الراديو١ كما يصفه أعرابي قادم من البادية
سيداتي سادتي
تفضَّلَتْ شركة مركوني فدعتني لأتحدث إليكم أحاديث شتى في أوقات متفرقة، وإني على ما تَدَاخَلَنِي من الزهو بهذا التشريف، لقد تعاظَمَنِي الأمر وهالني، فليس من اليسير على مثلي أن يَقِفَ بين يديْ هذا المذياع «أعني الميكروفون» فيخاطب آلاف الآلاف من أصناف الناس في شعب الأرض، بينهم العالِم والأديب، وفيهم الكاتب والشاعر والناقد، وسيدات هنالك لا يَنْقُصْنَ في هذه المقامات عِلمًا وفضلًا وأدبًا.
لقد تعاظَمَتْنِي هذه الدعوة، فتعذَّرْتُ بادئ الرأي على إجابتها، ولكنني دُفِعْتُ بَعْدَ هذا إليها من أولياء مشورتي دَفْعًا.
إذَنْ لقد حق القول، ولكن ماذا أقول، وكيف أتحدث؟
خَلَوْتُ إلى نفسي لأختار أوَّلَ حديث لي في هذه المحطة، وجَعَلْتُ أتصفَّح وجوه الموضوعات، على أنه كلما سَنَحَ لي واحد منها، حال بيني وبينه همي وشُغْلُ نفسي بما يكون من موقفي في «الراديو»؛ وكفَّ ذلك الشُّغْلُ ذهني عن أيِّ تفكير في غيره وعن أي تدبير، نعم، لقد مَلَكَ ذلك عليَّ ذهني من جميع أقطاره … إذن فلِأُرْسِلْ حديثي في «الراديو» ولِأَقْصِرْ عليه الحديث.
الراديو
سيداتي، سادتي
لعله قد هَجَسَ في نفوسكم جميعًا أو في نفوس كثير منكم هذا السؤال: تُرى لو أن مخترعًا عظيمًا كالسنيور مركوني كان قد طَالَعَ سَلَفَنَا الأقدمين بهذا «الراديو» فماذا كانوا يظنون، وكيف كانوا يقولون؟
أما أنا بالذات، فقد غُمَّ عليَّ الأمر، وتَقَسَّمَتْ ذهني ألوانُ الفروض، ولكنني لم أسْتَقِرَّ منها على واضح صريح، فضلًا عن حق يقين!
ولكن، ولكن للمصادفات، المصادفات وحدها في كثير من الأحيان، آثارًا تُعْيِي على أشَدِّ عَقْل، وأعظم جهد، وأحكم تدبير، بل إنَّ للمصادفات، المصادفات وحدها، في كثير من الأحيان، الفضل الأول فيما هُدِيَ إليه أعلام الناس من اختراع عظيم، وما وَقَفُوا عليه من استكشاف جليل!
هذه المصادفات، أو على الأصح هذا القدر، لقد ساقني يومًا، وكان ذلك من نحو عامين، إلى زيارة صديق جمع الله له إلى النعمة والترف، حلية الظرف والذكاء، وما إن كِدْتُ أُطَالِعُهُ بالسلام ويَتَلَقَّاني بالتحية، حتى قال لي: إني سأريك الساعة شيئًا عجبًا لعله لَمْ يَخْطر لك على قلب أبدًا! قلْتُ: هاتِ ما عندك، فتقدم إلى خادمه بأن يدعو الشيخَ عَدْلَانَ، وما لبثنا غير قليل حتى أقبل علينا شيخٌ من الأعراب أَسْمَرُ اللون شديد السمرة، خفيف اللحم، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، أمْلَى عَلَيَّ شَكْلُه الستين، ثم عَلِمْتُ أنه قد أَطَلَّ على الثمانين، وهو مع هذا مستوي القامة، حتى كأن قامَتَه الرمْحَ المثقف، فحيا بتحية الإسلام، فرددنا التحية بالتحية.
