولكن ما بالي أري ثِقَلًا في سمعي لقد يُفَوِّت علي في المجلس بعضَ الحديث، ولقد تُرْعَش يدي في بعض الحين فما تكاد تستطيع ضبْطَ اليراع!
وهذا كذلك ليس أمارةً على فَوْت الشباب، إن هو — كما قال الطبيب — إلا مِنْ تَعَبِ الأعصاب!
فما بالي أجد أسناني قد شاعت في أصولها الآلام، وتجلجَلَتْ كلها فما تَثْبُتُ واحدة منها إلا لهش الطعام؟
إذَنْ فإنني ما زِلْتُ في انتظار الشباب، ولا يجوز أن نُلْقِيَ لهذه الأعراض بالًا أو نُدْخِلَها في الحساب!
•••
ولكن ما بالي أصبحْتُ لا أشتهي الطعام، ولا أكاد أقوى على هضْم خفيفه فضلًا عن غليظه إلا إذا استعَنْتُ على ذلك بألوان العقاقير: هذا في أثناء الطعام، وهذا عند المنام، وهذه الحَبَّة يجب أن تُبْلَعَ بعد الوجبة، وهذا الذرور مما يُسَهِّل الصفراء، ويُرَفِّه عن الكبد وينظف الأمعاء، وهذا لكَيْت وكَيْت، وهذا لِذَيْت وذَيْت.
سبحان الله! وماذا يضيرك ذلك ما دام يعِينُك على شأنك، ويَصْرِف عنك الأذى، ويقيمك في العافية، والعقاقير ميسورة في كل مكان، ولا يَسْتَهْلِكُ تَنَاوُلُهَا وقتًا، ولا يقتضيك مشقة ولا جُهْدًا، والدواء مما لا يَسْتَغْنِي عنه كبير ولا صغير، ولا قوي ولا ضعيف!
ثم ما لي إذا مَشَيْتُ أَحْسَسْتُ في جسمي تَزَايُلًا، وفي ساقَيَّ تَخَاذُلًا، وكأنني أحمل رِجْلَيَّ وليست هي التي تحملني، وسرعان ما يُجْهَد بي وما مَشَيْتُ طويلًا، ولا حَمَلْتُ عبئًا ثقيلًا!
ثم إنني بِتُّ لا أقوى على رُطوبة الليل في العراء، وما إن تَبَدَّيْتُ لها ساعة حتى أُصْبِحَ في أسوأ حال، ويعتريني من الأوصاب ألوان وأشكال!
وهذا وذلك لا بأس عليك منهما إذا أَخَذْتَ نَفْسَكَ بشيء من رياضة البدن، واستنشاق الهواء النقِيَّ في الشمس الساطعة، فإذا كان الليل أَثْقَلْتَ الدثار، واعْتَكَفْتَ في الدار، فلا ينالُك سَقَم، ولا يعتريك أَلَم!
وما خَيْرُكَ في أن يَثْقُلَ نومُك، ويُسْتَهْلَكُ في الغفلة عن الدنيا يَومُك؟ والنوم كما عَلِمْتَ حاجة يضطر إليها تَعَبُ الأجسام، فمن العبث أن نَتَفَقَّد الحاجةَ إذا لم نَجِدْها ولم تُلْجِئْنَا إليها الضرورات! ورحم الله الشاعر الذي يقول: «إنَّ تحت التراب نومًا طويلًا.»
•••
إذَنْ فلننتَظِر، ومن صَبَرَ فقد ظَفِر!
•••
ثم إني لأقوم إلى المرآة فأحقق النظر، فلا يُرَوِّعُنِي إلا أن أرى وجهي قد تَغَضَّنَ، وجبيني قد تَكَرَّشَ، وأجد في شفتي تَهَدُّلًا، وفي عنقي تَرَهُّلًا، أما عيناي فقد بدتا لي كعيني دُمية قد نصلتا فلا أثر فيهما يشبه بريقَ الحياة!
رباه! ما هذا كله؟ أليس هذا كل ما كنا نتمثله في الشيخ إذا ضَرَبَتْه الخمسون؟
إذَنْ فقد وَلَّى الشباب، فما له من رجعة ولا له من مآب!
•••
يا ويلتاه! أكذلك يَذْهَب الشباب قبل أن يجيء، ويُدْبِر قبل أن يُقْبِل ويُوَدِّع قبل أن يُسَلِّم؟
يا عجبًا للهلال يَغْشَاه المحاق ولَمَّا يَبْلغ التمام، وللورد يَلْحَقُه الذبول ولما تَتَفَتَّح عنه الأكمام!
