لا صحة إلا في المرض!١
لَسْتُ أدري لماذا لا نَتَذَوَّق صحة الأبدان ولا نَسْتَشْعِرها ما دمنا فيها؟ أتُرى لأنها شيء سَلْبِيٌّ لا يُذَاق ولا يُحَسُّ؟ أم لأنها كسائر نِعَم الحياة قَلَّ أن يَقْدِر المُتَقَلِّب فيها قَدْرَها، أو يُعْظِمَ المتمكِّن منها خَطَرَهَا؟ أم أنَّ ما تُجِدُّ الأيامُ من أشغال الدنيا وهمومها ومَطَالِبِها مما يَحُول بين المرء وبين تَذَوُّق الصحة والالتذاذ بالعافية؟
اللهم إنني لا أَقْطَع في هذا بشيء من وجوه التعليل ألبتة، ولكن الذي أَقْطَعُ به ولا أُرَاني أتحوَّل عنه أن الإنسان لا يرى أن هناك نعمةً أجَلَّ وأعْظَمَ من نعمة العافية يوم يَضْرِبُهُ المرض ويَسْلُبُه السقامُ هذه العافية، بل إنَّ بِحَسْبِه أن يَرَى امرءًا مُعَافًى في بَدَنِهِ لِيُقَدِّرَ له من الشعور بالسعادة والإحساس باللذة ما لا يَتَعَلَّقُ به وَصْفُ واصف، ولا يَتَصَوَّرُ مَبْلَغَهُ إلا هؤلاء الأصحاء!
ومهما يَكُنْ من شيء فإنني ما رجوت العافية لِذَاتِها، وكيف لي برجاء ما لا أُحِسُّ ولا أشعر؟ وإنما أرجو ألا أُبْتَلَى بالأسقام والعلل، فإذا لَمْ أَذْكُر المرض فهيهات أن يجري ذِكْرُ الصحة لي على بال!
ثم إني ذات صباح لأحس وَجَعًا في بطني، فلا أُوَجِّه الأمر بادئ بدءٍ إلا على أن أحشائي مَغِصَة من أَثَر بَرْد أو مِنْ فعلة طعام تَجَهَّمَت له الأمعاء، فلم يَجِدْ له من خلالها لُطْفَ مَسَاغٍ، فاحْتَمَيْتُ على عادتي وتَحَرَّمْتُ الطعام، أرجو أن يزول عني مَغَصَي إذا انقضى النهار.
ويَذْهَب النهار ويُقْبِل الليل، فإذا المغص مقيم على غَمْزِه ما يَبْرَح ولا يَرِيم، ثم يكون الغد فإذا هذا الغمز في الحشا يستحيل وَخْزًا، فأَظَلُّ على تَحَرُّمِي واحتمائي، وَجَعَلْتُ أَخْتَلِفُ على ألوان الرصفات تُبْتَغَى لمثل ما أنا فيه، ولكن الألم يَزِيد على هذا ولا يَنْقُص، وينْبَسِط في بطني ولا يَنْقَبِض!
وتجوز بي على ذلك بِضْعَة أيام لا يكرثني الأمر ولا أراه حقيقًا بالاعتداد به والاحتفال له، حتى إذا رأيْتُ أن الألم قد طَالَتْ مُدَّتُهُ، واشْتَدَّتْ وَقْدَتُه، لَمْ أَرَ بُدًّا من العياذ بالطب بَعْد أن أَعْيَا عَلَيَّ ما تَعَوَّدْت الاستراحة به ألوان العلاج.
ولكن لقد أخطأ الطبيبَ شَخْصُ الداء، فسرعان ما اسْتَفْحَلَت العِلَّة وتَمَرَّدَت المِعَى على الدواء، فما أولاها على التمرد إلا عقابًا، ولا أصلاها على الإباء إلا تأليمًا وعذابًا!
وبعد أسابيع عراض نُهرُها، طوال لياليها، يَنْحَسر الشك عن داء عُقام، وعلة لا يَرْتَقِي إلى خَطَرِها كثير من الأسقام.
وهنا أرجو أن يُصَدِّقَني القارئ إذا زَعَمْتُ أن الوقوع على حقيقة المرض ومَبْلَغ خَطَرِه لَم يَتَعَاظَمْني ولم يُدْخِل على نفسي الذعر بِقَدْر ما يَتَصَوَّر، فإن كان قد مَسَّني شيء من هذا فلعله قد ذَهَبَ به أو خَفَّفَ من وَقْعِه استراحتي إلى حقيقة شأني بعد تلك الحيرة الطويلة المملة العنيفة، وإذا عُرِفَ الداء، سَهُلَ — كما قالوا — الدواء، وإذا وَقَعَ في التقدير أنَّ عِلَّتِي مما لا يُرْجَى منه الشفاء، إذَنْ فقد بَلَغْتُ حَدَّ اليأس، واليأس — كما قالوا — إحدى الراحتين!
إذَنْ لم يَكُنْ كل همي إلى علتي، فلقد اسْتَهْلَكَهُ دونها هَمِّي بما يعنيني من الأوجاع والآلام، وإن قصارى جهدِ المرض أن يُرْدِيني، وأهوِنْ بها من غاية، فَلَكَمْ واللهِ ابْتَغَيْتُ هذا الردى فلم يُسْعِدْني به المقدار!
•••
إذا كان الصباح الباكر كُنْتُ كما يكون الناس، فإذا ارتفعت الشمس قليلًا عن الأفق شَعَرْتُ بغمزات لِطَاف على جنبي الأيمن، ثم أراها تَثْقُل رويدًا رويدًا وهذا أذان النفير العام، يدعو إلى أحشائي جمهرة الأوجاع والبُرَح والآلام، فما هي إلا دقائق معدودة حتى أُحِسُّ أن كل ما في الأرض من مُدًى مسنونة قد اجْتَمَعَتْ علَيَّ تُقَطِّع أحشائي، وأن كل ما في الدنيا من رِماح ومزاريق قد تظاهرت على الطعن الدِّراك في أمعائي ما يُفَلُّ لها حَدٌّ، ولا يَكِلُّ للطاعنين من دونها زَنْد، وأن نيران جهنم كلها قد كُوِّرَتْ وضُغِطَتْ بقدرة القادر وقُذِفَتْ في بطني قَذْفًا حتى أكاد من وَقْدَة الآلام أَسْمَع لها حسيسًا! وكلما ارْتَقَبْتُ الفرج بتقطع الأمعاء وتَفَرُّقِها، وتَمزُّقها وتَحَرُّقِها، وأن الموت لا محالة آتٍ، فذلك مما لا قيام للحياة معه ولا ثبات، فإذا آلامي جديدة لا تَبْلَى على كل أولئك الأحداث، كأن يد القدرة تُسْرِع إلى جمع ما يَتَفَرَّق، وَوَصْل ما يَتَمَزَّق، حتى لا ينتهي لي عذاب، ولا ينقضي ما أُعَانِي من الحُرَق والأوصاب، ونعوذ بالله من عذاب أهل جهنم الذين قال الله تعالى فيهم: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ! اللهم لقد ذُقْتُ هذا العذاب في هذه الدار، فأَقِلْنِي في الآخرة بفضلك من عذاب النار!
ولا تزال البُرَح والآلام تَفْرِي الفَرِيَّ في أحشائي بلا هوادة ولا فترة ولا سكنة أبدًا، وليت شعري كيف لا يُدْرِكُها التعب والإعياء، على طول ما تُبلي فيَّ هذا البلاء؟!
وإني لا أزال كذلك تَخْتَطِفُني الغفوة فأغفو دقائق، ثم تتخاذل عني فتلقيني ثانية لما كُنْتُ فيه من العذاب الشديد، وهكذا كان دأبي عامَّة الليل وعامة النهار!
•••
ثم إني لأتَجَلَّد للألم وأتصبَّر، فلا آذن لِحَلْقِي أن يتنفس بالآهة أو بالأَنَّة، وأكظِم وَجَعِي فلا أُتَرْجِم عنه بما يُتَرْجِم به عن الأوجاع عامَّةُ المرضاء؛ وأظل على هذا دهرًا، ثم إذا هذا التَّصَبُّر يِتِقِلَّص رويدًا رويدًا، وإذا بي أَئِنُّ لو كُنْتُ خاليًا، ثم إذا بي أَئِنُّ وأتأوَّه وأنا بين الناس!
ثم إنني رَجُلٌ أَعْهَدُ في شماس الطبع، وعِصْيَانَ الدمع، فإذا المرض يَأْبَى إلا أن يُذَلِّلَ ذلك الطبع، ويُذِلَّ هذا الدمع! وهكذا أُسَلِّم للمرض أَنَفَتِي كما يُسَلِّم الشجاعُ الكمي سِلَاحه لِخَصْمِه، ويُنْزِلُهُ الغَلَبُ على حُكْمِه، ما به رِضًى بهذا ولا ارتياح، ولكنها لقد جَرَتْ به الأقدار!
•••
وإنني لأرجو الطبيب وأخشاه، وأحبه وأرهبه في وقت معًا، كأنه قد أصبح لي أبًا وكأنني قد ارْتَدَدْتُ بين يديه غلامًا! ولقد يأمرني الأمرَ فيما يَتَّصِل بعلاجي وما يَطْلُب به سلامتي، فأعْصِيه في سِرٍّ منه في بعضِ ما أَمَرَ، وأخالفه إلى بَعْضِ ما نَهَى، فإذا ما سألني عُذْتُ بالمعاريض فِرارًا من الكذب الصريح، وهذه من إحدى ذلات المرض أَذَلَّهُ اللهُ!
وما أن أبصَرْتُ إنسانًا من أهلي أو عُوَّدِي، حتى خادمي، إلا تَخَيَّلْتُ أنه يستطيع أن يَدْفَعَ عني بعضَ ما بي، ويخفِّف بعضَ ما أَجِدُ، ولولا الحياء لاستجديته العافية استجداء، فشأني كان كشأن الغريق يصارع الموج أَكْثَر ما يصارعه بالتأميل في نجدَة مَن على الشط من الناس! وتلك أخرى للمرض أخزاه الله!
ما لكم يا أهل العافية لا تَطْرَبون ولا تَمْرَحون ولا تَطُولون الجبالَ الشامخةَ مِن تَتَايُه ومراح؟ إنه لَيُخَيَّل إليَّ أنكم تجاهدون في كَظْم أفراحكم أشد الجهاد!
فلو خَلَعْتُمْ علَيَّ شيئًا مما تجدون من العافية؟ إذن لرأيتم أنه لا يتسع لمراحي كل ما بين الأرض والسماء!
الصحة، الصحة وحدَها، ففيها عن كل عَرَض غَناء.
ما عَزَبَتْ عن الإنسان نعمةٌ من نِعَم الدنيا إلا اقْتَصَرَ حِسُّه على أَلَمِ فِقْدَانها والحرمان منها، أما فَقْدُ الصحة فإن يُشْعِر الحرمانَ من كل شيء؛ وقد صَدَق من قال: «يا أهل العافية لا تَسْتَقِلُّوا النِّعَم!»
أستغفر الله! بل إن فقدان الصحة لَمِمَّا يُزَهِّد في أنعُم الحياة، وإنني لأذكر، وأنا في مرضي هذا، أنه ما عَرَضَتْ لي مُنْيَة من المنى التي طالما هَفَتْ نفسي إليها وسألْتُ الله فيها جاهدًا، إلا دَقَّتْ في عيني، وهانَتْ على نفسي، حتى لأراني في تَشَهِّيها والاحتفال لها إنما كُنْتُ سخيفًا كل سخيف!
هذا جرحي قد انْدَمَلَ، وها أنا ذا أمشي وئيدًا إلى العافية، وإني لأشتهي بعض الطعام ولكن هيهات أن يُنَوِّلَني الطبيب، فآه! هذا اللون ما أَحْسَنَه وأَسْوَغَه وأحلى مَذَاقَه، وما أنْعَمَ الآكِلِيه وأَسْعَدَهُمْ؟ فلو رَجَعْتُ إلى العافية لَكَسَرْتُ عليه عَشْرَ وجبات متتابعات!
هذه الرقعة من القاهرة أو من غير القاهرة ما أجْمَلَها وما أَبْدَعَها، وما أبهى خِططها وأحلى موقعها! لئن رُدِدْتُ إلى العافية لَأَتَّخِذَنَّ منها منتجعي ومثابي، ومذهبي في غُدُوِّي ومآبي!
وهذا كَيْت وهذا كَيْت، مما يُصَابُ ﺑ «لعل» وما يُصَادُ ﺑ «ليت»، ما دام في مصباح هذه الحياة زَيْت!
•••
ويشاء الله تعالى بعد هذا البلاء كله أن أَصِحَّ وأَسْلَمَ، ويعود إليَّ ما كان لي من العافية، وإني لَأَسْتَعْرِضُ ذلك الذي كُنْتُ أشتهيه وأنظره للعافية، فإذا النفسُ منصرفة عنه، زاهدة فيه، لا تراه يَسْتَحِقُّ من هموم الشهوة كثيرًا ولا قليلًا!
ها أنا ذا أعود إلى العافية فأعود إلى ألَّا أذوق لها طَعْمًا، ولا أَشْعر بها إلا وَهْمًا، ولا أَجِد لها من أسباب النعماء، بعض ما يُقَدِّرُه العليل للأصحاء، أفتُرَاني أرجو دوامَ السقم، لأستديم الشعورَ بما في العافية من النعم؟ إذَنْ فيا لها نعمة لا يقوم وجودُها إلا في العَدَم! وَصَدَقَ من قال: «الصحة تاج على رءوس الأصحاء، لا يراه إلا المُرَضاء» ورحم الله القائل «وبضدها تتميز الأشياء».
وعلى هذا أسأل الله ألا يُشْعِركم هذه النعمةَ يا معشر القراء، إنه تعالى سميع الدعاء!