ولقد بَعَثْتُ «الراديو» ذاتَ عشية في حَضْرَتِه، فارتاع وشُدِه، وذَهَبَ الرُّعْبُ بِلُبِّه كُلَّ مَذْهَبٍ، ثم اطمأن صاحبي فترة قصيرة وقال: وعلى الشيخ عَدلانَ أن يَقُصَّ بقيةَ الحديث، والْتَفَتَ إلى الرجل وسأله أن يَتَكَلَّمَ، فتَعَذَّرَ وتَمَنَّعَ، فعَزَمَ عليه إلا تَكَلَّمَ، فأكْرَمَ الضيف وأومأ إلي.
تنحْنَحَ الرجل، وسَعَلَ سُعالًا رفيقًا، ثم أنشأ يتَحَدَّث في لهجة بدوية كثيرًا ما كان يلتوي علي فيها اللفظ، فيسويه لي بَعْضُ مَنْ حَضَرَ.
سيداتي، سادتي
الآن أنقل إليكم حديث ذلكم الأعرابي بَعْدَ أن عَلَّقْتُه وقَيَّدْتُه بقدر ما واتاني الجهد، فإن كُنْتُ قد عالجته بعض العلاج ففي شيء من الصياغة بتقويم ما لا يستقيم في آذاننا من لهجة أولئكم الأعراب، قال:
ثم ارتفع صوت لولا البيان لقلْتُ: سَجْع كنار، أو شَدْو هَزَار، ولقد راح يشتد ثم يلين فيَشِفُّ، ويُحَلِّقُ ثم يَهْبِط ويُسِفُّ، وآنًا يطَّرد ويستوي، ثم إذا به ينثني ويلتوي، ويسترسل ثم يتعرج ويتعطف، ويتقدم ثم ينحاز ويتحرف، والكبد تتياسر معه وتتيامن، والقلب يتطاير ثم يتجمع ويتطامن، والنفس يَرْتَفِع كلما ارتَفَع، ويقع معه حيثما وقع!
وما فرغ العفريت من غنائه، حتى أنشأ يَقُصُّ علينا أحدث الأحداث في قواصي الأرض وأدانيها: صِينها وهِندها، وشينها وسِندها، وعراقها وحجازها، ونجدها وأهوازها، ومصرها وسودانها، فقلت: لصاحبك: كيف للجني بهذا وهو قَيْد أَسْره، ورَهْن مَحْبِسه؟ فقال: إنما يُوَسْوِس له بهذه الأنباء إخوانُه من المردة والشياطين، قُلْتُ: الأمر لا بد أن يكون هكذا!
سيداتي، سادتي
لقد تعاظَمَني أن أدع الرجل سادرًا في ضَلَّته، فقلْتُ له: اسمع يا أخا العرب! والله لقد كَذَبَكَ وَهْمُك، وما صَدَقَك صاحبي! فنظر إليَّ الرجل نظرة المأخوذ، وعلق نَفَسَه وفَغَرَ فَاه، ثم قال لي في لهفة ودَهَش: وكيف ذلك يا ابن أخي جُعِلْتُ فداءك؟ قلْتُ: إن الذي رأيْتَ إنما هو من صُنْع مَرَدَة الإنس لا مِنْ صُنْع مَرَدَة الجن! … ورُحْتُ أبين له حقيقةَ «الراديو» على قَدْر ما يتعلق منه بعلمي ويتسع له فَهْمُه، وطَفِقْتُ أضرب له ما حضرني من الأمثال، والرجل بيْن مصدِّق ومكذِّب، فلما أعياني أمرُه دعَوْتُ «بالراديو» وأظهرتُهُ على خَلفه، ليرى بعينه ما في جَوفه، فلما قَطَعَ اليقينُ عنده علائق الشك، زَفَر زَفرة طويلة، ثم تمثل ببيت البحتري في وصف إيوان كسرى:
وليس هذا بأول بدوِيٍّ بَهَرَتْهُ أسباب الحضارة فأشاع فيها الظنون! فلقد قرأْتُ مثل هذا عن أعرابي لعله انحدر إلى بغداد في عهد العباسيين، وأقول «لعله» لأن عهدي بهذه القصة عهد طويل.
سيداتي، سادتي
أفرأيتم أن المصادفة، المصادفة وَحْدَها، هي التي هيَّأَتْ لي الحديث إليكم الليلة؟
وبَعْدُ، فإذا كان العجب لم يأخذ فينا بَعْضَ ما أخذ في ذلك الأعرابي حين طلع علينا هذا «الراديو» أوَّلَ مَطلعه، فذلك لأننا نعيش في حضارة ممدودة الرُّوَاق، مبسوطة الآفاق، وقد جازت بنا ألوان من المخترعات لم تكن تَخْطُر على القلب، فوق أن المجموعة قد أَحْرَزَتْ على الأقل أطرافًا من علوم الحياة تُسْلِس لها في هذا وأشباهه وجوه الفهم والتعليل، إلى أن الأخبار تتقدم عادة بخروج هذه المخترعات وشيوعها فيطامن ذلك من الانبهار بها، ولو لم نُصِبْ شيئًا من هذا لَكُنَّا وذلكم الأعرابي في تصوُّر «الراديو» بمنزلة سواء!
ولقد يكون أبناء هذا العصر قد دخلهم شيء من العجب أو الدَّهَش يوم أضاءت لهم الكهرباء، ويومَ تَغَنَّى لهم الحاكي (أعني الفونغراف)، ويومَ حَلَّقَتْ فوق رءوسهم الطائرات، ويوم غَنَّاهم «الراديو» وخَطَبَهُمْ وحَدَّثَهُمْ، ولكن الطفل الذين دَرَجُوا وهذه الأشياء قائمة، لم يَلْحَقْهُمْ منها — إن لحقهم — إلا يسيرٌ من العَجَب، بل لقد يُحِسُّونَهَا من إحدى البسائط في وسائط الحياة، وهكذا كلما زكا العلم وربا واطردت الحضارة ببني الإنسان!
من مزايا «الراديو»
سيداتي، سادتي
دعُونا الآن من العجب والدهش في حديث «الراديو»، فلم يَبْقَ لهذا موضع الآن، وصدق المثل: إذا عُرِفَ السبب بطل العجب، حتى إذا لم يُعْرَفْ للأمر سبب، فإن ذلكم الانفعال لَيَسْكُن وحده بالإلف وطول الاعتياد، ومن حق «الراديو» علَيَّ بعد ذلك، وهو وسيلتي إليكم الآن، أن أتحدث عن شيء من آثاره؛ ولكنني لن أتحدث إلا يسيرًا.
كان للأصوات على العموم مدًى تنتهي إليه، وهذا المدى يختلف بُعْدًا وقُرْبًا باختلاف الأصوات من جهة، والأسماع من جهة أخرى، قوة وضعفًا، كما يختلف باختلاف الجو ضوضاء وجلبة، أو هدأة وسكونًا، وعلى أي حال فإن هذا المدى لم يكن يتجاوز الصدر في رقم المئات من الأميال، كما يكون من هزيم الرعود وعزيف المدافع مثلًا، فلما كان البرق (أعني التلغراف) تهيأ له أن يحمل نقر الناقر إلى آلاف الأميال، فلما كانت المَسَرَّة (أعني التليفون) سافَرَتْ أحاديث الناس كذلك مُبَيِّنة واضحة اللفظ، على أنه لا يتهيأ الاستماع إليها إلا لواحد أو لآحاد.
ويَأْذَن الله باللاسلكي، وقِوامُهُ — كما تعلمون — إشاعة الأصوات في الأثير، ولمن شاء بهذه الأداة التي بين أيديكم الآن، استَمَع في حدود المسافة التي يَبْلُغُها جُهْدُ المصدر، وهو المحطة التي تتولى الإذاعة من جهة، وجُهْد الأداة التي تتلقاها من جهة أخرى.
بهذا أصبح أثَرُ «الراديو» في باب الإذاعة أشبه ما يكون بأثر المطبعة، غير أن ذلك يتصل بالآذان، وهذا يتعلق بالأعيان، والجامع بينهما واحد على كل حال! فكلاهما يستخرج من الشيء المحدود ما لا يحصره عَدٌّ، ولا يحيط به حَدٌّ!
فمهما يُفْسَح بين يدي الخطيب أو المغني، ومهما يُؤْتَ أحدهما من قوة الصوت وجهارته، فإنه ليس بِبَالغ من الأسماع إلا بضعةَ الآلاف على أوسع تقدير، أما «الراديو» فيستطيع أن يُبَلِّغ آذان الملايين في شعاب الأرض المختلفة دون مطاولة جُهْد ولا تَجَشُّم عَناء!
سيداتي، سادتي
والآن، وبفضل هذا «الراديو» تَيَسَّر لكل إنسان أن يسمع أعلام المغنيات وأقطاب المغنين في أقطار الأرض، وهو وادع في كسر بيته، فإذا أعوزه «الراديو» استمع في المقهى، وإلا فعلى ظهر الطوار مُتَّسَع للجميع!
سيداتي، سادتي
قلت لكم إن «الراديو» ليس أداة لَهْو فحسب، والواقع أنه كذلك وسيلة نافذة أبلغ النفوذ لِبَثِّ العلوم والفنون والآداب، ونشر ألوان الثقافات على العموم، وكل أولئك من شأنه أن يرفع من مستوى الجماهير، حتى ليزيل كثيرًا من الفروق الثقافية بين الطبقات.
هذا إلى أنهم لو تجاوزوا به المُدُنَ إلى القرى لرَفَّهُوا الفلاحين المساكين وسَلَّوا عنهم، وخففوا من آثار كَدِّهم في يومهم الأطوَل، إلى ما يُغَذَّوْن به من ألوان التعليم والتثقيف، والإرشاد إلى كل ما هو نافع فيما يتصل بصحتهم وزروعهم، وتربية بنيهم، وتدبير أموالهم، وغير ذلك من أسبابهم، وموافاتهم بما يعنيهم من أنباء بلادهم وسائر بلاد العالَم.
ولا تَنْسَوْا بعد ذلك أن «الراديو» سيكون من العوامل البعيدة الأثر في التقريب بين الثقافات العالمية، وتقارُض بعض الفنون بين الأمم المختلفة من غير عُسْر ولا تجشُّم عَناء.
ولقد كنا وما زلنا، في الموسيقى بوجه خاص، نأخذ ولا نعطي، وإني لأرجو أن يُضَاعِف أولو الشأن من قوة هذه المحطة العظيمة، حتى يتكافأ الأخذ والعطاء بفضل حُذَّاق الموسيقيين المصريين، فلا نعيش عيالًا على غيرنا أبد الآبدين!
•••
هنالك مزية أخرى جليلة «للراديو» اسمحوا لي بأن أفخَر وأتتايه بأنني — بفضل الله — أَوَّلُ من استكْشَفَهَا، وما كان لِيُفَكِّرَ فيها من قَبْلي إنسان: إن المُغَنِّي إذا جَلَسَ للناس فنَشَزَ عليه النغم، والخطيب إذا تراءى للجماهير فأخطأه التوفيق والْتَوَتْ عليه الكَلِم، كان شأنه بين حالين أحلاهما مُرٌّ، وأيْسَرُهُمَا عُسْر: فإما أن يَنْفَضُّوا عنه بسلام، وإما أن يَثْبتوا فيُسْمِعوه مُوجِعات الكلام، أما وهو قائم بين يَدَي المذياع، فإنه لا يَرَى ما يُصْنَع له، ولا يَسْمَع ما يقال فيه، وعلى هذا فإنني أسامحكم يا سادتي من كل قلبي في كلِّ ما قلتم الليلةَ وفي كل ما صنعتم، وأسأل الله المغفرة لي ولكم!