يا عجبًا للشمس تُشَمِّر للغروب والرجوع، ساعة يُؤَذِّن مَشْرِقُها بالبزوغ والطلوع!
ويا رحمتاه للروض إذا ذَبُلَتْ في مطلع الربيع أزهاره، وجَفَّتْ قَبْل النضج ثِمَارُه، وسَكَنَ من الشجر اصطفافُه، وتساقَطَتْ أوراقه، وسكن النسيم، وكان العهد به أن يَتَنَسَّم، وسكَتَ العندليب، وكان الظنُّ به أن يشدو ويتنغم!
أهكذا يكون نقضُ العهود، وخُلْفُ الوعود، أهكذا تَشُحُّ السماء بعد طول ما مَنَّتْ بالبروق والرعود؟!
فأين هذا الشباب وهو حقٌّ لا حلم من الأحلام، ولا وَهْم من الأوهام؟ وليت شعري كيف ذَوَى، ومتى انطوى، وما زِلْتُ في انتظار وفُودِه، وتَرَقُّب ورُودِه، طوعًا لِمُطَّرِد وعُودِه؟
نترقب شبابًا فإذا هو هَرَم، وجدَّة فإذا هي قِدَم، وصِحَّة فإذا هي سَقَم، ووجودًا فإذا هو عَدَم! تالله إن عَلِمْت قَطُّ أن التِّبْر يحور ترابًا، وأن الماء يستحيل سرابًا!
•••
نعم، لقد يُصِيب الإنسان كثيرًا أو قليلًا مما يُدْعَى بسعادات الحياة، ولكن هيهات أن يَصْفُو له شيء منها إلا كَدِرًا، فإن الزمان أَحْرَص من أن يُصْفِي العيش لإنسان، وإنه في هذه السبيل لَيُسَلِّط عليه ولو من وَسَاوِسِ نَفْسِهِ ما يَصْرِفُه عن متاع الحياة وهو في متناول يده، ورهنُ مراده، فإذا أَعْوَزَهُ هذا وَسْوَسَ له بالتأميل فيما هو أَجَلُّ مما تيسر له من النعيم وأعظم، فَشَغَلَهُ عن حاضِرِه بِقَابِلِه، وصَرَفَهُ عن عاجِلِه بآجِلِه، وهكذا تَتَصَرَّم الأعمار، في الارتقاب والانتظار!
آمنت يا دنيا أنك سارقة ماكرة فاجرة، تمكرين بالناس وتَخْدَعِينَهُمْ على أعمارهم حتى تَنْشِلِيها منهم نشلًا، ولا والله ما يُعِينك على فجورك هذا إلَّا غفلةُ الناس!
•••
وبَعْد، فلعلك عَرَفْت لماذا يُخَادع المرءُ الناس على سِنِّه، بل إنه لَيُخَادِع عليها نفْسه، ولعله في هذا حق معذور، فلقد طالما وَصَلَ المستقبل بسعادات وارتبطه بها، حتى ما يستطيع تَصَوُّرَه بغيرها، ولا تَمَثُّله متجردًا منها، فكلما مَرَّ عليه يوم لا تواتيه تلك السعادات لا يراه مما ينبغي أن يُحْسَب في مدة العمر، ولا مما يَجُوز أن يُعَدَّ عليه فيه! فهذه عِلَّة تَعَاظُمِهِ لدخوله في السن واستثقاله لتذكيره إياه.
اللهم إننا لنتهاون شأنَ الذبابة، ونَسْتَحْقِر هذه الحياة التي تحياها، ولو قد تَفَطَّنَّا إلى الحق الواقع لَعَرَفْنَا أنها أَسْعَدُ مِنَّا عَيْشًا وأَنْعَمُ حالًا، لأنها لا تَشْتَغِل إلا بالحاضر، وهو الحق المُحَسُّ الذي يُذَاقُ ويُسْتَشْعَر حقًّا، فلا يَتَفَرَّق حِسُّها بين الأسى على ما فات في سالف الأيام، وبين التعلق في المستقبل بكواذب المنى في كواذب الأحلام!
فيا الله ما أخسَّ حياةً تنتهي بالإنسان إلى التراب، وهو لا يَتَذَوَّق منها بعض ما ينال هذا الذباب!
وإذا كان لنا معشر الناس أن نَأْسَى على شيء في هذه الحياة الدنيا، فليكن أسانا على أننا نُنْفِقُها في الأسى على ما قد فات، وطولِ التأميل فيما هو آتٍ، وهكذا نجوز بالدنيا فلا نَسْتَشْعِر منها إلا آلامًا، ولا نَذُوق إلا منًى وأوهامًا، وصَنَعَ الله لهذا الشاعر في كَذِبِه على كَذِب الآمال: